الفصل الأول: ابن جني وكتابه «اللمع»
ابن جني:
اسمه ونسبه: هو أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، وكان أبوه «جني» مملوكًا روميًا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي.
مولده: ولد ﵀ بالموصل قبل الثلاثين والثلاثمائة للهجرة النبوية الشريفة.
ثقافته: إن القارئ لمؤلفات هذا العالم ليدرك من أول وهلة ويفهم من أول نظرة أنه إمام عالم واسع الثقافة طويل الباع، كثير الاطلاع، غزير العلم، كتب في النحو والتصريف، ودرس الأصوات والحروف دراسة «وألف كتبًا كثيرة أبر بها على المتقدمين وأعجز المتأخرين، ولم يتكلم أحد في التصرف أدق كلامًا منه».
وذكر أبو الفتح ﵀ أنه أخذ عن شيوخ كثيرين، فقد ذكر في إجازته لأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن نصر أنه سمع شيوخًا وقرأ عليهم بالعراق والموصل والشام وغير هذه البلاد التي أتاها وأقام بها.
مكانته العلمية:
لقد بلغ أبو الفتح مكانه علمية راقية اعترف له بها المتقدمون والمتأخرون على السواء. قال الثعالبي فيه: «هو القطب في لسان العرب، وإليه انتهت الرياسة في الأدب ... وكان الشعر أقل خلاله لعظم قدره وارتفاع حاله» وقال ياقوت: «عثمان بن جني النحوي ... من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف».
شيوخه:
سمع ابن جني عن كثير من علماء العراق والموصل والشام، واغترف من منهلهم
1 / 9
العذب، حتى تكونت شخصيته العلمية، وأهم هؤلاء الشيوخ الذين أخذ عنهم واستفاد منهم ما يلي:
١ - أبو علي الفارسي: هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الفسوي، وهو أعظم أستاذ تخرج عليه ابن جني وتأثر به، مات سنة (٣٧٧ هـ).
٢ - أبو بكر محمد بن الحسن بن يعقوب المعروف بابن مقسم، وهو أحد القراء ببغداد، وكان عالمًا باللغة والشعر، ومن أحفظ الناس لنحو الكوفيين مات ﵀ سنة (٣٥٤ هـ).
٣ - أبو الفرج الأصفهاني: هو علي بن الحسين بن الهيثم القرشي من ولد هشام ابن عبد الملك، وكان شاعرًا مصنفًا أديبًا، مات سنة نيف وستين وثلاثمائة.
٤ - أحمد بن محمد أبو العباس الموصلي النحوي، ويعرف بالأخفش، قال ابن النجار: «كان إمامًا في النحو، فقيهًا فاضلًا، عارفًا بمذهب الشافعي».
وغير هؤلاء كثير ممن استفاد منهم ابن جني ونقل عنهم.
تلاميذه:
لما ذاع صيت ابن جني وطبقت شهرته الآفاق أقبل عليه الناس يأخذون عنه وينهلون من مورده، ومن أشهر هؤلاء ما يأتي:
١ - الشريف الرضي: هو أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الشاعر المشهور وقد تلقى دروس اللغة على أبي الفتح. مات ببغداد سنة (٤٠٦ هـ).
٢ - الثمانيني: هو أبو القاسم عمر بن ثابت الثمانيني النحوي الضرير، أخذ عن أبي الفتح، وشرح كتابه «اللمع» مات سنة (٤٤٢ هـ).
٣ - أبو أحمد عبد السلام البصري: هو عبد السلام بن الحسين بن محمد أبو أحمد البصري اللغوي، قرأ على الفارسي والسيرافي وابن جني وغيرهم، مات سنة (٤٠٥ هـ).
1 / 10
٤ - أبو الحسن السمسمي: هو علي بن عبيد الله بن عبد الغفار السمسمي اللغوي كان لغويًا بارعًا، أخذ عن أبي الفتح، مات سنة (٤١٥ هـ).
٥ - ثابت بن محمد أبو الفتوح الجرجاني الأندلسي النحوي، كان من أئمة اللغة العربية البارزين، وقد روى ببغداد عن ابن جني وعلي بن عيسى الربعي وعبد السلام بن الحسين البصري مات سنة (٤٣١ هـ).
***
كتاب اللمع لأبي الفتح ابن جني:
لقد ترك لنا ابن جني ﵀ ثروة تأليفية ضخمة ذات قيمة علمية عظيمة في النحو والتصريف واللغة والعروض والقراءات وغير ذلك من الفنون، ومن هذه الثروة كتاب اللمع في النحو، جمع فيه صاحبه بين النحو والتصريف، وقد ضمنه الكلام على الأبواب التالية:
الكلام، المعرب والمبني، الإعراب والبناء، إعراب الاسم الواحد، إعراب الاسم المعتل، التثنية، جمع التذكير، جمع التأنيث، جمع التكسير، الأفعال معرفة الأسماء المرفوعة، المبتدأ، الخبر، الفاعل، المفعول الذي لم يسم فاعله، كان وأخواتها، إن وأخواتها، باب «لا» في النفي، معرفة الأسماء المنصوبة المفعول المطلق، المفعول به، المفعول فيه، ظروف الزمان، ظروف المكان، المفعول له، المفعول معه، المشبه بالمفعول في اللفظ، الحال، التمييز، الاستثناء، معرفة الأسماء المجرورة، حروف الجرو مذ ومنذ، حتى، الإضافة، معرفة ما يتبع الاسم في إعرابه، الوصف، التوكيد، البدل، عطف البيان، عطف النسق، النكرة والمعرفة، النداء، الترخيم، الندبة، إعراب الأفعال وبناؤها الحروف التي تنصب الفعل، حروف الجزم، الشرط وجوابه، التعجب، نعم وبئس، حبذا، عسى، كم، معرفة ما ينصرف وما لا ينصرف، العدد، الجمع، القسم، الموصول والصلة، النونين، النسب التصغير، ألفات القطع وألفات الوصل، الاستفهام، ما يدخل على الكلام فلا يغيره، الحكاية، الخطاب، الإمالة.
