إذن، لم يفكر البرابرة الذين أغاروا بالتدريج على الإمبراطورية منذ القرن الأول من الميلاد، والذين ابتلعوها مؤخرا، في هدم حضارة هذه الإمبراطورية، بل كانوا يفكرون في إدامتها فقط، حتى إن مجرى التاريخ ما كان ليتغير لو لم يحارب البرابرة رومة ويقتصروا على الاختلاط بالرومان شيئا فشيئا ويقل عدد الرومان بذلك يوما فيوما؛ أي إن اختلاط الفريقين كان كافيا لتقويض الروح الرومانية وإن لم يخرب البرابرة رومة، ولذلك يمكن القول بأن الحضارة الرومانية لم تدمر قط، بل أديمت بتحويلها في غضون القرون؛ وذلك لوقوعها في أيدي عروق مختلفة.
وإن أقل نظرة إلى التاريخ غارات البرابرة يؤيد ذلك تأييدا كبيرا.
وقد دلت مباحث علماء العصر الحاضر، ولا سيما مباحث فوستل دوكلانج، على أن غارات البرابرة السلمية هي التي أدت إلى اضمحلال الدولة الرومانية بالتدريج، لا الغزوات العدوانية التي ردها مرتزقة الإمبراطورية في أكثر الأحايين، وكان من العادات التي اتخذت منذ عهد الأباطرة الأولين هو استخدام البرابرة في الجيوش، وكانت هذه العادة تستفحل كلما زاد الرومان ثراء وزهدا في الخدمة العسكرية، فلما انقضت بضعة قرون عاد لا يكون في الجيش سوى أناس من الغرباء كما في الإدارة، «وكان القوط والبورغون والفرنج جنودا مؤتلفين في خدمة القيصر الروماني.»
وعندما أصبحت رومة لا تملك جنودا من غير البرابرة، وعندما صارت الولايات الرومانية لا تدار بسوى رؤساء من البرابرة، غدا من البديهي أن يميل هؤلاء الرؤساء إلى الاستقلال، والواقع هو أنهم وفقوا لذلك، بيد أن رومة كانت تتمتع بنفوذ بالغ لم يفكر معه أحد من هؤلاء في هدم الإمبراطورية الرومانية، وذلك مع وقوع رومة في سلطانه، وحينما استولى ملك الهيرول، أدواكر، التابع للقيصر على رومة في سنة 476 لم يلبث أن التمس من القيصر المقيم بالقسطنطينية آنئذ أن يسمح له بأن يتولى أمر إيطالية حاملا لقب بطريق،
1
ولم يسر أحد من أولئك الرؤساء على غير هذه السنة، وأولئك الرؤساء كانوا يديرون شؤون الولايات باسم رومة على الدوام، وهم لم يفكروا قط في التصرف في الأرض أو في مس النظم، وكان كلوڨيس يعد نفسه موظفا رومانيا، وكان فخورا بنيله من القيصر لقب قنصل، ومضت ثلاثون سنة بعد موته ولم ينفك خلفاؤه في أثنائها يمتثلون ما يمليه القياصرة من الأحكام ملزمين أنفسهم بمراعاتها، ولم يجرؤ رؤساء برابرة الغول على ضرب النقود الحاملة لصورهم إلا في أوائل القرن السابع، وهذه النقود لم تحمل غير صور الأباطرة حتى ذلك الحين، وبعد هذا التاريخ فقط صار الغوليون لا يعدون القيصر رئيسا لهم، ولذلك ترى المؤرخين يبدءون بتاريخ فرنسة قبل الواقع بمئتي سنة، ويضيفون بضعة عشر ملكا إلى سلسلة ملوكنا.
ولا شيء أقل شبها بالفتح من غزوات البرابرة ما دام الأهلون قد حافظوا على أراضيهم ولغتهم وقوانينهم، وما دام هذا لا يقع في الفتوحات الحقيقية كفتح النورمان لإنكلترة.
ومن المحتمل أن زالت الدولة الرومانية بالتدريج من غير أن يشعر المعاصرون بذلك، وبيان ذلك أن الولايات كانت قد تعودت منذ قرون وجود رؤساء يديرون شؤونها باسم الأباطرة، ثم تدرج أولئك الرؤساء إلى السير على حساب أنفسهم فلم يغير شيء لهذا السبب، وقد عمل بهذا النظام تحت سادة جدد طيلة العهد الميروفنجي.
2
وإنما التغيير الحقيقي الوحيد، وهو الذي أضحى عميقا مع الزمن، هو ظهور عرق جديد وظهور حضارة جديدة كنتيجة لازمة له؛ وذلك وفق السنن التي عرضناها.
Bog aan la aqoon