ويبدو سلطان روح العرق القاهر واضحا في النظم السياسية على الخصوص، ومن السهل إثبات ذلك ببعض الأمثلة.
ولننظر إلى فرنسة قبل كل شيء، لننظر إلى هذا البلد الذي خضع لأعمق الانقلابات، هذا البلد الذي يلوح أن النظم السياسية تغيرت فيه تغيرا أساسيا في سنين قليلة، هذا البلد الذي تبدو الأحزاب السياسية فيه مختلفة أشد الاختلاف، ولو نظرنا من الناحية النفسية إلى تلك الآراء البادية التناقض، وإلى تلك الأحزاب المتناحرة، لعلمنا أنها في الحقيقة أساس مشترك فيه متماثل ممثل لهدف عرقنا الأعلى تمثيلا كاملا، ولا غرو، فالمتشددون والجذريون والملكيون والاشتراكيون عندنا، وإن شئت فقل: جميع المناضلين عن أشد المذاهب تباينا عندنا، يتعقبون غاية واحدة بعناوين متباينة، وتلك الغاية هي ابتلاع الدولة للفرد، وكل ما يرغب فيه الجميع بحرارة واحدة هو النظام المركزي القيصري القديم؛ أي الدولة الموجهة لكل شيء، والمنسقة لكل شيء، والمستغرقة لكل شيء، والمنظمة لحياة أبناء الوطن في أدق جزئياتها معفية إياهم عن إبداء أي بصيص من التأمل والمبادرة، وسواء أدعي السلطان الذي يكون على رأس الدولة ملكا أم قيصرا أم رئيسا أم غير ذلك، وذلك السلطان مهما كان أمره، يمثل مثلا واحدا بحكم الضرورة، يمثل ذلك المثل الذي يعبر عن مشاعر روح العرق، والعرق لا يطيق مثلا سواه.
وإذا كانت شدة انفعالنا، وملامتنا المتصلة ضد الحقائق الحاضرة، وفكرتنا في أن تغيير الحكومة يجعلنا أوفر حظا، أمورا تحفزنا إلى تبديل نظمنا على الدوام، فإن إرادة الأموات التي تقودنا تقضي علينا بألا نغير غير الألفاظ والظواهر، وقد بلغ ما في روح العرق من قدرة لا شاعرة مبلغا لا نبصر به حتى الوهم الذي نذهب ضحيته.
ولا جرم أننا إذا لم ننظر إلى غير الظواهر لم نجد ما هو أكثر اختلافا بين النظام القديم والنظام الذي أسفرت عنه ثورتنا الكبرى، وهذه الثورة لم تصنع مع ذلك غير إدامة التقاليد الملكية من غير قصد متمة لنظام المركزية الذي بدئ به في العهد الملكي منذ بضعة قرون، ولو بعث لويس الثالث عشر ولويس الرابع عشر من قبريهما ليحكما فيما صنعته الثورة الفرنسية لأنحيا باللائمة - لا ريب - على القسوة التي اتخذت في سبيل تحقيقه، ولكن مع عدهما إياه ملائما لتقاليدهما وبرنامجهما ومع اعترافهما بأنهما لو فوضا إلى وزير تنفيذ هذا البرنامج ما كتب له نجاح أحسن مما وقع، وقد كانا يبينان كيف أن أقل الحكومات التي عرفتها فرنسة ثورة هي حكومة الثورة الفرنسية، وقد كانا يحققان، فضلا عن ذلك، أنه لا نظام من النظم التي تداولت فرنسة منذ قرن حاول مس ذلك العمل ما دام ثمرة تطور منظم وإدامة للمثل الملكي الأعلى وعنوانا لعبقرية العرق، ومما لا مراء فيه أن ذينك الطيفين الشهيرين يبديان؛ إذ ذاك، شيئا من النقد بسبب تجربتهما العظيمة، فيلاحظان، على ما يحتمل، أن إقامة الطائفة الإدارية مقام الطائفة الأريستوقراطية الحكومية يعني إحداثا في الدولة لسلطة لا شخصية مرهوبة أكثر من طبقة الأشراف القديمة لحيازتها، وهي تتفلت من التغييرات السياسية، تقاليد وروحا طائفية وعدم تبعة وديمومة؛ أي سلسلة من