وأما الإباحة فلا نتلقاه، فإنه حكم يقتضي التخيير مع تساوي الطرفين، وهو يناقض الندب، والفعل متردد بينه وبين رفع الحرج، فأقل الدرجات رفع الحرج.
فإن تمسك أبو حنيفة ﵀ بإجماع الأمة على كون النبي ﵇ أسوة وقدوة ومطاعًا، وشرطه الاقتداء به في كل ما يأتي ويذر.
قلنا: معناه أن أمره ممتثل، كما يقال: الأمير مطاع في قومه، ولا يراد به أنهم يتربعون إذا تربع، أو ينامون إذا نام.
فإن تمسك بقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (١) وقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ (٢) وقوله: ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ (٣) فكل ذلك محمول على الأمر، وهو الذي أتانا به دون الفعل.
وهل الأصل فيما لم يفعله الرسول ﷺ الحرمة أو الإباحة؟ الذي عليه جماهير الأمة سلفًا وخلفًا أن الأصل في الأشياء الإباحة، ومن هنا ندرك خطأ الذين يقولون: هات الدليل على أن هذا الشيء فعله رسول الله ﷺ لكي يعتبر جائزًا، الصواب أن يقال: هات الدليل على أن الرسول ﷺ حرّمه، فشيء لم يفعله ولم يأمر به ولم ينه عنه فالأصل فيه الجواز.
إذا اتضحت هذه المعاني فإننا نستطيع أن ندرك كثيرًا من الأخطاء، خطأ الذين يحرمون شيئًا لأن رسول الله ﷺ لم يفعله، وخطأ الذين يعتبرون أن مجرد فعل الرسول ﷺ يفيد الفرضية.
لقد وجد ناس قرأوا السيرة فاستخرجوا منها أن المنحى العام لرسول الله ﷺ في إقامة الدولة الإسلامية كان على طريقة معينة: دعوة دون قتال مع طلب النصرة ثم هجرة ثم ...، وبناء عليه فن الأمة الإسلامية يفترض عليها أن تسير على نفس المنحى، مع أن الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية تختلف، والأحكام قد اكتملت ولم يعد النسخ في الشريعة متصورًا، والعبرة لآخر ما استقر عليه التشريع، ومن ثم فالمسلم مكلف في ما