تلك هي الأبواب التي اشتمل عليها كتاب «اللمع» في النحو لابن جني، وهي كما نرى موزعة بين النحو والتصريف، وإن كان النحو قد نال حظه موفورًا منها،
1 / 11
إذا لم يشمل التصريف سوى ستة أبواب هي باب جمع التكسير، وباب النسب، وباب التصغير، وباب ألفات القطع وألفات الوصل، وباب الخطاب، وباب الإمالة، وشمل النحو باقيها.
وبالنظر في كتاب «اللمع» نجد أن أبواب التصريف قد أخذت مكانها في آخر الكتاب، كما هو شأن كتب النحو جميعها، قال ابن جني: «لا تجد كتابًا في النحو إلا والتصريف في آخره» غير أن ابن جني لم يذكر أبواب التصريف متوالية كما هي عادة النحاة جميعًا وإنما ذكرها متداخلة مع بعض أبواب النحو، كما هي واضح من العرض السابق.
ويذكر لنا ابن جني ﵀ العلاقة بين النحو والتصريف مبينًا السبب الذي دعا إلى تقديم النحو في الذكر مع أن التصريف أحق منه بذلك، فيقول:
«فالتصريف إنما هو لمعرفة أنفس الكلم الثابتة، والنحو إنما هو لمعرفة أحواله المتنقلة ...
وإذا كان ذلك كذلك فد كان من الواجب على من أراد معرفة النحو أن يبدأ بمعرفة التصريف، لأن معرفة ذات الشيء الثابتة ينبغي أن يكون أصلًا لمعرفة حاله المتنقلة، إلا أن هذا الضرب من العلم لما كان عويصًا صعبًا بدئ قبله بمعرفة النحو، ثم جيء به بعد ليكون الارتياض في النحو موطئًا للدخول فيه، ومعينا على معرفة أغراضه ومعانيه».
وبالنظر فيما استعمله ابن جني في كتابه من شواهد نجد أنها متنوعة فتارة يستشهد بالقرآن المجيد، وتارة بالشعر العربي وفصيح كلام العرب.
أما استشهاده بالقرآن فواضح في كتابه، حيث استشهد باثنين وأربعين آية منه، إذ هو ممن يقول: بجواز الاحتجاج بمتواتر القرآن وشاذه.
وأما شواهده الشعرية فقد بلغت في كتابه ثمانية وسبعين شاهدًا نسب بعضها وأغفل نسبة الباقي.
وقد وقع من ابن جني خطأ في نسبة شاهدين من شواهده الشعرية المنسوبة أولهما: قول الشاعر:
بالوارث الباعث الأموات قد ضمنت ... إياهم الأرض في دهر الدهارير
فقد نسب ابن جني هذا البيت في كتابيه «اللمع والخصائص» إلى أمية بن أبي
1 / 12
الصلت والصحيح أن هذا البيت للفرزدق، فإنه ذكر في ديوانه ولم تعثر عليه في ديوان أمية بن أبي الصلت وقد نبه على هذا الخطأ ابن الخباز في «توجيه اللمع» فقال وقوله: أي ابن جنى في البيت الثاني لأمية تخليط، وقد رأيت البيت في شعر الفرزدق ثانيهما: قول الشاعر:
* يا حكم الوارث عن عبد الملك *
نسب ابن جني هذا البيت إلى العجاج، وتبعه في هذه النسبة الخاطئة ابن الخباز في كتابه «توجيه اللمع» ولكنه في كتابه «الغرة المخفية» قد صحح هذا الخطأ، وأثبت أن البيت لرؤبة بن العجاج، وتلك هي النسبة الصحيحة.
ومما يلاحظ على ابن جني أيضًا أنه ذكر شاهدًا شعريًا مركبًا من شطري يتبين وهو كما ذكره ابن جني:
حاشا أبي ثوبان أن به ... ضنا على الملحاة والشتم
وقد تنبه ابن الخباز في كتابه «توجيه اللمع» إلى هذا الخلط، فقال: «والبيت الذي أنشده أبو الفتح ﵀ أنشده المفضل، وقد حرفه فجعل صدر غيره له، والصواب ما أذكره لك، قال:
حاشا أبي ثوبان أن أبا ... ثوبان ليس بزمل قدم
عمرو بن عبد الله أنه به ... ضنًا على الملحاة والشتم
وقد استشهد ابن جني كذلك بالنثر العربي في كتابه «اللمع» ومن ذلك استشهاده على زيادة الألف بين النونات تخفيفًا بكلام أبي مهدية، وهو قوله: «اخسأنان عني».
شروح كتاب اللمع
وجد كتاب اللمع لابن جني اهتمامًا بالغًا لدى كثير من علماء العربية، فقد
1 / 13
حفظ لنا التاريخ منذ القرن الخامس الهجري حتى القرن الثامن أسماء نخبة ممتازة من جلة وكبار العلماء الذين عكفوا على دراسة هذا الكتاب، وبذلوا ما في وسعهم من جهد في شرحه أو تخريج شواهده، وجعلوا منه مدرسة نحوية في مصر والشام والعراق وجزيرة العرب.
