لكن هذه الصورة عسيرة، لأنها دقيقة، ولأنها لا تستلزم من الباحث وحسب الملاحظة المباشرة لمادة اللفظ وضوابط المعنى، بل تلزمه التمرس بالحياة الإسلامية من ناحية ومعاشرة الغزالي إن صح هذا التعبير فيكسب بذلك ألفة، يفهم منها مكنونات الذهن ومضمرات الحديث ومراميه، ويكاد دارسو هذه الناحية لا يتفقون عند صفة نفسية واحدة للروح الجمعي الإسلامي وإن كانوا قد وقفوا على بعض الصفات للنفسية الغزالية.
ونستطيع أن نقول: إن الذي يراقب النفس الغزالية عن كثب يلحظ صورا روحية قد تخالف في الظاهر ما يعرضه الرجل منضبطا في صور وقوالب منطقية، ولكنها في الحق تلتقي معها عند أصل واحد بعيد، هذه الصور الروحية التي تستجيب الواحدة للأخرى استجابة التأثير للمؤثر لا الاستجابة المحتومة بالقيد العقلي بين النتيجة والمقدمة، والفرق واضح بين منطق القلب ومنطق العقل.
هذه الصور التي تستجيب الواحدة منها للأخرى تلاحظ بينها وبين الطموح والوثوق القلبي لا «العقلي» نسبة وعلاقة، ومرد هذا طغيان السمة الشعورية على السمة العقلية وانتشار المجال الذاتي وتقلص النظر الموضوعي، مما لا نكاد نجد له شذوذا في أي من الظواهر الجمعية الإسلامية بل لا نكاد نسمع له نشوزا عند أية عبقرية إسلامية، والعبقرية الغزالية عبقرية تجمعت لها بما هي به عبقرية نداءات الروح الإسلامي الموزعة في جيله وصدرت عنه هذه النداءات كلها في صوت موحد وفي نفس منفرد، ولكنه انسجام للروح الجمعي واتساق للفكرة الإسلامية ، وليست ألوان التحمس التي كانت تفلت من يده أحيانا في ميدان المعقولات فيعرض بالفلاسفة في مناسبة وغير مناسبة إلا أطراف الطبيعة الذاتية والشعرية في هذه النفس الفردية، تصلها بأصولها الكامنة أطرافها الأخرى في طبيعة العقل الجمعي الإسلامي.
وبعد هذه الموازنة بين العقل الجمعي والعقل الفردي نستكمل الصورة الأخيرة من نفس الغزالي، والتي يبلغ بتمامها تمام الصور الروحية له، إذ هذه الصورة تضع نفسها فوق مرحلة النضال الفلسفي وتتوجها.
أعلى الصور:
والوثبة التي تلي هذا النضال الفلسفي أو الصورة التي تعلو عليه والتي نجدها عنده هي حالة الشك، والحق أن هذه المرحلة لا تزال «غفلا» مع سمو منزلتها، فإن علة هذه الحال لا تفسر فقط تمام الحياة الغزالية إنما قد تنفض بعض الغبار عن حواشي التفكير الإسلامي، ويرجع في نظرنا من بين ما يمكن افتراضه للتعرف في هذا المجال العلي على السبب الذي يشرح هذه الحال، فرض أن الغزالي كان عليه بعد الوقوف على الاتجاهات الفلسفية وفهمها نوعا من الفهم معارضتها نوعا من المعارضة.
الروحية من وراء المادية
هناك قوة أو حياة روحانية خلف الحياة المادية الظاهرة. وهنا يقول الأستاذ أحمد أمين بك: إن كنت ذا مزاج علمي فانظر الله في هذا النظام العجيب الدقيق في العالم، من أصغر ذرة إلى أرقى قسم، من الحصاة إلى الجبل، من البذرة إلى الشجرة، من الحشرة إلى الإنسان، من السديم إلى الشمس، من الأرض إلى السماء، تجدها كلها مكونة تكوينا واحدا في ذراتها، خاضعة لقوانين واحدة في سيرها، فلم يخبط منها شيء خبط عشواء، ولم يسر منها شيء حيثما اتفق، إنما هو النظام الدقيق والقانون المحكم والعقل الكلي المسيطر على الجميع، ولو كان العالم وليد الاتفاق البحت والمصادفات المفاجئة لاختل نظامه وما بقي لحظة.
وكلما تقدمنا في العلم تقدمنا في اكتشاف القوانين، وما لم ندرك قوانينه فجهل بها لا خلو منها، ولولا هذه القوانين المنظمة الشاملة المبثوثة في العالم والتي يخضع بها خضوعا دقيقا لم يكن شيء اسمه العلم ولكان العلم مستحيلا، فليس العلم إلا طائفة من القوانين لجزء من أجزاء العالم، ولكانت الفلسفة مستحيلة، فليست الفلسفة إلا اكتشاف القوانين الكلية للعالم، ولا شك أن العالم محكوم بقوانين معقولة يتجاوب معها عقلنا، وإلا كان الفهم أيضا مستحيلا.
وأعجب ما في هذا النظام قوة ارتباط أجزاء العالم ارتباطا يجعله وحدة، فإن رأيت طفلا بلا أسنان فثم لبن، وإن نبتت أسنانه فثم ما يمضغ وإن رأيت معدة فثم أسنان، وكل مجموعة من خلايا الإنسان تقوم بوظيفة لا يقوم بها غيرها. فأنت إن قلت نظام شامل وقوانين شاملة ووحدة كاملة وعقل مبثوث في جميع الأجزاء فقد قلت: «الله»، وإذا قلت: «الله» فقد قلت كل شيء.
Bog aan la aqoon