190

Kacaanka Maansada Casriga ah laga bilaabo Baudelaire ilaa Waqtiga Casriga (Qeybta Koowaad): Daraasadda

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Noocyada

وفي لحظة من اللحظات يبدو كأن اللغة تقترب من التعبير عن العذاب (في كلمة مجروح) ولكنها سرعان ما تؤجله على الفور حين تقول إن الظلال هي التي تجرح، وحين تمتنع عن التصريح بالسبب الحقيقي في تغير الصور والأمكنة وهو الطلقة النارية التي يسددها الصياد إلى الحمام، أضف إلى هذا أن بداية القصيدة ونهايتها مكتوبتان بصيغة الفعل المضارع على الرغم من أن طرفي الحدث ينتميان أو ينبغي أن ينتميا لمرحلتين زمنيتين مختلفتين، هذا لو أن الشاعر وضع الواقع الخارجي في اعتباره، ولكن الخيال يفرض حكمه وسلطانه؛ فيبدع صورا متحركة تحذف من الحدث ما تشاء أو ما تستطيع حذفه، ولا تستثني من ذلك الزمن ولا التسلسل العلي.

على أن الشاعر قد يلجأ إلى عكس ما تقدم؛ فهناك بيت لإليوت يقول: «اذهب، هكذا قال الطائر، لأن الشجر كان مزدحما بالأطفال.» فالبيت كما نرى يقيم علاقة سببية بين أمرين لا علاقة بينهما. فازدحام الشجر بالأطفال هو السبب الظاهر لنداء الطائر، مع أن الواقع والمنطق لا يشهدان بضرورة الجمع بينهما. هذه المفارقة وأمثالها كانت ممكنة في الشعر القديم، ولكنها كانت نادرة. أما الشعر الحديث فقد جعل منها قانونا من أهم القوانين التي تحكم بناءه. ولولا الخيال الذي بلغ أقصى درجات قوته وحريته ما أمكن أن يوجد مثل هذا القانون الذي يحاول أن يلغي كل القوانين!

ومن الأساليب التي يلجأ إليها الشعر الحديث أنه يسوي بين الواقع المشاهد وبين الفكرة المجردة. فمن أمثال هذه التعبيرات التي تجمع بين الواقع والمجرد «رماد العار» لسان-جون بيرس، «أبناء الشكوى» لرافائيل ألبرتي، «ثلج النسيان» لإليوت. وكثيرا ما تلجأ المخيلة إلى الألوان غير الواقعية بغية التحكم في المشاهد أو المسموع، وغالبا ما يكون الأخضر هو اللون المفضل، ومن أمثلة ذلك «خطوات تخضر»، «عيناك الأرجوانيتان الخضراوان»، «شمس خضراء»، «ذهب أخضر»، «رائحة خضراء»، «موسيقى خضراء». ونخطئ لو تصورنا أن هذا كله نوع من ازدواج الإحساس أو «السينستزيا» كما يقول الاصطلاح المدرسي. فالواقع أنها ألوان من الأغراب والتنافر والنشاز التي تحكم بناء الشعر الحديث ويريد الشاعر أن يفزعنا بها كما تفزع الأطفال عفاريت الأساطير. (14-3) الاستعارة غيرت وظيفتها

ونود قبل أن نختم هذا العرض السريع لبعض ظواهر الشعر الحديث أن نلقي نظرة سريعة على الاستعارة ووظيفتها المتغيرة فيه. فمن المعروف أن الاستعارة كانت دائما من أمضى وسائل الشعر لتغيير الواقع وإضفاء ثوب الشاعرية عليه. إنها، كما يقول أورتيجا أي جاسيت: أعظم قوة يملكها الإنسان. فهي تقترب من حدود السحر وكأنها أداة من أدوات الخلق التي تركها الله في ضمير مخلوقاته، على نحو ما يترك الجراح المشتت البال إحدى آلاته في بطن المريض.

