بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام حجة العرب وترجمان الأدب تقي الدين أبو بكر بن حجة الحنفي منشىء دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية تغمده الله برحمته.
أما بعد حمدا لله الذي فكهنا بثمار أوراق العلماء والصلاة والسلام على نبيه شجرة العلم التي أصلها ثابت وفرعها في السماء وعلى آله وصحبه الذين هم فروع هذه الشجرة، وأغصانها التي دنت لهذه الأمة قطوفها المثمرة. فإني وريت بتسمية هذا الكتاب بثمار الأوراق، علما أن قطوفه لم تدن لغير ذوي الأذواق فمن ذلك ما نقلته من درة الغواص لأبي محمد القاسم بن علي الحريري صاحب المقامات أن أبا العباس المبرد روى أن بعض أهل الذمة سأل أبا عثمان المازني في قراءة كتاب سيبويه عنه وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه فامتنع أبو عثمان من ذلك فقال له المبرد جعلت فداك أترد هذه النفقة مع فاقتك واحتياجك
Bogga 2
إليها، فقال أبو عثمان هذا الكتاب يشتمل على ثلثمائة حديث وكذا آية من كتاب الله ولست أرى أن أمكن منها ذميا غيرة على كتاب الله تعالى وحمية له،
غناء جارية ولحنها بين يدي الواثق
قال فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق من شعر العرجي:
أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم
فاختلف من بالحضرة في إعراب رجلا فمنهم من نصبه وجعله اسم إن ومنهم من رفعه على أنه خبرها والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب فأمر الواثق بإشخاصه قال أبو عثمان فلما مثلت بين يديه قال ممن الرجل؟ قلت: من مازن يا أمير المؤمنين قال أي الموازن قلت من مازن ربيع فكلمني بكلام قومي وقال بااسمك لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما إذا كانت في أو الأسماء فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجه بالمكر فقلت بكر يا أمير المؤمنين ففطن لما قصدته وأعجبه مني ذلك، ثم قال: ما تقول في قول الشاعر:
أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم
Bogga 3
أترفع رجلا أم تنصبه فقلت الوجه النصب يا أمير المؤمنين قال ولم ذلك فقلت إن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم فأخذ الزيدي في معارضتي فقلت هو بمنزلة قولك: إن ضربك زيدا ظلم فالرجل مفعول مصابكم ومنصوب به والدليل عليه، أن الكلام متعلق إلى أن تقول ظلم فيتم فاستحسنه الواثق وأمر له بألف دينار. قال أبو العباس المبرد فلما عاد أبو عثمان إلى البصرة قال لي كيف رأيت رددنا لله مائة فعوضنا ألفا.
ونقلت من درة الغواص أيضا أن حامد بن العباس سأل علي بن عيسى في ديوان الوزارة ما دواء الخمار وكان قد علق به فأعرض عن كلامه وقال: ما أنا وهذه المسألة؟ فخجل حامد منه والتفت إلى قاضي القضاة أبي عمر فسأله عن ذلك فتنحنح لإصلاح صوته ثم قال: قال الله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا "، وقال النبي: " استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها "، والأعشى وهو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية قال:
Bogga 4
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
ثم تلاه أبو نواس في الإسلام فقال:
دع عنك لومي فأن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
فأسفر حينئذ وجه حامد وقال لابن عيسى ما ضرك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به مولانا قاضي القضاة؟ وقد استظهر في جواب المسألة بقول الله تعالى أولا، ثم بقول النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا وأدى المعنى وخرج من العهدة فكان خجل ابن عيسى أكثر من خجل حامد لما ابتدأ بالمسألة، انتهى.
