Kacaanka Maansada Casriga ah laga bilaabo Baudelaire ilaa Waqtiga Casriga (Qeybta Koowaad): Daraasadda
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Noocyada
ربما استطعنا على وجه التقريب أن نتحدث عن موضوع المقطوعة الأولى في العبارات التالية: ليس لشعر المستقبل (أو أدبه بوجه عام) لغة بالمعنى التقليدي المألوف، بل شيء «أشبه» باللغة، شيء أقرب إلى العدم، إلى خفق جناح يرتفع نحو السماء، نحو الأعلى، نحو المثال. هذا الشعر يتحاشى كل مألوف (ينتزع نفسه من المسكن النفيس) ويتجنب كل ما تسكن النفوس إليه.
فكأن مالارميه يقول بأسلوبه الهادي الهامس المنغم ما قاله من قبل رامبو بأسلوبه الثائر العاصف الصخاب: «عاصفة تفتح ثغرات الجدران، تقتلع معالم المساكن.»
ويعود النص من المقطوعة الثانية فيلمس موضوع المروحة. ونتوهم للحظات معدودة أن الشاعر بدأ يصور شيئا من الأشياء في خطوط وملامح غاية في الدقة والرهافة، ولكننا لا نلبث أن نستبعد هذا الوهم.
إن النص يذكر المروحة حقا (هذه المروحة ... السطر الثاني من المقطوعة الثانية) ولكنه يقول على الفور: إن كانت هي نفسها، كأنما يخشى أن يقع في التحديد فيسرع إلى التعميم أو الفرض أو الاحتمال! ويتكرر نفس الشيء مع المرآة. فهي قد أضاءت من خلال المروحة، أي أنها لم تعد حاضرة بالمعنى الواقعي، ثم إن الشاعر يصفها بأنها «مرآة ما» وهو أمر يلجأ إليه الشاعر في أغلب الأحيان ليضفي على الموصوف ثوب التعميم وعدم التحديد. ويحدث لهذه المرآة شيء آخر يبعد بها مرة أخرى عن الحضور ... فسوف يسقط على المرآة رماد غير منظور، فإذا سألنا عن طبيعة هذا الرماد وجدنا القصيدة صامتة. أيكون هو الشعر الذي شاب في رأس المرأة التي يخاطبها الشاعر؟ لا ندري. ولا بد أن يظل باب الإجابة مفتوحا على فروض عديدة. المهم أن الرماد موجود في اللغة وحدها لا في الواقع، إنه رماد غير منظور، لم يسقط بعد، بل سيسقط يوما ما، ساعة ما ، وهو إلى جانب هذا كله «مطارد في كل حبة». والمهم في هذه القصيدة وفي سواها من شعر مالارميه ألا نلتفت للمعنى الظاهر للكلمات، بل إلى المقولات التي تتناول بها اللغة الأشياء، وليس من الصعب أن نتبين المقولات التي أمامنا الآن. إنها الماضي، والمستقبل والغياب، والفرض، وعدم التحدد، وهي لا تنطبق على النص وحده وإنما تسيطر كذلك على الخاتمة. فالمروحة ينبغي أن تظل على الدوام خفقة نحو الأعالي، شيئا فرضيا محتملا، يتصل صلة غامضة بالمرآة الماضية، والضوء الماضي، والرماد الذي ينتظر أن يسقط في المستقبل.
قد نسأل أنفسنا: لمن كتبت هذه القصيدة؟ وقد يبدو لنا من النص أن الشاعر يتوجه بها إلى امرأة يخاطبها «بأنت» (ضمير المخاطب في البيت الرابع من المقطوعة الثانية، والبيت الثاني من المقطوعة الأخيرة). ولكننا سنتبين بعد قليل أن هذا الضمير لا قيمة له، شأنه في هذا شأن البقايا البشرية الأخرى كالرماد والحزن.
فالقصيدة تخلو من العواطف الرقيقة وما أشبه، وحتى الحزن الذي تذكره ذكرا عابرا يكاد يكون مجردا من الشعور. إن الأشياء والمشاعر لا وجود لهما إلا في اللغة؛ ولذلك يغلب على القصيدة نوع من البرود الهادئ الذي يستبعد كل ما يتصل بالبشر أو بالأشياء. فالأشياء والمشاعر البشرية «غائبة». وإذا كان لها ثمة حضور فهو حضور لغوي فحسب. لقد أخرجت من مسكنها المألوف؛ ولذلك تحقق القصيدة هذه الرغبة التي عبرت عنها في المقطوعة الأولى: «بيت المستقبل ينتزع نفسه من المسكن النفيس.»
إن قصيدة «مروحة»، مثلها مثل معظم قصائد مالارميه، هي في حقيقتها قصيدة عن «الشعر»، هي قصيدة تتغلغل فيها الفكرة الأنطولوجية الأساسية التي يقوم عليها كل تفكير مالارميه وعالمه الشعري والشعوري.
تظل الأشياء غير مطلقة وغير نقية بقدر ما يكون لها من وجود واقعي فإذا ما انعدمت أو تحطمت صار لها وجود حقيقي ونقي في اللغة. ولو حاولنا أن نقارن هذه اللغة باللغة العادية لكانت أقرب ما تكون إلى لغة فرضية (أو لغة كما لو أن ... على حد التعبير الأجنبي). أي لغة تعلو بالأشياء وتقي نفسها من كل مدلول محدد. إنها أشبه بخفقة الجناح، وينبغي أن تظل كذلك. إنها مجال يشع بمعان متعددة، وكل ما في هذا المجال يتحرك حركة لا تقبل التحديد.
كان من حق الشعر دائما أن يترك للكلمة حق الإيحاء بمعان مختلفة وظلال ودلالات عديدة، ولقد استغل مالارميه هذا الحق إلى أقصى حد ممكن فمن أصعب الأمور أن نجد في قصائده مضمونا محددا، والسبب في هذا أنه جعل الإمكانيات والطاقات غير المتناهية للغة هي المضمون الحقيقي لشعره، وبهذا وصل إلى نوع من الغموض أو السر الذي لا يكتفي بتحرير العقل والخيال من الواقع الضيق، كما كان الحال عند بودلير ورامبو، بل يتيح كذلك للحقيقة المتعالية الفارغة (التي تحدثنا عنها من قبل والتي يفسرها الآن تفسيرا أنطولوجيا) أن تظهر في اللغة نفسها عن طريق الإغراب الشامل لكل ما هو مألوف وتجريد الأشياء من شيئيتها.
وأخيرا نصل إلى القصيدة الثالثة التي نحاول تفسيرها، وهي سوناتة بغير عنوان تعود إلى سنة 1887م (ص74 من طبعة البلياد). وقد وضعت القوسين في البيت الأول من المقطوعة الأخيرة لتيسير القراءة، كما وضعت ثلاث كلمات بين قوسين زيادة منى لمحاولة التوضيح، أما الفواصل وعلامتا التعجب فهما من عند المؤلف:
Bog aan la aqoon