كانت الاستعارة في الأدب التقليدي تقوم على أساس المشابهة بين الشيء والصورة فإذا قلت مثلا إن شعر العذراء ذهب، اتضح وجه الشبه على الفور (وربما جاز لنا أن نقول إن الأدب قد استطاع في بعض عصوره التالية للأدب الكلاسيكي القديم أن يستعين بالاستعارة ليحقق الترابط بين الأشياء بطريقة شاعرية، وإن ذلك كان يقوم على عقيدة دينية تؤمن بأن الكائنات جميعا تتصل ببعضها في نظام إلهي رائع). غير أن الاستعارة الحديثة قد أصبحت أهم أدوات الخيال غير المحدود، فهي تقلل من التشابه بين الأشياء أو تقضي عليه تماما، وهي لا تعبر عن الترابط بين الأشياء بقدر ما تجمع بين أشياء لا ترابط بينها في المنطق أو الواقع. إن أهم ما يميزها الآن هو التباعد الهائل بين الشيء والصورة، وطبيعي أن يتم هذا على حساب الشيء وقيمته الواقعية، وإن كان يفيد الصورة وكل ما يبدعه الخيال ويصل بالقوة العقلية التي كانت تكمن دائما في الاستعارة إلى أقصى درجاتها.

بهذا تصبح الاستعارة صورة مطلقة، لا تحتفظ إلا بأثر ضعيف غاية الضعف من الأصل ولا تأتي من التشابه بينها بل من قفزة أو طفرة واسعة. ومما يوضح هذا أن نجد شاعرا كبيرا مثل «إزرا باوند» يتحدث عن الاستعارة فيطالب بأن تكون دوامة مشعة تعصف خلالها أفكار تتردد أصداؤها ترددا غير متناه. وشاعر آخر يقول إن الشعر وحده هو الذي يعرف أن الريح يمكن أن تسمى بالشفاه مرة وبالرمال مرة أخرى.

ويمكن أن نوضح الوظيفة الجديدة للاستعارة في الشعر الحديث بأمثلة من قصائد ورد معظمها في هذا الكتاب. فإلوار يقول مثلا: «في السهل العاصف تفسد جذور التنهد.» ولوركا يقول: «القمر يحصد ببطء رعشة النهر القديمة.» وكثيرا ما يضع الشاعر الاستعارة إلى جانب الشيء مباشرة، حتى يكاد أن يوحد بينهما. والمثل المشهور على هذا هو البيت الأخير في قصيدة أبوللينير «منطقة»: «شمس - رقبة مذبوحة»، الذي يصور فيه غروب الشمس.

وفي بعض الأحيان تبتعد الاستعارة عن الشبه بالشيء الموصوف بعدا شديدا، وقد لا يذكر هذا الشيء إلا متأخرا وقد لا يذكر على الإطلاق. ومن أمثلة ذلك ما يقوله الشاعر كارل كرولوف في أحد أبياته: «عملات النهر الفضية.» أو ما يقوله فاليري: «هذا السطح الهادئ» فنكتشف بعد ذلك أنه يقصد البحر.

وإذا كانت هذه الاستعارات جميعا تقسر أبعد الأشياء عن بعضها على التقارب والترابط فإن هناك ألوانا أخرى من الاستعارات الناشزة المتنافرة التي يحار فيها القارئ. ومن أمثلة ذلك وصف «رافائيل ألبرتي» للشواطئ بأن لها جباه حيات، أو قول لوركا «رمل المرآة»، أو إلوار: «قش الماء». والأمثلة كثيرة، ومن الأفضل أن يكتشفها القارئ بنفسه في النصوص التالية ليتأكد له أن هذا التنافر أو النشاز الذي يلاحظه إنما يخضع لقانون كامن في بناء الشعر الحديث، بل وفي رؤية الرسامين المعاصرين مثل مارك، وكاندينسكي، والموسيقيين (وفي مقدمتهم استرافنسكي) والموقف العقلي والروحي الذي نعيش فيه اليوم بوجه عام.

إن الفنان الحديث يحس بأن القوى التي تهدد حريته تزداد كل يوم؛ ولذلك يزداد تلهفه للحرية وإلحاحه عليها. إنه لا يبخل في سبيل ذلك بشيء ولا تعز عليه تضحية، ولو أدى به الأمر إلى تحطيم الواقع وإعادة النظر في كل المقدسات والانفصام عن التراث أو معاداته.

Bog aan la aqoon