كنت غير راضية عن هذا الدرس؛ لأني كنت أعده سبة، وكنت أخشى أن التلميذة التي أدرس لها في المنزل قد لا تمنحني من الاحترام ما يجب لمعلمة تدرس في المدارس ، خصوصا وهؤلاء الثلاث بنات أعلى رأس في مصر إذ ذاك، وقد خشيت أن يعتبرنني من بعض الحاشية، ولكني وجدت من أدبهن وحسن معاملتهن ما غير رأيي، وحببني في التدريس لهن؛ أدب رائع، ووجوه بريئة مشرقة سطع فيها دم الحياة الطبيعية لا الدم الصناعي، فكان النظر إليهن والبقاء معهن متعة، كان يجب أن أدفع أنا عنها عشرين جنيها شهريا على أقل تقدير، لا أن آخذ سبعة جنيهات، فالصفقة إذن كانت رابحة، وقد أرادت الناظرة أن تضر بي فنقمتني، وهكذا كنت بحسب ما تلوكه الألسن من الإشاعات، كالعفريت الذي إذا ضرب ولم تصبه أصبح ماردا - كما يقول عامة الناس خصوصا الفلاحين منهم.
كانت المدرسة والناظرة نفسها تخشاني بعد هذا؛ لأني اتصلت بوزير المعارف على زعمهم، بل وبمن هو أعلى منه.
أما معلمو اللغة العربية فقد زاد سخطهم إذ علموا أني لم أحل محلهم في المدارس فحسب، بل حللت محلهم في منازل العظماء من رجال مصر، فلا بدع أن سميت في نظرهم قاطعة الأرزاق، ومن هنا أصبحت أكره البقاء في وزارة المعارف، وقد كنت بغريزتي الطبيعية ميالة إلى العمل الحر، فكنت تجد بين أوراقي وأنا لا أزال طالبة في معلمات السنية رسما بديعا للمدرسة التي كنت أنوي فتحها على حسابي يوم أتخرج؛ ولهذا كنت - حسب تعبير علي ماهر باشا الأخير - أحفظ استقالتي في جيبي، وأرحب بالظروف التي تدفعني إليها.
نفعني الصدق مرة واحدة في حياتي
تعينت - كما قدمت - يوم تخرجت من المدرسة السنية معلمة بمدرسة عباس بمرتب 6 جنيهات شهريا، وكنت في ذلك الوقت أتقاضى معاشا عن المرحوم والدي، ولم يكن يشترط فينا نحن البنات التوظف أو عدمه، بل كانت الشهادة التي تصدر إلى الرزنامة كل 3 شهور يقول فيها كاتبوها: إنها لم تتزوج ولم تمت، ولم تخرج عن دائرة الحكومة المصرية، ومع أني توظفت فقد كانت شروط الشهادة كلها متوفرة في، ولكني ظننت أنه لا يجوز لي أن أستولي على مرتبين من الحكومة في وقت واحد، فأخذت سركي معاشي، وذهبت إلى الكاتب الذي كنت أستلم منه المعاش، وسألته عما إذا كان يجوز لي أخذ هذا المعاش بعد تعييني معلمة في وزارة المعارف، واستيلائي على مرتبها؟ فقال لي: لا يجوز لك هذا. ولكنه أظهر العطف علي، ورأى أني لو أخفيت هذا لاستطعت أن أتمتع بالمرتبين، فقال لي في شيء من الرأفة والعطف: قدمي إلي خطابا بأنك ستتزوجين وأنا أعطيك مكافأة هي مقدار معاشك مدة 3 سنوات. قلت: ولكني لا أريد الزواج. قال: لست آمرك بالزواج، ولكني أقول لك اكتبي لي خطابا، ولدينا أوامر من الحكومة نفسها تحتم أن لا نتحرى عن هذا، فإذا جاءتني فتاة تسكن بجواري، وأخبرتني أنها ستتزوج، وأنا أعلم حقيقة العلم كذب ما تقول، فإني أصرف لها المكافأة؛ لأنها تصبح بعد ذلك لا حق لها في المعاش، فاكتبي هذا الخطاب اليوم، وبعد أسبوعين أسلم لك المبلغ. قلت: ولكني لا أستطيع أن أكتب أني سأتزوج، لأني لن أتزوج. فاحتد الرجل، وأخذ مني السركي، وهو يقول: «هي الكلمة حتقرصك؟ إن شاء الله ما اتزوجتي.»
ضاع مني إذن بهذا الصدق الحنبلي مبلغ معاشي لمدة 3 سنوات، ولكني لم آسف عليه.
