* بسم الله الرحمن الرحيم
* (بنو زياد وأول من ملك منهم أسباب خروجهم اليمن واختطاط مدينة زبيد)
وأعن يا كريم قال العلامة الخزرجي (1) رحمه الله عن كتاب المفيد الكبير تأليف الملك ظهير الدين (2) جياش بن نجاح الحبشي مما كان سنة تسع وتسعين ومائة أتى إلى المأمون العباسي بقوم انتسب أحدهم إلى تغلب بن وائل او بعضهم إلى سليمان بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، وبعضهم إلى يزيد بن معاوية (3) فقال المأمون : أما الأمويان فيقتلان ، وأما التغلبي فيعفى عنه رعاية لإسمه وإسم أبيه ، وكان اسمه محمد بن هارون ، فقال له محمد بن عبد الله بن زياد : والله يا أمير المؤمنين ما نزعنا يدا عن طاعة ، وان كنت تقتلنا لجناية الأموية فيكم ، فإن الله يقول ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (4).
فاستحسن المأمون كلامه ، فلما كان في المحرم سنة 202 ماءتين واثنتين ،
Bogga 57
ورد على المأمون كتاب عامله على اليمن ، بخروج الأشاعر (1) وعك (2) عن الطاعة ، وهم جل عرب تهامة فوجه المأمون محمد بن عبد الله بن زياد أميرا ، وارسل معه المرواني وزيرا ، والتغلبي حاكما ومفتيا ، وهو جد القضاة آل أبي عقامة قضاة زبيد ، فخرجوا من بغداد في الجيش الذي أنفذه المأمون لحرب ابراهيم بن المهدي فحج ابن زياد ومن معه سنة 203 وسار إلى اليمن ، ففتح تهامة ، واختط مدينة زبيد في شعبان سنة 204 سنة أربع ومائتين وجرت بينه وبين عرب تهامة معارك هامية ، كتب له فيها النصر فأذلهم ، وكان وزيره المرواني فضرب المثل في الدهاء والحزم ، فكان يقال ابن زياد بجعذة قال عمارة : وإليه ينسب مخلاف جعفر وهو الذي اختط مدينة المديخرة (3) بجبل التومان (4) وقد غلطه الجندي (5) وقال : (ان الذي اختط مدينة المذيخرة الأمير جعفر بن ابراهيم بن ذي المنار المناخي ، وإليه ينسب المخلاف والمناخيون ملوك ريمة (6) وقياض ويعرفون في عصرنا بسلاطين قياض) (7) وكان المأمون قد عهد إلى ابن زياد بولاية البلاد التهامية ، وما استولى عليه من بلاد الجبال ، وبادر ابن زياد بإرسال وزيره الأموي إلى بغداد بهدايا (8) وتحف وأموال وفيرة إلى المأمون في السنة الثانية من وصوله اليمن فحج الأموي وقصد بغداد بما حمله من اليمن ، فسر المأمون بذلك وأعاده في السنة السادسة ، وأصحبه بألفي فارس فيهم من مسودة خراسان تسعمائة فارس
Bogga 58
لإخضاع اليمن وبهذا الجيش غلظ أمر ابن زياد واتسع ملكه وشمل نفوذه حضرموت والشحر ومرباط وعدن والتهايم الى حلي بن يعقوب ، وملك من الجبال الجند وأعماله ومخلاف جعفر ، ومخلاف المعافر وصنعاء وأعمالها ونجران وبيحان والحجاز بأسره (1) وقلد مولاه جعفر الجبال واشترط على أهل تهامة ألا يركبوا الخيل ولم يزل مواليا لبني العباس يخطب لهم على المنابر ويحمل إليهم الأموال العظيمة والهدايا النفيسة مالكا لليمن بأسرها إلى أن توفى سنة 245 خمس وأربعين ومائتين.
