Wadada Ikhwaan al-Safaa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Noocyada
واعلم يا أخي بأنك لم تنقل رتبة من هذه المراتب إلا وقد خلع عنك أعراض وأوصاف ناقصة، وألبست ما هو أجود منها وأشرف؛ فهكذا ينبغي أن لا ترتقي في درجة العلوم والمعارف إلا وتخلع عن نفسك أخلاقا وعادات وآراء ومذاهب وأعمالا مما كنت معتادا لها منذ الصبا من غير بصيرة ولا روية، حتى يمكنك أن تفارق الصورة الإنسانية، وتلبس الصورة الملكية، ويمكنك الصعود إلى ملكوت السماوات وسعة عالم الأفلاك» (14: 1، 448-449).
إن الهدف الأقصى للمعرفة هو معرفة الإلهيات. ولكن معرفة الأمور الإلهية لا تأتي إلا بالتدرج من العلوم الرياضية إلى العلوم الطبيعية، «فمن لم يكن مرتاضا بالنظر في هذه الأشياء فلا يسعه النظر في أمور الطبيعة؛ لأنه لا يمكن له أن يعرفها كنه معرفتها البتة، ولو لم يكن مرتاضا في الأمور الطبيعية، فلا يسعه الكلام في الأمور الإلهية» (15: 2، 19). ثم إن عملية المعرفة من ناحية أخرى تتدرج ابتداء من معرفة الأمور المحسوسة التي تدركها الحواس بشكل مباشر إلى معرفة الأمور العقلية والروحانية: «واعلم يا أخي أن الباري جل جلاله جعل الأمور الجسمانية المحسوسة كلها مثالات ودلالات على الروحانية العقلية، وجعل طرق الحواس درجا ومراقي يرتقى بها إلى معرفة الأمور العقلية التي هي الغرض الأقصى في بلوغ النفس إليها.
فإذا أردت يا أخي أن تبلغ إلى أفضل المطلوبات وأشرف الغابات التي هي الأمور العقلية، فاجتهد في معرفة الأمور المحسوسة فإنك بذلك تنال الأمور العقلية. وقد بينا في رسائلنا الطبيعية طرفا من ذلك. ثم اعلم أن معرفة الأمور الجسمانية المحسوسة، هي فقر للنفس وشدة الحاجة، ومعرفة الأمور المعقولة الروحانية هي غناها ونعيمها، وذلك أن النفس في معرفة الأمور الجسمانية محتاجة إلى الجسد وحواسها وآلاتها لتدرك بتوسطها الأمور الجسمانية، وأما إدراكها الأمور الروحانية فيكفيها ذاتها وجوهرها بعدما تأخذها من الحواس بتوسط الجسد. وإذا حصل لها ذلك فقد استغنت عن الجسد وعن التعليم بالجسم بعد ذلك.
فاجتهد يا أخي في طلب الغنى الأبدي بتوسط هذا الهيكل وآلاته ما دام يمكنك ذلك قبل فناء العمر وتصرم المدة، وفساد الهيكل وبطلان وجوده. واحذر كل الحذر أن تبقى نفسك فقيرة محتاجة إلى هيكل ليتم به ما فاته من الكمال، فتكون ممن يقول: يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل» (35: 3، 246-247). «إن الله لما خلق الإنسان الذي هو آدم أبو البشر، عليه السلام، وفضله على كثير ممن خلق قبله تفضيلا، جعل إحدى فضائله كثرة العلوم وغرائب المعارف، وجعل له إليها عدة طرقات: فمنها طرق الحواس الخمس التي بها يدرك الأمور الحاضرة في الزمان والمكان، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس؛ ومنها طريق استماع الأخبار التي ينفرد بها الإنسان دون سائر الحيوانات، يفهم بها الأمور الغائبة عنه بالزمان والمكان جميعا، كما ذكر الله تعالى ومن به عليه فقال:
خلق الإنسان * علمه البيان
12
ومنها طريق الكتابة والقراءة يفهم بها الإنسان معاني الكلام واللغات والأقاويل ...
واعلم أن فهم القراءة والكتابة ومعرفتها متأخرة عن فهم الكلام والأقاويل، كما أن فهم الكلام والأقاويل ومعرفتها إنما هي متأخرة عن فهم المحسوسات ... وذلك أن الطفل إذا خرج من الرحم فإنه في الوقت والساعة تدرك حواسه محسوساتها ... إلى أن تتم سنة التربية، ويغلق باب الرضاع ويفتح [باب] الكلام والنطق. ثم بعد ذلك تجيء أيام الكتابة والقراءة، والآداب والصنائع والرياضيات، وسماع الأخبار والروايات، والفقه في الدين، والنظر في العلوم والمعارف، وطلب حقائق الموجودات والبحث عن الكائنات، والاستدلال بالحاضرات على الغائبات والمحسوسات على المعقولات، وبالجسمانيات على الروحانيات، وبالرياضيات على الطبيعيات، وبالطبيعيات على الإلهيات التي هي الغاية القصوى في العلوم والمعارف، والسعادة الأبدية والدوام السرمدي. بلغك الله وإيانا إلى هذه الغاية، وشرح صدرك وفتح قلبك» (42: 3، 414-415).
ويرى الإخوان أن التفكر في الأمور العقلية هو في مرتبة أعلى من العبادات المفروضة والمسنونة في الشرائع، والوقوف عند هذه العبادات هو شأن العامة والجهال، أما الخواص فيتجاوزونها، دون أن يسقطوها، نحو آفاق المعرفة المنجية للنفوس: «اعلم يا أخي أن جزاء المحسنين يتفاضل في الآخرة بحسب درجاتهم في المعارف واجتهادهم في الأعمال الصالحة. والناس متفاوتو الدرجات في أعمالهم، كل على شاكلته، وأجود أحوال العامة والجهال كثرة الصوم والصدقة والصلاة والقراءة والتسبيح، وما شاكل ذلك من العبادات المفروضة والمسنونة في الشرائع، المشغلة لهم عن فضول وبطالة، وما لا ينبغي لهم كي لا يقعوا في الآفات. وأفضل أعمال الخواص التفكر والاعتبار بتصاريف أمور المحسوسات والمعقولات، وبخاصة ما يتعلق بالدين. وقد قيل: أفضل أعمال الخير خصلة واحدة وهي التفكر. قال الله تعالى:
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ... .
Bog aan la aqoon