وإليك ما أمكن التعرف عليه من هذه الشروح التي حظى بها كتاب اللمع لابن جني:
١ - شرح أبي القاسم عمر بن ثابت الثمانيني النحوي الضرير المتوفى سنة (٤٤٢ هـ).
٢ - شرح أبي نصر الحسن بن أسد بن الحسن الفارقي المتوفى سنة (٤٨٢ هـ) وأسماء صاحبه بالتصنيف البديع في شرح اللمع.
٣ - شرح الحسن بن علي بن محمد بن عبد العزيز الطائي من أهل مرسية ويكنى أبا بكر، توفي سنة (٤٩٨ هـ).
٤ - شرح أبي نصر القاسم بن محمد بن مناذر الواسطي النحوي الضرير.
٥ - النظامي في النحو، وهو لمحمود بن حمزة بن نصر الكرماني النحوي المتوفى بعد الخمسمائة اختصره من كتاب اللمع لابن جني.
٦ - شرح أبي القاسم ناصر بن أحمد بن بكر الخويي النحوي الأديب توفي سنة (٥٠٧ هـ).
٧ - شرح أبي البركات عمر بن إبراهيم بن محمد بن محمد العلوي الزيدي الكوفي توفي عام (٥٩٣ هـ).
٨ - شرح أبي السعادات هبة الله بن علي عبد الله العلوي المعروف بابن الشجري البغدادي المتوفي سنة (٥٤٢ هـ).
٩ - شرح أبي عبد الله محمد بن علي بن أحمد الحلي المعروف بابن حميدة
1 / 14
النحوي المتوفي سنة (٥٥٠ هـ).
١٠ - شرح أبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن الخشاب النحوي المتوفى سنة (٥٦٧ هـ).
١١ - شرح أبي محمد سعيد بن المبارك بن علي بن عبد الله بن سعيد بن محمد ابن نصر بن عاصم المعروف بابن الدهان، المتوفى بالموصل سنة (٥٦٩ هـ).
١٢ - شرح أسعد بن نصر بن أسعد أبي منصور العبرتي المتوفى سنة (٥٨٩ هـ).
١٣ - شرح أبي الحسن الباقولي علي بن الحسين بن علي الضرير الأصفهاني النحوي المتوفى سنة (٥٤٣ هـ).
١٤ - شرح أبي الحسن علي بن الحسن بن عنتر بن ثابت الحلي الأديب المعروف بشميم المتوفى سنة (٦٠١ هـ) وهذا الشرح قد سماه مؤلفه بالمخترع في شرح اللمع.
١٥ - شرح أبي البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله النحوي الضرير العكبري الأصلي البغدادي المولد والدار المتوفى سنة (٦١٦ هـ).
١٦ - شرح أبي محمد القاسم بن القاسم بن عمر بن منصور الواسطي النحوي اللغوي المتوفى سنة (٦٢٦ هـ).
١٧ - شرح أبي بكر بن يحيى بن عبد الله الجذامي المالقي النحوي المعروف بالخفاف، المتوفى سنة (٦٥٧ هـ).
١٨ - شرح أحمد بن عبد الله المهابا ذي الضرير، قال ياقوت: «من تلاميذ عبد القاهر الجرجاني من مصنفاته: شرح اللمع».
1 / 15
١٩ - شرح اللمع ليحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن بسطام الشيباني أبي زكريا ابن الخطيب التبريزي المتوفي سنة (٥٠٢ هـ).
٢٠ - هناك نسخة لأحد شروح اللمع غير منسوبة إلى معين، وهي بدار الكتب تحت رقم (٥٣٥١ هـ) وكتبت سنة (٦٥٩ هـ) بخط أبي بكر بن عثمان بن أبي بكر.
٢١ - أشار بروكلمان في تاريخ الأدب العربي (٢/ ٢٤٧) إلى وجود نسخة غير منسوبة من شرح اللمع لابن جني بمكتبة بايزيد تحت رقم (١٩٩٢).
٢٢ - شرح شواهد اللمع لابن هشام الأنصاري، وقد سماه مؤلفه «بالروضة الأدبية في شواهد علوم العربية».
٢٣ - شرح اللمع لابن الخباز وقد أسماه «بالإلماع في شرح اللمع» وهذا الشرح قد أشار إليه العلامة ابن الخباز في ثناينا كتابه «توجيه اللمع» حيث قال عند الكلام على نون الوقاية وفي هذه النون مسائل كثيرة استقصيتها في كتاب «الإلماع في شرح اللمع».
٢٤ - ولعل من أهم هذه الشروح «شرح اللمع» لابن الخباز أبي العباس أحمد ابن الحسين بن أحمد بن معالي بن منصور بن علي الشيخ شمس الدين، المتوفى بالموصل عاشر رجب سنة تسع وثلاثين وستمائة.
وهذا الشرح أسماه ابن الخباز في مقدمة كتابه «بتوجيه اللمع» وهو موضوع دراستنا، ويوجد منه نسخة وحيدة بمكتبة الأزهر الشرف تحت رقم (٢٣٤٨ السقا) (٢٨٦٧٦ نحو)، والنسخة في مجلد واحد ومكتوبة في سنة (٧٨٦ هـ) بقلم نسخ قديم وتقع في (٢٠٨ ورقة)، والشرح من الشروح المختصرة.
