بسم الله الرحمن الرحيم حامدا لله تعالى أولا وثانيا ولعنان الثناء إليه ثانيا وعلى أفضل رسله وآله مصليا وفي حلبة الصلوات مجليا ومصليا
Bogga 7
وبعد فإن العبد المتوسل إلى الله تعالى بأقوى الذريعة عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وأنجح جده يقول لما وفقني الله بتأليف تنقيح الأصول أردت أن أشرح مشكلاته وأفتح مغلقاته معرضا عن شرح المواضع التي من يحلها بغير إطناب لا يحل له النظر في ذلك الكتاب واعلم أني لما سودت كتاب التنقيح وسارع بعض الأصحاب إلى انتساخه ومباحثته وانتشر النسخ في بعض الأطراف ثم بعد ذلك وقع فيه قليل من التغييرات وشيء من المحو والإثبات فكتبت في هذا الشرح عبارة المتن على النمط الذي تقرر عندي لتغيير النسخ المكتوبة قبل التغييرات إلى هذا النمط ثم لما تيسر إتمامه وفض بالاختتام ختامه مشتملا على تعريفات وحجج مؤسسة على قواعد المعقول وتفريعات مرصصة بعد ضبط الأصول وترتيب أنيق لم يسبقني على مثله أحد مع تدقيقات غامضة لم يبلغ فرسان هذا العلم إلى هذا الأمد سميت هذا الكتاب بالتوضيح في حل غوامض التنقيح والله تعالى مسئول أن يعصم عن الخطأ والخلل كلامنا وعن السهو والزلل أقلامنا وأقدامنا
Bogga 8
إليه يصعد الكلم الطيب افتتح بالضمير قبل الذكر ليدل على حضوره في الذهن فإن ذكر الله تعالى كيف لا يكون في الذهن سيما عند افتتاح الكلام كقوله تعالى وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وقوله إنه لقرآن كريم وقوله الطيب صفة الكلم
Bogga 9
والكلم إن كان جمعا وكل جمع يفرق بينه وبين واحدة بالتاء يجوز في وصفه التذكير والتأنيث نحو نخل خاوية ونحو منقعر من محامد لأصولها من شارع الشرع ماء ولفروعها من قبول القبول نماء القبول الأول ريح الصبا على أن جعل أصول الشريعة ممهدة المباني وفروعها رقيقة الحواشي أي لطيفة الأطراف والجوانب ودقيقة المعاني بني على أربعة أركان قصر الأحكام وأحكمه بالمحكمات غاية الإحكام وجعل المتشابهات مقصورات خيام الاستتار ابتلاء لقلوب الراسخين فإن إنزال المتشابهات على مذهبنا وهو الوقف اللازم على قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله لابتلاء الراسخين في العلم بكبح عنان ذهنهم عن التفكر فيها والوصول إلى ما يشتاقون إليه من العلم بالأسرار التي أودعها فيها ولم يظهر أحدا من خلقه عليها والنصوص منصة عرائس أبكار أفكار المتفكرين منصة العروس مكان يرفع العروس عليه للجلوة وكشف القناع عن جمال مجملات كتابة بسنة نبيه المصطفى وفصل خطابه أي الخطاب الفاصل بين الحق والباطل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما رفع أعلام الدين بإجماع المجتهدين ووضع معالم العلم على مسالك المعتبرين أراد بمعالم العلم العلل التي يعلم القائس بها الحكم في المقيس وأراد بالمعتبرين بكسر الباء القائسين ومسالكهم هي مواقع سلوكهم بأقدام الفكر من مواد النصوص إلى الأحكام الثابتة في الفروع فمبدأ سلوكهم هو لفظ النص فيعبرون منه إلى معانيه اللغوية الظاهرة ثم منها إلى معانيه الشرعية الباطنة فيجدون فيها علامات وأمارات وضعها الشارع ليهتدوا بها إلى مقاصدهم ولما قال بني على أربعة أركان قصر الأحكام ذكر الأركان الأربعة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الوجه الذي بنى الشارع قصر الأحكام عليها
Bogga 13
وبعد فإن العبد المتوسل إلى الله تعالى بأقوى الذريعة عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وجد سعده يقول لما رأيت فحول العلماء مكبين في كل عهد وزمان على مباحثة أصول الفقه أي مقبلين عليها من أكب على وجهه سقط عليه فإن من أقبل على الشيء غاية الإقبال فكأنه أكب عليه للشيخ الإمام مقتدى الأئمة العظام فخر الإسلام علي البزدوي بوأه الله تعالى دار السلام وهو كتاب جليل الشأن باهر البرهان مركوز كنوز معانيه في صخور عباراته ومرموز غوامض نكته في دقائق إشاراته ووجدت بعضهم طاعنين على ظواهر ألفاظه لقصور نظرهم عن مواقع