بسبب هذه القصة في كمال إيمان أبي ذر رضي الله تعالى عنه، فحينئذ نرى مطابقتها بالأمر الثاني أيضًا، وبطل بهذا الباب قول المرجئة والخوارج والمعتزلة، وقد ذكرت مراتٍ أن المؤلف لا يصرح في كثير من المواقع بغرض التمرين وتشحيذًا للأذهان، هكذا تجده يستخدم الإشارة حيث يرى التصريح خلافًا للمصلحة، أو أنه يخالف الاحتياط.
(إنك امرؤ فيك جاهلية) كتب الشيخ في "اللامع" (^١): رماه بذلك وليست الجاهلية بأهون شيء، ومع ذلك فلم يأمره بتجديد الإيمان أو بغيره من أحكام الكفر، فعلم أن ارتكاب الكبائر غير مكفر.
وفي هامشه: قال ابن بطال (^٢): يريد أنك في تعييره بأمه على خُلُق من أخلاق الجاهلية؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بالأنساب، ولم تستحق بذلك الفعل أن تكون كأهل الجاهلية في كفرهم بالله. وغرض البخاري بهذا الردُّ على الخوارج، وروي أنه ﷺ قال لأبي ذر: "أعَيَّرْتَه بأمه؟ ارفع رأسك ما أنت بأفضل مما ترى من الأحمر والأسود إلا أن تفضل في دين" (^٣)، وقد روي: أن بلالًا كان الذي عيَّره أبو ذر بأمِّه، أي: بسوادها، فانطلق بلال إلى رسول الله ﷺ فشكا إليه تعييره بذلك، فأمره رسول الله ﷺ أن يدعوه، فلما جاء أبو ذر قال له رسول الله ﷺ: "شتمت بلالًا وعيرته بسواد أمه؟ "، قال: نعم، قال له رسول الله ﷺ: "ما كنت أحسب أنه بقي في صدرك من كبر الجاهلية شيء"، فألقى أبو ذر ﵁ نفسه إلى الأرض، ثم وضع خدّه على التراب، وقال: والله لا أرفع خدِّي منها إلا أن يطأ بلال خدي بقدمه، فوطأ خدّه بقدمه (^٤)، انتهى.
(^١) "لامع الدراري" (١/ ٥٧١).
(^٢) "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (١/ ٨٥).
(^٣) أخرجه إسحاق في "مسنده" (١/ ٤٢٧) (رقم ٤٩٣)، والطبراني في "مسند الشاميين" (رقم ٢٣٤٣).
(^٤) "شرح ابن بطال" (١/ ٨٧، ٨٨).