وسنأتي على ذكر عمال حكومة بغداد على اليمن وتعدادهم تفصيلا في السنين التي خرجوا فيها ، وكان ينبغي ذكرهم تباعا من سنة 206 وما بعدها ، ولكن حكومة بني زياد ستتفرق أنباؤها ، ويصعب على القارىء ضبطها ، وما عمدنا إلى هذا إلا لما قرأنا في كتب التاريخ اليمنية وغيرها ، من أن بني زياد ملكوا اليمن بأسره ، وبعضهم يستثني آخر أيام إسحق بن ابراهيم المعروف بأبي الجيش ، ويقول انه لما أسن وكبر ضعف عن إدارة الملك ، واستخف به بعض ولاته ، فتغلبوا عليه كما سيمر بك قريبا ، وعلى كل تقدير فإنه لا يعقل ان ترسل حكومة بغداد عاملها على اليمن يجبي الأموال وينفذ ما يريد ، ويبطش بمن ناواه وجاذبه حبل سيادته ، وملك اليمن بأسره ، والحجاز بأسره كما زعم عمارة والخزرجي والجندي قابع قبوع القنفذ في قريته التي عمرها على وادي زبيد ، والذي يلوح لنا من خلال الحوادث انه كان يمتد نفوذ بني زياد على غير التهائم في بعض الفترات ، وقد جرى الأستاذ المعاصر الشيخ محمد الحضري في كتابه المحاضرات الإسلامية على منهاج المتقدمين ، كأبي الفدا وصبح الأعشى ، وغيرهم ، فزعم أن محمد بن عبد الله بن زياد صار باليمن كملك مستقل إلا انه كان يوالي بني العباس.
ولما مات محمد بن زياد في التاريخ المذكور قام بالأمر بعده ولده
Bogga 59
ابراهيم بن محمد فقام بالأمر أتم قيام ، ولم يزل مالكا لليمن سائرا سيرة حسنة إلى أن توفي سنة 289. هكذا في الخزرجي (1) وقرة العيون (2) وشرح البسامة «اللآلى المضية» للسيد أحمد بن محمد الشرفي (3) وغيرها ، وهو يخالف ما سيأتي فإن الروايات متضافرة ، على أن ظهور الإمام الهادي إلى الحق سنة 284 في أيام أبي الجيش وقام بالأمر بعده ولده زياد بن ابراهيم بن محمد ولم تطل مدته قال الخزرجي : ولم أقف على تاريخ وفاته.
* ابو الجيش اسحق بن ابراهيم (4)
وبعد وفاة زياد المذكور قام أخوه اسحق بن ابراهيم بن زياد ويعرف بأبي الجيش فطالت مدته في الملك وبلغ فيه نحوا من ثمانين سنة ، فتشتت عليه أطراف البلاد ، وتغلب عليه كثير ممن كان تحت يده منهم صاحب صنعا اسعد (5) بن ابي يعفر بن إبراهيم بن محمد بن يعفر بن عبد الرحيم الحوالي ، ولكنه كان يخطب لأبي الجيش ويضرب الدراهم على اسمه ويستبد بحاصلات البلاد ، فلم يكن يحمل لأبي الجيش شيئا. قال الخزرجي : وكان مبلغ إرتفاع أموال أسعد بن أبي يعفر لا يزيد عن أربعمائة ألف دينار في السنة يصرف معظمها في سبيل المروة لوافديه وقاصديه.
وفي أيامه ظهر الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين وكان خروجه المرة الأولى سنة 280 ، فوصل إلى الشرفة من بلاد نهم ، وأقام بها مدة ،
Bogga 60
وعاد إلى بلاده بجبل الرس ، ولكن اضطراب أحوال اليمن اضطر كثير من رجالها المفكرين وزعمائها النابهين إلى استدعائه واستقدامه مرة أخرى ، وفي مقدمتهم والي صنعاء وحاكمها ابو العتاهية مولى آل يعفر وسيأتي تفصيل ذلك.
وممن امتنع على أبي الجيش وتنكر له من ولاة تهامة الأمير سليمان بن طرف صاحب عثر (1) ومبلغ ارتفاعه في السنة خمسمائة الف دينار عثرية ، وكان مع إمتناعه عن الوصول إلى ابن زياد يخطب له ويضرب السكة باسمه ، ولا يصل إليه ، وبعد امتناع من امتنع بقي لأبي الجيش من البلاد من عدن إلى شرجه حرض (2) نحوا من عشرين مرحلة طولا ، ومن غلافقة (3) إلى أعمال صنعاء عرضا نحو خمس مراحل قال عمارة في مفيده (4) (رأيت مبلغ ارتفاع أعمال ابن زياد بعد تقاصرها وذلك سنة 366 ألف ألف دينار عثرية خارجا عن ضرائبه على مراكب الهند من الأعواد المختلفة والمسك والكافور والنيل ، وما أشبه ذلك ، وخارجا عن ضرائبه على جزيرة دهلك (5) وهي خمسمائة وصيف وخمسمائة وصيفة من النوبة والحبش. وخارجا عن ضرائب العنبر ، في السواحل من باب المندب إلى الشحر وخارجا عن ضرائبه على معادن اللؤلؤ) انتهى.