خرجت بعد ذلك من وزارة المعارف كما يشهد التاريخ، وأرادوا نكاية بي أن يحرموني حتى من المعاش، فبقيت بلا معاش ثماني سنوات، وبعد أن خرجت بثلاث سنوات جئت الرزنامة أستلم معاش والدتي، وفي دعابة قصصت على كاتب المعاشات هناك حكايتي مع ذلك الكاتب القديم؛ أي زميله السابق يوم سلمته سركي معاشي، وعجب الرجل من تلك الحكاية المدهشة، وظن أن بها رتوشا، أو أنها بعيدة عن الحقيقة فقال لي: إذا كان هذا صحيحا، فإني أستطيع أن أرد لك معاشك بعد ما لا يزيد عن غمضة عين فاكتبي الطلب الآن. وكان وزير المالية في ذلك الوقت صاحب الرفعة علي باشا ماهر، وخشيت أن يقف في الموضوع فقلت: وهل يعرض هذا على معالي الوزير؟ قال: لا، إن هذا روتين، فأنت لم تتزوجي إلى الآن، ولست بموظفة، ولا من أرباب المعاشات، فلا بد من رد معاشك. فأطعته وكتبت له الطلب، وأنا واقفة أمامه، ورجوته أن يتتبع سيره، وبعد أسبوع جئت أسأل عن طلبي فقيل لي إنه في مكتب الوكيل، وكان الوكيل في ذلك الوقت المرحوم أحمد باشا عبد الوهاب، وكان يعرف ما بيني وبين رفعة ماهر باشا، ويظهر أنه خشي أن يوافق عليه فيلومه الوزير فكتب على الطلب: «موافق، ويعرض على معالي الوزير.» ولما ذهبت إلى المكتب أستعلم عن سير طلبي قيل لي أن أسأل عنه في مكتب معالي الوزير، قلت: إذن أرسل إلى هناك؟ قالوا: نعم.
قلت: لا أخرجه الله من ذلك المكتب بتاتا. ثم ذهبت إلى صاحبي الكاتب الذي أمرني بتقديم الطلب، وقلت له إن الطلب قد أرسل إلى مكتب معالي الوزير، ولا أظنه خارجا إلى يوم الحشر فأرجوك إن بلغك شيء عنه أن تخبرني بما يتم فيه، وبعد أسبوع واحد خاطبني ذلك الرجل تليفونيا، وقال لي أن أحضر إلى الرزنامة لاستلام السركي، فذهبت لاستلام السركي معاشي عن والدي بعد أن خدمت الحكومة عشرين عاما، وقضى الظلم أن أخرج منها بلا معاش، وكان في ذلك الوقت قد مضى على خروجي من وزارة المعارف 3 سنوات، وكانت الوزارة تناوئني فلم تسمح لي بمكافأتي، ولا بأجرة منزلي الذي كان هو كل ما أمتلك في هذه الدنيا؛ ولهذا كنت في أشد حالات الضيق المالي، وإن كان الناس والحمد لله يعلمون عني في ذلك الوقت غير الحقيقة.
صرف لي في ذلك الأسبوع نفسه جملة المتجمد من معاشي عن والدي من يوم أن خرجت من الحكومة أي منذ 3 سنوات، فاستلمت المبلغ الذي كان الرجل قد عرض علي استلامه بالكذب ... استلمته بالحق، وفي وقت كنت في أشد الحاجة إليه، وهكذا نفعني الصدق في حياتي مرة بعد أن أذاقني المر مرارا.
وعلى ذكر المعاش أقول إنه بعد استلامي المعاش بشهور أرسلت إلي وزارة المالية إذنا بمبلغ المكافأة على اعتبار أن لا حق لي في المعاش، فأخذت المبلغ، وكتبت إلى المالية خطابا أقول لها فيه: إني استلمت الإذن الذي أرسلته إلي على اعتبار أنه من معاشي تحت الحساب ؛ إذ مضى علي الآن أكثر من 3 سنوات لم أستلم معاشي الشهري، وكان ذلك المبلغ الذي استلمته يساوي معاشي لمدة 8 سنوات، وقد أخذته وصرفته على التعليم الذي ابتلاني الله بحبه، وكنت أخشى بعد هذا إذا سوي معاشي أن يطلب إلي رد المكافأة، ولم يكن معي منها شيء، وكنت أرسل إلى المالية كل عام خطابا أطالبها فيه بصرف معاشي حتى لا يضيع حقي في المعاش، ولكني لم أكن أسعى وراء ذلك الخطاب لأنفذه خشية أن يطلب مني رد المكافأة إذا سوي المعاش، وظلت المسألة معلقة إلى أن تولى وزارة المالية حضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا، وكان بيني وبين ذلك الرجل العظيم صداقة إذ كنت أدرس لبناته، فكنت مطمئنة على معاشي ما دام تحت يده، ولشد ما كانت دهشتي إذ علمت أن لجنة المالية قد تشكلت برياسته، وقضت بحرماني من المعاش؛ لأن المحكمة حكمت لي بتعويض مالي مقداره 5500 جنيه، وهو منطق غريب من لجنة المالية؛ لأن المحكمة التي حكمت بذلك المبلغ قالت في حيثيات الحكم: إني ظلمت بإحالتي على المعاش؛ ولهذا قضت بتعويضي بذلك المبلغ عن ذلك الظلم، وإذا كانت المحكمة تعتبر أني ظلمت مع بقاء معاشي، فلست أدري - وايم الحق - كيف تحكم اللجنة بحرماني حتى من المعاش لكي يصبح الظلم ظلمين، ولكن هل يستطيع أحد أن يقول للقوي إنك على خطأ؟! أو إن ما فعلته ظلم؟! وقد ذهبت إلى دولة صدقي باشا أكلمه في الأمر في منزله فأظهر شيئا من الأسف، ولكنه لم يفعل شيئا، وأخيرا ذهبت إليه في مكتبه فلم أستطع مقابلته، وقال لي سكرتيره الخاص: لا تيأسي فقد يرجع دولة الباشا عن رأيه إذا استعنت بمن يفهمه الحقيقة. قلت: إنه يعرف من أمري ما لم يعلمه غيره، فمن الذي ألجأ إليه ليفهمه ما هو فاهم؟
Bog aan la aqoon