وسوف أبسط الكلام على هذا الشرح في الفصل الثالث من هذه الدراسة إن شاء الله.
***
1 / 16
الفصل الثاني: ابن الخباز عصره ونشأته
عاش ابن الخباز أحمد بن الحسين بين القرنين السادس والسابع الهجريين.
الحالة السياسية في عصره:
ضعفت الدولة العباسية الثانية ضعفًا شديدًا أدى إلى انفصال كثير من ولاياتها عنها، واستقلالها استقلالًا تامًا، مما كان له أكبر الأثر في تمزق أواصر هذه الدولة وانفراط عقدها، وكان من نتائج ذلك أن عاشت هذه الدولة في بؤرة من الفساد الداخلي والنزاع الخارجي، فكان ولاة الأقاليم في نزاع مستمر، واحتكاك دائم، حيث كان كل منهم يود أن يفوز - بطريقة أو بأخرى - بأكبر عدد من الألوية والقطاعات ليسيطر عليها ويتولى مقاليد أمورها.
الحالة الاجتماعية في عصره:
بالنظر إلى المجتمع الإسلامي في القرن السابع الهجري نجده قد تألف من عناصر بشرية متباينة الأشكال والألوان مختلفة الأجناس، والطباع، فقد كان منهم العربي، والفارسي، والتركي، والأرمني، بالإضافة إلى طائفة الرقيق.
وكان الناس في هذا العصر يكونون طبقتين: طبقة الخاصة، وطبقة العامة.
أما طبقة الخاصة: فكانت تضم الخليفة وأهله ورجال دولته، ورجال البيوتات، وتضم كذلك توابع الخاصة من الجند والأعوان، والموالي والخدم.
أما طبقة العامة وهم السواد الأعظم من الأمة: فكانت تشمل الزراع، والصناع، والعيارين، والشطار واللصوص، والمخنثين، والصعاليك، وغيرهم ممن لا يحصى.
وكان المجتمع الإسلامي حيننذاك غير قاصر على المسلمين، بل كان يضم بجانبهم المسيحيين واليهود، وكانوا يؤدون شعائرهم الدينية في حرية تامة، لأن التسامح الديني كان صفة غالبة على المسلمين، فكانوا يعاملون غيرهم من أهل، الديانات الأخرى معاملة حسنة، وأكثر من ذلك كانوا يتيحون لهم فرص العمل في أجهزة الدولة المختلفة.
وكان المسلمون وأهل الذمة يرتعون في بحبوحة من العيش في ظل المحبة والمعاملة الطيبة، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلًا فقد عصفت بها أعاصير التعصب الممقوت الذي
1 / 17
ظهر بين المسلمين وأهل الذمة.
وكلما كانت الخلافة العباسية تتقدم نحو الشيخوخة، كان هذا التعصب يشتد لهيبة ويستعر أواره.
الحالة العلمية:
رغم الحروب والفتن التي سادت العراق إبان ذلك القرن، فقد كانت الحياة العلمية قائمة، ومزدهرة، وكان العلماء يمارسون نشاطهم العلمي ويؤدون مهامهم الثقافية والدينية، وكان من نتائج ذلك: أن ظلت المعارف رائجة والعلوم منتشرة وبخاصة علوم اللغة العربية، فإنها لقيت عناية كبيرة باعتبارها لغة القرآن المجيد والسنة النبوية الشريفة، وأنها اللغة الرسمية للدولة.
ومن أوضح مظاهر ازدهار المعارف وانتشار العلوم في هذه الفترة: بقاء المدارس تؤدي أغراضها العلمية مثل: المدرسة المستنصرية التي أنشأها الخليفة العباسي المستنصر بالله جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله، فقد بدأ في تشييد هذا الصرح عام (٦٢٥ هـ) أي بعد تولية الخلافة بسنتين وهذه المدرسة قد احتضنت النحو واحتفت به أيما احتفاء، وإن كان لم يجعل له فيها جناح خاص به كبقية علوم تلك المدرسة، وما ذلك إلا لأنه كان قاسمًا مشتركًا بين جميع الفروع والأقسام العلمية فيها دون استثناء. وهذا يترجم عن مدى العناية به ومبلغ الاهتمام بدراسته.
ومن هذه المدارس أيضًا: المدرسة النظامية، والمدرسة البشرية، ومدرسة القلعة بأربل، وغير هذه المدارس كثير، وكانت هناك أيضًا الرباطات ومشيخاتها.
ومن المدن العراقية التي راجت فيها الحركة العلمية رغم ما كان ينزل بها من زوابع ويحل بها من اضطرابات وعوائل: إربل، والموصل، وسوف نورد تعريفًا موجزًا عن هاتين المدينتين، وقد خصصتهما بالذكر دون غيرهما باعتبارهما مولد ومنشأ ابن الخباز موضوع دراستنا.
إربل:
قال ياقوت: قال الأصمعي: الربل ضرب من الشجر إذا برد الزمان عليه وأدبر
1 / 18
الصيف تفطر بورق أخضر من غير مطر، ويقال: تربلت الأرض: لا يزال بها ربل، فيجوز أن تكون إربل مشتقة من ذلك، وقال الفراء: الريبال: النبات الكثير الملتف الطويل، فيجوز أن تكون هذه الأرض اتفق فيها في بعض الأحيان من الخصب وسعة النبت ما دعاهم إلى تسميتها بذلك، ثم استمر، كما فعلوا بأسماء الشهور.
