ويثبت التاريخ أن كل تقدم مدين لتلك الصفوة القليلة العدد، والجماعة مع استفادتها من ذلك التقدم لا تحب أن يجاوز مستواها أبدا، والجماعة هي التي كان ضحاياها من عظماء المفكرين والمخترعين في الغالب، ومع ذلك ترى أن ازدهار جميع الأجيال وجميع ماضي العرق وقع بفعل تلك العبقريات الرائعة التي هي أزهار عجيبة لهما. ومن أصحاب العبقرية يتكون مجد الأمة الحقيقي، ولكل فرد، مهما كان وضيعا، أن يباهي بهم، ولا يظهر ذوو العبقرية اتفاقا ولا بمعجزة، بل يمثلون تاج ماض طويل، وهم خلاصة عظمة عصرهم وعرقهم، وكل مساعدة على تفتحهم وارتقائهم تعني مساعدة على التقدم الذي ينتفع به جميع البشر، وإذا ما تركنا أحلام المساواة العامة تعمي بصائرنا كنا أول ضحايا هذه المساواة. والمساواة لا تكون إلا في الانحطاط، والمساواة حلم ذوي المدارك الهزيلة الغامض الثقيل، والمساواة لم تتحقق في غير عصور الهمجية. ويجب، لكي تسود المساواة العالم، أن يخفض بالتدريج كل ما فيه قيمة العرق إلى أدنى مستوى في هذا العرق.
ولكن شأن ذوي النفوس العالية من الرجال إذا كان عاملا عظيما في تقدم الحضارة فإنه ليس كما يقال عنه على العموم مع ذلك، فتأثيرهم يقوم - كما ذكرت - على كونهم خلاصة مجهودات العرق، وترى اكتشافاتهم على الدوام نتيجة سلسلة طويلة من الاكتشافات السابقة، وتراهم يشيدون بناء من حجارة نحتها غيرهم رويدا رويدا. وقد اعتقد المؤرخون - والمؤرخون مبسطون إلى الغاية إجمالا - أنهم قادرون على قرن كل اختراع باسم رجل، مع أن كل واحد من الاختراعات العظيمة التي حولت الدنيا، كالطباعة والبارود والبخار والكهرباء، ليس وليد دماغ واحد، ونحن حين ندرس تكوين مثل هذه الاكتشافات نبصر أنها نشأت، دائما، عن سلسلة طويلة من الجهود التحضيرية، والحق أن الاختراع النهائي ليس إلا تتويجا لما تقدمه؛ ومن ذلك أن ملاحظة غليلو لتساوي المدة في تموجات المصباح المعلق مهد السبيل لاختراع مقياس الزمان الدقيق (كرونومتر) الذي أسفر لدى الملاح عن إمكان اهتدائه إلى طريقه في البحر المحيط، ومن ذلك أن نشأ بارود المدفع عن تحول النار اليونانية بالتدريج، ومن ذلك أن الآلة البخارية تمثل مجموعة اكتشافات تطلب كل واحد منها أعمالا عظيمة، وما كان ليوناني متصف بعبقرية تفوق عبقرية أرشميدس مئة مرة أن يكتشف القاطرة لما لا يكون لديه ما يساعده على تمثلها، وهو لكي ينتهي إلى صنعها لا بد له من أن ينتظر تحقيق الميكانيكا لمبتكرات تقتضي جهود ألفي سنة.