ويضارع هذه الحكاية في لين بعض القضاة المتقشفين وإذعانهم مع الزهد والتقشف للمستفتين، ما نقلته من درة الغواص للحريري أيضا، قال: اجتمع قوم على شراب فتغنى مغنيهم بشعر حسان:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
فقال بعضهم امرأتي طالق، إن لم أسأل الليلة عبيد الله بن الحسن القاضي عن علة هذا الشعر كيف قال إن التي فوحد
Bogga 5
ثم قال كلتاهما فثنى فأشفقوا على صاحبهم وتركوا ما كانوا فيه ومضوا يتخبطون القبائل إلى بني شقرة فوجدوا عبيد الله بن الحسن يصلي فلما فرغ من صلاته قالوا له: قد جئناك في أمر دعتنا إليه الضرورة وشرحوا له الخبر وسألوه الجواب فقال مع زهده وتقشفه: إن التي ناولتني فرددتها عني بها الخمرة الممزوجة بالماء ثم قال كلتاهما حلب العصير يريد الخمرة المتحلبة من العنب والماء المتحلب من السحاب المكنى عنه بالمعصرات انتهى قال الحريري وقد بقي في الشعر ما يحتاج إلى تفسيره أما قوله إن التي ناولتني فرددتها قتلت قتلت فإنه خاطب به الساقي الذي ناوله كأسا ممزوجة لأنه يقال قتلت الخمرة إذا مزجتها فأراد أن يعلمه أنه فطن لما فعله ثم ما اقتنع بذلك منه حتى دعا عليه بالقتل في مقابلة المزج ثم إنه عقب الدعاء عليه بأن استعطى منه ما لم تقتل يعني الصرف التي لم تمزج وقوله أرخاهما للمفصل يعني به اللسان وسمي
Bogga 6
مفصلا فالكسر لأنه يفصل بين الحق والباطل قال الحريري وليس على ما اعتمده القاضي عبيد الله من الاستماح وخفض الجناح ما يقدح في نزاهته ويغض من نبله ونباهته والله أعلم.
ونقلت من درة الغواص أن عروة بن أذينة الشاعر وفد على هشام بن عبد الملك في جماعة من الشعراء فلما دخلوا عليه عرف عروة فقال له ألست القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إلهي فيعييني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني
وأراك قد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق فقال له يا أمير المؤمنين زادك الله بسطة في العلم والجسم ولا رد وافدك خائبا والله لقد بالغت في الوعظ وأذكرتني ما أنسانيه الدهر وخرج من فوره إلى راحلته فركبها وتوجه راجعا إلى الحجاز فلما كان في الليل ذكره هشام وهو في فراشه فقال رجل من قريش قال حكمة ووفد إلي فجبهته ورددته عن حاجته وهو مع ذلك
Bogga 7
شاعر لا آمن ما يقول فلما أصبح سأل عنه فأخبر بانصرافه وقال: لا جرم ليعلم أن الرزق سيأتيه ثم دعا مولى له وأعطاه ألفي دينار وقال الحق بهذه ابن أذينة وأعطه إياها قال: فلم أدركه إلا وقد دخل بيته فقرعت الباب عليه فخرج إلي فأعطيته المال فقال أبلغ أمير المؤمنين قولي سعيت فأكديت ورجعت إلى بيتي فأتاني رزقي ويضارع هذه الحكاية ما حكي عن هدبة بن خالد رحمه الله تعالى قال حضرت مائدة المأمون فلما رفعت المائدة جعلت ألتقط ما في الأرض فنظر إلي المأمون فقال أما شبعت يا شيخ قلت بلى يا أمير المؤمنين ولكن حدثني حماد بن سلمة عن ثابت بن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من التقط ما تحت مائدته أمن من الفقر فنظر المأمون إلى خادم واقف بين يديه فأشار إليه فما شعرت أن جاءني ومعه منديل فيه ألف دينار فناولني إياه فقلت يا أمير المؤمنين وهذا من ذاك انتهى.
ومن لطائف ما جنيت
Bogga 8
من ثمرات الأوراق أن رجلا من الحذاق كان يكتب كتابا وإلى جانبه آخر فانتهى في كتابه إلى اسم عمرو فكتبه بغير واو فقال يا مولانا زدها واوا للفرق بينها وبين عمر فقال: والله لقد تفضل مولانا بزيادة الواو بمعنى تفوضل قلت وبعضهم يرى أن الواو تزاد بعد لا النافية في الجواب إذا قيل هل فعلت كذا وكذ فيقول لا وعافاك الله.
قال أبو الفرج بن الجوزي: روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لرجل عربي أكان كذا وكذا فقال: لا أطال الله بقاءك فقال الإمام عمر رضي الله عنه: قد علمتم فلم تتعلموا هلا قلت: لا وعافاك الله.
وحكي عن الصاحب بن عباد أنه قال هذه الواو هنا أحسن من واوات الأصداغ في وجنات الملاح. قلت وهذه الواو أعني واو عمرو نظم فيها الشعراء كثيرا منهم أبو نواس قال يهجو أشجع السلمي.