وإربل هذه قلعة حصينة ومدينة كبيرة في فضاء من الأرض واسع بسيط، ولقلعتها خندق عميق، وهي في طرف من المدينة، وسور المدينة ينقطع في نصفها، وهي على تل عال من التراب عظيم واسع الرأس. وفي هذه القلعة أسواق ومنازل للرعية وجامع للصلاة وهي شبيهة بقلعة حلب إلا أنها أكبر وأوسع رقعة ... ومع سعة هذه المدينة فبنيانها وطباعها بالقرى أشبه منها بالمدينة، وأكثر أهلها أكراد قد استعربوا ... وبينها وبين بغداد مسيرة سبعة أيام للقوافل، وليس حولها بستان ولا فيها نهر جار على وجه الأرض، وأكثر زروعها على القنى المستنبطة تحت الأرض وشربهم من آبارهم العذبة الطيبة المرئية، التي لا فرق بين مائها وماء دجلة في العذوبة والخفة.
الموصل:
بفتح الميم وكسر الصاد «المدينة المشهورة العظيمة، إحدى قواعد بلاد الإسلام، قليلة النظير كبرًا وعظمًا، وكثرة خلق، وسعة رقعة، فهي محط رحال الركبان، ومنها يقصد إلى جميع البلدان» وهو بلد جليل حسن البناء، طيب الهواء، صحيح الماء، كبير الاسم، قديم الرسم، حسن الأسواق والفنادق، كثير الملوك والمشايخ، لا يخلو من إسناد عال وفقيه مذكور وقال ياقوت: «وكثيرًا ما وجدت العلماء يذكرون في كتبهم أن الغريب إذا أقام بالموصل سنة تبين في بدنه فضل قوة وما نعلم لذلك سببًا إلا صحة هواء الموصل وعذوبة مائها».
ابن الخباز
اسمه ونسبه: هو أحمد بن الحسين بن أحمد بن معالي بن منصور بن علي
1 / 19
المعروف بابن الخباز الإربلي الموصلي النحوي الضرير أبو العباس شمس الدين.
شهرته: اشتهر هذا العالم الفذ النحوي البارع بلقلب «ابن الخباز» وشاع ذلك في كتب النحاة والمترجمين.
كنيته: من اطلاعي على كتب التراجم التي اهتمت بالتعريف بابن الخباز وجدت أنه كان يكنى بإحدى كنيتين: إما بأبي العباس كما في (هدية العارفين)، (الفلاكة والمفلوكين)، وكما في مقدمة كتابه (شرح اللمع) وإما بأبي عبد الله كما في (شذرات الذهب) و(تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب)، (نكت الهميان في نكت العميان) و(الأعلام).
مولده: لم تشر كتب التراجم إلى السنة التي ولد فيها ابن الخباز، ولكن ابن العماد ذكر في كتابه (شذرات الذهب) أنه مات وله من العمر خمسون سنة وأشار إلى ذلك أيضًا ابن شهبة الأسدي في كتابه (طبقات النحاة) وبما أن معظم المترجمين له ذكروا أنه قد توفي سنة (٦٣٩ هـ) فتكون سنة ولادته (٥٨٩ هـ)، ويغلب على الظن أنه قد ولد في هذه السنة أو قريبًا منها ليتهيأ له السن المناسبة والعقل الكبير للأخذ عن أستاذه الذي طالما نقل عنه في كتابه «توجيه اللمع» وقد مات أستاذه هذا في سنة (٦١٣ هـ) فيكون لابن الخباز من العمر أربعة وعشرون عامًا، وهي سن مناسبة للأخذ والتلقي.
نشأته: يبدو أن أن ابن الخباز (أحمد بن الحسين) قد ولد بأريل، وسكن الموصل ونشأ بها وتلقى علومه فيها، وتخرج على شيوخها وعاش فيها إلى أن وافاه الأجل بها أيضًا، وقد كانت كتب التراجم تنسبه دائمًا إلى إربل فالموصل فتقول: ابن الخباز الإربلي الموصلي.
ويبدو أنه عاش حياته رغم علمه وفضله فقيرًا مغمورًا غير منصف من أهل
1 / 20
زمانه كثير العناء مغمورًا بالهموم والأوجال، فتراه دائمًا يندب حظه، ويرثي حاله ويشكو من أهل بلدته، وكثيرًا ما كان يعتذر عن الخطأ الذي عساه يقع في مؤلفاته بما كان يعانيه من الهموم والأوصاب، قال صاحب إشارة التعيين: «وكان كثير العتب على الزمان مستحضر الجمل من الأشعار والنوادر» وقد نقل صاحب كتاب «الفلاكة والمفلوكين» عن ابن هشام قوله في ابن الخباز: «وكأنه كان غير منصف من أهل زمانه، وقد وقفت له على عدة تآليف، يشكو فيها حاله، فمن ذلك قوله في خطبة كتابه الذي سماه «الفريدة في شرح القصيدة» وهي قصيدة أبي عثمان سعيد بن المبارك الشهير بابن الدهان: «فإن أصبت فمن فضل الله الرحيم، وإن أخطأت فمن الشيطان الرجيم، ومن علم حقيقة حالي عذرني إذا قصرت بأن عندي من الهموم ما يزع الجنان عن حفظه، ويكف اللسان عن لفظه، ولو أن ما بي بالجبال لهدها، وبالنار أطفأها، وبالماء لم يجز، وبالناس لم يحيوا، وبالدهر لم يكن، وبالشمس لم تطلع، وبالنجم لم يسر».
