Wadada Ikhwaan al-Safaa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Noocyada
قال التوحيدي: لا ينسب لشيء ولا يعرف برهط، لجيشانه بكل شيء، وغليانه في كل باب ... وقد أقام بالبصرة زمانا طويلا، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم: أبو سليمان محمد بن معشر البستي ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوقي، وغيرهم. فصحبهم وخدمهم. وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته. وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة ... وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال. وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها، وأفردوا لها فهرسا، وسموها رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وكتموا أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ولقنوها للناس، وادعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجل وطلب رضوانه.
تعطينا هذه المحاورة معلومات لا بأس بها عن جماعة الإخوان. فقد جرت، كما قلنا، نحو عام 372ه، وهو العام الذي تولى فيه ابن سعدان الوزارة في خدمة البويهيين الفرس، الذين حكموا إلى جانب بني العباس من عام 334 إلى عام 447ه. ومن صيغة الماضي التي استخدمها التوحيدي في وصف زيد بن رفاعة، وكون الرسائل مبثوثة في الناس في فترات سابقة على المحاورة، نستدل على أن زمن تأليف الرسائل ربما يعود إلى أواسط القرن الرابع، في وقت كان فيه أبو حيان شابا يجلس إلى زيد ويورق له، أي ينسخ له كتبه. فإذا كانت الرسائل قد وضعت في هذا الزمن فعلا، وهي زبدة فكر الإخوان ولا يعرف لهم غيرها، فإن التنظيم السري لا بد وأن يكون قد تشكل قبل هذا الزمن، وربما في أوائل القرن الثالث أو قبل ذلك، وكان يعتمد في دعاوته على مجموعة من التعاليم الغنوصية العرفانية مبثوثة في مرجع أكثر اختصارا من الرسائل، تتحدث عن الأصل السماوي للنفس الإنسانية، وهبوطها إلى عالم المادة، والوسائل العرفانية الكفيلة بتحريرها وعودتها إلى مصدرها، وهذه هي المحاور الرئيسة التي قامت الرسائل بعد ذلك بتطويرها، وتقديمها في إطار موسوعي أشمل احتوى على كل المعارف المتاحة لذلك العصر.
وتقدم لنا الرسائل نفسها إشارات تدل على زمن تأليفها. في معرض نقدهم لعقيدة الإمام الغائب عند الشيعة الاثني عشرية، يقولون في الرسالة 42: «ومن الآراء الفاسدة والاعتقادات المؤلمة لمعتقديها رأي ... من يرى ويعتقد أن الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختف لا يظهر من خوف المخالفين. واعلم أن صاحب هذا الرأي يبقى طول عمره، منتظرا لخروج إمامه، متمنيا لمجيئه، مستعجلا لظهوره، ثم يفني عمره ويموت بحسرة وغصة لا يرى إمامه، ولا يعرف شخصه من هو» (42: 3، 532). فإذا عرفنا أن الإمام المهدي قد اختفى في سن صغيرة نحو عام 265ه، وأضفنا إلى ذلك الفترة الزمنية اللازمة لترسخ هذه العقيدة بعد مرور الوقت الكافي لوفاة الإمام، لوصلنا إلى أواسط القرن الرابع، وهذا ما يتطابق مع ما استنتجناه من المحاورة.
