اهتم القشيري في هذه الرسالة على الأخص بالأحوال دون المقامات إلا أنه رغم ذلك ذكر من هذه الأخيرة ثلاثة: الأول مقام التوحيد، والثاني مقام الوجد، والثالث مقام الوجود. وهذا الأخير هو الغاية العليا.
أما الأخلاق الصوفية فقد بدأها بمقدمة عن حياة الزهادة قال فيها: إن مبدأ هذه الحياة هو الندم، وهو ثلاث درجات؛ التوبة، والإنابة، والأوبة. وبعد ذلك وصف سلوك المتنسكين ومشاعرهم، فذكر الإجلال والمجاهدة والخلوة والعزلة والمراقبة والصبر والشكر والخوف والرجاء. وأخيرا ذكر الفضائل الضرورية للصوفي، وهي؛ الصمت والاستهانة بالنفس والخشوع والتوكل، وما إلى ذلك.
أما الكتاب الثاني فهو كمنهج للمبتدئين في التصوف، وقد كان لهذين الكتابين أثر عظيم في عصرهما وفي العصور التي تلته. (4) عبد القادر الجيلاني
ولد عبد القادر الجيلاني في جيلان في سنة 470ه من أسرة تنتسب إلى علي، وقد سجلت أخيلة الشعب حول طفولته وشبابه كثيرا من الخرافات، فنبأتنا إحداها بأنه كان إذا حل شهر رمضان انقطع عن الرضاع، وذكرت لنا خرافة أخرى أنه حين اتجه إلى بغداد في الثامنة عشرة من عمره، عرض له الخضر وحال بينه وبينها سبعة أعوام، وبعد أن زال خوفه عليه من فتن تلك المدينة الزاخرة بالشكوك والريب سمح له بالدخول.
أما التاريخ الحقيقي، فهو يحدثنا أنه حين شب توجه إلى بغداد ليدرس فيها الفقه على مذهب الحنابلة، وكان ذلك في سنة 488ه، ثم التقى هناك ببعض الصوفية فأخذ عنهم الطريق، وفي سنة 521ه بدأ يلقي دروسا على الجماهير في الوعظ والإرشاد، ثم اشتهر بالصلاح والتقوى، وعلى إثر ذلك نسبت إليه كرامات كثيرة وعبارات لم يقلها وآراء لم يعتقدها، فمن ذلك مثلا ما حدثتنا به إحدى الخرافات من أنه كان يقول: إن الأحوال الصوفية عندي كأثواب معلقة في حجرة ألبس منها ما أشاء، أو يقول: إذا سألتم الله شيئا فاسألوه باسمي؛ فإني رئيس الملائكة والأناسي والجن، أو يقول: أيها المريد، سافر ألف سنة، لتسمع كلمة من فمي. أو يحدثنا عن نفسه فيقول: «كنت وأنا ابن عشر سنين في بلدنا أخرج من دارنا وأذهب إلى المكتب سمعت الملائكة عليهم السلام تمشي حولي، فإذا وصلت إلى المكتب سمعت الملائكة يقولون: افسحوا لولي الله حتى يجلس، فمر بنا يوما رجل ما عرفته يومئذ، فسمع الملائكة يقولون ذلك، فقال لأحدهم: ما هذا الصبي؟ فقال له أحدهم: هذا من بيت الأشراف، قال: سيكون لهذا شأن عظيم؛ هذا يعطى فلا يمنع، ويمكن فلا يحجب، ويقرب فلا يمكر به، ثم عرفت ذلك الرجل بعد أربعين سنة فإذا هو من الأبدال في ذلك الوقت.»
2
أو كقوله: «كنت صغيرا في بلدنا فخرجت إلى السواد في يوم عرفة وتبعت بقرة حراثة، فالتفتت إلي بقرة وقالت: يا عبد القادر، ما لهذا خلقت ، فرجعت فزعا إلى دارنا وصعدت إلى سطح الدار فرأيت الناس واقفين بعرفات، فجئت إلى أمي وقلت لها: هبيني لله عز وجل، وأذني لي في المسير إلى بغداد أشتغل بالعلم وأزور الصالحين، فسألتني عن سبب ذلك فأخبرتها خبري.»
3
هذا نموذج مما نسب زيفا إلى الجيلاني وأثبت في بعض الكتب المنتحلة ككتاب «قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر» وهو كتاب ألفه محمد بن يحيى التادفي الحنبلي، وليس فيه ما يعتمد عليه، ولكن بهامشه رسالة حقيقية كتبها الجيلاني وعنوانها: «فتوح الغيب» وبمطالعتها يرى الباحث التناقض المدهش القائم بين العبارات المفعمة بالكبرياء والغرور المثبتة في الكتاب المزيف، والعبارات المتواضعة المفعمة بالتقوى المثبتة في هذه الرسالة؛ كقوله مثلا:
اتبعوا ولا تبتدعوا، وأطيعوا ولا تمرقوا، ووحدوا ولا تشركوا، ونزهوا الحق ولا تتهموا، وصدقوا ولا تشكوا، واصبروا ولا تجزعوا، واثبتوا ولا تنفروا، واسألوا ولا تسأموا، وانتظروا وترقبوا ولا تيأسوا، وتآخوا ولا تتعادوا، واجتمعوا على الطاعة ولا تتفرقوا، وتحابوا ولا تباغضوا، وتطهروا عن الذنوب وبها لا تتدنسوا ولا تتلطخوا، وبطاعة ربكم فتزينوا، وعن باب مولاكم فلا تبرحوا، وعن الإقبال عليه فلا تتولوا، وبالتوبة فلا تسرفوا، وعن الاعتذار إلى خالقكم في آناء الليل وأطراف النهار فلا تملوا، فلعلكم ترحمون وتسعدون، وعن النار تبعدون، وفي الجنة تحبرون، وإلى الله توصلون.
Bog aan la aqoon