الأحوال التي تؤدي إلى جعلها السيد الوحيد، وأعتقد أنهما لا يصران على هذا الاعتراض مع ذلك عادين الأمم اللاتينية - وهي قليلة المبالاة بالحرية، كثيرة الطمع في المساواة - أنها تحتمل بسهولة ضروب الاستبداد على أن يكون الاستبداد بأنواعه غير شخصي، وقد يجدان أيضا شيئا من الإفراط والطغيان في الأنظمة التي لا يحصيها عد، وفي ألوف القيود التي تحيط اليوم بأدق شؤون الحياة، ومما قد يذكرانه أن الدولة إذا ما ابتلعت كل شيء، ونظمت كل شيء، وجردت أبناء الوطن من كل مبادرة، أصبحنا في سواء الاشتراكية من تلقاء أنفسنا ومن غير احتياج إلى ثورة جديدة، ولكنهما يبصران بالنور الإلهي الذي يضيء الملوك، أو يبصران عند عدم هذا النور بالنور الرياضي القائل: إن المعلولات تزيد على نسبة هندسية عند وجود العلل ذاتها، أن الاشتراكية ليست سوى آخر تعبير للفكرة الملكية التي لم تكن الثورة الفرنسية غير طور معجل لها.
وهكذا نجد في نظم الأمة الأحوال العرضية - التي ذكرناها في أول هذا الكتاب - والسنن الدائمة التي حاولنا تحديدها، والأحوال العرضية تولد الظواهر على الخصوص، والسنن الأساسية المشتقة من أخلاق الشعوب تولد مصير الأمم.
ويمكننا أن نضيف إلى المثال السابق مثال عرق آخر، مثال العرق الإنكليزي الذي يختلف بمزاجه النفسي أشد الاختلاف عن عرقنا، وبهذا الأمر وحده تبتعد نظمه ابتعادا أساسيا عن نظمنا.
وسواء أكان على رأس الإنكليز ملك كما في إنكلترة، أم رئيس كما في الولايات المتحدة، تتصف حكومتهم، دائما، بالمميزات الأساسية الآتية؛ وهي: تقليل عمل الدولة إلى أقصى حد، وزيادة عمل الأفراد إلى أبعد غاية؛ أي عكس المثل اللاتيني الأعلى، فتنشأ المرافئ والقنوات والخطوط الحديدية ودور التعليم إلخ، وتدار بمبادرة الأفراد، لا بمبادرة الدولة،
1
وما كانت الثورات أو الدساتير أو الطغاة لتمنح الأمة ما لا تملكه، أو تنزع منها ما تملكه، من الصفات الخلقية التي تشتق نظمها منها، ومما كرر غير مرة أن الأمم تعطى الحكومات التي تستحقها، وهل لنا أن نتصور للأمم حكومات أخرى؟
وسنبين بمختلف الأمثلة أن الأمة لا تتفلت من نتائج مزاجها النفسي، وأنها إذا ما تفلتت منها كان ذلك لوقت قصير، وذلك كالرمل الذي تثيره الزوبعة فيبدو فراره من سنن الجاذبية ذات حين، ومن الوهم الخطر أن يعتقد أن الحكومات والدساتير ذات تأثير في مصير الأمة، ومصير الأمة في يدها، لا في الأحوال الخارجة عنها بالحقيقة، وكل ما يمكن الحكومة أن تسأل عنه هو أن تعبر عن مشاعر الأمة التي تدعى إلى الهيمنة عليها وعن أفكار هذه الأمة. والحكومة هي صورة الأمة على العموم، ولا يقال عن أية حكومة، ولا عن أي نظام: إنهما طيبان أو فاسدان مطلقا، ومن المحتمل أن كانت حكومة ملك الداهومي صالحة للأمة التي كانت تسوسها، وقد يكون أحكم الدساتير الأوربية سيئا لهذه الأمة، ومن المؤسف أن يجهل رجال الدولة ذلك فيرون أن الحكومة سلعة للتصدير، وأن من الممكن حكم المستعمرات بنظم أم الوطن، وهذا يعدل محاولة إقناع السمك بالعيش في الهواء بحجة أن التنفس الهوائي هو تنفس جميع الحيوانات العليا.
Bog aan la aqoon