وإن أثبتَ شيئًا فإمَّا أن يكونَ من حُكمِ الله فيعودَ إثباتُه إلى كونهِ حكمَ الله لا حُكمَ العقلِ، أو لا يكونَ من حُكمِ الله فهوَ الهَوَى، قالَ تعالى لنبيِّهِ ﷺ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة:٤٩]، وقال لنبيِّه داوُدَ ﵇: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ̈﴾ [ص: ٢٦] .
ولهذا لم يستغْنِ بنُو آدَمَ عن معرفَةِ حُكمِ الله بِبِعثةِ الرُّسلِ وإنزالِ الكُتُبِ، ولم تَسُقْهُمْ عُقُولُهُم مجرَّدَةً إلى الهُدَى، ويكفي لذلكَ مثلًا شأنُ سيِّد بني آدَمَ ﷺ، فقدْ قال لهُ ربُّه ممتنًّا: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: ٧]، وقال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: ٣] .
والعلَّلةُ في أنَّ العقلَ لا يصلُحُ أن يكونَ مثبتًا للشَّرائعِ هي إمكانُ جُنوجِهِ عن الصَّوابِ، وميلُ العقلِ عن الصَّوابِ حقيقةٌ لا تُجْحَدُ، وذلكَ الميلُ هوَ سبَبُ تفاوتِ العُقُولِ، ولِذَا قال الله عزَّوجلَّ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] .
وللعقلِ تحسينٌ وتقبيحٌ لا يُنكرَانِ، لكنَّهُ لا يثبتُ بمجرَّدِهِ وجوبٌ ولا ندْبٌ ولا حُرمَةٌ ولا كراهَةٌ ولا إباحَةٌ ولا صحَّةٌ ولا فسادٌ ولا رُخصةٌ ولا عزيمةٌ، ولا يترتَّبُ على مُقتضاهُ ثوابٌ ولا عقابٌ،