تشير المحاورة بشكل مباشر إلى المقر الرئيس للجماعة، وهو البصرة، حيث التقى زيد بن رفاعة بجماعة جامعة لأصناف العلم، فصحبهم وخدمهم. كما تذكر من أعضائها الرئيسين إلى جانب زيد أربعة؛ هم: المقدسي، والزنجاني، والمهرجاني، والعوقي، وجميع هؤلاء لم يكونوا من الشخصيات الفكرية البارزة في ذلك العصر، والمؤلفات التي تعزى إلى بعضهم لم تكن بمستوى ووزن الرسائل. وعلى الرغم من أن كل الباحثين يعزون تأليف الرسائل إلى زيد بن رفاعة وهؤلاء الأربعة، إلا أنني أرجح أن يكون هؤلاء الأربعة هم أصحاب الرسائل من دون زيد «الذي صحبهم وخدمهم» على حد تعبير التوحيدي، ويبدو أنه كان أصغر منهم سنا. وإني أستند في هذا الترجيح إلى ما للرقم الرباعي من أهمية في فكر الإخوان، فأصل الأعداد كلها هو من الواحد إلى الأربعة، وعدد مراتب الوجود أربعة، وعدد أقسام رسائلهم أربعة، ويقوم تنظيمهم على الرقم أربعة. فعلى قمة الهرم يتربع أربعة أشخاص هم بمثابة القيادة العليا، وهؤلاء الأربعة منتقون من أربعين، والأربعون منتقون من أربعمائة، والأربعمائة منتقون من أربعة آلاف، ووراء الأربعة آلاف عدد لا يحدده النص من «الأنصار» الذين يدعونهم بالتائبين المخلصين (الرسالة التاسعة).
وتدلنا المحاورة على السمة العامرة لمذهب الإخوان الذي يعتمد على التوفيق بين الدين وفلسفات العصر وعلومه، حيث قال التوحيدي: «وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة ... وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال.» وهناك تتمة لما أوردناه من المحاورة تضيء بعض جوانب هذه المسألة. فقد سأل الوزير أبا حيان التوحيدي عن المقدسي الذي يبدو أنه كان الأبرز بين الأربعة، وعن رأيه في الشريعة والفلسفة، فروى التوحيدي عنه قوله: «الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء. والأنبياء يطببون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة فيحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلا. فبين مدبر المريض وبين مدبر الصحيح فرق ظاهر وأمر مكشوف؛ لأن غاية تدبير المريض أن ينتقل به إلى الصحة ... وغاية تدبير الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة قد أفاده كسب الفضائل وفرغه لها وعره لاقتنائها؛ وصاحب هذه الحال فائز بالسعادة العظمى وقد صار مستحقا للحياة الإلهية، والحياة الإلهية هي الديمومة والخلود. وإن كسب الفضائل من يبرؤ من المرض بطب صاحبه أيضا، فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل؛ لأن إحداهما تقليدية والأخرى برانية، وهذه مظنونة وهذه مستيقنة، وهذه روحانية وهذه جسمانية، وهذه دهرية وهذه زمانية.»
وفي حديث التوحيدي تلميحات صائبة إلى روحانية مذهب الإخوان، وجنوحهم إلى السلم في نشر مذهبهم الذي يخلو من المطامح الدنيوية والسياسية، واعتناقهم لمثل اجتماعية عليا، والطابع الأخوي لتنظيمهم، عندما قال: «وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة.» فرسالتهم على ما نجد في ثنايا الرسائل أخلاقية بالدرجة الأولى، تحث على تهذيب النفس وتطهيرها من الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة المؤلمة لأصحابها، والارتقاء بها فوق عالم المادة الذي يعتبرونه سجنا للنفوس الإنسانية. ولكن هذه السمة الخلاصية لمذهبهم لم تكن تعني انسحاب الفرد من العالم والانكفاء على نفسه من أجل تدبير خلاصها؛ لأن على الفرد في سعيه لخلاصه الفردي أن يساعد النفوس الأخرى على الخلاص أيضا، وذلك عن طريق نشاط جمعي واسع تقوم به جماعة الإخوان، التي جعلت من نفسها نموذجا للمجتمع الجديد المنشود الذي تحث تعاليمهم على بنائه. وقد وجهوا النقد اللاذع إلى الفساد السياسي والاجتماعي السائد في زمنهم، والتدهور الأخلاقي الذي يسم العلاقات الاجتماعية، وشخصوا أمراض المجتمع، وأشاروا إلى طرائق الإصلاح.
