Kacaanka Maansada Casriga ah laga bilaabo Baudelaire ilaa Waqtiga Casriga (Qeybta Koowaad): Daraasadda
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Noocyada
ويجب ألا يفهم من الكلام السابق عن الغموض والأسرار أن شعر بودلير غامض أو محاط بالأسرار والألغاز. فالواقع أن أزهار الشر تعبر تعبيرا واضحا عن كل الأسرار والحالات الوجدانية الشاذة والمواقف المتنافرة التي تحتويها.
وينطبق هذا الكلام أيضا على نظريته في فن الشعر والأدب بوجه عام. فهي نظرية واضحة كل الوضوح، وإن كان هذا لا يمنع من القول بأن فيها آراء واقتراحات مهدت للشعر الغامض من بعده، ولم يطبقها هو نفسه على شعره. وسنقتصر هنا على مناقشة رأيه في سحر اللغة وفي الخيال الخلاق.
لقد عرف الشعر دائما، وبخاصة ذلك الذي أبدعته الروح اللاتينية-الرومانية، لحظات كان البيت يتحول فيها إلى قوة أو طاقة نغمية تزيد في تأثيرها بكثير عن تأثير المضمون. وكانت الأشكال الصوتية المؤلفة من إيقاعات متجانسة أو من توافقات بين الحروف الساكنة والمتحركة تسحر الأذن برنينها الأخاذ. ومع ذلك فلم يكن الشعر القديم يضحي في مثل هذه الحالات بالمضمون، بل كان يحاول أن يزيد من قوة تأثيره عن طريق العناصر الموسيقية التي يحتويها. والأمثلة على هذا عديدة في شعر فرجيل أو دانتي أو كالديرون أو راسين، ولكن الأحوال تغيرت منذ عهد الرومانتيكية؛ فوجدنا أبياتا من الشعر تهتم بالجرس أكثر من اهتمامها بالمعنى، وتسحر بالنغم أكثر مما تقول. واكتسبت موسيقي اللغة أو مادتها النغمية قدرة فائقة على الإيحاء. واستطاعت كلمات القصيدة المترابطة في سلسلة من الاهتزازات والذبذبات أن تفتح أمام الشاعر والقارئ آفاقا فسيحة من اللانهائية الحالمة. لم يعد هم الشاعر أن يفهم، بل أن يوحي. ولم تعد وظيفة القصيدة أن تنقل معنى أو مجموعة من المعاني، بل أن تؤلف كيانا حيا أو مجالا مستقلا من الطاقات الموسيقية. وتغيرت النظرة بطبيعة الحال إلى وظيفة اللغة، واتضح الفارق الكبير بين لغة «توصل» ولغة «توحي». وأصبح من الممكن أن تنشأ القصيدة عن «تأليفة» موسيقية تتعامل مع العناصر الإيقاعية والنغمية الكامنة في اللغة كما لو كانت تتعامل مع أشكال وصيغ سحرية. وأصبحت عناصر الإيقاع والنغم هذه هي التي تحدد دوافع العملية الشعرية نفسها، وتتسبب في وجود القصيدة واختيار كلماتها، لا بحسب معانيها بل بحسب الطاقات الموسيقية التي تشعها، والدلالات التي توحي بها. وساد هذا في الشعر الحديث والمعاصر حتى أوشك أن يصبح صنعة جديدة. وتحقق حلم الرومانتيكيين فأصبح الشاعر هو الساحر الذي يلعب بالأنغام والألحان.
ولقد كانت العلاقة الحميمة بين الشاعر والساحر معروفة من أقدم العصور. ولكن كان لا بد أن تكتشف من جديد في أواخر القرن الثامن عشر، بعد أن هدمها أصحاب النزعة الإنسانية والنزعة الكلاسيكية. وأدى هذا في أمريكا إلى نظريات إدجار ألن بو التي وافقت حاجة الروح الحديثة إلى «تعقيل» الأدب وربطه في نفس الوقت بالصور القديمة الموغلة في القدم. ولقد تكلمنا عن مظاهر هذه الحداثة عندما ذكرنا أن نوفاليس حاول أن يقرب بين شيئين يبدوان شديدي البعد عن بعضهما البعض، وهما الرياضة والسحر؛ ولذلك فليس من قبيل الصدفة أن نجد مثل هذه الأفكار في حديث الشعراء عن فنهم، من بودلير إلى عصرنا الحاضر.
والمعروف أن بودلير قد ترجم «بو» إلى اللغة الفرنسية وكان سببا في امتداد أثره على الأدب في فرنسا وخارجها حتى القرن العشرين. ونود أن نذكر في هذا المجال مقالتين شهيرتين «لبو» ترجمهما بودلير فيما ترجم من أعماله، وهما «فلسفة الإنشاء»
13 (1846م)، و«المبدأ الشعري»
14 (1848م) وتعتبر هاتان المقالتان من الآثار الباقية التي تسجل تأمل الشاعر في فن الشعر والأدب عموما وفي إنتاجه الذاتي بوجه خاص، كما تعبران كذلك عن ظاهرة من ظواهر الأدب الحديث التي يلتقي فيها الإنتاج الأدبي بالتفكير في طبيعة هذا الإنتاج. وقد ترجم بودلير المقالة الأولى بأكملها، ونقل مختارات من المقالة الثانية، وتبنى النظريات الواردة فيهما بحيث نستطيع أن ننظر إليهما كتعبير عن رأيه الشخصي.
وأهم ما في أفكار «بو» أنه عكس تسلسل الأفعال الشعرية التي سلم بها علم الجمال القديم. «فالشكل» الذي كان يعد نتيجة أو محصلة نهائية للقصيدة أصبح هو مبدأها وأصلها، و«المعنى» أو المضمون الذي كان يعتبر أصلا لها أصبح هو النتيجة.
إن في عملية الخلق الأدبية والشعرية شيئا سابقا على اللغة الدالة وعلى المعنى والمضمون، وهذا الشيء هو «النغم» أو الحالة النفسية أو الجو الذي لم يتشكل بعد. ويحاول الأديب أو الشاعر أن يعطي لهذا النغم أو هذا الجو شكلا، فيبحث في اللغة عن الأصوات التي تتفق مع هذا النغم الأصلي أو تقترب منه. وتربط الأصوات بكلمات، وتتجمع الكلمات في بواعث أو دوافع (موتيفات ) ينتج عنها في نهاية الأمر معنى أو مضمون.
والملاحظ أن «بو» يبني نظرية متناسقة من فكرة عابرة أحس بها نوفاليس من قبل. فلقد شعر نوفاليس بهذه النغمة أو هذا الجو الذي يسبق اللغة ويحدد لها طريق البحث عن المعنى، أو يحدد للمعنى الطريق الذي يمكن أن يجد نفسه عليه، كما أحس أيضا بأن المعنى أو المضمون ليس هو لب القصيدة وجوهرها، بل هو الذي يحمل الطاقات الصوتية والإمكانيات النغمية بكل ما فيها من اهتزازات وذبذبات هي أهم بكثير من المعنى والمضمون. ولقد بين «بو» أن هناك كلمات معينة وردت في قصائده ويرجع الفضل في وجودها إلى سحر النغم الكامن فيها وإلى نوع من التداعي الحر نتج عن أبيات سابقة. أما الأفكار نفسها فيصفها بأنها «مجرد إيحاء من شيء غير محدد أو معلوم.» والغرض من هذا كله أن الأفكار شيء جانبي وأن العوامل الصوتية والقوى النغمية ينبغي أن تبقى في المكان الأول ولا يضحى بها من أجل العوامل المعنوية أو الفكرية.
Bog aan la aqoon