وليس شأن أعاظم رجال الدولة السياسي أقل كثيرا من شأن أكابر المخترعين في استقلاله الظاهر عن الماضي، وقد أعشى ما لمحركي الجماعات الأقوياء، الذين يحولون كيان الأمم السياسي، من سناء صارخ، أبصار بعض الكتاب ككوسان وكارليل وغيرهم، فأراد هؤلاء أن يجعلوا من أولئك أنصاف آلهة تغير بعبقريتها مصير الأمم، ومما لا ريب فيه أنه يمكن أولئك أن يكدروا صفو تطور أحد المجتمعات، غير أنهم لم يعطوا قدرة على تغيير مجراه، وما كان كرومويل أو ناپليون ليستطيع بعبقريته أن يقوم بمثل هذا العمل، وما كان نفوذ أعاظم رجال السياسة ليدوم إلا عندما يعرفون كقيصر وريشليو أن يوجهوا جهودهم إلى ما يلائم مقتضيات الوقت، وما كان سبب فوزهم الحقيقي إلا سابقا لهم على العموم، ولو ظهر قيصر قبل زمانه بقرنين أو ثلاثة قرون ما استطاع أن يخضع الجمهورية الرومانية لحكم سيد واحد، ولو ظهر ريشليو قبل زمانه بقرنين أو ثلاثة قرون لعجز عن تحقيق الوحدة الفرنسية، وفي ميدان السياسة يبصر رجال السياسة الحقيقيون ما سيولد من احتياجات وما أعده الماضي من الحوادث فيهدون إلى الطريق التي يجب أن تسلك، ومن المحتمل أن كان الناس لا يرون تلك الطريق، بيد أن مقادير التطور قضت بحفز الأمم إلى مصايرها التي تولى أولئك العباقرة أمرها حينا من الزمن، وأولئك العباقرة هم، كأكابر المخترعين، جماع نتائج عمل سابق طويل.
ومع ذلك يجب ألا يذهب إلى ما هو أبعد مما تقدم في تلك المقايسات بين صنوف عظماء الرجال؛ فالمخترعون، وإن كانوا يمثلون دورا مهما في تطور الحضارة المقبل، لا يملثون أي دور مباشر في تاريخ الأمم السياسي، ولم يكن لدى أكابر الرجال الذين تم بفضلهم أهم الاكتشافات المهمة، المترجحة بين المحراث والبرق والمؤلف منها تراث البشرية العام، من الصفات الخلقية ما يقيمون به ديانة أو يدوخون به دولة؛ أي ما يغيرون به وجه التاريخ تغييرا واضحا، والمفكر يبصر كثيرا ما في المعضلات من تعقيد فلا يكون ذا اعتقاد عميق، والمفكر لا يبدو له غير القليل من الأهداف السياسية التي تستحق شيئا من جهوده فلا يتتبع أي واحد منها، والمخترعون يستطيعون أن يغيروا الحضارة مع الزمن، والمتعصبون وحدهم، وهم من ذوي الذكاء المحدود، ولكن مع أخلاق فعالة وشهوات قوية، هم الذين يقدرون على تأسيس الأديان وإقامة الدول وقلب العالم، وقد لبت ملايين البشر نداء بطرس الناسك فانقضت على الشرق، وأسفرت كلمات متهوس كمحمد عن خلق قوة كفت للانتصار على العالم اليوناني الروماني القديم، وألقى راهب غامض الأمر كلوثر أوربة في النار والدم، ولا يكون لصوت كصوت غليلو أو نيوتن سوى صدى ضعيف بين الجماعات، فالحق أن عباقرة المخترعين يعجلون سير الحضارة، وأن المتعصبين والمتهوسين هم الذين يخلقون التاريخ.
