المزي
Bogga 49
هو حافظ العصر ومحدث الشام ومصر وحامل لواء الأثر وعالم أنواع نعوت الخبر صاحب معضلاتنا وموضح مشكلاتنا الشيخ جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن علي بن عبد الملك ابن أبي الزهر القضاعي الكلبي المزي الحلبي المولد خاتمة الحفاظ وناقد الأسانيد والألفاظ مولده بظاهر حلب في عاشر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وستمائة وطلب الحديث في أول سنة خمس وسبعين وهلم جرا وإلى الآن لا فتر ولا قصر ولا عن العلم والرواية تأخر فأعلى ما عنده بالسماع أصحاب ابن طبرزد وحنبل والكندي وابن الحرستاني ثم ابن ملاعب والرهاوي وابن البناء ثم ابن أبي لقمة وابن البن وابن مكرم والقزويني ثم ابن اللتي وابن صباح وابن الزبيدي وأعلى ما سمع بإجازة عن ابن كليب وابن بوش والجمال وخليل بن بدر والبوصيري وأمثالهم ثم المؤيد الطوسي وزاهر الثقفي وعبد المعز الهروي
Bogga 50
وسمع الكتب الأمهات المسند والكتب الستة والمعجم الكبير والسيرة والموطأ من طرق والزهد والمستخرج على مسلم والحلية والسنن للبيهقي ودلائل النبوة وتاريخ الخطيب والنسب للزبير وأشياء يطول ذكرها ومن الأجزاء ألوفا ومشيخته نحو الألف سمع أبا العباس ابن سلامة وابن أبي عمر وابن علان والمقداد والعز الحراني وابن الدرجي والنواوي والزواوي والكمال عبد الرحيم وابن البن والقاسم الإربلي وابن الصابوني والرشيد العامري ومحمد بن القواس والفخر ابن البخاري وزينب وابن شيبان ومحمد بن محمد بن مناقب وإسماعيل بن العسقلاني والمجد ابن الخليل والعماد ابن الشيرازي والمحيي ابن عصرون وأبا بكر بن الأنماطي والصفي خليلا وغازيا الحلاوي والقطب بن القسطلاني وطبقتهم والدمياطي والفاروثي واليونيني وابن بلبان والشريشي وابن دقيق العيد وابن الظاهري والتقي الأسعردي وطبقتهم وتنزل إلى طبقة سعد الدين الحارثي وابن نفيس وابن تيمية ولم يتهيأ له السماع من ابن عبد الدائم ولا الكرماني ولا ابن أبي اليسر ونحوهم ولا أجازوا له مع إمكان أن يكون له إجازة المرسي والمنذري وخطيب مردا واليلداني وتلك الحلبة حفظ القرآن وتفقه للشافعي مدة وعني باللغة فبرع فيها وأتقن النحو والصرف وله عمل في المعقول وباع مديد في المنقول ومعرفة بشيء من الأصول وكتابته حلوة منسوبة وفيه حياء وحلم وسكينة واحتمال كثير وقناعة وإطراح للتكلف وترك للتجمل والتودد وانجماع عن الناس وصبر على من يغتابه أو يؤذيه وقلة كلام إلا أن يسأل فيفيد ويجيب ويجيد
Bogga 51
وكان معتدل القامة أبيض بلحية سوداء أبطأ عنه الشيب ومتع بحواسه وذهنه وكان قنوعا بالقوت غير متأنق في مأكل ولا ثوب ولا نعل ولا مركب بل يصعد إلى الصالحية وغيرها ماشيا بهمة وجلادة وهو في عشر التسعين وكان طويل الروح ريض الأخلاق جدا لا يرد بعنف ولا يتكثر بفضائله ولا يكاد يغتاب أحدا وإذا كتب في النادر كتابا إلى أحد لا ينمقه ولا يزوقه وكان يستحم بالماء البارد في الشيخوخة وأما معرفة الرجال فإليه فيه المنتهى لم أعاين مثله ولا هو رأى في ذلك مثل نفسه وقال لي لم أر أحفظ من الدمياطي وكان ملحوظا بالتقدم في ذلك من وقت ارتحاله إلى مصر ولما أملى علي شيخنا ابن دقيق العيد لم يسألني عن أحد إلا عن المزي فقال كيف هو صنف كتاب تهذيب الكمال في أربعة عشر مجلدا أربى فيه على الكبار وألف أطراف الكتب الستة في ستة أسفار وخرج لجماعة وما علمته خرج لنفسه لا عوالي ولا موافقات ولا معجما وكنت كل وقت ألومه في ذلك فيسكت وقد حدث بتهذيبه الذي اختصرته أنا ثلاث مرات وحدث بالصحيحين مرات وبالمسند وبمعجم الطبراني ودلائل النبوة وبكتب جمة وحدث بسائر أجزائه العالية بل وبكثير من النازلة ولو كان لي رأي للزمته أضعاف ما جالسته سمعت بقراءته شيئا وافرا وأخذت عنه هذا الشأن بحسبي لا بحسبه ولن يخلفه الزمان أبدا في معرفته مع أن عند غيره في معرفة الرجال والأمراء والخلفاء والنسب ما ليس عنده فإنه إنما يعتني بالرواة الذين يجيئون في سماعاته ويجيد الكلام في طبقاتهم وقوتهم ولينهم وهذا الشأن بحر لا ساحل له وإنما المحثون بين مستكثر منه ومستقل وكان شيخنا لا يكاد يعرف قدره الطالب إلا بكثرة مجالسته أو ينظر في تهذيبه لقلة كلامه