وبذلك الانحطاط الخلقي العام، وبعجز أبناء الوطن عن ضبط أنفسهم بأنفسهم، وبعدم اكتراثهم الذي ينم على الأثرة، تبدو الصعوبة لدى معظم الأمم اللاتينية في العيش تحت قوانين حرة بعيدة من الاستبداد والفوضى، ومن السهل أن ندرك كون تلك القوانين محببة بعض الشيء للجماعات ما دامت القيصرية تعد الجماعات بالمساواة في العبودية على الأقل إن لم تعدها بالحرية التي لا تبالي بها أبدا، وإنما الذي يعسر فهمه هو أن تبصر الطبقات المنورة ترضى النظم الجمهورية بأقصي الصعوبة، وذلك ما لم تنظر إلى ثقل المؤثرات الموروثة، أفلا تتاح بمثل هذه النظم لذوي الأفضلية، وذوي الذكاء على الخصوص، فرصة الظهور؟ إن عيب هذه النظم الحقيقي الوحيد لدى طلاب المساواة بأي ثمن هو أنها تؤدي إلى تكوين أريستوقراطيات ذهنية قوية، وبالعكس ترى أن أشد النظم ضيما من ناحية الخلق وناحية الذكاء هو النظام القيصري بأنواعه، والنظام القيصري ليس له من المزية إلا أنه يؤدي بسهولة إلى المساواة في النذالة والضراعة في المذلة، والنظام القيصري شديد الملاءمة لخسيس الاحتياجات في الأمم التي هي في دور الانحطاط والتي تميل إلى العودة إليه على الدوام. وتنجذب هذه الأمم إلى ريش خوذة أي قائد كان، فإذا كانت الأمة في ذلك الوضع جاءت ساعتها وانقضى زمنها.
ويعاني نظام الأجيال القديمة، الذي أبصر التاريخ ظهوره في الحضارات عند أقصى فجرها وأقصى انحطاطها، تطورا واضحا في الوقت الحاضر؛ فتراه اليوم يبعث باسم الاشتراكية، وسيكون هذا التعبير الجديد لاستبداد الدولة أقسى أطوار النظام القيصري لا ريب؛ وذلك لأنه - وهو غير شخصي - يتفلت من جميع دواعي الوجل التي تردع أقبح الطغاة.
وتبدو الاشتراكية في الوقت الحاضر أشد الأخطار التي تهدد الأمم الأوربية، فبها سيتم - لا ريب - ذلك الانحطاط الذي يعده كثير من العلل، وهي نذير خاتمة بعض حضارات الغرب على ما يحتمل.
ويجب ألا ينظر إلى التعاليم التي تنشرها الاشتراكية لتبين أخطار قوتها، بل إلى ما توحي به من الإخلاص، فالاشتراكية معتقد جديد لتلك الجماعة العظيمة من المحرومين طيب العيش، والذين توجب أحوال التمدن الحاضر الاقتصادية فيهم حياة قاسية إلى الغاية، وستكون الاشتراكية ذلك الدين الجديد الذي سيعمر السماوات الخاوية، وستقوم الاشتراكية عند جميع أولئك الذين لا يحتملون البؤس بلا وهم مقام الجنات الساطعة التي كانوا يبصرونها من زجاج نوافذ كنائسهم، ويرى ذلك الكيان الديني المقبل زيادة عدد المؤمنين به يوما فيوما، وهو سيكون له شهداء عما قليل، وهنالك يصبح من المعتقدات الدينية التي تثير الأمم والتي هي ذات سلطان مطلق على النفوس.
ومن الواضح أن تؤدي عقائد الاشتراكية إلى نظام منحط من العبودية قاتل لكل قوة مبادرة وكل استقلال في النفوس الخاضعة لسلطانه لا ريب، ولكن هذا الوضوح يبدو، فقط، لعلماء النفس المطلعين على أحوال عيش الناس، وبصائر مثل هذه مما يمتنع على الجماعات، وإقناع الجماعات يستلزم براهين أخرى، وهذه البراهين لم تقتبس من دائرة العقل قط.
ولا مراء في مخالفة العقائد التي تبصر ظهورها للذوق السليم، ولكن ألم تكن العقائد الدينية التي سيرتنا في قرون كثيرة مخالفة للذوق السيلم أيضا؟ وهل منعها ذلك من إخضاع أشد العباقرة بصيرة لأحكامها؟ ألا إن الإنسان في موضوع المعتقدات لا يصغي إلا إلى صوت مشاعره اللاتنبهية. ألا إن هذه المشاعر ميدان مبهم لا محل للعقل فيه مطلقا.
إذن، هنالك عدة أمم أوربية ستحمل على الخضوع لطور الاشتراكية المرهوب بفعل المزاج النفسي الذي أورثها إياه ماض طويل، وستكون الاشتراكية إحدى مراحل الانحطاط الأخيرة، والاشتراكية حين ترد حضارات كثيرة إلى وجوه منحطة من التطور تجعل الغارات المخربة التي تهددنا أمرا سهلا.
وإذا عدوت إنكلترة لم تجد في أوربة عرقا يحوز من الإقدام الكبير والمعتقدات الثابتة ومن الاستقلال الخلقي ما يكفي للخلاص من ذلك الدين الجديد الذي نبصر ظهوره، وإذا ما نظر إلى نجاح المذاهب الاشتراكية في سواء ألمانية رئي أن ألمانية ستذهب ضحية الاشتراكية، ومما لا شك فيه أن الاشتراكية التي ستفضي بها إلى الخراب ستضفو عليها صيغ علمية صارمة تصلح لمجتمع خيالي لا ينتجه البشر أبدا.
ومع ذلك ستكون الاشتراكية نظاما جائرا لا يكتب له دوام، وهي ستجعل الناس يأسفون على عهد طيبريوس وكاليغولا، وستعيد إليهم ذلك العهد، ومما يسأل في بعض الأحيان: كيف كان الرومان في زمن الأباطرة يطيقون بسهولة نزوات أمثال ذينك الجبارين القاسية؟ والجواب عن هذا هو أن الرومان أيضا عرفوا النفي والطرد بفعل المنازعات الاجتماعية والحروب الأهلية فخسروا أخلاقهم، فعدوا أولئك الطغاة آخر وسيلة للنجاة، وكان الرومان يصبرون على أولئك لعدم معرفتهم كيف يستبدلون غيرهم بهم، وهم لم يستبدلوا غيرهم بهم في الحقيقة؛ فقد جاء بعدهم دور الدوس الأخير تحت أقدام البرابرة، جاءت نهاية العالم، فعلى هذا المدار يدور التاريخ في كل زمان.
هوامش
Bog aan la aqoon