وأما ما روى أنهما ملكان من أعيد الملائكة تعجبت الملائكة من كثرة ذنوب الناس وعظمها، فقال الله: لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم من الشهاوى لعصيتم مثلهم، فقالوا: سبحانك ما كان ينبغى لنا ذلك، فقال: اختاروا من هو أعبدكم، فاختاروهما، فركبها فيهما، وأمرهما بالقضاء بين الناس، ويصعدان مساء، فاختصمت إليهما امرأة من لخم، أو فارسية ملكة مع زوجهان فراوداها فشرطت أن يقضيا لها عليه، فقضيا لها، ثم أن يقتلاه فقتلاه، وأن يشربا خمرا، ويسجدا للصنم ففعلا، وأن تعلمانى الاسم الذى تصعدان به فعلماها، فصعدت، فمسخت زهرة، فلم يقدروا على الطلوع فالتجآ إلى إدريس فى عصرها، فشفع لهما أن يختارا عذاب الدنيا أو الآخرة، فاختارا الأولى، لأنه ينقطع، وعلقا بشعورهما، أو منكوسين يضربان بسياط الحديد إلى قيام الساعة فبعيد، وهو ممكن، ولا يحكم بالكفر على قائله، لأنه لم يثبت لها تلك المعاصى مطلقا، بل قال، ركب لله فيهما ما ركب فى البشر من الشهوة، وذلك من حين أنزلا، وليس متأخرا إلى وقت القضاء بين المرأة وزوجها، فلا يعارض بعصمة الملائكة، لأن الله أخرجها من شأنهما إلى شأن البشر، وقول الملائكة، سبحانك.
ما ينبغى لنا تعظيم الله. لا رد لقوله لو ركبت فيكم الشهوة لعصيتم، وهما ملكان، ولو ركب فيهما ذلك فلا ينافى تسميتها ملكين فى الآية، وإن سلم ذلك فهما ملكان قيل: فهو مجاز بلا ضعف، والشاهد الأحاديث، والكلام فى العصمة مع البقاء على شأنها بلا إخراج، وأما مع الإخراج عن شأنها لله أن يخرج من يشاء من أهلها إلى غيره، فلا يكون معصوما. وأما الزهرة فالظاهر أنها قل ذلك لكم بلا نص على قبيلتها، فجاءت هذه الرواية بحدوثها، بنسخ المرة إليها.
وقد روى أن امرأة دخلت على عائشة رضى الله عنها تطلب التوبة من تعلم السحر منهما، وأن رجلا من هذه الأمة أتاها ليتعلم، فوجدهما معلقين بأرجلهما، مزرقة أعينهما، مسودة جلودهما، بين ألسنتهما وبين الماء أربع أصابع، يعذبان بالعطش، وقد أثبت قصتهما الشيخ يوسف بن إبراهيم، ورواها مرفوعة أحمد وابن حبان والبيهقى، وموقوفة عن على وابن مسعود وابن عباس، وصحح السيوطى الرواية. { وما يعلمان من أحد حتى يقولا } له مرة، وهو الثابت، وقيل ثلاثا، وقيل سبعا، وقيل تسعا { إنما نحن فتنة } ابتلاء من الله للناس، فمن تعلمه كفر، أو من تعلمه وعمل به كفر، وكذا من اعتقد أنه حق جائز، من لم يتعلمه، أو تعلمه ليتقى ضره، أو يدفع به دعوة النبوة عن من ادعاها به، وكان مؤمنا، فهو باق على إيمانه { فلا تكفر } بتعلمه أو بالعمل به أو دعوى النبوة به، فإن لم يرتدع بهذه النصيحة علماه { فيتعلمون } أى الناس المعبر عنهم بأحد فى سياق السلب، عطف على ما يعلمان، كأنه قيل، يعلمان الناس بعد قولهما، إنما نحن... إلخ فيعلمون أو على يعلمون { منهما } من الملكين أنفسهما، وقيل، بتوسط شياطين، يأخذان عنهما مرة فى السنة ويعلمان الناس، أو من السحر وما أنزل على الملكين، أو من الفتنة والكفر، أى يتعلمون بعضا من كل منهما، وعلى الثانى العطف على اتبعوه، أو الوجه الأول أحق { ما يفرقون به بين المرء } الإنسان { وزوجه } أى قرينه، حليلته وحليلها، أو صاحبا وصاحبة مطلقا، بأن ببغض كلا إلى الآخرة، ولا مؤثر إلا الله، والله يؤثر السحر ويطبع الطبائع ويؤثر أثرها ومن قال باستقلال شىء أشرك { وما هم } أى السحرة، وهذا أولى من رد الضمير إلى اليهود أو الشياطين { بضارين به } أى بالسحر، أو ما يفرقون به { من أحد إلا بإذن الله } متعلق بضارين، أى إلا بتقديره، ومن قال بتخليته بينه وبين المسحور لم يرد أن السحر مستغن عن الله ومستقل، فإنه لا تأثير لشىء إلا بالله، وكل شىء مستأنف من الله { ويتعلمون ما يضرهم } فى الآخرة، أو مع الدنيا، وهو السحر { ولا ينفعهم } زاده.
