Saddex Nin iyo Haweenay
ثلاثة رجال وامرأة
Noocyada
وأمدها بقدر يسير من المال تستعين به على التدرب على الآلة الكاتبة في أحد المكاتب أو المعاهد المعدة لذلك، فلما أتقنت الكتابة بها بسرعة كافية، قدمها إلى مدير شركة تجارية كبيرة، وأوصاه بها خيرا، ورشحها حسن وجهها قبل أن ترشحها الكفاية، فأفرد لها حجرة قريبة، فيها سجادة نفيسة، وكراسي مكسوة بالجلد الثمين، ومكتب ضخم عليه لوح من البلور، ومروحة كهربائية للصيف، ومدفأة للشتاء، وعنقود من مصابيح الكهرباء يتدلى من السقف، وقال لها إن مرتبها في البداية سيكون ستة جنيهات، وإنه يزيد مع الاجتهاد، وغمز بعينه وهو يضيف إلى ذلك أن حظها بين يديها.
وفي اليوم التالي دعاها إليه، فوقفت بين يديه، فأومأ إليها أن تقعد، وشرح لها واجباتها، وهي هينة، لا تتجاوز كتابة بضع صفحات أو رسائل على الآلة الكاتبة، وإثبات تواريخها وأرقامها في دفتر، والاحتفاظ بصور منها في الملفات الخاصة بموضوعاتها المختلفة، وسألها عن أبيها وعمله، ومسكنها، والطريق الذي تسلكه، وكان يهش لها ويتلطف في الحديث معها، ويكرر لها ألا حد لتجزية المجتهد على اجتهاده، وقال لها وهو يصرفها بلطف إن في وسعها إذا شاءت أن تستلف من مرتبها، واقترح عليها أن تقترض نصف مرتب شهر، على أن ترده أقساطا، فشكرت له عطفه.
ولكن الأستاذ حليما نصح لها بألا تفعل، وقال إنه خير لها أن تأخذ مرتبها كاملا في أول كل شهر، ليتسنى لها حسن التدبير، وإقامة الأمور على حدود مضبوطة، والتصرف بغير اضطراب، وحذرها من المدير؛ فما يعرفه معرفته، ولا هو مطلع على دخائله، وقد يكون المراد من اقتراحه التعسير لا التيسير، لتضطرب أمورها فلا تنقطع حاجتها إليه للاستئذان في الاستلاف، فيبدو كأنه يغمرها بفضله، وهو ما عدا أن شجعها على التطلب، حتى لا يبقى لها آخر الشهر سوى «شوية» يسيرة لا تبلغ أن تكون كافية، وهكذا تظل في عسرة دورية وحاجة إليه لا تنتهي، ومن يدري حينئذ ماذا يحاول، وبماذا يهم؟! وختم محاضرته بقوله: إني أراه فخا فحاذريه.
فتحرزت، وصبرت على قلة الخير، واستحقت في آخر الشهر مرتب عشرة أيام، فلم يحمل إليها أحد شيئا، ومضت أيام وهي لا تسأل ولا تعطى، فعادت إلى الأستاذ حليم فقال لها: لعلهم آثروا أن يضموا الأيام العشرة إلى الشهر الحالي، أو عسى أن يكونوا قد أسقطوها من حسابهم وعدوها أيام تجربة، ومرانة على العمل . على كل حال يحسن أن تنتظري وتتأني، وافرضي أنك لم تلتحقي بهذه الشركة إلا اليوم، وأجرك على الله، وحذار أن تظهري اللهفة، أو أن تقولي أو تفعلي ما يدلهم على أنك لست بخير، فما أراني أطمئن إلى هذا المدير، وإن صدري لتحك فيه أشياء منه، لا أدري لماذا؟ فما أنبأتني بشيء يوجب هذا، ولكنه شعور غامض لا أعرف له باعثا وأرجو أن يكون كاذبا.
وكان المدير مقتصدا في ملاطفتها، غير مسرف في حفاوته بها، فزال ما كان يهجس في خاطرها من كلام الأستاذ حليم وسوء ظنه، أو فتر على الأصح، وكان ربما دخل عليها غرفتها فتنهض، فيشير إليها أن تقعد، ويقول: لا داعي لهذا، ثم إني لن أطيل الوقوف، ويحدثها فيما جاء له، فإذا امتد نفس الكلام قعد على ذراع كرسي واعتمد على مكتبها، ويسألها أحيانا وهو يهم بالانصراف عن عملها، أهو ثقيل؟ وهل هي راضية عنه؟ فتشكره، فيهز رأسه ويخرج.