أما عن جدة هذا المذهب، وعدم انتمائه إلى أحد المذاهب الإسلامية المعروفة من شيعة أو معتزلة أو إسماعيلية أو قرمطية، فنجده في قول التوحيدي: إن زيدا ورفاقه «قد وضعوا فيما بينهم مذهبا»، ولم ينسبهم إلى أحد. ولو كان على دراية بصلتهم بإحدى الجماعات السياسية أو الفكرية أو الدينية، لما تردد في ذكر ذلك. وهذا الرأي الذي يصدر عن شخصية مرموقة عاصرت إخوان الصفاء، وعرفت بعضا من أعضائها البارزين، هو أكثر مصداقية من آراء بعض المؤلفين الإسماعيليين المتأخرين على إخوان الصفاء بنحو قرنين أو أكثر، والذين يؤكدون انتماء الإخوان إلى الإسماعيلية. وهذه مسألة سوف نتعرض لها في حينها عندما نتحدث عن «إسلام إخوان الصفاء» في أحد الفصول القادمة. وأكتفي هنا بالقول: إن فكرة الإمامة، وهي حجر الرحى في الفكر الشيعي عامة والفكر الإسماعيلي خاصة، لم تكن موضع توكيد لدى الإخوان، وهم في أكثر من موضع في رسائلهم يستبعدونها من مذهبهم. ومن ذلك قولهم في الرسالة 47: «واعلم أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة، فليس يحتاجون إلى رئيس يرأسهم ويأمرهم وينهاهم ويزجرهم ويحكم عليهم؛ لأن العقل والقدرة لواضع الناموس يقومان مقام الرئيس الإمام. فهلم بنا أيها الأخ أن نقتدي بسنة الشريعة ونجعلها إماما لنا» (47: 4، 137) وفي الحقيقة، فإن أي تشابه بين فكر الإخوان وفكر فلاسفة الإسماعيلية المتأخرين عليهم، إنما يعكس تأثير الإخوان في الإسماعيلية وليس العكس، وأثناء القرن الرابع الهجري لا نجد أي أثر فكري إسماعيلي بارز كان يمكن له أن يرفد فكر الإخوان.
وهنالك إشكالية في حديث التوحيدي تتعلق بعدد الرسائل، فهو يقول: إنهم قد صنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها. ولكننا نجد أن عدد الرسائل في فهارس المخطوطات التي وصلت إلينا هو اثنتان وخمسون رسالة، على الرغم من أن الإخوان يذكرون في ثنايا الرسائل تارة أنها اثنتان وخمسون وتارة أخرى أنها واحد وخمسون، وفي مطلع رسالتهم الثانية والخمسين وفق الفهرست يقولون: «وهذه هي آخر الرسائل من القسم الرابع، وهي الحادية والخمسون.» كما وأنهم يشيرون إلى تصنيفهم لرسالة إضافية دعوها بالرسالة الجامعة، واعتبروها بمثابة تلخيص للرسائل، من أجل إتاحة الفرصة لمن لم يطلع على الرسائل كلها وفاته بعضها، لربط ما فاته بما تحصل لديه. فما هو عدد الرسائل بالضبط؟ في الحقيقة نحن لا نملك سوى الالتزام بالعدد 52 الوارد في فهرست الرسائل، وهذا ما فعلته في إشارتي إلى مراجع المقتبسات، حيث اعتبرت الرسالة الثانية والخمسين هي الرسالة الأخيرة. أما عن الرقم 51، فيبدو أن الإخوان بعد انتهائهم من كتابة الرسائل، قد بثوها في اثنين وخمسين رسالة، وفيما بعد عندما وضعوا الرسالة الجامعة في وقت لاحق على نشر الرسائل، أرادوا الحفاظ على الرقم 52 وهو رقم يحمل دلالة رمزية، قاموا بضم رسالتين إلى بعضهما في رسالة واحدة، وهما على الأغلب الرسالة الأولى من القسم الثالث المعنونة «في المبادئ العقلية على رأي الفيثاغوريين»، والرسالة التي تليها والمعنونة «في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء»، وجعلوا العنوان المشترك لهما «في المبادئ العقلية». وأما عن الرقم خمسين الذي ذكره التوحيدي، ففي ذلك أكثر من تفسير؛ فإما أن التوحيدي أورد رقما تقريبيا لم يتوخ فيه الدقة، وإما أن ما وصله من الرسائل لم يتجاوز الخمسين، وإما أن الإخوان في ذلك الوقت لم يكونوا قد بثوا الرسالتين الأخيرتين في الوراقين ولم يكن متداولا منها إلا خمسون.