فيبدو من هذه العبارة أن الهموم قد تزاحمت عليه، وأن المشاكل قد تسابقت إليه، والأوجال تطرق أبوباه والمتاعب تقف على أعتابه، تريد أن تقيم في رحابه وتسير في ركابه، فهو في ظلمات بعضها فوق بعض.
وقال يشكو أهل بلدته: «وأنا مع ذلك بين أهل بلدة تجعل رؤيتهم الذكي بليدًا، ينفرون من الفضائل وأهلها نفور الضب من البحار، والنون من البيد القفار، كلما زاد المرء بينهم فضلًا زاد عندهم نقصًا ... يبتغون الشكر على الأذى وتنوير العيون بالقذى، والموت دون الحكم بذا، واللائق أن تطوى أحوالهم على غرها خوفًا من عدوى عرها».
ولعل فقر هذا الرجل وعماه كانا من الأسباب التي جعلته يعيش حياته مغمورًا منعزلًا، فلم ينل حظه من الترجمة الموسعة، التي توضح لنا جوانب حياته المختلفة، وقد حاولت جهدي في هذا المقام أن أتلمس الخيوط التي تشير من بعيد أو قريب إلى ملامح شخصيته، وأستشف من النصوص التي وردت عنه طرفًا من نشأته وأخلاقه وسيرته.
أخلاقه: لم تنص كتب التراجم على ما يقيد في هذا الموضوع، ولكن يبدو من
1 / 21
النظر في بعض النصوص التي وردت عنه أنه كان عارفًا بربه حق المعرفة، ويثق بما عنده ويلجأ إليه في كل الأمور، ويجأر إليه بالدعاء كلما حزبه أمرٌ أو نزل به مكروه، فتراه يقول: «وأنا أسأل الله العظيم أن يكفيني شر شكواي، وأن لا يزيدني على بلواي، فإني كلما أردت خفض العيش صار مرفوعًا، وعاد بالحزن سبب المسرة مقطوعًا، والله المستعان في كل حال، ومنه المبدأ وإليه المآل» وكان معتزًا بكرامته يصون وجهه عن الخضوع لغير الله، فيقول في خاتمة كتابه «شرح اللمع»: فأسأل الذي صان أوجهنا عن السجود لغيره أن يصون ألسنتنا عن السؤال لغيره، وأن يعرفنا عيوب أنفسنا، ويشغلنا بسترها، وأن يفتح علينا أبواب رزقه العميم ومنه الجسيم، وأن يجمع لنا بين العلم والعمل، وإن يحقق لنا هذا الأم، وأن يصلي على نبيه محمد الذي أرسله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا وعلى آله الهادين، وأصحابه المهديين، وأن يجعل ما أمليته خالصًا لوجهه الكريم، إنه أكرم مسئول، ولديه تحقيق كل مأمول، فهو حسبي ونعم الوكيل».
فمثل هذه العبارات لا تنبع إلا من قلب صاف عمر بالإيمان، وأضار بنور اليقين، ولا تجري إلا على لسان رطب بذكر الله، ومن هنا يمكن القول بأنه كان عالمًا بارعًا متدينًا صالحًا، وكان ﵀ متمتعًا بخلق العلماء من تواضع ووفاء، فكان إذا تعرض لذكر شيخه الذي أخذ عنه كثيرًا في كتابه ترفع عن ذكره باسمه إجلالًا له وتقديرًا وذكره يلقب الشيخ، ثم يتبع هذا اللقب بالترحم عليه أو الترضي عنه.
قال ابن الخباز (باب الحال): وقال لنا الشيخ ﵀: إذا كان اسم الفاعل والمفعول صلة للام، لم يجز تقديم الحال عليه تقول: زيد المنطلق مسرعًا، ولا يجوز زيد مسرعًا المنطلق، لتقديمك بعض الصلة على الموصول «وقال في (باب التصغير) معللًا تصغير وراء وقدام وأمام، مع إلحاقها تاء التأنيث: قال الشيخ رحمه لله: لأن الغالب على الظروف التذكير، وهذه مؤنثات، فلو صغرت بغير تاء لألحقت بالغالب.
«وأيضًا كان وفيًا لمن استفاد من علمهم ونهل من موردهم فلا يذكر أحدهم إلا ويتبع اسمه بالترحم عليه مثل قوله: أنشد يعقوب ﵀، وأنشد ابن فارس ﵀، وأنشد سيبويه ﵀ وهكذا كان يأبى عليه وفاؤه إلا أن يكرم أهل الفضل، ويعترف بأياديهم عليه، شكرًا وامتنانًا، وتلك هي أخلاق العلماء وصفات الصالحين الفضلاء.
1 / 22
ثقافته: لم تكن ثقافة ابن الخباز محصورة في فن بعينه، أو مقصورة على لون من ألوان المعرفة، ولكنها تعدت هذا النطاق الضيق، وتجاوزت ذلك القدر المحدود، وشملت عدة فروع من المعرفة، شملت: النحو، والصرف، واللغة، والعروض، والفقه، والفرائض، والأدب والحساب، فقد أشار ابن العماد إلى أن له تصانيف أدبية وذكر ابن تعرى بردي أنه كان أديبًا وشاعرًا وأورد له يتبين من الشعر في العناق هما:
كأنني عانقت ريحانة ... تنفست في ليلها البارد
فلو ترانا في قميص الدجى ... حسبتنا في جسد واحد
وذكر له أبو المحاسن في كتابه (إشارة التعيين) يتبين من الشعر في ذم أهل الزمان هما:
أعراضهم لو تزل مسودة فإذا ... قدحت فيهم أصاب القدح إحراقًا
بلوتهم وطعمت السم في عسل ... وما وجدت سوى الهجران ترياقا
وأوضح صاحب (إشارة التعيين) وابن شهبة الأسدي إلى أنه كان له معرفة بالحساب وأنه كان مستحضر الجمل من الأشعار والنوادر، وكان من جملة محفوظة: الإيضاح، والتكملة، والمفصل، ومجمل اللغة لابن فارس.
