في السجن وحدك؛ لا يزار من ليس له أهل. وإلهام تخطر كالحلم وهي تعرف الآن الحقيقة. شفيت ولا شك من الحب ولعنته. وها هي الجرائد تعيد القصة، بل ها هي تكشف عما خفي عنك من أسرارها. والصور تملأ الصفحات. كريمة، وعم خليل، ومحمد رجب زوج كريمة الأول، وصورتك، والصورة الجامعة للأب والأم، حتى إلهام الملائكية، وبسيمة عمران، الجرائد لا تترك كبيرة ولا صغيرة. في سجن الموت تتحرر من علاقات الحياة كلها فلا تهمك الفضائح. أنت متحرر من الكبرياء والخجل كما كنت وأنت في الرحم. صابر يقبض عليه متلبسا بقتل عشيقته. صابر له قصة. بسيمة عمران إمبراطورة الليل بالإسكندرية. عللته عند اليأس والإفلاس بجاه أب مجهول. البحث عن سيد سيد الرحيمي المزعوم. الحب. القتل. صابر مثال فريد للجمال والرجولة. غزواتك في الإسكندرية. الحب الأعمى الذي رفعه إلى المشنقة. هو مثال أيضا للقسوة والأنانية والدعارة . وكم عجبوا للجانب الخفي الذي كشف عنه حب إلهام. لم يفكر مرة في إغوائها. اعترافاته المتتابعة بين يديها. رفضه استغلالها على أي وجه، وتعففه عن أموالها وهو مختنق بأزمته الأخيرة. أمه أنشأته على مستوى رفيع من الجاه فلم يكن بد من أن يعثر على الأب الوجيه المزعوم، أو أن يرتكب أشنع الجرائم وهي القتل. وانظر كيف ارتاب المحقق في أمرك من أول الأمر. ورصدت حركاتك في الشوارع، وبقالة كلوت بك، وفتركوان. وكيف كلف عم محمد الساوي بأن يحدثك عن خيانة كريمة؟ أيها العجوز الماكر، يا لي من أحمق! والزوج الأول محمد رجب أنكر أي علاقة بالقتيل، ولكن العاشق وقع في الفخ. ترى أأنكر دفعا للشبهات، أم أنه قرر الحقيقة بلا زيادة؟ ليس في الصحف ما يقطع باليقين في هذه المسألة التي ساقتك إلى الهلاك. هل يمكن أن تعرف السر بعد الموت؟ وعم محمد الساوي أخطأ وهو ينسج أكاذيبه مما هدد التدبير كله بالفشل لولا ذهول العاشق؛ فقد اعترف له بأنه شهد بخيانة الزوجة، وفي ذات الوقت أخبره بأنها تزوره فظن لحظة أن الشاب قد فطن إلى التناقض الواضح، ولكن صدمته بحكاية الخيانة أذهلته عن إدراك التناقض الواضح. آه .. هذا حق ويا لي من أحمق! ووصف تسللك للذهاب إلى كريمة بإسهاب. كيف عبرت السور إلى العمارة المجاورة، وكيف ضبطك البواب وهو راجع من صلاة الفجر حتى اضطررت إلى ضربه حتى الإغماء، وكيف انتبه المخبر الذي يراقب الفندق تحت البواكي إليك عند اصطدامك بشحاذ ضرير وسماع صوتك وأنت تعتذر إليه! آه .. ذلك الشحاذ الكريه البشع الأعمى.
الجرائد لا تترك كبيرة ولا صغيرة. إنها تشهر بحماقتك وعماك كما شهرت بأمك. وهذا البحث الذي قامت به مجلة الربيع مع نخبة من رجال الفكر. تحدث أستاذ في الجامعة عن الزواج غير المتكافئ بين عم خليل وكريمة باعتباره المسئول الأول عن الجريمة. وقال كاتب يوميات صحفية: إن المسئول الأول هو الفقر، هو الذي أغرى زوج كريمة الأول ببيعها إلى زوجها الثاني، وإن كريمة شهيدة لصراع الطبقات وفوارقها. وناقش أستاذ بالخدمة الاجتماعية نشأة صابر في أحضان تاجرة أعراض ورواسبها في نفسه. وقال أستاذ علم نفس إن صابر مصاب بعقدة حب الأم، وإنه يمكن تفسير اندفاعه الإجرامي بأمرين مهمين؛ فهو أولا وجد في كريمة بديلا عن أمه فأحبها، وإن لا شعوره أصر على الانتقام لأمه فقتل صاحب الفندق كرمز للسلطة، وطمع في مصادرة أمواله كما صادرت الحكومة أموال أمه. وقال شيخ من رجال الدين إن المسألة في جوهرها مسألة إيمان مفقود، وإن صابر لو بذل في البحث عن الله عشر ما بذله في البحث عن أبيه لكتب الله له جميع ما طمح إليه عند أبيه في الدارين.
قرأ صابر تلك التعليقات بفتور وحيرة، ثم هز منكبيه استهانة وهو يقول: «لكن أحدا لم يعرف إن كانت كريمة صادقة أم كاذبة، ولا إن كان الرحيمي موجودا أم لا.»
ويوما دعي إلى مقابلة محام في حجرة المقابلات بالسجن. وقد خيل إليه أنه رآه قبل ذلك، ولكنه لم يتذكر متى أو أين! وارتاح لوقار شيخوخته فصافحه وهو يتساءل: هل سيادتك المحامي الذي قيل إن الدولة ستختاره لي؟ - كلا.
ثم بصوت منخفض عن الأول تواضعا منه: أنا محمد الطنطاوي.
ولكن صابر وضح جهله بالمحامي الكبير، فسأله بارتباك: من وكل سيادتك عني؟ - اعتبرني صديقا متطوعا.
فقال بنبرة اعتذار: لا تؤاخذني إن صارحتك بأنني لا أملك مالا على الإطلاق!
فابتسم الأستاذ قائلا: أنا الأخ الأكبر لإحسان الطنطاوي مدير إدارة الإعلان بجريدة أبو الهول. - آه .. أتعلم أنني سألت نفسي أين رأيتك من قبل!
ابتسم الأستاذ، فسأله صابر بتأثر: هل سعى لديك لتتولى الدفاع عني؟ - أجل، إذا شئت.
هتف صابر بغتة: إلهام؟!
Bog aan la aqoon