ألحاظه أي لا يدركون بإمعان النظر ما يدركه هو بلحاظ عينه من غير أن ينظر إليه قصدا أردت تنقيحه وتنظيمه وحاولت أي طلبت تبيين مراده وتفهيمه وعلى قواعد المعقول وتأسيسه وتقسيمه موردا فيه زبدة مباحث المحصول وأصول الإمام المدقق جمال العرب ابن الحاجب مع تحقيقات بديعة وتدقيقات غامضة منيعة تخلو الكتب عنها سالكا فيه مسلك الضبط والإيجاز متشبثا بأهداب السحر متمسكا بعروة الإعجاز اختار في الإعجاز العروة وفي السحر الأهداب لأن الإعجاز أقوى وأوثق من السحر واختار في العروة لفظ الواحد وفي الأهداب لفظ الجمع لأن الإعجاز في الكلام أن يؤدى المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق ولا يكون هذا إلا واحدا وأما السحر في الكلام فهو دون الإعجاز وطرقه فوق الواحد فأورد فيه لفظ الجمع وسميته بتنقيح الأصول والله تعالى مسئول أن يمتع به مؤلفه وكاتبه وقارئه وطالبه ويجعله خالصا لوجهه الكريم إنه هو البر الرحيم أصول الفقه أي هذا أصول الفقه أو أصول الفقه ما هي فنعرفها أولا باعتبار الإضافة وثانيا باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص أما تعريفها باعتبار الإضافة فيحتاج إلى تعريف المضاف والمضاف إليه فقال
الأصل ما يبتنى عليه غيره
Bogga 15
فالابتناء شامل للابتناء الحسي وهو ظاهر والابتناء العقلي وهو ترتب الحكم على دليله وتعريفه بالمحتاج إليه لا يطرد وقد عرفه الإمام في المحصول بهذا واعلم أن التعريف إما حقيقي كتعريف الماهيات الحقيقية وإما اسمي كتعريف الماهيات الاعتبارية كما إذا ركبنا شيئا من أمور هي أجزاؤه باعتبار تركيبنا ثم وضعنا لهذا المركب اسما كالأصل والفقه والجنس والنوع ونحوها فالتعريف الاسمي هو تبيين أن هذا الاسم لأي شيء وضع وشرط لكلا التعريفين الطرد أي كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود والعكس أي كل ما صدق ما عليه المحدود صدق عليه الحد فإذا قيل في تعريف الإنسان إنه حيوان ماش لا يطرد ولو قيل حيوان إن كان بالفعل لا ينعكس ولا شك أن تعريف الأصل تعريف اسمي أي بيان أن لفظ الأصل لأي شيء وضع فالتعريف الذي ذكر في المحصول لا يطرد لأنه أي الأصل لا يطلق على الفاعل أي العلة الفاعلية والصورة أي العلة الصورية والغاية أي العلة الغائبة والشروط كأدوات الصناعة مثلا فعلم أن هذا التعريف صادق على هذه الأشياء لكونها محتاجا إليها والمحدود لا يصدق عليها لأن شيئا من هذه الأشياء لا يسمى أصلا فلا يصح هذا التعريف الاسمي والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها ويزاد عملا ليخرج الاعتقاديات والوجدانيات فيخرج الكلام والتصرف ومن لم يزد أراد الشمول هذا التعريف منقول عن أبي حنيفة فالمعرفة إدراك الجزئيات عن دليل فخرج التقليد وقوله ما لها وما عليها يمكن أن يراد به ما تنتفع به النفس وما تتضرر به في الآخرة كما في قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فإن أريد بهما الثواب والعقاب فاعلم أن ما يأتي به المكلف إما واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه كراهة تنزيه أو مكروه كراهة تحريم أو حرام فهذه ستة ثم لكل واحد طرفان طرف الفعل وطرف الترك يعني عدم الفعل فصارت اثني عشر ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه وفعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب مما يعاقب عليه والباقي لا يثاب ولا يعاقب عليه فلا يدخل في شيء من القسمين وإن أريد بالنفع عدم العقاب وبالضرر العقاب ففعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب يكون من القسم الثاني أي مما يعاقب عليه والتسعة الباقية تكون من الأول أي مما لا يعاقب عليه وإن أريد بالنفع الثواب وبالضرر عدم الثواب ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه ثم العشرة الباقية مما لا يثاب عليه عليها ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يجب عليها ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها