Dhaqankeenna Waajahaya Casriga
ثقافتنا في مواجهة العصر
Noocyada
لم تكن مشكلات المفكرين بالأمس لتعني شيئا عند ساكن الريف؛ فماذا يهم زارع الأرض في الريف، بكل ما كان يحمله في حياته من أعباء ثقال، لا تترك له من نتيجة جهده طوال العام ما يملأ جوفه ويكسو عريه، ماذا يهمه إذا كانت ثقافة السكسون أفضل من ثقافة اللاتين أو كانت هذه أفضل من تلك؟! وقد كانت هذه مشكلة فكرية عندنا ذات يوم، ماذا يهمه إذا كان الشعر الجاهلي قد جنى على الشعر العربي المعاصر أو كان ذلك الشعر الجاهلي مصدرا لقوة هذا الشعر المعاصر؟! وقد كانت هذه مشكلة ثانية، بل ماذا يهمه إذا كتبنا بأحرف عربية أو كتبنا بأحرف لاتينية؟! وقد كانت هذه مشكلة ثالثة، لا، لم يكن يهمه شيء من هذا؛ ولذلك بترت العلاقة بترا بين سكان القرية وكاتب القاهرة؛ لتخلف الأول بالنسبة إلى الثاني من جهة، ولأن الثاني مهتم بأمور لا شأن للأول بها من جهة أخرى.
أما صورة اليوم فقد اختلفت اختلافا بعيدا؛ فالمشكلات التي يثيرها كتاب المسرحية والقصة الطويلة أو القصيرة، هي نفسها المشكلات التي تعتمل في نفس الريفي: علاقة الناس بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالثروة ومصادرها وبالسلطان ومراكزه، وغير هذا وذلك مما يضرب في صميم الحياة، ثم جاء الراديو وجاء التلفزيون، فأثرا في نوع الكتابة بقدر ما أثرت الكتابة فيهما؛ فأصبح كاتب المسرحية مثلا لا يخط حرفا إلا والشاشة ماثلة أمام بصره، فماذا يصلح لها وماذا لا يصلح، وبالتالي: ماذا سيشاهد الريفي وماذا سيسمع بحيث يتأثر أو لا يتأثر؟
فبطء الحياة بالأمس، وبطء الحركة، وبطء الانتقال والاتصال؛ قد انقلب اليوم سرعة سريعة، مما أدى إلى أن سارت القرية أشواطا في سبيل وصولها إلى القاهرة؛ حلاق الصحة في القرية قد حل محله طبيب أو أكثر من طبيب، ومقرض المال للفلاح قد حل محله جمعيات تعاونية وبنوك ائتمان؛ فلا أظن أن الشيخ الذي قصصت قصته، لو كان يعيش اليوم، كان يفاجأ بما فوجئ به من إفلاس.
قلت إنه كان من المفارقات التي تلفت النظر أن ترى سيدة وفي يدها جريدة أو كتاب، وأنا أترك للقارئ أن يحدثنا هو عن المفارقة التي تلفت أنظارنا اليوم؛ إنها اليوم لمفارقة أن نرى فتاة قعيدة البيت لم تختلف إلى معهد أو جامعة، ولم تشغل نفسها بعمل بعد ذلك، إنك اليوم إذا طالبت امرأة بالتوقيع؛ فلا تتوقع منها ما كنت تتوقعه بالأمس، من أنها ستخرج ختمها لتختم أو ستمد إبهامها لتبصم، بل تتوقع منها أن تخرج قلم الحبر من حقيبتها لتوقع بعد أن تجادلك في مبررات التوقيع.
ترى إذا عاد الزمن بصديقي الطبيب، الذي وضع ماله في أرض لا يحسن زراعتها، ليقول الناس عنه إنه ذهب إلى العزبة وعاد من العزبة؛ كسبا للجاه وبعد الصيت، فهل يظل على رأيه بأن يغتصب الأرض من زارعيها بماله بغية الجاه؟ أو إنه سيجد ذلك - اليوم - ما يأباه الإدراك السليم؛ فالأرض للزرع لا لاكتساب السطوة والسلطان! لكنها كانت بقايا إقطاع تمكنت من النفوس، وذهبت اليوم وذهب ريحها.
