Wadada Ikhwaan al-Safaa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Noocyada
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إذا أنعمت النظر بعقلك، وفكرت برويتك، وتأملت أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده ... عرفت وتبينت أن أكثر أوامره هي بخلاف ما في طباع الناس ... وذلك أنه أمر الصيام وترك الأكل والشرب عند شدة الجوع والعطش، وبالطهارة عند البرد، وبالقيام في الصلاة وترك النوم على الفراش الوطيء، وبالمواساة عند القلة وشدة الحاجة، وبالتعفف عند هيجان الشهوة، وبالحلم عند سورة الغضب ، وبالشجاعة عند المخاوف، وبالعفو عند المقدرة ... وما شاكل هذه الأفعال والأعمال والأخلاق والسجايا التي في الجبلة خلافها، وفي الطباع مركوز غيرها ...
واعلم يا أخي بأن أخلاق بني الدنيا وسجاياهم إنما جعلت طبيعة مركوزة في الجبلة؛ لأنهم وردوا إلى الدنيا جاهلين غير مستعدين لها. فأما أبناء الآخرة فصارت أخلاقهم مكتسبة معتادة [لأنهم استعدوا لها] بما أعلموا بها وأخبروا عنها وبشروا بها وجدوا في طلبها وأوضح لهم طريقها ...
واعلم يا أخي أنه لما لم يكن في مكنة كل عاقل أن يفعل ما وصفنا؛ إذ كان يحتاج فيه إلى عناية شديدة وبحث دقيق ونظر قوي، خفف الله تعالى ذلك عليهم، وبعث واضعي النواميس الإلهية مؤيدين مع الوصايا المرضية، وأمرهم بامتثال أمرهم ونهيهم، فبنوا لهم الهياكل والمساجد والبيع ومواضع الصلوات وبيوت العبادات، وأمورهم بالدخول إليها بعد طهارة ونظافة ... وترك أشياء كانت مباحة لهم ... كل ذلك ليكون دلالة لكل عاقل فهم أنه هكذا ينبغي أن تكون سيرة من يريد أن يدخل الجنة ويعرج بروحه إلى هناك» (9: 1، 331-336). «واعلم يا أخي، أيدك الله، بأنه، جل ثناؤه، قد فرض على المؤمنين المقرين به وبأنبيائه أشياء يفعلونها، ونهاهم عن أشياء ليتركوها، كل ذلك ليبتليهم بها، وجعلها عللا وأسبابا ليرقيهم فيها وينقلهم حالا بعد حال إلى أن يبلغهم إلى أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم.
واعلم يا أخي بأن من بلغه الله درجة ورتبة، فوقف عندها، ولم يرجع القهقرى بعد بلوغها، ثم قام بحقها ووفى بشرائطها، جعل جزاءه وثوابه أن ينقله من تلك الرتبة والدرجة إلى ما فوقها، ويرفعه من تلك إلى ما هو أشرف وأجل منها، ومن جهل قدر النعمة التي في تلك الرتبة فلم يشكرها، ولا اجتهد في طلب ما فوقها، ولا رغب في الزيادة عليها، كان جزاؤه أن يترك مكانه ويوقف حيث انتهى به عمله ويحرم المزيد، فيفوته ما وراء ذلك وفوقه من الدرجات والمراتب، وكان ذلك الفوت والحرمان هو عقوبته» (9: 1، 345-346).
في الخير والشر
تعد آراء إخوان الصفاء في مسألة الخير والشر استمرارا لآرائهم في الأخلاق. فكما أن الخلق السيئ هو تقصير من الإنسان على الكد والاجتهاد في تهذيب نفسه والارتقاء بها، كذلك الشر الذي هو تخلف عن اللحاق بالخير الأفضل المتقدم عليه؛ فمتى غفل المفضول عن اللحاق بالفاضل ورضي لنفسه بالمكان الخسيس فهو الشر البعيد عن الخير. فما من شر كوني وما من مملكة للشر تعارض مملكة الخير، والكون كله خير ومخلوق من قبل إله خير، وما نرى فيه من شر ليس بالقصد الأول وإنما بالقصد الثاني، وليس إبليس إلا تجسيدا للنفس الشهوانية الغضبية المغوية للنفس الناطقة: «إن الشر لا أصل له في الإبداع الأول من جهة المبدع الحق سبحانه. فإن قال قائل: فإذا لم يكن للشر أصل في الإبداع، فمن أين كان؟ وكيف يكون؟ ولم كان؟ فليعلم هذا القائل أن الخير الكلي والجود المحض [هو] إفاضة الباري سبحانه على العقل بجوده، فكان له [أي للعقل] السبق والتمام والكمال والتقدم بالوجود على الأشياء. ثم كانت النفس منبعثة منه تالية له، فكان ما بينهما من التفاضل مرتبة منحطة بالنفس عن اللحوق بالعقل ونقصانا عن درجته فقصرت عن الكمال، فصار ذلك التقصير عنه عجزا، فحدث عن ذلك العجز نقص عن البلوغ إلى الفضل الكلي. ثم حدثت الطبيعة عن النفس، وكانت النفس أفضل منها لكونها أصلا لها، فكان ما بينهما من التفاضل عجزا هو أكثر من عجز النفس عن بلوغ درجة العقل ومرتبته. ثم كانت الأشياء من المركبات بحدوث بعضها من بعض، ولها وجود التفاضل، وبوجود التفاضل وجود العجز، وبوجود العجز وجود النقص، وبوجود النقص معرفة الفاضل والمفضول. فعند ذلك عطف العقل على النفس بخيراته وفضائله ليرقيها إليه، ويبلغها إلى درجته، ويزيل عنها النقص ويرفعها إلى درجة الكمال، ولم يرض لها بالتخلف عن البلوغ إلى درجته واللحوق بمنزلته؛ لأنه ليس من شأنه الحسد ولا الكبر، وإن أحب الأشياء إليه كونها مثله لأنه خير كله؛ وعطفت النفس عند ذلك على الطبيعة، وعطفت الطبيعة على المولدات منها، وعطفت الأشياء كلها بعضها على بعض، فالفاضل أبدا إنما يجتهد ليرقي المفضول إلى درجته ويبلغه منزلته ، دائما في ذلك مجتهدا فيه. فقد بان بالبرهان وصح أن الشر لا أصل له في الإبداع، وسمي عجز الأشياء لحدوث بعضها من بعض شرا، بمعنى التخلف عن اللحوق بالخير الأفضل المتقدم عليه؛ فمتى غفل المفضول عن اللحوق بدرجة الفاضل ورضي لنفسه بالمكان الخسيس الرذل، فهو الشر المحض البعيد عن الخير، وهو النحس البعيد من السعد. فإذا العالم إذا قبل الفيض والجود وارتقى إلى الفاضل صار خيرا كله وسعدا كله، فزال الشر، وعاد الخلق إلى أوله فصار خيرا كله ...