وفعل الواجب وترك الحرام والمكروه تحريما مما يجب عليها بقي فعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب خارجين عن القسمين ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يحرم عليها فيشملان جميع الأصناف إذا عرفت هذا فالحمل على وجه لا يكون بين القسمين واسطة أولى ثم ما لها وما عليها يتناول الاعتقاديات كوجوب الإيمان ونحوه والوجدانيات أي الأخلاق الباطنة والملكات النفسانية والعمليات كالصلاة والصوم والبيع ونحوها فمعرفة ما لها وما عليها من الاعتقاديات هي علم الكلام ومعرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات هي علم الأخلاق والتصوف كالزهد والصبر والرضا وحضور القلب في الصلاة ونحو ذلك ومعرفة ما لها وما عليها من العمليات هي الفقه المصطلح فإن أردت بالفقه هذا المصطلح زدت عملا على قوله ما لها وما عليها وإن أردت ما يشمل الأقسام الثلاثة لم تزد وأبو حنيفة رحمه الله إنما لم يزد عملا لأنه أراد الشمول أي أطلق الفقه على العلم بما لها وعليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات ثم سمى الكلام فقها أكبر وقيل العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية فالعلم جنس والباقي فصل فقوله بالأحكام يمكن أن يراد بالحكم هاهنا إسناد أمر إلى آخر ويمكن أن يراد الحكم المصطلح وهو خطاب الله تعالى المتعلق إلخ فإن أريد الأول يخرج العلم بالذوات والصفات التي ليست بأحكام عن الحد أي يخرج التصورات ويبقي التصديقات وبالشرعية يخرج العلم بالأحكام العقلية والحسية كالعلم بأن العالم محدث والنار محرقة وإن أريد الثاني فقوله بالأحكام يكون احترازا عن علم ما سوى خطاب الله تعالى المتعلق إلى آخره فالحكم بهذا التفسير قسمان شرعي أي خطاب الله تعالى بما يتوقف على الشرع وغير شرعي أي خطاب الله تعالى بما لا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان بالله تعالى ووجوب تصديق النبي عليه السلام ونحوهما مما لا يتوقف على الشرع لتوقف الشرع عليه ثم الشرعي إما نظري وإما عملي فقوله العملية يخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية كالعلم بأن الإجماع حجة وقوله من أدلتها أي العلم الحاصل للشخص الموصوف به من أدلتها المخصوصة بها وهي الأدلة الأربعة وهذا القيد يخرج التقليد لأن المقلد وإن كان قول المجتهد دليلا له لكنه ليس من تلك الأدلة المخصوصة وقوله التفصيلية يخرج الإجمالية كالمقتضي والنافي وقد زاد ابن الحاجب على هذا قوله بالاستدلال ولا شك أنه مكرر
Bogga 19
ولما عرف الفقه بالعلم بالأحكام الشرعية وجب تعريف الحكم وتعريف الشرعية فقال فارغة فارغة والحكم قيل خطاب الله تعالى هذا التعريف منقول عن الأشعري فقوله خطاب الله تعالى يشمل جميع الخطابات
Bogga 22
وقوله المتعلق بأفعال المكلفين يخرج ما ليس كذلك فبقي في الحد نحو والله خلقكم وما تعملون مع أنه ليس بحكم فقال بالاقتضاء أي الطلب وهو إما طلب الفعل جازما كالإيجاب أو غير جازم كالندب وإما طلب الترك جازما كالتحريم أو غير جازم كالكراهة أو التخيير أي الإباحة وقد زاد البعض أو الوضع ليدخل الحكم بالسببية والشرطية ونحوهما اعلم أن الخطاب نوعان إما تكليفي وهو المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وإما وضعي وهو الخطاب بأن هذا سبب ذلك أو شرطه كالدلوك سبب للصلاة والطهارة شرط فلما ذكر أحد النوعين وهو التكليفي وجب ذكر النوع الآخر وهو الوضعي والبعض لم يذكر الوضعي لأنه داخل في الاقتضاء أو التخيير لأن المعنى من كون الدلوك سببا للصلاة أنه إذا وجد الدلوك وجبت الصلاة حينئذ والوجوب من باب الاقتضاء لكن الحق هو الأول لأن المفهوم من الحكم الوضعي تعلق شيء بشيء آخر والمفهوم من الحكم التكليفي ليس هذا ولزوم أحدهما للآخر في صورة لا يدل على اتحادهما نوعا وبعضهم قد عرف الحكم الشرعي بهذا أي بعض المتأخرين من متابعي الأشعري قالوا الحكم الشرعي خطاب الله تعالى فالحكم على هذا إسناد أمر إلى آخر