تغيرت صورة الحياة بين أمسها ويومها، ومن ذا يعلم ماذا تكون غدا؟
إنسانية العلم
المذهب الإنساني في الفلسفة - أو «الإنسية» كما أرادنا المرحوم إسماعيل مظهر أن نسميه - هو في صميمه صرخة احتجاج على كل ضرب من ضروب الفكر أو الحياة، يؤدي إلى التضحية بالإنسان من حيث هو كائن حي متكامل بعاطفته وعقله ، التضحية به من أجل أي شيء آخر سواه، كأن يضحي بهذه الدنيا من أجل الآخرة، أو أن يضحي بالعاطفة من أجل العقل، أو أن يضحي بالروح من أجل المادة، أو بالمادة من أجل الروح، أو بالحياة الفكرية من أجل الحياة العملية، أو بهذه من أجل تلك؛ فلئن كانت العصور الوسطى - في أوروبا - قد سادتها روح تطالب الإنسان بأن يئد رغباته الجسدية وغرائزه الفطرية الحيوية، فإن ثورة كان لا بد لها عندئذ أن تجيء لتعيد الإنسان إلى إنسانيته بكل ما فطرت عليه؛ فليس الإنسان بإله، كلا، ولا هو بحيوان، إنما هو كائن أريد به أن يقف حلقة وسطى بين السماء والأرض، يأخذ من الأولى روحانيتها ومن الثانية ماديتها، ثم يجاور في شخصه بين الجانبين، والعكس صحيح كذلك؛ أي إنه إذا كانت الثورة الصناعية في القرن الماضي قد أرادت - في أوروبا أيضا - أن تقتلع الإنسان من جذوره الروحانية كلها لتضعه في المصانع آلة من آلاتها؛ فإن ثورة على الثورة كان لا بد لها أن تظهر لتعيد للإنسان إنسانيته - في الاتجاه المضاد هذه المرة - وهكذا كلما اقتضت ظروف الحضارة في عصر من العصور أن ينطمس من طبيعة الإنسان جانب لحساب جانب؛ تحتم أن يخرج للناس فيلسوف «إنساني» يصحح الخطأ ويعيد للإنسان توازنه المفقود.
وإنه لمن حسنات الثقافة الإسلامية - فيما له صلة بموضوع حديثنا - أنها في جوهرها ثقافة لا تضحي من الإنسان بجانب من أجل جانب؛ فهو مخلوق للدنيا وللآخرة معا، للجسد وللروح معا، للنشاط العملي في هذه الحياة وللسبحات الروحية في سبيل حياة آخرة؛ ولهذا لم تكن هذه الثقافة الإسلامية بحاجة ماسة إلى أنصار للمذهب الإنساني يصرخون احتجاجا على ذلك أو على هذا، كما كانت الثقافة الأوروبية بحاجة؛ لكننا لم ندع ثقافتنا الأصلية تسير في مجراها، فأدخلنا عليها عناصر اقتضتها ظروف حضارية حديثة، ومن ثم هبت علينا الأنواء التي تميل بشراع السفينة إلى اليمين أكثر مما ينبغي تارة، وإلى اليسار أكثر مما ينبغي تارة أخرى، إلى الإيغال في العقل ولوازمه مرة، وإلى الإيغال في العاطفة وملحقاتها مرة، فأصبحنا بحاجة إلى «مذهب إنساني» يظهر حينا بعد حين ليصحح الخطأ ويعيد تعادل الميزان.
وليس في هذا كله علينا من بأس نخشاه، لكن البأس هو في أن تقع الثقافة الأوروبية في خطأ فنقع فيه مثلها، حتى لو لم تكن حياتنا تستلزم الوقوع فيه! ذلك أن المصادفة البحتة قد أدت بأصحاب المذهب الإنساني في أوروبا إبان نهضتها، أن يرتدوا إلى تراثهم اليوناني واللاتيني؛ ليلتمسوا فيه صورة الإنسان المتكامل بعاطفته وعقله، وأن يغفلوا العلوم الطبيعية من الصورة التي أرادوا تصويرها، لحداثة تلك العلوم الطبيعية عندئذ؛ فجاءت الأجيال التالية، ليظن أبناؤها أن الصورة الإنسانية المثلى، التي تتوافر فيها القيم الرفيعة وتتحقق بها الغايات القصوى، هي في ثقافة إنسانية من النوع الذي رسمه أنصار المذهب الإنساني في أوروبا النهضة، بلا زيادة ولا نقصان؛ فإذا كان هؤلاء قد ارتدوا إلى التراث اليوناني واللاتيني، فلا مناص لنا - نحن أنصار المذهب الإنساني الحديث - من أن نرتد إلى هذا التراث نفسه بغير تحريف، وإذا كان هؤلاء الرواد قد أغفلوا ذكر العلوم الطبيعية في الصورة الإنسانية كما رسموها لمعاصريهم، فلا مناص لنا كذلك - نحن أنصار المذهب الإنساني الحديث - من إغفال تلك العلوم؛ وبهذا نقع في خطأ مزدوج، فلا التراث اليوناني واللاتيني بضرورة ليس عنها من محيص لمن يريد أن يهيئ للإنسان حياة ثقافية إنسانية متزنة العناصر، ولا إغفال العلوم الطبيعية بشرط محتوم لكي تتوافر للقيم الإنسانية ظروفها المواتية.
Bog aan la aqoon