2
ومضت الأيام، ولم يحدث شيء، وأقبل الشتاء فكثر العمل وقلت فترات الراحة، ولكنه كان على الجملة أطيب وأخف على النفس من العمل في الصيف، وكانت تعود إلى مكتبها في الشركة بعد الظهر في الساعة الرابعة وتمكث إلى السادسة، وكثيرا ما كان المدير يصرفها قبل ذلك رفقا بها، إذا لم يكن ثم ما يستلزم بقاءها.
وانتظمت حياتها، واطردت على وتيرة واحدة؛ فكانت تخرج من بيتها كل صباح - ستة أيام في الأسبوع - في منتصف الساعة الثامنة، فتبلغ الشركة حوالي التاسعة، فتدخل غرفتها الدافئة، وتنضو معطفها، وتنظر في مرآتها الصغيرة وتسوي شعرها، وتصلح ثيابها، ويمر بها الموظفون الآخرون فيحيونها وهم في مدخل الباب، أو يدخل منهم واحد يثرثر معها لحظة، ويقدم المدير حوالي الحادية عشرة، فيدعوها إليه، ويناولها بعض الرسائل، فتشتغل بها إلى الظهر، ثم تتهيأ للخروج في منتصف الساعة الأولى، وفي المساء يكون عملها أكثر، إلا أنه لا يكلفها شططا.
3
وكان معها في الشركة شاب ظريف أنيق الملبس رطب اللسان، يسمونه نسيم بك لسخاء يده ومروءة قلبه، لا مجاملة وتلطفا، وهو شاب أبى له والده الثري إلا التجارة دون الزراعة التي كان مبتغاه أن يشتغل بها في ضيعته الواسعة، وكان والده صديقا للمدير راتب بك فألحقه بشركته ليتدرب، ووضعه عند أولى درجات السلم ليرقى فيه ويتعلم، فلم يمتعض نسيم بك ولم يتسخط، بل أقبل على ما وكل إليه من الأعمال - تسجيل الرسائل الصادرة والواردة وتوجيهها - بنشاط وخفة ومرح، وكان يقول لزميله في الغرفة: اقتد بي يا صاحبي، فإنك خليق إذا ثابرت مثابرتي، وأخلصت كإخلاصي أن ترتقي، حتى تتولى إدارة هذه الشركة العظيمة، إي نعم؛ فإنك أولى من صاحبنا راتب بحجرته الوثيرة ومكتبه الطويل ومقعده الدوار، ولست أحب أن أذكر إنسانا إلا بخير، ولكن الحقيقة أني لا أرضى عن صاحبنا راتب كل الرضى، انظر مثلا إلى الصدرية التي كان يرتديها أمس! أو لا تنظر؛ فإنها تؤذى العين، هل يليق أن يلبس إنسان صدرية كهذه؟! يخيل إليك أنها من ألوان غروب الشمس لولا أننا نعلم أنها من صوف، وتأمل ربطة الرقبة، والحذاء ... أوه! لا لا لا، وإني لأحاوره وأداوره وأعالج أن أصلح ذوقه، ويبدو لي أحيانا أني سأنجح، ولكنه يبدو لي في أحيان كثيرة أخرى أنه يفلت مني ويرتد وينأى، على أني لست يائسا من قدرتي على تهذيبه وتثقيفه، الصبر طيب يا صاحبي، كما كانت جدتي تقول، تالله ما كان أحكمها - عليها رحمة الله - ولكني أضيع وقتك وأشغلك عن عملك، وهذا لا يجوز، كلا، لا يجوز؛ فإننا هنا - أنا وأنت - لنجعل من هذا المكتب الذي نحن فيه نموذجا، أما كيف فمسألة أخرى، ننظر فيها حين يجيء أوانها، وسيجيء هذا الأوان ولا شك، وسيجيء يوم تسير فيه مصلحة السكة الحديدية قطرا مخصوصة بأجور مخفضة للمتلهفين على رؤية هذا المكتب النموذجي وزيارته، على نحو ما تسير قطار الآثار في الشتاء، وقطار البحر في الصيف، والآن يجب أن أكف عن الكلام، وإن كان لا يسعني إلا الاعتراف بأن حديثك ممتع؛ فقد آن أن نعمل، فإن منافسينا في التجارة لا يغمض لهم جفن، وهم ساهرون متربصون، ليغتنموا فرصة إهمالنا، وقد شاع وذاع وملأ الأسماع أن نسيما وعزت صديقه الحميم يقولان ولا يعملان. فأخوف ما أخاف أن تثب الشركات الأخرى وتخطف من أيدينا تجارتنا، هيا بنا إذن إلى العمل.
Bog aan la aqoon