والفقهاء يطلقونه على ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا بطريق إطلاق اسم المصدر على المفعول كالخلق على المخلوق لكن لما شاع فيه صار منقولا اصطلاحيا وهو حقيقة اصطلاحية يرد عليه أي على تعريف الحكم وهو خطاب الله تعالى إلخ إن الحكم المصطلح بين الفقهاء ما ثبت بالخطاب لا هو أي لا الخطاب فلا يكون ما ذكر تعريفا للحكم المصطلح بين الفقهاء وهو المقصود بالتعريف هنا وأيضا يخرج منه ما يتعلق بفعل الصبي كجواز بيعه وصحة إسلامه وصلاته وكونها مندوبة ونحو ذلك فإنه ليس بمتعلق بأفعال المكلفين مع أنه حكم فإن قيل هو حكم باعتبار تعلقه بفعل وليه قلنا هذا في الإسلام والصلاة لا يصح
Bogga 26
وأما في غير الإسلام والصلاة فإن تعلق الحق بماله أو بذمته حكم شرعي ثم أداء الولي حكم آخر مترتب على الأول لا عينه وسيجيء في باب الحكم الأحكام المتعلقة بأفعاله فينبغي أن يقال بأفعال العباد ويخرج منه ما ثبت بالقياس إذ لا خطاب هنا إلا أن يقال اعلم أن المصادر قد تقع ظرفا نحو آتيك طلوع الفجر أي وقت طلوعه فقوله إلا أن يقال هذا القبيل فإنه استثناء مفرغ من قوله ويخرج منه ما ثبت بالقياس أي جميع الأوقات إلا وقت قوله في جواب الإشكال يدرك بالقياس أن الخطاب ورد بهذا إلا أنه ثبت بالقياس فإن القياس مظهر للحكم لا مثبت فاندفع الإشكال وأيضا يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا أي من الحد مع أنها حكم فالمراد بالإيمان هنا التصديق فوجوب التصديق حكم مع أنه ليس من الأفعال إذ المراد بالأفعال المذكورة أفعال الجوارح ووجوب الاعتبار أي القياس حكم مع أنه ليس من أفعال الجوارح
ويقع التكرار بين العملية وبين المتعلق بأفعال المكلفين لأنه قال في حد الفقه العلم بالأحكام الشرعية العملية والحكم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين فيكون حد الفقه العلم بخطابات الله تعالى المتعلقة بأفعال المكلفين الشرعية العملية فيقع التكرار إلا أن يقال نعني بالأفعال ما يعم فعل الجوارح وفعل القلب وبالعملية ما يختص بالجوارح فاندفع بهذه العناية التكرار وخرج جواب الإشكال المتقدم وهو قوله يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا لأنهما من أفعال القلب
Bogga 28
والشرعية ما لا تدرك لولا خطاب الشارع سواء كان الخطاب واردا في عين هذا الحكم أو واردا في صورة يحتاج إليها هذا الحكم كالمسائل القياسية فتكون أحكامها شرعية إذ لولا خطاب الشارع في المقيس عليه لا يدرك الحكم في المقيس فيدخل في حد الفقه حسن كل فعل وقبحه عند نفاة كونهما عقليين اعلم أن عندنا وعند جمهور المعتزلة حسن بعض الأفعال وقبحها يدركان عقلا وبعضها لا بل يتوقف على خطاب الشارع فالأول لا يكون من الفقه بل هو علم الأخلاق والثاني هو الفقه وحد الفقه يكون صحيحا جامعا مانعا على هذا المذهب
وأما عند الأشعري وأتباعه فحسن كل فعل وقبحه شرعي فيكونان من الفقه مع أن حسن التواضع والجود ونحوهما وقبح أضدادهما لا يعدان من الفقه المصطلح عند أحد فيدخل في حد الفقه المصطلح ما ليس منه فلا يكون هذا تعريفا صحيحا للفقه المصطلح على مذهب الأشعري
Bogga 29
ولا يزاد عليه أي على حد الفقه المصطلح التي لا يعلم كونها من الدين ضرورة لإخراج مثل الصلاة والصوم فإنهما منه وليس المراد بالأحكام بعضها وإن قل اعلم أن هذا القيد ذكر في المحصول ليخرج مثل الصلاة والصوم وأمثالهما إذ لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها وليس كذلك فأقول هذا القيد ضائع لأنا لا نسلم أنه لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها لأن المراد بالأحكام ليس بعضها وإن قل فإن الشخص العالم بمائة مسألة من أدلتها سواء يعلم كونها من الدين ضرورة أو لا يعلم كالمسائل الغريبة التي في كتاب الرهن ونحوه لا يسمى فقيها فالعلم بوجوب الصلاة والصوم من الفقه مع أن العالم بذلك وحده لا يسمى فقيها كالعلم بمائة مسألة غريبة فإنه من الفقه لكن العالم بها وحدها ليس