لأنه قد يضر الشىء، ومعه نفع فالسحر ضر محض، وأما تعلمه لدفع الشبهة عن دعوى النبوة وليتقيه فنفى تعلمه خير على ما مر، والذى عندى، أنه لا يجوز تعلمه إلا لمن استوثق من نفسه أنه لا يستعمله ولا يعلمه لمن يعلم أنه يستعمله، أولا يعلم حاله، لأن للعلم بالشىء قوة داعية للعمل به ولا سيما مثل هذا، والنفس داعية { ولقد علموا } أى اليهود المذكورون بالسوء فى عهده صلى الله عليه وسلم، أو عهد سليمان، والشياطين، والكلام متعلق بقوله، ولما جاءهم فصل بقصة السحر { لمن اشتره } استبدله، أو اشتراه بدينه، اللام للابتداء، والجملة جواب القسم، { ما له في الآخرة من خلق } نصيب فى الجنة لبيعه بالسحر أو تعلمه { ولبئس } اللام لام جواب القسم، والجملة معطوفة على الجواب السابق وهو، لقد علموا { ما شروا } باعوا { به أنفسهم } وهو الكفر مطلقا، أو السحر أو تعلمه، أو نبذوا كتاب الله المنجى من الهلاك إلى ذلك الهلاك { لو كانوا يعلمون } أى حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب للكفر أو السحر، أو تعلمه ما فعلوه، وإلا فقد أثبت لهم العلم فى قوله، ولقد علموا، فالعلم المثبت الظن أو هو العلم بأن اشتروا النفس بالسحر مثلا مذموم بدون علم أن منه ما يفعلونه، فإن حب الشىء يعمى ويصم، والعلم المنفى بلو العلم بحقيقة ما يصيرون إليه. وملزم له فى الجنة، ويجوز كون لو للتمنى فلا جواب لها.
[2.103]
{ ولو أنهم ءامنوا } بالنبى صلى الله عليه وسلم والقرآن، أو أراد اليهود مطلقا، لو آمنوا بالكتب والأنبياء مطلقا { واتقوا } عقاب الله على الكفر والسحر والمعاصى لأثيبوا من عند الله، دل عليه ذكر المثوبة، أو للتمنى فلا يقدر لها جواب والتمنى فى الموضعين مصروف للناس، والمصدر من خبر أن بعد لو الشرطية، أو التمنية، فاعل بمحذوف، أى لو ثبت إيمانهم واتقاؤهم، أو مبتدأ خبره محذوف وجوبا، ونسب لسيبويه، أو مبتدأ لا خبر له، ووجهه اشتمال الكلام على المسند والمسند إليه لفظا قبل التأويل، وهو وجه سيبويه، إذ قدر المبتدأ مع اختصاص لو بالفعل، حيث استغنى بوجوده قبل التأويل، والصحيح الأول، وهكذا فى القرآن، ولا أعيده { لمثوبة } مستأنفة، وليس من جواب لو، لأن جوابها لا يكون جلمة اسمية، واللام للابتداء، والمعنى ثواب، نقلت صمة الواو إلى الثاء الساكنة كمعونة، أو وصف بمعنى المصدر كمقول ومصون، والأصل مثووبة، نقلت ضمة الواو للثاء فحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين كمفتون ومعقول، وصفين فى الأصل، وكانا بمعنى الفتنة والعقل، وهو وجه فى قوله تعالى
بأيكم المفتون
[القلم: 6] أو اسم مصدر أى إثابة { من عند الله خير } من كل شىء، أو مما استبدلوا به دينهم، وهذا مراعاة لما فى استبدالهم مع نفع ادعوه، ولا يلزم التنقيص الذى فى قولك، هذا السيف خير من العصا، أو، السلطان خير من الحجام، لأن الكلام باعتبار القصد، والقصد فى المثالين النقص، وفى الآية ذمهم، بأنهم مع جهلهم تظهر لهم الخيرية، وأيضا ما استبدلوا به الدين فى اعتقادهم عظيم، أو أنه فاق فى الخير أكثر مما فاق استبدالهم فى شره، كقولك، الخل أحمض من العمل، أى زاد فى حموضته على زيادة العسل فى حلاوته، ولكان قول خير خارج عن التفضيل، أو هو بمعنى المنفعة قائل به أن ما استبدلوا به غير حسن، أو أنه مضرة { لو كانوا يعلمون } أنها خير لم يستبدلوا الحق بالباطل. أو لو للتمنى مصروف للناس، وقس على هذا فى مثله، إلا أن الأصل الشروط لتبادره وأكثريته.
[2.104-106]
{ يأيها الذين ءامنوا لا تقولوا } للنبى صلى الله عليه وسلم { راعنا } اعتبرنا وانظر أحوالنا، وتدبرها، وتدارك مصالحنا، وتأن بنا حتى نفهم ما تقول، هذا مرادهم، رحمهم الله، ومن ذلك رعى الغنم ونحوها، والمفاعلة للمبالغة هنا، وهى بلغة اليهود سب، لما سمعوا المؤمنين يقولونها قالوها له صلى الله عليه وسلم سبا فى لغتهم، عبرية أو سريانية، يتسابون بها بينهم، فكانوا يسبون بها النبى صلى الله عليه وسلم، وليست من الرعونة بمعنى الحمق، وإن كانت منها فمما توافق فيه لغة العرب والعجم، وقد يكون بين لفظ العرب ولفظهم مغايرة فيزيلونها ليوافقوا كلام العرب خداعا للسب.
Bog aan la aqoon