وكان مع حسن خطه ذا إتقان قل أن يوجد له غلطة أو توجد عليه لحنة بل ذلك معدوم وكان ذا ديانة وتصون وطهارة من الصغر وسلامة باطن وعدم دهاء وانزواء عن العقل العرفي المعيشي وكان يحكم ترقيق الأجزاء وترميمها وينقل عليها كثيرا إلى الغاية ويفيد الطلبة ويحسن بذلك إلى سائر أوقاف الخزائن بسعة نفس وسماحة خاطر لا يخلف في ذلك وكان فيه سذاجة توقعه مع من يربطه على أمر فيأكله ومستأكله حتى لا يزال في إفلاس وذلك لكرمه وسلامته وكان مأمون الصحبة حسن المذاكرة والبشر خير الطوية محبا للآثار معظما لطريقة السلف جيد المعتقد وربما بحث بالعقل الملائم للنقل فيصيب ويحسن غالبا بحسب ما يمكن وربما غلط وكان الكف بمثله أولى عن الجدل فإن المخالف ينتقد عليه ذلك ويلزمه بالتناقض بحسب نظره فمذهب السلف في غاية الصلف والسكوت أسلم والله أعلم وبكل حال فالخطأ في ذلك من قاصد الحق بتنزيه الحق مغفور للعالم وقد كان اغتر في شبيبته وصحب العفيف التلمساني فلما تبين له ضلاله هجره وتبرا منه فالحمد لله
Bogga 54
أسمع أولاده كثيرا وأحفاده وحج وسمع بالحرمين وبيت المقدس ودمشق ومصر وحلب وحماة وحمص وبعلبك والإسكندرية وبلبيس وقطية وغير ذلك وأوذي مرة واختفى مدة من أجل سماعه لتاريخ الخطيب وأوذي نوبة أخرى لقراءة شيء من كتاب أفعال العباد مما يتأوله الفضلاء المخالفون وحبس فصبر وكظم وقضى أكثر عمره على الاقتصاد والقناعة وقلة الدرهم إلى أن توفي شيخنا ابن أبي الفتح فحصل له من جهاته حلقة الخضر والحديث بالناصرية فأضاء حاله وفرحنا له ثم ولي دار الحديث سنة ثمان عشرة بعد ابن الشريشي ثم فيما بعد ترك الحلقة وأخذت منه الناصرية ثم نزل عن العزية لصاحبه نجم الدين وتكفى بما تبقى على قلته بنسبة رتبته وربما وصل بشيء متمم لأولاده وباع كتابيه بألفين ومائتين فأنفقها وأعلى ما عنده مطلقا الغيلانيات وبإجازة جزء ابن عرفة وابن الفرات سمعت منه سنة أربع وتسعين وأخذت عنه صحيح البخاري وغير ذلك واستملى منه قاضي القضاة أبو الحسن الحافظ وسمع منه قاضي القضاة عز الدين الكناني والحافظ أبو الفتح اليعمري ومحب الدين وأولاده والسروجي وابن الدمياطي وابن عبد الهادي وابنا السفاقسي وابن رافع وسبط التنسي وخلائق
وتخرج به جماعة كالبرزالي وابن الفخر والعلائي وابن كثير وابن العطار والجميزي وابن الجعبري وآخرين
قرأت بخط أبي الفتح قال ووجدت بدمشق الإمام المقدم والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه وتقدم أبا الحجاج المزي بحر هذا العلم الزاخر القائل من رآه كم ترك الأول للآخر أحفظ الناس للتراجم وأعلمهم بالرواة من أعارب وأعاجم لا يخص بمعرفته مصرا دون مصر ولا ينفرد علمه بأهل عصر دون عصر معتمدا آثار السلف الصالح مجتهدا فيما نيط به في حفظ السنة من النصائح معرضا عن الدنيا وأسبابها مقبلا على طريقته التي أربى بها على أربابها لا يبالي بما ناله من الأزل ولا يخلط جده بشيء من الهزل وكان بما يصنعه بصيرا وبتحقيق ما يأتيه جديرا وهو في اللغة إمام وله بالقريض إلمام فكنت أحرص على فوائده لأحرز منها ما أحرز وأستفيد من حديثه الذي إن طال لم يمل وإن أوجز وددت أنه لم يوجز وهو الذي حداني على رؤية الإمام شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية
Bogga 55
وسرد أبو الفتح فضلا في تقريظ ابن تيمية ولقد كان بين المزي وابن تيمية صحبة أكيدة ومرافقة في السماع ومباحثة واجتماع وود وصفاء والشيخ هو الذي سعى للمزي في توليته دار الحديث ولي في تولية التربة الصالحية وجرت في ذلك أمور ونكد من أضداد الشيخ وسئلنا عن العقيدة فكتب لهم المزي بجمل وأعفيت أنا من الكتابة ومردنا الكل إلى الله تعالى ولا قوة إلا بالله
وكان شيخنا أبو الحجاج يترخص في الأداء من غير أصول ويصلح كثيرا من حفظه ويتسامح في دمج القاري ولغط السامعين ويتوسع فكأنه يرى أن العمدة على إجازة المسمع للجماعة وله في ذلك مذاهب عجيبة والله تعالى يسمح لنا وله بكرمه وكان يتمثل بقول ابن مندة يكفيك من الحديث شمه
توفي في ثاني عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ودفن بمقابر الصوفية من الغد وتأسفوا عليه ولم يخلف أحدا مثله رحمه الله تعالى
Bogga 56