بفقيه فلا معنى لإخراجهما منه بذلك العذر الفاسد ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام الكل لأن الحوادث لا تكاد تتناهى ولا ضابط يجمع أحكامها ولا يراد كل واحد لوجود لا أدري ولا بعض له نسبة معينة بالكل كالنصف أو الأكثر للجهل به ولا التهيؤ للكل إذ التهيؤ البعيد قد يوجد لغير الفقيه والقريب مجهول غير منضبط ولا يراد أنه يكون بحيث يعلم بالاجتهاد حكم كل واحد لأن العلماء المجتهدين لم يتيسر لهم علم بعض الأحكام مدة حياتهم كأبي حنيفة رحمه الله تعالى لم يدر الدهر وللخطأ في الاجتهاد ولأن حكم بعض الحوادث ربما يكون مما ليس للاجتهاد فيه مساغ وأيضا لا يليق في الحدود أن يذكر العلم ويراد به تهيؤ مخصوص إذ لا دلالة للفظ عليه أصلا وإذا عرفت هذا فلا بد أن يكون الفقه علما بجملة متناهية مضبوطة فلهذا قال بل هو العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها فالمعتبر أن يعلم في أي وقت كان جميع ما قد ظهر نزول الوحي به في ذلك الوقت فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا فقهاء في وقت نزول بعض الأحكام بعده ثم ما لم يظهر نزول الوحي به قد لا يعلمه الفقيه والصحابة رضي الله عنهم لعربيتهم كانوا عالمين بما ذكر ولم يطلق الفقيه إلا على المستنبطين منهم وعلم المسائل الإجماعية يشترط إلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم الإجماع في زمنه لا المسائل القياسية للدور بل يشرط ملكة الاستنباط الصحيح هو أن يكون مقرونا بشرائطه وما قيل إن الفقه ظني فلم أطلق العلم عليه فجوابه أولا أنه مقطوع به فإن الجملة التي ذكرنا أنها فقه وهي ما قد ظهر نزول الوحي به وما انعقد الإجماع عليه قطعية
Bogga 32
وثانيا أن العلم يطلق على الظنيات كما يطلق على القطعيات كالطب ونحوه وثالثا أن الشارع لما اعتبر غلبة الظن في الأحكام صار كأنه قال كلما غلب ظن المجتهد بالحكم يثبت الحكم فكلما وجد غلبة ظن المجتهد يكون ثبوت الحكم مقطوعا به فهذا الجواب على مذهب من يقول إن كل مجتهد مصيب يكون صحيحا وأما عند من لا يقول به فيراد بقوله كلما غلب ظن المجتهد يثبت الحكم أنه يجب عليه العمل أو يثبت الحكم بالنظر إلى الدليل وإن لم يثبت في علم الله تعالى وأصول الفقه الكتاب والسنة والإجماع والقياس وإن كان ذا فرعا للثلاثة لما ذكر أن أصول الفقه ما يبتنى عليه الفقه أراد أن يبين أن ما يبتنى عليه الفقه أي شيء هو فقال هو هذه الأربعة فالثلاثة الأول أصول مطلقة لأن كل واحد منها مثبت للحكم أما القياس فهو أصل من وجه لأنه أصل بالنسبة إلى الحكم وفرع من وجه لأنه فرع بالنسبة إلى الثلاثة الأول إذ العلة فيه مستنبطة من مواردها فيكون الحكم الثابت بالقياس ثابتا بتلك الأدلة وأيضا هو ليس بمثبت بل هو مظهر
Bogga 33
أما نظير القياس المستنبط من الكتاب فكقياس حرمة اللوطة على حرمة الوطء في حالة الحيض الثابتة بقوله تعالى قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض والعلة هي الأذى وأما المستنبط من السنة فكقياس حرمة قفيز من الجص بقفيزين على حرمة قفيز من الحنطة بقفيزين الثابتة بقوله عليه السلام الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا وأما المستنبط من الإجماع فأوردوا لنظيره قياس الوطء الحرام على الحلال في حرمة المصاهرة يعني قياس حرمة وطء أم المزنية على حرمة وطء أم أمته التي وطئها والحرمة في المقيس عليه ثابتة إجماعا ولا نص فيه بل النص ورد في أمهات النساء من غير اشتراط الوطء
ولما عرف أصول الفقه باعتبار الإضافة فالآن يعرفه باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص فيقول
Bogga 34