على أنني، في الحديث عن عدد رسائل إخوان الصفاء، أود أن أثير مسألة قد لا نستطيع فيها الوصول إلى قول فصل على ضوء معلوماتنا الحالية؛ وهي انتماء الرسالة الجامعة إلى الرسائل الأصلية للإخوان، وكون مؤلفي الرسائل هم فعلا واضعوها. إن القراءة المدققة لهذه الرسالة لا يمكن إلا أن تقود إلى ملاحظة اختلافها عن رسائل الإخوان، فهي غامضة في تعابيرها، وتفتقد إلى حيوية وسهولة أسلوب الإخوان الذي يتوجه إلى عامة المثقفين لا إلى خاصتهم على الرغم من أن هدفها المعلن هو تلخيص الرسائل والربط بين أفكارها، وتوضيح غاياتها؛ كما أنها تحتوي على عدد من الأفكار التي تتناقض مع ما ورد في الرسائل، وعلى الأخص فيما يتعلق بمسألة الإمامة. ولعل من قرأ الفلسفة الإسماعيلية التي بدأت بواكيرها تتفتح في القرن الخامس الهجري، يستطيع ملاحظة الشبه بين أسلوب فلاسفة الإسماعيلية وأسلوبها. فهل قام بوضعها أحد المفكرين الإسماعيليين ممن أرادوا إعطاء طابع إسماعيلي للرسائل؟ إن الأمر غير مستبعد، لا سيما أن الأفكار الإسماعيلية التي يقال عن وجودها في الرسائل مبثوثة في هذه الرسالة بالذات. أما عن ورود ذكر الرسالة الجامعة في أكثر من موضع في الرسائل، فيمكن تفسيره في هذه الحالة بأن النساخ الذين بدءوا بعد ذلك بنسخ الرسالة الجامعة هذه إلى جانب الرسائل الأصلية، قد حشروا عنوان الرسالة الجامعة إلى جانب بقية العناوين. هذه اللمسة التحريرية على الرسائل تغدو ممكنة إذا عرفنا أن الحلقات الإسماعيلية هي التي صارت معنية فيما بعد بتوريق وتداول الرسائل، بعد زوال تنظيم إخوان الصفاء.
نأتي الآن إلى مضمون الرسائل وموضوعاتها ومنهج الإخوان في صياغتها. فقد تكلم الإخوان في شتى فروع المعارف الفلسفية والعلمية، في زمن لم يكن فيه العلم قد استقل عن الفلسفة. وعلى حد قول التوحيدي فإن الإخوان صنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها. فلقد كتبوا في علم العدد، والمنطق، والفلك، والطبيعيات، والجغرافيا، والبيئة الأرضية، وعلم النفس، والإلهيات، وذلك بأسلوب لا يصعب حتى على قارئ العربية الحديث. يقولون في الرسالة 15: «عملنا في هذه الرسائل، وأوجزنا فيها القول، شبه المدخل والمقدمات، لكيما يقرب على المتعلمين فهمها، ويسهل على المبتدئين النظر فيها.» ويقولون في الرسالة الأولى: إن الفلاسفة «لما بحثوا عن علم النفس بقرائح قلوبهم، واستخرجوا معرفة جوهرها بنتائج عقولهم، دعاهم ذلك إلى تصنيف الكتب الفلسفية. ولكنهم لما طولوا الخطب فيها، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن فهم معانيها، وثقلت على الباحثين أغراض مصنفيها. ونحن قد أخذنا لب معانيها وأقصى أغراض واضعيها، وأوردناها بأوجز ما يكون من الاختصار في اثنتين وخمسين رسالة.» ولكن الإخوان لم يقصدوا إلى إنتاج موسوعة معرفية، وهي الصفة التي تلصق بالرسائل من قبل معظم الباحثين، بقدر ما قصدوا إلى سعادة الإنسان في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى؛ وهذه السعادة تبتدئ باستلام طريق المعرفة.
Bog aan la aqoon