Kacaanka Maansada Casriga ah laga bilaabo Baudelaire ilaa Waqtiga Casriga (Qeybta Koowaad): Daraasadda
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Noocyada
ويبدو أن فاليري قد غير طريقته في التعبير في ديوانه «تعاويذ» أو «رقى»
20
الذي يختلف اختلافا واضحا عن «آلهة القدر الشابة». إنه يضم مجموعة كبيرة من القصائد المتنوعة البحور والموضوعات، ويعدل عن غموض الحلم الذي ساد جو «آلهة القدر» إلى جو أكثر وضوحا، ويقتصد في استخدام الاستعارات والرموز المركبة ليستخدم في القصيدة رمزا أو استعارة واحدة تحفظ عليها تماسكها واتزانها، ويلجأ في بعض الأحيان (بما يشبه التنازل للقارئ العادي!) إلى تفسير مراميه أو تقديم لمحات تشير إلى موضع القصيدة سواء في عنوانها أو نصها، أو اقتباس نص يصلح أن يكون مفتاحا أو عكازا نافعا! (كالنص المعروف الذي اقتبسه من بندار ووضعه في بداية المقبرة البحرية) أو تقرير بعض الحقائق (كما فعل في نهاية قصيدته عن الكاهنة بيثيا)،
21
أو غير ذلك من أمور كان من الممكن أن تصدم مالارميه وتفزعه فزعا هائلا! ومع ذلك فلا ينبغي أن نفهم من هذا كله أنه يتنازل للقارئ العادي حتى يفهم ما يريد أو أنه أصبح يكتب شعرا تعليميا أو مجموعة شروح وتفسيرات. إنه لا يزال يكتب كشاعر. وهو في «التعاويذ» يكتب عن موضوعات يمكن أن تفهم فهما واضحا إلى حد ما، أي يمكن أن يشارك فيها الفكر أيضا، وأن تصدر عن التأمل الواعي للشاعر وتجد مكانها فيه، بحيث لو تناولها بنفس طريقته في «آلهة القدر» لشوهها أو زيفها. وليس معنى هذا أيضا أنه يضحي بالشاعرية أو بالإيحاء والخيال، بل معناه أنه يحاول أن يوحد بين نفسيه المتصارعتين، بين عقله التحليلي الناصع وبين ذاته الخلاقة الشاعرة.
والعنوان الذي اختاره فاليري لهذه المجموعة له دلالته، بل يكاد يكون نوعا من التعليق على محتوياتها. فالفكرة التي تقول بأن الشعر نوع من السحر، وأن الشاعر يعرف من الأسرار ويملك من الطاقات ما لا يملكه غيره من الناس فكرة قديمة متأصلة الجذور في ضمير الجنس البشري كما تقدم، والشاعر الذي كان يطلق عليه الرومان اسم «فاتيس
Vates » كان شاعرا ونبيا وعرافا وساحرا في وقت واحد، والشعراء الرومانتيكيون كانوا أيضا بهذا المعنى أنبياء.
وقد ساهم مالارميه كما سبق في تأكيد هذا المعني بنظرته المثالية إلى الشعر كنوع من السحر الذي يحرر العالم ويخضعه بقوة الكلمة. وربما يصعب علينا أن نتصور أن فاليري يوافق على هذا الرأي. ألم يقل في كتاباته النقدية إن واجب الشعر هو أن يصنع من لغة الأمة بعض التطبيقات الكاملة؟ ألم يقل إن اختياره لنوع معين من البحور هو الذي يحدد طريقته في التأليف، وأنه يحس دائما بالحاجة إلى الكتابة كلما وجد القلم والحبر أمامه؟ ألم يذهب إلى أن الشعر يمكن أن يختفي من العالم كما اختفت منه فنون الضرب بالرمل أو التطير أو شعائر الحروب؟ ومع ذلك فإن العنوان الذي اختار له كلمة «التعاويذ » يوحي بإيمانه بأن الشعر ضرب من السحر، وأنه لم يستخدم هذا العنوان لمجرد السخرية. فالشعر عنده فعل خلاق، وهو يؤثر على النفس بوسائل تخفى حتى على الشاعر نفسه. إنه يعمل على طريقته، ولكن النتيجة تخرج عن رؤيته وتتجاوز قصده. ولذلك فإن اختيار «التعاويذ» عنوانا لقصائد هذه المجموعة اختيار له ما يبرره؛ فهي تريد أن تؤثر وتوحي، لا أن تعلم أو تفيد، والشاعر فيها يشبه الساحر بقدر ما يؤثر على النفوس والمشاعر بوسائل لا يفهمها هو نفسه تماما ولا يستطيع أن يسيطر عليها كل السيطرة.
إن مجرد وجود الشعر ليكفي في حد ذاته لإثارة التساؤل في عقل الناقد والعجب في نفس الشاعر. والواقع أنه يثير الأمرين معا في نفس فاليري وعقله. لقد شغل طوال حياته بالتفكير في الشعر، في قيمته ووظيفته وكرامته ومعناه. وكتب عنه أجمل وأحكم ما يمكن أن يكتب. وصدقت عليه هذه العبارة التي لا تصدق على شاعر سواه وهي أنه «شاعر الشعر»، الذي لم يمل من الكلام عن معنى الشعر وطبيعة الخلق الشعري، ولم يتعب من التغلغل في أعماق الشاعر للكشف عن ظلماتها وأنوارها. إن الشعر عنده شيء واقعي لا مثالي. وهو لا يهتم كثيرا - كما فعل بودلير أو مالارميه أو شيلي - بالقصيدة المثالية ولا بمكان الشاعر من العالم أو بآماله في المجد والخلود. إن اهتمامه كله ينصب على عمل الشاعر ورأيه فيه وشعوره نحوه عندما يكون في طور النشأة أو بعد أن يفرغ منه. وقد نجح في التعبير عن هذه العملية الخلاقة التي تفلت دائما من الشاعر وتخفي عنه أسرارها في قصائد تجمع بين التأمل المجرد والغنائية العذبة، نذكر منها على سبيل المثال قصائده «الخطى»، و«تخيل»، و«أغنية الأعمدة»، و«فجر». وسنكتفي بالحديث عن القصيدة الأولى باختصار.
تقول أبيات هذه القصيدة:
Bog aan la aqoon