ويتضح من كتابه «توجيه اللمع» أنه كان يجيد حفظ القرآن الكريم وعلى معرفة بقراءته القرآنية، وكان أيضًا حافظًا للجيد الكثير من أشعار العرب كما هي عادة الدارسين في عصره، فإملاؤه هذا يدل بوضوح على أنه كان حسن النظر واسع الإطلاع.
***
مكانته العلمية:
يبدو أن ابن الخباز (أحمد بن الحسين بن أحمد) كان ذا منزلة علمية عالية ومكانة رفيعة بين أقرانه من العلماء فقد كان ﵀ عالمًا فاضلًا مجيدًا لفنون النحو والصرف واللغة والفقه والعروض والفرائض والأدب والحساب، وشخصيته تجيد كل
1 / 23
هذه الفنون جديرة بالإجلال والتقدير، قال صاحب (إشارة التعيين) في حق ابن الخباز «وجلس مكان شيخه يقرئ النحو واللغة والعروض والقوافي والفرائض والحساب، وتزاحم الناس عليه، ولم ير في زمانه أسرع حفظًا منه».
وقال السيوطي: وكان أستاذًا بارعًا علامة زمانه في النحو واللغة، والفقه والعروض والفرائض» وقال ابن تغرى بردي مشيدًا بابن الخباز: «كان إمامًا بارعًا مفتيًا عالمًا بالنحو واللغة والأدب» وقال شهاب الملة والدين الدلجي في الحديث عن ابن الخباز: «أنه كان من علماء النحو وفرسانه، أدبيًا لطيف الروح عذب العبارة».
ومما يبرز لنا مقدرته العلمية أنه أملى كتابه «توجيه اللمع» من محفوظه، ولم يستعن في مدة إملائه عليه بمطالعة كتاب» فالسيوطي قد وصفه بالأستاذية وهي لقب علمي مرموق، ووصفه كذلك بالبراعة، وهي صفة تشير إلى مدى رسوخ قدمه وطول باعه وقال: إنه علامة زمانه، وابن تغرى بردي خلع عليه وصفي الإمامة والبراعة، والدلجي وصفه بأنه فارس من فرسان النحو، وأجدر بمن يوسم بكل هذه السمات ويوصف بكل تلك الصفات، أن يكون علامة عصره وإمام دهره ذا علم جم وأدب رفيع وذكاء خارق وعقل راجح وحافظة قوية.
***
شخصيته وأمانته العلمية:
تبدو شخصية ابن الخباز واضحة في ثنايا كتابه «توجيه اللمع» وذلك بما يسوق من تعليل للأحكام النحوية وبما يستدركه على ابن جني من أمور، وهاتان الناحيتان سوف نتكلم عنهما فيما بعد، وتبدو شخصيته كذلك بتعقيبه على النحاة مبينًا صحتها أو بطلانها، وتتضح كذلك في طريقة عرضه للمادة العلمية، وذلك بما يبرزه لنا من تقسيم للقضايا وتفريع للمسائل، فتبدو واضحة المعالم سهلة التناول، مما ييسر على الباحث استيعابها وضبطها.
وكان لديه أمانة عليمة، فغالبًا ما ينسب الآراء إلى أصحابها والنقول إلى ذويها.
1 / 24
من اشتهروا بلقب ابن الخباز:
١ - أحمد بن الحسين بن أحمد بن معالي بن منصور بن علي الشيخ شمس الدين ابن الخباز الأربلي الموصلي النحوي الضرير، توفي سنة (٦٣٩ هـ).
٢ - محمد بن أبي بكر بن علي الموصلي الشافعي المعروف بابن الخباز نجم الدين نحوي، قدم مصر ثم عاد إلى حلب، من تصانيفه: شرح ألفية ابن معطي في النحو مات في السابع من ذي الحجة سنة (٦٣١ هـ).
٣ - محمد بن عبد الله بن أحمد بن حبيب العامري المعروف بابن الخباز أبو بكر، من تصانيفه شرح الشهاب، مات سنة (٥٣٠ هـ).
٤ - محمد بن عبد الله المعروف باتمكجي زاده، أي ابن الخباز الرومي «محيي الدين» وهي صوفي. من تصانيفه: أخلاق الكرام، وحق اليقين، والرسالة الشمسية، والرسالة العينية، والمصادر السنية، مات سنة (١٠١٤ هـ).
٥ - أبو عبد الله محمد بن مبارك، ويعرف بابن الخباز، أديب لغوي إخباري من أهل سرقسطة، له تآليف، مات سنة (٤٨٣ هـ).
***
شيوخه:
لم تسعفنا كتب التراجم بشيء عن أساتذة وشيوخ ابن الخباز، ولكنه صرح في خاتمة كتابة «توجيه اللمع» بأستاذه الذي اغترف من بحره ونهل من مورده، واستفاد منه الكثير، ونقل عنه الجم الغفير من النصوص في كتابه هذا، وسوف نورد طرفًا من هذه النقول عقب ذكر ترجمة قصيرة له فنقول: شيخ ابن الخباز: هو عمر ابن أحمد ابن أبي بكر بن أحمد بن مهران العراقي النحوي مجد الدين أبو حفص الضرير.