وعلم أصول الفقه العلم بالقواعد التي يتوصل بها إليه على وجه التحقيق أي العلم بالقضايا الكلية التي يتوصل بها إلى الفقه توصلا قريبا وإنما قلنا توصلا قريبا احترازا عن المبادئ كالعربية والكلام وإنما قلنا على وجه التحقيق احترازا عن علم الخلاف والجدل فإنه وإن اشتمل على القواعد الموصلة إلى مسائل الفقه لكن لا على وجه التحقيق بل الغرض منه إلزام الخصم وذلك كقواعدهم المذكورة في الإشارة والمقدمة ونحوهما لتبتنى عليها النكت الخلافية ونعني بالقضايا الكلية المذكورة ما يكون إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه أي إذا استدللت على حكم مسائل الفقه بالشكل الأول فكبرى الشكل الأول هي تلك القضايا الكلية كقولنا هذا الحكم ثابت لأنه حكم يدل على ثبوته القياس وكل حكم يدل على ثبوته القياس فهو ثابت وإذا استدللت على مسائل الفقه بالملازمات الكلية مع وجود الملزوم فالملازمات الكلية هي تلك القضايا كقولنا هذا الحكم ثابت لأنه كلما دل القياس على ثبوت هذا الحكم يكون هذا الحكم ثابتا لكن القياس دل على ثبوت هذا الحكم فيكون ثابتا واعلم أنه يمكن أن لا يكون هذه القضية الكلية بعينها مذكورة في مسائل أصول الفقه لكن تكون مندرجة في قضية كلية هي مذكورة في مسائل أصول الفقه كقولنا كلما دل القياس على الوجوب في صورة النزاع يثبت الوجوب فيها فإن هذه الملازمة مندرجة تحت هذه الملازمة وهي كلما دل القياس على ثبوت كل حكم هذا شأنه يثبت هذا الحكم والوجوب من جزئيات ذلك الحكم فكأنه قيل كلما دل القياس على الوجوب يثبت الوجوب وكلما دل القياس على الجواز يثبت الجوار فالملازمة التي هي إحدى مقدمتي الدليل تكون من مسائل أصول الفقه بطريق التضمن ثم اعلم أن كل دليل من الأدلة الشرعية إنما يثبت به الحكم إذا كان مشتملا على شرائط تذكر في موضعها ولا يكون الدليل منسوخا ولا يكون له معارض مساو أو راجح
Bogga 37
ويكون القياس قد أدى إليه رأي مجتهد حتى لو خالف إجماع المجتهدين يكون باطلا فالقضية المذكورة سواء جعلناها كبرى أو ملازمة إنما تصدق كلية إذا اشتملت على هذه القيود فالعلم بالمباحث المتعلقة بهذه القيود يكون علما بالقضية الكلية التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه فتكون تلك المباحث من مسائل أصول الفقه وقولنا يتوصل بها إليه
Bogga 38
الظاهر أن هذا يختص بالمجتهد فإن المبحوث عنه في هذا العلم قواعد يتوصل المجتهد بها إلى الفقه فإن المتوصل إلى الفقه ليس إلا المجتهد فإن الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة التي ليس دليل المقلد منها فلهذا لم تذكر مباحث التقليد والاستفتاء في كتبنا ولا يبعد أن يقال إنه يعم المجتهد والمقلد والأدلة الأربعة إنما يتوصل بها المجتهد لا المقلد فأما المقلد فالدليل عنده قول المجتهد فالمقلد يقول هذا الحكم واقع عندي لأنه أدى إليه رأي أبي حنيفة رحمه الله وكل ما أدى إليه رأيه فهو واقع عندي فالقضية الثانية من أصول الفقه أيضا فلهذا ذكر بعض العلماء في كتب الأصول مباحث التقليد والاستفتاء فعلى هذا علم أصول الفقه هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى مسائل الفقه ولا يقال إلى الفقه لأن الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة وقولنا على وجه التحقيق لا ينافي هذا المعنى فإن تحقيق المقلد أن يقلد مجتهدا يعتقد ذلك المقلد حقيقة رأي ذلك المجتهد هذا الذي ذكرنا إنما هو بالنظر إلى الدليل وأما بالنظر إلى المدلول فإن القضية المذكورة إنما يمكن إثباتها كلية إذا عرف أنواع الحكم وأن أي نوع من الأحكام يثبت بأي نوع من الأدلة بخصوصية ناشئة من الحكم ككون هذا الشيء علة لذلك فإن هذا الحكم لا يمكن إثباته بالقياس ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم به وهو فعل المكلف ككونه عبادة أو عقوبة ونحو ذلك مما يندرج في كليلة تلك القضية فإن الأحكام تختلف باختلاف أفعال المكلفين فإن العقوبات لا يمكن إثباتها بالقياس ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم عليه وهو المكلف ومعرفة الأهلية والعوارض التي تعرض على الأهلية سماوية ومكتسبة مندرجة تحت تلك القضية الكلية أيضا لاختلاف الأحكام باختلاف المحكوم عليه بالنظر إلى وجود العوارض وعدمها فيكون تركيب الدليل على إثبات مسائل الفقه بالشكل