قل لمن يدعي سليمى سفاها ... لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو
وقال أبو سعيد الرسمي وأجاد:
أفي الحق أن يعطى ثلاثون شاعرا ... ويحرم ما دون الرضا شاعر مثلي
Bogga 9
كما سامحوا عمرا بواو مزيدة ... وضويق بسم الله في ألف الوصل
ومن لطائف المجتنى ما نقل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب قيل إنه قال يوما للقاضي الفاضل لنا مدة لم نر فيها العماد الكاتب فلعله ضعيف، أمض إليه وتفقد أحواله فلما دخل الفاضل إلى دار العماد وجد أشياء أنكرها في نفسه مثل آثار مجالس أنس ورائحة خمر وآلات طرب فأنشد:
ما ناصحتك خبايا الود من رجل ... ما لم ينلك بمكروه من العذل
محبتي فيك تأبى عن مسامحتي ... بأن أراك على شيء من الزلل
فلما قام من عنده نزع العماد عما كان فيه وأقلع ولم يعد إلى شيء من ذلك البتة.
ومن اللطائف ما نقل عن الملك الظاهر رحمه الله تعالى، قيل إنه لما استعرض الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار ليشتريه قال له أنا حر يا مولانا السلطان وأحسن الكتابة فأحضرت له دواة فكتب يقول:
لولا الضرورة ما فارقتكم أبدا ... ولا تنقلت من ناس إلى ناس
فأعجبه الاستشهاد بهذا البيت ورغبه ذلك في مشتراه ويضارعه ما حكي عن الصاحب كمال الدين ابن العديم قيل إن إنسانا رفع قصة إلى الصاحب المشار إليه فأعجبه خطها فأمسكها وقال لرافعها هذا خطك قال لا ولكن
Bogga 10
حضرت إلى باب مولانا فوجدت بعض مماليكه فكتبها إلي فقال علي به فلما حضر وجده مملوكه فقال هذا خطك قال نعم قال فهذه طريقتي من هو الذي أظهرك عليها فقال يا مولانا كنت إذا وقعت لأحد على قصة أخذتها منه وسألته المهلة حتى أكتب عليها سطرين أو ثلاثة فأمره أن يكتب بين يديه ليراه فكتب:
وما تنفع الآداب والعلم والحجى ... وصاحبها عند الكمال يموت
فكان إعجاب الصاحب الاستشهاد أكثر من الخط ورفع منزلته بعد ذلك وأذكرني اتفاق التورية في الكمال هنا ما حكي عن القاضي فخر الدين لقمان والقاضي تاج الدين أحمد بن الأمير رحمهما الله أنهما كانا صحبة السلطان على تل العجول ولفخر الدين مملوك اسمه الطنبا فاتفق أنه طلب مملوكه المذكور وناداه يا طنبا فقال: له نعم ولم يأته وكانت ليلة ممطرة مظلمة فأخرج فخر الدين ابن لقمان رأسه من الخيمة فقال تقول نعم ولم أرك فقال القاضي تاج الدين:
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب في أرجائها الطنبا
ومن اتفاق التورية أيضا ما كتبه الشيخ شرف الدين بن عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة ملغزا في باب إلى والده:
ما واقف في المخرج ... يذهب طورا ويجي
Bogga 11
لست أخاف شره ... ما لم يكن بمرتج
فكتب إليه والده في الجواب ذهاب وإياب وخوف وشر هذا باب خصومة والسلام.
قيل إن الصاحب جمال الدين بن مطروح كتب لبعض الرؤساء رقعة إلى صديق له يشفع فيها عنده. فكتب ذلك الرئيس هذا الأمر علي فيه مشقة فكتب ابن مطروح في جوابه، لولا المشقة. فلما وقف عليها فهم الإشارة إلى قول المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... ألجود يفقر والإقدام قتال
وقضى الشغل على الفور انتهى.