ومن أي شيء يتألف التاريخ كما هو مسطور في الكتب إن لم يكن قصة طويلة لمنازعات قام بها الإنسان لابتداع مثل عال وعبادته ثم هدمه؟ وهل تجد أمام العلم الصرف لمثل هذه المثل العليا قيمة أعظم من السراب الباطل الذي يحدثه الضياء فوق الرمال المتنقلة في الصحراء؟
ومع ذلك ترى أن المتهوسين من موجدي مثل هذا السراب أو ناشريه هم الذين حولوا العالم تحويلا عميقا، وهم لا يزالون يحنون من أعماق قبورهم روح العروق تحت نير أفكارهم ويؤثرون في أخلاق الأمم ومصيرها، ولا نجهل أهمية شأنهم، ولكن لا يذهب عن بالنا أنهم لم يوفقوا في إنجاز عملهم إلا لأنهم تقمصوا مثل عرقهم وزمنهم الأعلى وعبروا عنه من حيث لا يشعرون، والأمة لا تقاد إلا بتقمص أحلامها، ومن ذلك أن موسى تمثل رغبة اليهود في الخلاص التي كانت تنطوي عليها جباههم المستعبدة أيام كانت تمزقها سياط المصريين، ومن ذلك أن بدهة (بوذا) وعيسى عرفا أن يستمعا لما في زمانهم من بؤس لا حد له وأن يعبرا بالدين عن ضرورة الإحسان والرحمة التي أخذت تلوح في العالم أيام الألم العام، ومن ذلك أن حقق محمد وحدة أمته السياسية بما بشر به من الوحدة الدينية بعد أن كانت أمته تلك منقسمة إلى ألوف من القبائل المتناجزة، ومن ذلك أن ناپليون تقمص المثل الأعلى في المجد الحربي والزهو والدعاية الثورية؛ أي تقمص مميزات ذلك الشعب الذي طاف به في أوربة مدة خمس عشرة سنة؛ سعيا وراء أشد المغامرات حماقة.
إذن، ترى أن الذي يقود العالم هو المبادئ، ومن ثم أولئك الذين يتقمصونها وينشرونها، والنصر يكتب لتلك المبادئ عندما تجد من المتهوسين والمؤمنين من يصغون إليها، ولا كبير أهمية في أن تكون تلك المبادئ صحيحة أو فاسدة، فالتاريخ قد أثبت لنا أن أشد المبادئ وهما هي التي فتنت الناس أحسن من سواها، على الدوام، فمثلت أهم الأدوار، وباسم أكثر الأوهام خدعا قلب العالم وانهارت حتى الآن حضارات كان يلوح خلودها وقامت حضارات أخرى، وليس ملكوت السماوات كما قال به الإنجيل هو الذي أعد لضعفاء العقل، بل ملكوت الأرض هو الذي أعد لهم على أن يكون عندهم من الإيمان الأعمى ما يقدرون به على رفع الجبال، وعلى الفلاسفة الذين خصصوا قرونا لهدم ما شاده المؤمنون في يوم واحد أن يركعوا أحيانا أمام هؤلاء المؤمنين، ومن المؤمنين يتألف قسم من القوى الخفية التي تهيمن على العالم، والمؤمنون هم الذين أوجبوا ظهور أهم الحوادث التي يسجل التاريخ مجراها.
أجل، إن المؤمنين لم ينشروا غير الأوهام لا ريب، بيد أن البشرية عاشت حتى الآن، وستعيش على الراجح، بتلك الأوهام المرهوبة المغرية الباطلة، وليست تلك الأوهام سوى ظلال، ويجب احترامها مع ذلك، فبفضلها عرف آباؤنا الأمل، وهم، بما كان من عدوهم الجريء الأهوج خلف تلك الظلال، قد أخرجونا من الهمجية الأولى وقادونا إلى ما نحن فيه اليوم، ومن المحتمل أن كانت الأوهام أقوى جميع العوامل في نشوء الحضارات، فالوهم هو الذي أوجب شيد الأهرام، وهو الذي أدى إلى ستر مصر بتماثيل حجرية ضخمة مدة خمسين قرنا، وبفعل الوهم شيدت كنائسنا الكبرى في القرون الوسطي، وبفعل الوهم انقض الغرب على الشرق للاستيلاء على أحد القبور، وأسفر اتباع طائفة من الأوهام عن تأسيس أديان أخضعت نصف البشر لشرائعها وعن إقامة أعظم الإمبراطوريات وهدمها. وفي سبيل الغواية، لا الحقيقة، بذلت البشرية معظم جهودها، وما كان للبشرية أن تبلغ الأهداف الوهمية التي تسعى إليها، ولكنها وهي تجد في أثرها حققت كل رقي لم تكن لتطلبه.
الباب الخامس
انحلال أخلاق العروق وانحطاطها
Bog aan la aqoon