فقال صابر: أو لعله يقيم في جهة نائية، أو خارج القطر. - على أي حال فالاستمرار في الإعلان كما قلت عبث.
ثم وهي تزداد حماسا لفكرتها: كل شيء يتوقف عليه وحده، والزمن هو الذي يعالج مشكلة من هذا النوع، وسوف يعود إليكم عندما يريد ذلك، كما نقرأ أحيانا عن عودة الغائبين.
إنها لا تدري أنه هو المحتاج إلى الغائب وليس العكس، وأنه لا يحتاج إليه حبا في الحرية والكرامة والسلام فحسب، وإنما خوفا من التردي في الجريمة. إنها لا تدري شيئا عن الجريمة التي تتعقبه، ولا المأزق الذي سيجد نفسه فيه عندما تنفد نقوده في القريب. ولم يعد في الطاقة الاستعانة بالمحامين، ومشايخ الحارات، وغير هؤلاء من المرشدين. وإنه يفكر كثيرا في نفض يده من الأمر، ولكن لا يهون عليه الكف النهائي عن البحث. وإذا قرر يوما الكف عن البحث فسوف يندفع في طريق آخر كثور أعمى. قال: فلنجدد الإعلان للمرة الأخيرة.
وانتظر في فتركوان، لا يكاد يمر يوم دون لقاء. صار اللقاء عادة جميلة للطرفين. أجل في النصف الثاني من الليل ينسى كل شيء، ولكن ما إن ينبلج الصبح حتى تنزع نفسه شوقا وحنانا إلى إلهام. وفي محضرها ترتفع به مشاعره إلى آفاق من السعادة والأنس والصفاء، ولكن رغبته الغشوم في كريمة لا تموت، تغفو إلى حين ولكن لا تموت. جاذبية إلهام لا تخمد، ولكن سيطرة الأخرى لا مهرب منها كالقضاء. ولشدة وطأة هذه السيطرة يمقتها أحيانا بقدر ما يعشقها، وكم نادى باطنه إلهام لكي تنقذه، ولكنه نداء اليأس. وشد ما يهرب من هذا السؤال المزعج «من تختار إذا خيرت؟» ولكنه يدأب على جسه كدمل كامن. أحيانا يمقت الليل وهو ينتظر كالأسير. وإلهام سماء صافية يجري تحتها الأمان، وكريمة سماء ملبدة بالغيوم تنذر بالرعد والبرق والمطر، ولكنها أيضا سماء الإسكندرية المحبوبة. وكان يحتسي الشراب على صوت الرعد بالنبي دانيال، ويدفئ قلبه بالقبل. وهي تأبى أن تعترف بأنها فتاة عطفة القرشي، لماذا تخفين الأسرار؟ لأنك العذاب والشيطنة. وقد التحمت في خياله بهدير البحر، ورائحة الماء المالح واليود، وحنين الوطن، ومغامرات الليالي المفعمة بالشهوات، والمعارك البهيمية. وهي مثله تغلي في شرايينها دواعي الفطرة والغريزة والعمى والقحة، لا كإلهام نسمة تستقر في ذروة لا يرقى إليها أحد. ونظر إلى عينيها ترنوان إليه وهي تتخذ مجلسها قبالته. وأبدت ملاحظة عن انشغاله فقال: عندما أستنفد وسائل البحث فلن أجد عذرا للبقاء في القاهرة.
فأسبلت جفنيها وهي تسأله: أقررت متى تسافر؟ - لا أتصور أي حياة خارج القاهرة.
فقالت بصراحة فاتنة: كلام جميل أرجو أن تحققه. - هذا ما أفكر فيه بلا انقطاع. - وأهلك وعملك؟ - لكل مشكلة حل، يخيل إلي ...
ثم واصل حديثه بعد انقطاعة قصيرة: يخيل إلي أنني لم أجئ إلى القاهرة للبحث عن سيد سيد الرحيمي، ولكن لكي أجدك أنت، أحيانا نجري وراء غاية معينة ثم نعثر في الطريق على شيء ما نلبث أن نؤمن بأنه الغاية الحقيقية.
فقالت بصراحة أفتن من الأولى ولكن بوجه مورد: من ناحيتي فأنا مدينة لسيد سيد الرحيمي!
قال بنشوة عجيبة: ما أجملك! ما أجمل الحب! هو الحب الذي يشدني إليك يوما بعد يوم، وهو الذي يكمن وراء كل كلمة من كلماتي إليك مهما يكن موضوعها الظاهري، واسمه لم يجر على لساني قبل الساعة، ولكن لولاه ما كان ثمة مبرر أو معنى لأي كلمة قلتها.
فغمغمت شفتاها بكلمات لم تسمع، فتساءل: أليس كذلك؟ - فقالت مستردة شجاعتها: بلى، وأكثر!
Bog aan la aqoon