قيل إن يوسف الصديق عليه السلام كتب على باب السجن لما خرج منه، هذا قبر الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء. وقال الشاعر:
دعوة الإخاء على الرخاء كثيرة ... بل في الشدائد تعرف الإخوان
والله در يزيد بن المهلب من ذي مروءة وسخاء وتصديق أهل فإن كان في سجن الحجاج يعذب فدخل عليه يزيد بن الحكم وقد حل عليه نجم وكانت نجومه في كل اسبوع ستة عشر الف درهم فقال له:
أصبح في قيدك السماحة وال ... جود وفضل السلاح والحسب
لا تضجرن إن تتابعت نقم ... وصارف في البلاء محتسب
Bogga 12
برزت سبق الجياد في مهل ... وقصرت دون سعيك العرب
فالتفت يزيد إلى مولى له وقال: أعطه نجم هذا الأسبوع ونصبر على العذاب إلى السبت الآخر.
قال الأصمعي حضرت مجلس الرشيد وفيه مسلم بن الوليد إذ دخل أبو نواس فقال له الرشيد ما أحدثت بعدنا يا أبا نواس فقال يا أمير المؤمنين ولو في الخمر فقال: قاتلك الله ولو في الخمر فأنشد:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
حتى انتهى إلى آخرها فقال:
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
فقال أحسنت والله يا غلام أعطه عشرة آلاف درهم وعشر خلع فأخذها وخرج قال الأصمعي: فلما خرجنا من عنده قال لي مسلم بن الوليد: ألم تر إلى الحسن بن هانىء كيف سرق شعري وأخذ به مالا وخلعا فقلت له وأي معنى سرق لك قال قوله فتمشت في مفاصلهم البيت. فقلت وأي شيء قلت فقال:
كأن قلبي وشاحاها إذا خطرت ... وقلبها في الصمت والخرس
تجري محبتها في قلب وأمقها ... جري السلافة في أعضاء منتكس
ترجمة المعتزلة
المعتزلة طائفة من المسلمين يرون أن أفعال الخير من الله وأفعال الشر من
Bogga 13
الإنسان وأن القرآن مخلوق محدث ليس بقديم وأن الله تعالى غير مرئي يوم القيامة وأن المؤمن إذا ارتكب الذنب مثل الزنا وشرب الخمر كان في منزلة بين منزلتين يعنون بذلك أنه ليس بمؤمن ولا كافر وأن إعجاز القرآن في الصرفة لا أنه في نفسه معجز ولو لم يصرف الله العرب عن معارضته لأتوا بما يعارضه وأن من دخل النار لم يخرج منها وإنما سموا معتزلة لأن واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري رضي الله تعالى عنه فلما ظهر الخلاف وقالت الخوارج بكفر مرتكب الكبائر وقال المجاعة بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر خرج واصل عن الفريقين وقال إن الفاسق عن الفريقين وقال إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين منزلتين فطرده الحسن رضي الله تعالى عنه عن مجلسه فاعتزل عنه فقيل لأتباعه معتزلة. ولم يزل مذهب الأعتزال ينمو إلى أيام الرشيد فظهر بشر المريسي وأحضر الشافعي مكبلا في الحديد فساله بشر والسؤال ما تقول يا قرشي في القرآن؟ فقال: إياي تعني؟ قال: نعم قال: مخلوق فخلى عنه وأحس الشافعي رضي الله عنه بالشر وأنه الفتنة تشتد في إظهار القول بخلق القرآن فهرب من بغداد إلى مصر ولم
Bogga 14
يقل الرشيد رحمه الله بخلق القرآن فكان الأمر بين أخذ وترك إلى أن ولي المأمون فقال بخلق القرآن وبقي يقدم رجلا ويؤخر أخرى في الدعوة إلى ذلك، إلى أن قوي عزمه في السنة التي مات فيها وطلب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فأخبر في الطريق أنه توفي فبقي الإمام محبوسا بالرقة حتى بويع المعتصم فأحضر إلى بغداد وعقد له مجلس المناظرة وفيه عبد الرحمن بن إسحق، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام فلم يقطع في بحث، وسفه أقوال الجميع فأمر به فضرب بالسياط إلى أن أغمي عليه ورمي على بارية وهو مغشي عليه ثم حمل وصار إلى منزله ولم يقل بخلق القرآن ومكث في السجن ثمانية وعشرين شهرا ولم يزل يحضر الجمعة ويفتي ويحدث حتى مات المعتصم وولي الواثق فأظهر ما أظهر من المحنة وقال للامام أحمد لا تجمعن إليك أحدا ولا تساكني في بلد أنا فيه، فاختفى الإمام أحمد لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها، حتى مات الواثق وولي المتوكل، فأحضره وأكرمه وأطلق عليه مالا فلم يقبله وفرقه، وأجرى على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف درهم ولم تزل جارية إلى أن مات المتوكل، وفي أيامه
Bogga 15
ظهرت السنة وكتب إلى الآفاق برفع ما توقع من المحنة وإظهار السنة وتكلم في مجلس بالسنة ولم يزالوا أعني المعتزلة في قوة إلى أيام المتوكل ولم يكن في هذه الأمة الإسلامية أهل بدعة أكثر منهم. ومن مشاهيرهم على ما ذكروا من الفضلاء والأعيان الجاحظ وواصل بن عطاء والقاضي عبد الجبار والرماني النحوي وأبو علي الفارسي وأقضى القضاة الماوردي الشافعي وهذا غريب، ومن المعتزلة أيضا الصاحب بن عباد وصاحب الكشاف والفراء النحوي والسيرافي وابن جني والله أعلم.