اعلم يا أخي أن الغرض الأقصى في إدارة الأفلاك وتسيير الكواكب، ومجيء الأنبياء والرسل والحكماء ... هو أن يصير العالم خيرا كله ويزول منه العجز والنقص والشر، ويعود إلى ما بدا منه فيصير لاحقا به» (جا: 25-26).
وكمثال على أن الشرور في العالم ليست بالقصد الأول، يعالج الإخوان مسألة الأوجاع والآلام والأمراض، وأكل الكائنات الحية بعضها لبعض، وهي القضايا التي عدها فلاسفة الخير والشر، ولا سيما الثنويين منهم، التجلي الأمثل للشر في العالم: «ثم اعلم أن الله تعالى جعل في جبلة الحيوان أربعة أسباب: آلامها، ودواعي عطب أبدانها، وشقاوة نفوسها، وهلاك هياكلها، وهي الجوع والعطش والشهوات المختلفة واللذات الذليلة. أما قصد الباري الحكيم في فعله ذلك كله فهو لبقاء نسلها وصلاح معاشها. وأما الذي يعرض لها من الآلام والنكب فليس بالقصد الأول ولكن بالعرض، من أجل النقص الذي في الهيولى. وذلك أن الله تعالى جعل لها الجوع والعطش لكيما يدعواها إلى الأكل والشرب ليخلف على أبدانها من الكيموس [= سوائل البدن] بدل ما يتحلل من البدن؛ لأن البدن في التحلل دائما من أسباب خارجة وأسباب داخلة؛ وأما الشهوات فلكيما تدعو إلى المأكولات المختلفة الموافقة لأمزجة أبدانها وما تحتاج إليه طباعها. وأما اللذة فلكيما تأكل بقدر الحاجة من غير زيادة ولا نقصان.
فإن قيل: لم جعل للنفوس من الآلام والأوجاع والأفزاع عند الآفات العارضة لأجسادها؟ قيل له: لكيما تحرص نفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها إلى وقت معلوم؛ إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ولا دفع مضرة عنها. فإن قيل: لم جعل بعض الحيوانات آكلة لحوم بعض؟ قيل: لكيما لا يضيع شيء مما خلق الله بلا نفع؛ وذلك أنه قد تاهت أوهام العلماء وتحيرت عقولهم في طلب علة أكل الحيوانات بعضها بعضا، وما وجه الحكمة منه؛ إذ كان الباري جعل ذلك في طباعها جبلة، وهيأ بها آلات وأدوات تتمكن بها، كأنياب ومخالب وأظافير حداد ... فلما تفكروا في ذلك ولم تسنح لهم العلة ولا ما وجه العلة والحكمة، اختلفت عند ذلك بهم الآراء والتبست بهم المذاهب، حتى قال بعضهم: إن تسلط الحيوانات بعضها على بعض، وأكل بعضها لبعض ليس من فعل الحكيم، بل فعل شرير قليل الرحمة؛ فلهذا قالوا: إن للعالم فاعلين: خير وشرير؛ ومنهم من نسب ذلك إلى النجوم، ومنهم من قال: عقوبة لها لما سلف منها من الذنوب في الأدوار السالفة، وهم أهل التناسخ، ومنهم من قال بالعرض، ومنهم من قال: إن هذا أصلح، ومنهم من أقر على نفسه بالعجز وقال: لا أدري ما العلة في أكل الحيوانات بعضها بعضا، ولا ما وجه الحكمة فيه، غير أنه قال: الباري الحكيم لا يفعل شيئا إلا بحكمته؛ ومنهم من قال: بل لا حكمة فيه.
وكل هذه الأقاويل قالوها في طلب الحكمة والعلة، وإنما لم يقفوا عليها؛ لأن نظرهم كان جزئيا، وبحثهم عن علل الأشياء خصوصيا، وليس يعلم علل الأشياء الكليات بالنظر الجزئي؛ لأن أفعال الباري إنما الغرض منها النفع الكلي والصلاح العمومي، وإن كان قد نقص من ذلك ضرر جزئي ومكاره خصوصية، وليس يعلم علل الأشياء الكليات أحيانا. والمثال في ذلك أحكام الشريعة النبوية وحدوده فيها، وذلك كحكم القصاص في القتل. قال تعالى:
Bog aan la aqoon