الأول هكذا هذا الحكم ثابت لأنه حكم هذا شأنه متعلق بفعل هذا شأنه وهذا الفعل صادر من مكلف هذا شأنه ولم توجد العوارض المانعة من ثبوت هذا الحكم ويدل على ثبوت هذا الحكم قياس هذا شأنه هذا هو الصغرى ثم الكبرى قولنا وكل حكم موصوف بالصفات المذكورة يدل على ثبوته القياس الموصوف فهو ثابت فهذه القضية الأخيرة من مسائل أصول الفقه وبطريق الملازمة هكذا كلما وجد قياس موصوف بهذه الصفات دال على حكم موصوف بهذه الصفات يثبت ذلك الحكم لكنه وجد القياس الموصوف إلخ فعلم أن جميع المباحث المتقدمة مندرجة تحت تلك القضية الكلية المذكورة التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه فهذا هو معنى التوصل القريب المذكور وإذا علم أن جميع مسائل الأصول راجعة إلى قولنا كل حكم كذا يدل على ثبوته دليل كذا فهو ثابت أو كلما وجد دليل كذا دال على حكم كذا يثبت ذلك الحكم على أنه يبحث في هذا العلم عن الأدلة الشرعية لأحكام الكليتين من حيث إن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى والمباحث التي ترجع إلى أن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى بعضها ناشئة عن الأدلة وبعضها ناشئة عن الأحكام فموضوع هذا العلم الأدلة الشرعية والأحكام إذ يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأدلة الشرعية وهي إثباتها الحكم وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي ثبوتها بتلك الأدلة
Bogga 41
فيبحث فيه عن أحوال الأدلة المذكورة وما يتعلق بها الفاء في قوله فيبحث متعلق بحد هذا العلم أي إذا كان حد أصول الفقه هذا يجب أن يبحث فيه عن أحوال الأدلة والأحكام ومتعلقاتهم ا والمراد بالأحوال العوارض الذاتية وما يتعلق بها عطف على الأدلة والضمير في قوله بها يرجع إلى الأدلة وما يتعلق بها هو الأدلة المختلف فيها كاستصحاب الحال والاستحسان وأدلة المقلد والمستفتي وأيضا ما يتعلق بالأدلة الأربعة مما له مدخل في كونها مثبتة للحكم كالبحث عن الاجتهاد ونحوه
واعلم أن العوارض الذاتية للأدلة ثلاثة أقسام منها العوارض الذاتية المبحوث عنها وهي كونها مثبتة للأحكام ومنها ما ليست بمبحوث عنها لكن لها مدخل في لحوق ما هي مبحوث عنها ككونها عامة أو مشتركة أو خبر واحد وأمثال ذلك ومنها ما ليس كذلك ككونه ثلاثيا أو رباعيا قديما أو حادثا أو غيرها فالقسم الأول يقع محمولات في القضايا التي هي مسائل هذا العلم والقسم الثاني يقع أوصافا وقيودا لموضوع تلك القضايا كقولنا الخبر الذي يرويه واحد يوجب غلبة الظن بالحكم وقد يقع موضوعا لتلك القضايا كقولنا العام يوجب الحكم قطعا وقد يقع محمولا فيها نحو النكرة في موضوع النفي عامة وكذلك الأعراض الذاتية للحكم ثلاثة أقسام أيضا الأول ما يكون مبحوثا عنه وهو كون الحكم ثابتا بالأدلة المذكورة والثاني ما يكون له مدخل في لحوق ما هو مبحوث عنه ككونه متعلقا بفعل البالغ أو بفعل الصبي ونحوه
والثالث ما لا يكون كذلك فالأول يكون محمولا في القضايا التي هي مسائل هذا العلم والثاني أوصافا وقيودا لموضوع تلك القضايا وقد يقع موضوعا وقد يقع محمولا كقولنا الحكم المتعلق بالعبادة يثبت بخبر الواحد ونحو العقوبة لا تثبت بالقياس ونحو زكاة الصبي عبادة
وأما الثالث من كلا القسمين بمعزل عن هذا العلم وعن مسائله
ويلحق به البحث عما يثبت بهذه الأدلة وهو الحكم وعما يتعلق به الضمير المجرور في قوله ويلحق به راجع إلى البحث المدلول في قوله فيبحث عما يثبت أي عن أحوال ما يثبت وقوله عما يتعلق به أي بالحكم وهو الحاكم والمحكوم به والمحكوم عليه واعلم أن قوله ويلحق به يحتمل أمرين أحدهما أن يراد به أن يذكر مباحث الحكم بعد مباحث الأدلة على أن موضوع هذا العلم الأدلة والأحكام
Bogga 42
