وإن من المناظر التي يبكي منها الضاحك أن ترى الرجل يمشي مجيلا بصره في أنحاء لباسه، كما تجيل الحسناء في الحمام طرفها في أنحاء جسدها العاري، ثم ينظر في حذائه وهو يكاد يغسل عنه الغبار بدموعه، كأنما عرضه فيه فهو يخشى عليه أن يلوث، يمشي ذلك المسكين فرحا برواء لباسه وهو يكاد يأكل أصبعه من الجوع.
أما مثل الفقير المحتذي الغني فمثل الغراب الذي أراد أن يحتذي الطاووس فاستعار ريشه، فكان ذلك داعيا إلى سخر الطواويس منه، أو مثل الفراش الذي لا يزال يتهافت على الضوء حتى يهلك.
ومن قتلى المظاهر الرجل الذي ينصح ابنه فيغريه بالفضيلة لأنها جالبة تقريظ الناس، ولو عرف هذا الرجل أن نصيحته هذه داعية إلى التلبس بالمظاهر وتلمس التقريظ حتى من الرذيلة، لأشفق على ابنه وقلل من ذكر تقريظ الناس، ومثل هذا الرجل آخر يقول لابنه: افعل هذا لأنه يقربك من رضاي، واجتنب هذا فإنه يدنيك من غضبي، فيحسب الغلام أن الشيء شر؛ لأنه يغضب أباه، أو خير؛ لأنه يرضيه، فإذا غفل أبوه أو مات وراودت الغلام نفسه أن يأتي شرا لم يعتصم منها.
ومن الذين استعبدتهم المظاهر الرجل الذي يعلق بطرف لسانه شيئا من الحكم السائرة، ثم يبتغي المجالس وهو لا يعرف أهلها، فيطلق عليهم من حكمه ما ينفخ أوداجه من ثنائهم عليه، وإنما مثل هذا الطفيلي مثل أم العروس الحسناء، إذا كمنت تحت سرير بنتها ليلة الزفاف، ولو لم يكن في ذلك التقصي إلا أنه عدو الحياء لكفى، فكيف به وهو دناءة ولؤم؟!
وممن ينتظم في هذا السلك الرجل الذي آتاه الله بسطة في العلم أو في المال فأبغض الإنسان، ولو كان مثل جوناثان سويفت يبغض فردا ويحب نوعا لرحمناه، والبغض مظهر من مظاهر حب الذات، وخير البغض ما كان حبا معكوسا، وخير المبغضين من أبغض الرذيلة حبا في الفضيلة، وفي مثل ما نعني قال العلامة صمويل جونسون: «إني أحب الرجل الذي يجيد البغض، وكما أن النحلة لا تضع الحرير، والدودة لا تمج العسل، والماء لا يقدح شررا، والنار لا ترشح ماء، كذلك ليس من طبع العظيم أن يبغض.» فإنه واجد صلة بينه وبين كل شيء؛ لأنه حلقة من حلقات سلسلة الوجود، بل هو المنزلة التي يهبط إليها السامي ويعلو إليها الوضيع، هو أخو الطفل والغلام واليافع والرجل والشيخ، وهو صاحب التقي والفاجر واللص والورع، وهو الذي لا يأنف من أن يحنو على المسيء ويرحم المخطئ.
وليس مدعي الفقر في باب المظاهر بأحقر من مدعي الغنى، ولا مدعي الفضل بشر من مدعي النقص، ولا محب الخمول بخير من محب الشهرة، وإن من قتلى المظاهر من جعل مهنته فتقا لحيلة لاجتلاب الشهرة، ولو علم ذلك الأبله أن الأجراس التي توضع على صدور المعز لا تزيد في ألبانها لما حسب أن الشهرة جالبة للفضل.
وممن يلج هذا الباب - باب المظاهر - الرجل الذي إذا حدثك ذم نقيصة من النقائص كي يلفتك عما في نفسه منها، وإنما مثل هذا الأحمق كمثل أخيه الذي يرى في ثوبه قطعة ملوثة فيغسلها في المداد كي تخفى، فيكون ذلك داعية لإظهارها كما يكون التصنع في كتم السر داعية لإظهاره.
عصور الانتقال
سبيل الإنسان في الحياة مثل سبيل الغلام الصغير إلى المدرسة، تعترضه فيه الهواجس فيحيد عنه إلى الحارات ويضيع وقته في اللعب.
وكذلك الإنسان، قد يحيد عن الغرض الذي خلق ليسعى إليه في الحياة، ثم يضيع الحياة عبثا، وسواء كان الغرض من الحياة جليلا أو حقيرا، فلا بد للأفراد والجماعات أن تشعر في الحياة بغرض تسعى إليه، وقد تكون حياة الأفراد والجماعات مثل نهر من الماء تعترضه تيارات متضادة من الميول والآراء والمذاهب المختلفة. من أجل ذلك يضطرب سطحه ويصعب على الأفراد والجماعات في مثل هذه الحال أن تعيش حياة سعيدة، وكما أن الإنسان قد يؤدي به سعيه إلى طريق مسدود لا منفذ له، فيضطر أن يرجع إلى طريق آخر كي يصل إلى المكان المقصود، كذلك الإنسان في الحياة، وكذلك الأمم والشعوب والجماعات، قد يؤدي بها سعيها إلى طريق مسدود من طرق الحياة فتضطر أن تسلك طريقا آخر يؤدي بها إلى الغاية التي تقصدها من النجاح والقوة.
Bog aan la aqoon