ومما جنيته من ثمرات الأوراق أن الرشيد ساله جعفرا عن جواريه فقال يا أمير المؤمنين كنت في الليلة الماضية مضطجعا وعندي جاريتان وهما يكسباني فتناومت عنهما لأنظر صنيعهما وإحداهما مكية والأخرى مدنية فمدت المدنية يدها إلى ذلك الشيء فلعبت به فانتصب قائما فوثبت المكية وقعدت عليه فقالت المدنية أنا أحق به لأنني حدثت عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحيا أرضا ميتة فهي له. فقالت المكية: وأنا حدثت عن معمر عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس الصيد لمن أثاره إنما
Bogga 16
الصيد لمن أخذه، فضحك الرشيد حتى استلقى على قفاه وقال هل من سلوة عنهما فقال جعفر هما ومولاهما بحكم أمير المؤمنين وحملهما إليه.
ومن ذلك ما حكي عن بعض المطربين أنه غنى في جماعة عند بعض الأمراء:
إذا أنت أعطيت السعادة لم تبل ... ولو نظرت شزرا إليك القبائل
وإن فوق الأعداء نحوك أسهما ... ثنتها على أعقابهن المناصل
فطرب الأمير إلى الغاية ولما زاد طربه قال لبعض مماليكه هات خلعة لهذا المغني ولم يفهم المغني ما يقوله الأمير فقام لقلة حظه إلى بين الخلاء وفي غيبته جاء المملوك بالخلعة فوجد المغني غائبا وقد حصل في المجلس عربدة وأمر الأمير بإخراج الجميع فقيل للمغني بعدما خرج: إن الأمير كان قد أمر لك بخلعة فلما كان بعد أيام حضر المغني عند ذلك الأمير وغنى فقال:
إذا أنت أعطيت السعادة لم تبل ... ولو نظرت شزرا إليك القبائل
بفتح التاء وضم الباء، فأنكروا عليه فقال نعم لأني لما بلت في ذلك اليوم فاتتني السعادة من الأمير فأوضحوا له القصة فضحك وأعجبه ذلك وأمر له بخلعة.