كان ﵀ بارعًا في علم النحو، وله ذكاء وفكرة حسنة، وكان في لسانه حبسة
1 / 25
عظيمة، وعنده ثقل في كلامه فلا يكاد يبين، أراد مناظرة محمود بن الأرملة فلم يجبه خوفًا منه، وتخرج على مكي بن ريان بن شبة بن صالح الماكسيني الضرير وتصدر بعده لإقراء علم النحو، وصار أنحى أهل عصره، وأتقن العروض والنحو واللغة والشعر، وكان مفرط الذكاء تخرج به أئمة، ومنهم ابن الخباز، توفي يوم عيد الفطر سنة (٦١٣ هـ).
وقد ظهر أثره واضحًا في كتاب ابن الخباز، قال ابن الخباز: وحكى له شيخنا ﵀ أن بعض العصريين من أهل بلدنا تخيل أن المراد بتغيير الآخر تنحية حرف ووضع حرف مكانه.
وقال ابن الخباز: من الناس من يرى تقديم الفاعل على سائر المرفوعات، قال شيخنا ﵀: لأن عامله لفظي وهو فعل.
وقال: وسألت شيخنا ﵀ فقلت له: هلا اكتفوا بتأنيث الفاعل فقال: هذا لا يستقيم، لأن المذكر قد يسمى بالمؤنث.
وقال: وسألت شيخنا ﵀ لم لم تصغر (يعني عند) فقال: لأن تصغير الظروف يفيد التعريف، وعند مستغنية عنه.
ويذكر العلماء أنه روى عن محمد بن أحمد بن محمد المعروف بالشريشي المالكي النحوي، وزين الدين أبي العباس أحمد بن عبد الدايم بن إبراهيم
1 / 26
والجمال البغدادي عبد الرحمن بن سليمان ومحب الدين أبي العباس أحمد بن عبد الله شيخ الحرم الطبري المكي، ومجد الدين محمد بن الظهير الأربلي ورشيد الدين البصروي الحنفي النحوي مع أنهم جميعًا قد ماتوا بعده بزمن طويل حيث إن ابن الخباز قد توفي سنة (٦٣٩ هـ) على الأرجح، وهم قد عاشوا بعده فترة تتراوح بين الثلاثين والخمسين عامًا. ولكن بالتأمل في سني ميلادهم نجد أنهم قد عاصروه وإن كانت قد طالت أعمارهم بعده فلا مانع من أن يكون روى عنهم أثناء حياته. ويحتمل أن يكون ابن الخباز الراوي عنهم هو غير صاحبنا. والله أعلم.
من تلاميذه:
١ - محمد بن ميكال بن أحمد بن راشد مجد الدين الموصلي الفرضي النحوي، وقد استملى على ابن الخباز كتاب «التوجيه في العربية» ومات في شوال سنة ثمانين وستمائة عن ثمان وسبعين سنة.
٢ - عز الدين أبو محمد عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد الزنجاني الأديب الفاضل نزيل تبريز.
كان فاضلًا عالمًا أديبًا حكيمًا عارفًا بالمنقول والمعقول، واستوطن تبريز، وكان قد
1 / 27
أقام بالموصل، واستملى من الشيخ شمس الدين ابن الخباز تصنيفه وكان عالمًا بالنحو واللغة والتصريف وعلم المعاني والبيان.
من مؤلفاته: الهادي في علم النحو والصرف، وشرحه شرحًا وافيًا بسيطًا سماه: الكافي، وكتاب معيار النظار في علوم الأشعار في علم العروض، والتصريف العزي المطبوع المشهور. مات سنة (٦٦٠ هـ).
آثاره العلمية:
ترك ابن الخباز - بعد حياة علمية حافلة بالنشاط - آثارًا علمية وافرة منها:
١ - شرح اللمع وهو المسمى «بتوجيه اللمع» وهو موضوع دراستنا ومنه نسخة وحيدة بمكتبة الأزهر تحت رقم «٢٣٤٨ السقا ٢٨٦٧٦) وهي نسخة كاملة تبتدأ بمقدمة وتنتهي بخاتمة.
٢ - الإلماع في شرح اللمع لابن جني، وهذا الكتاب - وإن كان لم تشر إليه كتب التراجم أو فهارس المكتبات - أشار إليه ابن الخباز في ثنايا كتابه توجيه اللمع حين قال - في معرض الحديث عن نون الوقاية: «وفي هذه النون مسائل كثيرة، استقصيتها في كتاب الإلماع في شرح اللمع».
٣ - الغرة المخفية في شرح الدرة الألفية لابن معطي ومنه نسخة بمكتبة الأزهر تحت رقم (٣٢٨٦ عروس ٤٢٦١٣) وهي في مجلد واحد وكتبت بقلم معتاد، وتقع في (١٥٧) ورقة، ونسخة أخرى نفيسة بالإسكوريال تحت رقم (٢٢) وكتبت سنة (٦٤٤ هـ) ومنها ميكروفيلم بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية تحت رقم (١١٧) وهي تقع في (١٥٠ ورقة)، وقد كتبها عبد الله بن محمد الزرندي الساوي بالمدرسة القاهرية بالموصل، وقدمها لحاكم أربل محمد بن سعيد بن محمد سنة (٦٤٧ هـ) وعليها خط الصفدي.
٤ - الكفاية في النحو - وهو وإن لم تشر إليه الفهارس التي أمكنني الاطلاع
1 / 28