وما كان من عدم تأثير الفنون الأوربية العتيد في الهند، مع مرور أكثر من مئة عام على ذلك السلطان المطلق، يمكن تشبيهه بقلة تأثير الفنون الإغريقية منذ ثمانية عشر قرنا، ولا إنكار لما هنالك من تنافر بين مشاعر الفريقين الفنية، والدليل على ذلك ما حدث من تقليد الفنون الإسلامية في جميع أنحاء شبه جزيرة الهند، مع أنها غريبة عن الهند غرب الفنون الأوربية عنها، ومن النادر ألا تجد شيئا من الزخرف العربي حتى في أي معبد من معابد أجزاء الهند التي لم يكن للمسلمين أي سلطان فيها. نعم، إننا نرى اليوم في الهند راجوات مثل راجه غواليار أغوتهم سيطرة الأجانب، كما في عهد الملك كنيشكا البعيد، فأنشأوا قصورا أوربية على الطراز اليوناني اللاتيني، غير أن هذا الفن الرسمي المنضد على الفن الأهلي، كما في زمن كنيشكا، هو غير ذي تأثير في هذا الفن الأهلي.
ومما تقدم ترى أن الفن الإغريقي وجد بجانب الفن الهندوسي في الماضي كما ترى الفن الأوربي بجانب الفن الهندوسي في الوقت الحاضر، وذلك من غير أن يؤثر أحدهما في الآخر، ولا تجد بين مباني الهند الحقيقية واحدا يمكنك أن تقول إنه يشتمل في مجموعه أو في جزئياته على أي شبه قريب أو بعيد بأي واحد من مباني الأغارقة.
وعجز الفن الإغريقي عن الرسوخ في الهند أمر يستوقف النظر، ويجب عزوه إلى ذلك التنافر الذي ذكرنا وجوده بين روحي ذينك العرقين، لا إلى عجز الهند الفطري عن هضم الفنون الأجنبية ما دامت الهند قد عرفت كيف تهضم الفنون الملائمة لمزاجها النفسي وكيف تحولها.
وما استطعنا جمعه من الوثائق الأثرية يثبت في الحقيقة كيف أن فارس حبت الهند بمصدر فنونها، وليست فارس هذه هي فارس التي تأثرت بشيء من الفن اليوناني في عهد الأشكانيين، بل فارس التي ورثت حضارتي آشور ومصر القديمتين، ومما نعلم أن الإسكندر عندما أسقط أسرة الملوك الكينية قبل الميلاد بثلاثمئة سنة كان الفرس حائزين لحضارة ساطعة منذ قرنين، والفرس هؤلاء لم يكونوا قد انتهوا إلى طراز جديد في الفنون لا ريب، غير أن مزجهم للفنون المصرية والآشورية التي ورثوها أدى إلى إنتاجهم آثارا ممتازة، وذلك كما يعلم من أطلال برسپوليس (إصطخر) التي لا تزال شاخصة، فهنالك ترى أن الأبواب المصرية الشاهقة وثيران آشور المجنحة وبعض العناصر اليونانية دالة على تقابل جميع فنون الحضارات السابقة الكبرى في تلك البقعة الآسيوية الصغيرة.
وفارس هي التي استوحتها الهند، ولكن الهند لم تستق في الحقيقة سوى فنون كلدة ومصر التي كانت فارس قد اقتصرت على تقليدها.
وتنم دراسة مباني الهند على ما استعارته الهند في الأصل، بيد أن تحقيق هذه الاستعارات يتطلب بحثا في أقدم تلك المباني، ومن صفات الروح الهندوسية أن تخضع الاقتباسات عندها لتحولات تغدو بها غير معروفة الأصل؛ وذلك لتلائم مدارك تلك الروح.
وما السبب في أن الهند التي بدت عاجزة عن اقتباس شيء من اليونان استعارت من فارس بسهولة ما عن لها؟ يرجع سبب ذلك إلى أن فنون فارس ملائمة لمزاجها النفسي لا ريب، على حين ترى فنون الأغارقة لا تلائم تلك الروح مطلقا، ويرجع سبب ذلك إلى أن ما في المباني الإغريقية من أشكال بسيطة ووجهات قليلة الزخرف لا يناسب الروح الهندوسية، على حين ترى الأشكال المركبة وفرط الزينة وغنى الزخرف في مباني فارس تغوي تلك الروح.
على أن تأثير فارس بفنونها في الهند، وذلك حين تمثيل فارس لمصر وآشور، لم يقتصر على ذلك الدور البعيد الذي هو أقدم من التاريخ الميلادي، فلما ظهر المسلمون بعد ذلك بقرون كثيرة في شبه جزيرة الهند أشبعت حضارتهم في أثناء قطعها لفارس من العناصر الفارسية، فكان ما جاءت به تلك الحضارة إلى الهند فارسيا مشربا بأثر التقاليد الآشورية القديمة التي أدامها الملوك الكينيون فعدت أبواب المساجد الهائلة وما يستر هذه الأبواب من الآجر المطلي بالميناء من بقايا الحضارة الكلدانية الآشورية، وقد عرفت الهند أن تهضم هذه الفنون أيضا لملاءمتها عبقرية عرقها، مع أن الفن الإغريقي في الماضي والفن الأوربي في الحاضر منافيان لشعورها وتفكيرها، فظلا غير مؤثرين فيها على الدوام.
إذن، ترتبط الهند في مصر وآشور من طريق فارس كما نرى، لا في الإغريق كما يذهب إليه بعض علماء الآثار، ولم تأخذ الهند من الإغريق شيئا، ولكن الهند والإغريق قد استقتا من ينابيع واحدة، من كنز واحد هو أساس جميع الحضارات التي أنضجتها شعوب مصر وكلدة في قرون كثيرة، وقد اقتبست الإغريق ذلك الكنز بواسطة الفنيقيين وأمم آسية الصغرى، وقد اقتبسته الهند بواسطة فارس، وهكذا ترى أن حضارتي الإغريق والهند تردان إلى ينبوع واحد، مع العلم بأن المجريين اللذين تفرعا من هذا الينبوع لم يلبثا أن اختلفا في كلا البلدين اختلافا كليا وفق عبقرية كل من عرقيهما.
بيد أن الفن إذا كان ذا علاقة وثيقة بمزاج العرق النفسي كما قلنا، وإذا كان الفن الذي تقتبسه عروق مختلفة يكتسب وجوها متباينة لذلك السبب، فإنه يجب علينا أن ننتظر حيازة الهند التي تسكنها عروق مختلفة أشد الاختلاف فنونا متباينة وطرز بناء غير متشابهة على الرغم من وحدة العقائد.
Bog aan la aqoon