ومن المنقول
Bogga 17
أن عبد الله بن المعتز من خلفاء بني العباس مع كماله وغزارة فضله كان لم يزل منغصا في مدة حياته بويع له بالخلافة وظن أن الحظ قد تنبه له فلم يتم الأمر له إلا يوما واحدا ثم قبض عليه وقتل رحمه الله تعالى على أنه ما وافق على ولاية الآمر حتى اشترط عليهم أن لا يسفكوا في واقعته دما ومحله من الأدب لا يخفى وشمعة فضله كالصبح لا تقط ولا تطفى وقد قيل:
لله درك من ملك بمضيعة ... ناهيك في العلم والعلياء والحسب
ما فيه لو ولا ليت تنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
وقال ابن الساعاتي:
عفت القريض فلا أسمو له أبدا ... حتى لقد عفت أن أرويه في الكتب
هجرت نظمي له لا من مهانته ... لكنها خفية من حرفة الأدب
قلت وما برح الزمان مولعا بخمول أهل الأدب وخمود نارهم. كان الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين يوسف من كبار أهل الأدب، وكان حسن السيرة متدينا قل أن عاقب على ذنب وله المناقب الجميلة وكان أكبر إخواته، ومع كمال صفاته وآدابه التي سارت بها الركبان ما صفاه له الدهر ولا هناه بالملك بعد أبيه السلطان صلاح
Bogga 18
الدين، رحمه الله تعالى، لبث مدة يسيرة بدمشق المحروسة ثم حضر إليه عمه أبو بكر العادل وأخوه الملك العزيز عثمان، فأخرجهما من ملكه بدمشق إلى صرخد ثم جهزاه إلى سميساط وفي ذلك كتب إلى الإمام الناصر ببغداد:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد منعا بالسيف حق علي
فأنظر إلى حظ هذا الإسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأول
فكتب الناصر الجواب: ولكن الفرق مثل الصبح
وافي كتابك يا ابن يوسف معلنا ... بالصدق يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا عليا حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ثائر
فاصبر فإن غدا عليه حسابهم ... وابشر فناصرك الإمام الناصر
ولم ينصره الإمام الناصر بل توفي فجأة بسميساط، رحمه الله تعالى، ومن شعره ما ذكره ابن واصل في مفرج الكروب:
يا من يسود شعره بخضابه ... فعساه من أهل الشبيبة يحصل
ها فاختضب بسواد حظي مرة ... ولك الأمان بأنه لا ينصل
قلت ومثله الملك الناصر داود ابن الملك المعظم وكان
Bogga 19
داود صاحب الكرك ما برح مع كمال فضله منكدا مشتتا في البلاد توجه إلى بغداد ومعه فخر القضاة ابن بصاقة والشيخ شمس الدين الخرشاهي وقد استصحب جواهر نفيسة والتجأ إلى الإمام الناصر وطلب الحضور بين يديه ليشاهده في الملا فما قدر له ذلك ولا وافق الخليفة عليه حتى امتدحه بقصيدته البائية التي مطلعها:
وران ألمت بالكثيب ذوائبه ... وجنح الدجى وحف تجول غياهبه
تقهقه في تلك الربوع رعوده ... وتبكي على تلك الطلول سحائبه
وقال منها في حكاية حاله مع الخليفة:
أيحسن في شرع المعالي ودينها ... وأنت الذي تعزي إليه مذاهبه
بأني أخوض الدو والدو مقفر ... سباريته مقفرة وسباسبه
ويأتيك غيري من بلاد قريبة ... له الأمن فيها صاحب لا يجانبه
فيلقى دنوا منك لم ألق مثله ... ويحظى ولا أحظى بما أنا طالبه
وينظر في لألاء قدسك نظرة ... فيرجع والنور الإمامي صاحبه
ولو كان يعلوني بنفس ورتبة ... وصدق ولاء لست فيه أصاقبه
Bogga 20
لكنت أسلي النفس مما ترومه ... وكنت أذود العين عما تراقبه
ولكنه مثلي ولو قلت إنني ... أزيد عليه لم يعب ذاك عائبه
الناصر يشير إلى مظفر الدين كوكبوري بن كوجك فإنه قدم إلى الديوان فطلب الحضور، فأذن له وبرز له الخليفة وشاهد وجهه، ولما وقفت الخليفة على هذه القصيدة أعجبته غاية الإعجاب، وهي من النظم البديع في غاية لاتدرك، فاستدعاه بعد شطر من الليل واجتمع به خلوة، وما تم له ما ظفر به مظفر الدين المذكور، وسبب ذلك أن الخليفة راعى عمه المذكور، والذي ثبت عند أهل التاريخ أن عمه العادل ما فعل ذلك إلا حسدا له على كمال أدواته وبلاغة آدابه وقيل: إنه كتب خطا منسوبا أزرى بالحدائق المدبجة.
وحكى صاحب الريحان والريعان قال حضر شاب ذكي بعض مجالس الأدب، فقال بعضهم: ما تصحيف نصحت فخنتني قال تصحيف حسن فاستغرب إسراعه، وكان بالمجلس شاعر من أهل بلنسية فاتهم الشاب وقال مختبرا له ما تصحيف بلنسية فأطرق ساعة، ثم قال أربعة أشهر فجعل البلنسي يقول صدق ظني أنك تدعي وتنتحل، ما تقول، والفتى يضحك ثم قال له أشعرت أنت يا شاعر فقال له وأي نسبة بين أربعة أشهر وبين بلنسية فقال له إن لم يكن في اللفظ، فهو في المعنى ثم قام وهو
Bogga 21