والثاني أن موضوع هذا العلم الأدلة فقط وإنما يبحث عن الأحكام على أنه من لواحق هذا العلم فإن أصول الفقه هي أدلة الفقه ثم أريد به العلم بالأدلة من حيث إنها مثبتة للحكم فالمباحث الناشئة عن الحكم وما يتعلق به خارجة عن هذا العلم وهي مسائل قليلة تذكر على أنها لواحق وتوابع لمسائل هذا العلم كما أن موضوع المنطق التصورات والتصديقات من حيث إنها موصلة إلى تصور وتصديق فمعظم مسائل المنطق راجع إلى أحوال الموصل وإن كان يبحث فيه على سبيل الندرة عن أحوال التصور الموصل إليه كالبحث عن الماهيات أنها قابلة للحد فهذا البحث يذكر على طريق التبعية فكذا هنا وفي بعض كتب الأصول لم يعد مباحث الحكم من مباحث هذا العلم لكن الصحيح هو الاحتمال الأول وقوله وهو الحكم فإن أريد بالحكم الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين وهو قديم فالمراد بثبوته بالأدلة الأربعة ثبوت علمنا به بتلك الأدلة وإن أريد بالحكم أثر الخطاب كالوجوب والحرمة فثبوته ببعض الأدلة الأربعة صحيح وبالبعض لا كالقياس مثلا لأن القياس غير مثبت للوجوب بل مثبت غلبة ظنه بالوجوب كما قيل إن القياس مظهر لا مثبت فيكون المراد بالإثبات إثبات غلبة الظن وإن نوقش في ذلك بأن اللفظ الواحد لا يراد به المعنى الحقيقي والمجازي معا فنقول نريد في الجميع إثبات العلم لنا أو غلبة الظن لنا
واعلم أني لما وقعت في مباحث الموضوع والمسائل أردت أن أسمعك بعض مباحثها التي لا يستغني المحصل عنها وإن كان لا يليق بهذا الفن منها أنهم قد ذكروا أن العلم الواحد قد يكون له أكثر من موضوع واحد كالطب فإنه يبحث فيه عن أحوال بدن الإنسان وعن الأدوية ونحوها وهذا غير صحيح والتحقيق فيه أن المبحوث عنه في العلم إن كان إضافة شيء إلى آخر كما أن في أصول الفقه يبحث عن إثبات الأدلة للحكم وفي المنطق يبحث فيه عن إيصال تصور أو تصديق إلى تصور أو تصديق وقد يكون بعض العوارض التي لها مدخل في المبحوث عنه ناشئة عن أحد المضافين وبعضها عن الآخر فموضوع هذا العلم كلا المضافين وإن لم يكن المبحوث عنه الإضافة لا يكون موضوع العلم الواحد أشياء كثيرة لأن اتحاد العلم واختلافه إنما هو باتحاد المعلومات أي المسائل واختلافها فاختلاف الموضوع يوجب اختلاف العلم وإن أريد بالعلم لواحد ما وقع الاصطلاح على أنه علم واحد من غير رعاية معنى يوجب الوحدة فلا اعتبار به على أن لكل واحد أن يصطلح حينئذ على أن الفقه والهندسة علم واحد وموضوعه شيئان فعل المكلف والمقدار وما أوردوا من النظير وهو بدن الإنسان والأدوية فجوابه أن البحث في الأدوية إنما هو من حيث إن بدن الإنسان يصح ببعضها ويمرض ببعضها فالموضوع في الجميع بدن الإنسان
Bogga 43
ومنها أنه قد يذكر الحيثية أحدهما أن الشيء مع تلك الحيثية موضوع كما يقال الموجود من حيث إنه موجود موضوع للعلم الإلهي فيبحث فيه عن الأعراض الذاتية التي تلحقه من حيث إنه موجود كالوحدة والكثرة ونحوهما ولا يبحث فيه عن تلك الحيثية لأن الموضوع ما يبحث عن أعراضه لا ما يبحث عنه أو عن أجزائه وثانيهما أن الحيثية تكون بيانا للأعراض الذاتية المبحوث عنها فإنه يمكن أن يكون للشيء أعراض ذاتية متنوعة وإنما يبحث في علم عن نوع منها فالحيثية بيان ذلك النوع فقولهم موضوع الطب بدن الإنسان من حيث إنه يصح ويمرض وموضوع الهيئة أجسام العالم من حيث إن لها شكلا يراد به المعنى الثاني لا الأول إذ في الطب يبحث عن الصحة والمرض وفي الهيئة عن الشكل فلو كان المراد هو الأول يجب أن يبحث في الطب والهيئة عن أعراض لاحقة لأجل الحيثيتين ولا يبحث عن الحيثيتين والواقع خلاف ذلك ومنها أن المشهور أن الشيء الواحد لا يكون موضوعا للعلمين أقول هذا غير ممتنع بل واقع فإن الشيء الواحد يكون له أعراض متنوعة ففي كل علم يبحث عن بعض منها كما ذكرناه
Bogga 44
وإنما قلنا إن الشيء الواحد يكون له أعراض متنوعة فإن الواحد الحقيقي يوصف بصفات كثيرة ولا يضر أن يكون بعضها حقيقة وبعضها إضافية وبعضها سلبية ولا شيء منها يلحقه لجزئه لعدم الجزء له فلحوق بعضها لا بد أن يكون لذاته قطعا للتسلسل في المبدأ فلحوق البعض الآخر إن كان لذاته فهو المطلوب وإن كان لغيره نتكلم في ذلك الغير حتى ينتهي إلى ذاته قطعا للتسلسل في المبدأ
Bogga 45