140

The Biography of the Prophet - Ragheb Al-Sergani

السيرة النبوية - راغب السرجاني

Noocyada

سبب اختيار الرسول ﷺ مصعب بن عمير لدور السفير إلى المدينة
اختار الرسول ﷺ مصعب بن عمير ﵁، ولا بد أن نقف وقفة مع مصعب بن عمير، ومع سبب اختياره من دون كل الصحابة ﵃ أجمعين.
لقد اتصف مصعب بصفات كثيرة، جعلته يستطيع القيام بهذه المهمة الكبيرة، وهذا يثبت أن الاختيار كان حكيمًا، ولم يكن عشوائيًا أبدًا.
أولًا: كان مصعب بن عمير من أعلم الصحابة ﵁ وأرضاه، كان يحفظ كل ما نزل من القرآن، وهو من أوائل من أسلم، وخاض التجربة الإسلامية من أولها، ويعرف متى نزلت آيات القرآن ومعناها، ورأي الرسول ﷺ في تفسير الآيات التي نزلت.
إذًاَ: نقطة العلم نقطة في غاية الأهمية، وبالذات أن المسافة بين مكة ويثرب (٥٠٠) كيلو، وليس هناك فرصة لسؤال الرسول ﷺ، وليس هناك مصادر أخرى للعلم غير مصعب، فلا بد أن يكون عالمًا بحق، وحفظ القرآن كان مهمًا جدًا؛ لأنه ليس مجرد وسيلة معجزة لإثبات صدق الرسول ﷺ، لكنه أيضًا دستور ومنهاج حياة كاملة للمسلمين، فالذي يحفظ القرآن ويفهمه ويعمل به هو أصلح واحد من يقوم بهذه المهمة.
ثانيًا: أن مصعب بن عمير ﵁ كان يتصف باللباقة والذكاء والهدوء والصبر، وسعة الصدر والحلم، وهذه صفات أساسية في أي داعية، كان مصعب إنسانًا رقيقًا هادئًا متواضعًا، فيه ذكاء شديد، أي: أنه داعية مثالي.
ثالثًا: أن مصعب بن عمير ﵁ من أشراف أهل مكة، كان من بني عبد الدار الذين يحملون مفتاح الكعبة، ويتوارثونه كابرًا عن كابر، وليس معنى هذا أن الإسلام أتى ليفرق بين أصحاب الأصل الشريف وبين غيره من الناس، لكن الرسول ﷺ كان يراعي حالة أهل يثرب، ولا يريد أن يفتنهم، يا ترى ماذا سيكون حالهم لو ذهب إليهم رجل بسيط ضعيف عبد أو حليف؟ ربما لن يسمعوا منه أصلًا، لكن مصعب بن عمير من أشرف الصحابة نسبًا.
رابعًا: مصعب بن عمير رضي الله سيكون خير قدوة للأغنياء الذين يريدون الدخول في هذا الدين، ويترددون بسبب ملكهم أو أموالهم؛ لأن مصعبًا يقدم لهم المثال العملي لرجل استطاع أن يترك المال من أجل الدعوة، وكذلك الفقراء سيتأكدون أن الدين لا يفرق بين الغني والفقير فعلًا.
خامسًا: سيكون إرسال مصعب بن عمير ﵁ إلى يثرب إعلانًا واضحًا لأهل يثرب ولمكة ولغيرهما أن هذا الدين ليس ثورة من الفقراء على الأغنياء، هذا هو السفير الإسلامي كان رجلًا غنيًا وواسع الغنى، ثم ترك ماله ليصبح مسلمًا وإن كان فقيرًا، وهذا يعني أن دعوة الإسلام لم تظهر من أجل عوامل اقتصادية كما يقول كثير من الناس.
سادسًا: هذا السفير المنعزل في يثرب الذي يعيش على بعد (٥٠٠) كيلو من الرسول ﷺ قد يفتن بالدنيا هناك، وبراحة العيش، ورغد الحياة، مثل ما نرى نحن من يكون شعلة من النشاط، لكن عندما تعرض عليهم الدنيا يفتنون بها ويبتعدون عن الطريق، أما مصعب فلم يكن هكذا، فقد نجح في الاختبار الصعب الذي قامت به أمه معه، ولئن كان قادرًا على رفض الدنيا من يد أمه، فهو على رفضها من أيدي الآخرين أقدر.
سابعًا: الداعية المنعزل الذي يعيش لوحده بعيدًا عن المسلمين، ويعلم الناس والناس تمشي وراءه، قد يفتن بفتنة الرئاسة والزعامة، وينسلخ عن الصف بمن تبعه، وهذه كارثة حقيقية، لكن مصعبًا في الحقيقة أثبت قدرته على الوقوف أمام فتنة الرئاسة؛ فـ مصعب من بني عبد الدار، ومكانته في قريش معروفة، وزعامته فيها كانت وشيكة لولا ارتباطه بهذا الدين، لو كان فعلًا يريد الزعامة لظل على شركه ولم يدخل في الإسلام، لكنه اختار الإسلام ورفض الزعامة.
ثامنًا: أن مصعب بن عمير ﵁ وأرضاه كان من المهاجرين إلى الحبشة في الهجرتين الأولى والثانية، ونحن لا نعرف متى عاد من الهجرة الثانية، ولعل الرسول ﷺ استدعاه لأجل هذه المهمة، ولا شك أن هجرة الحبشة قد أكسبته خبرة كبيرة في التعامل مع الأغراب، ومع عادات وتقاليد مختلفة، فإذا كان يستطيع أن يتعامل مع أهل الحبشة وهم ليسوا عربًا أصلًا، ودينهم غريب على الجزيرة العربية، فيستطيع أن يتعامل مع أهل يثرب الذين هم من العرب، وفي نفس الوقت دينهم هو الدين الذي عليه أهل مكة.
تاسعًا: هجرة الحبشة أعطت مصعبًا القدرة على ترك الديار ومفارقة الأهل والأحباب.
نحن لا نعرف مهمة يثرب كم ستأخذ من الوقت، سنة أو سنتين أو ثلاث سنين، فالذي استطاع أن يصبر على الهجرة فترة طويلة، يستطيع أن يصبر على هذه الهجرة أيضًا.
عاشرًا: أن مصعب بن عمير ﵁ كان عمره (٣٥) عامًا وقت هذه السفارة، وهذا سن مناسب جدًا لهذا العمل، فهو ليس شابًا صغيرًا حتى يتهور أو يندفع، وليس شيخًا مسنًا حتى تصعب عل

12 / 10