والزهد - في هذه القصيدة - له معنى غير الزهد المعروف، فهو هنا دعوة إلى إنفاق المال في الشهوات ودفع العاديات، فالشاعر يحب المال، ولكنه يرى استبقاءه من الحمق، وهذا وجه الزهد. أما الحرمان فليس من أغراض هذا الشاعر وتلك أيضا صوفية، وللتصوف وجوه كثيرة، منها هذا الوجه، ومن الصوفية من يوسع على نفسه في يومه، ويترك الغد للأقدار، ولنقيد أن «الشهوات» في هذه القصيدة لا يراد بها الشهوات الحسية، وإنما المراد بها مطالب العيش المترف الذي بجانب التقشف ويقبل على الطيبات.
وهذه اللمحات من الزهد لا يخلو منها ديوان شاعر إلا في القليل ومن السهل على القارئ أن يتعقبها ويدرس ما فيها من مختلف النوازع النفسية، فلنقف عند هذا الحد، فإنما نريد التنبيه لا الاستقصاء.
واجهة من ضريح علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - في النجف وأكثر الصوفية يرجعون نظام الخرقة إلى علي بن أبي طالب ويرونه أول من أذاع المعاني الروحية.
ضريح الحسن البصري بضواحي البصرة والحسن البصري أخذ عن علي بن أبي طالب، وإليه يرجع الفضل في تأسيس قواعد التصوف. (انظر تفصيل ذلك في الباب الأول من الجزء الثاني.)
ذخائر منسية من الأدب الصوفي
كيف جهل مؤرخو الأدب بلاغة الصوفية
نتكلم في هذا الفصل عن طوائف من الأخيلة والمعاني والصور لم يهتم بها رجال الأدب، ولم يحسبوا لها أي حساب. ولعل السر في إغفال مؤرخي الأدب لهذه الفنون أنهم لم يضعوا البلاغة الصوفية في الميزان؛ لأن الصوفية كانوا انحازوا جانبا عن صحبة الأدباء؛ ولأن الأدباء أنفسهم كانوا أقبلوا على الصور الحسية إقبالا شغلهم عن الأدب الذي يصور أحوال الأرواح والقلوب، فظنوا أدب الصوفية بعيدا عن المجال الذي تسابقوا فيه : مجال التشبيب والوصف والحماسة والعتاب.
ولو أن رجال الأدب وعلماء البلاغة نظروا في الأدب الصوفي نظرة جدية لا تخذوا منه شواهد في المجازات والتشبيهات، ولرأوا فيه كلمات متخيرة تصلح نماذج لإصابة المعنى والغرض. ولكنهم انصرفوا عنه فلم نر في مؤلفاتهم النقدية غير شواهد من كلام الشعراء والكتاب والخطباء الذين سبقوا في ميادين غير ميادين الأرواح والقلوب.
بكاء داود وبكاء يحيى
وأول ما راعني من هذا الأدب المجهول الصورة التي وضعها الصوفية لبكاء داود عليه السلام: فقد حدثوا أنه بكى أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموعه، وحتى غطي رأسه. فنودي: يا داود، أجائع أنت فتطعم، أم ظمآن فتسقى، أم عار فتكسى؟ فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حر خوفه. ثم أنزل الله عليه التوبة والمغفرة فقال: يا رب اجعل خطيئتي في كفي. فصارت خطيئته في كفه مكتوبة. فكان لا يبسط كفه لطعام ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته. وكان يؤتى بالقدح ثلثاه ماء، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه على شفته حتى يفيض القدح من دموعه.
Bog aan la aqoon