وفي أيام أبي الجيش ظهر الطاغية علي بن الفضل القرمطي ، وقيل انه هو الذي قتل الأمير المذكور (6) وقيل بل هرب منه ومات سنة 391 وقيل انه
Bogga 61
مات سنة 371 وليس بشيء لما سيأتي عند ذكر موت الحسين بن سلامة.
وبموت أبي الجيش طوى التاريخ صفحة آل زياد وتلونت صفحاته وتشعبت مناحيه ، وانتقل الملك إلى عبيد آل زياد (1) ثم إلى عبيد العبيد وقد دفنت القرون أخبار هذه الإمارة ، ولم يصل إلينا من أخبارهم إلا نتفا يسيرة ، وذلك ما سطرناه ، ولعل القارىء يستنتج من أخبار الخراج وجمل الضرائب بعض ما يريد عن الحركة العمرانية وسير التجارة وسعة النفوذ ، ولكن بصورة إجمالية ، وبقدر ما فات المؤرخ من استيعاب المادة اللازمة يضعف الاستنتاج ويتعذر الحكم ، والذي يلوح لنا انه كان لكل جهة من جهات القطر دار ضرب للنقود وشبه استقلال للولاة كما ان سير الحوادث وأسلوبها ، تؤيد نظرية القائلين باستقلال آل زياد لولا ما سيأتي ، وكيف كان فإن أخبار هذه الحكومة أو الإمارة غامضة جدا ، وعسى أن نجد في غير ما قد عثرنا عليه من المصادر ما يعين على البحث ، ويلقي النور على ما تكاثفت عليه ظلمات القرون والله أعلم.
* ايام ابن أبي الجيش : هند بنت أبي الجيش : مولاهم رشيد الزمام مملوك رشيد الحسين بن سلامة
خلف أبو الجيش صبيا اسمه عبد الله ، وقيل زياد ، وقيل ابراهيم فقام بكفالة الصبي المذكور هند بنت ابي الجيش (2) ومملوك لأبي الجيش حبشي إسمه رشيد الزمام ، ولكنها لم تطل أيام رشيد المذكور ، وهلك من قريب ، وكان له عبد نوبي إسمه الحسين بن سلامة نسبة إلى أمه ، وكان حازما عفيفا مقداما حسن السيرة كبير النفس عالي الهمة قد علت منزلته وامتثلت أوامره ،
Bogga 62
واشفقت النفوس من هبيته في حياة سيده (1)، لما عرف من نجابته وصرامته ، وسداد طريقته ، فكان هو المتولي لجميع شؤون سيده فلما مات سد مسده ، وذب عن ملك مواليه ووازى الصبي ، واخته ، وملك آل زياد يومئذ متضعضع الأركان ضعيف السلطان تنتاشه سباع الأطماع ، وتمزقه أيدي المتغلبين في جميع البقاع فقام الحسين بن سلامة ، وابدى من المهارة في علاج الدولة ، ما يعجز عنه كبار الرجال ، رغما على سواد لونه ويد النخاس التي عركت اذنه :
قد يدرك الشرف الفتى ولباسه
خلى وجيب قميصه مرقوع
غزا المتغلبين من ولاة الأطراف ، ونازل أرباب الحصون ، حتى أتوه طائعين ، وحملوا إليه الأتاوة مذعنين ، وأعاد دولة آل زياد سيرتها الأولى ، قال الخزرجي : ولم تبق دولة في اليمن ولا حصن إلا استولى عليه واستناب فيه من يرضاه (2).
وفي كلام الخزرجي تجوز ، أو مجازفة على الأصح ، والأرجح ما ذكره الديبع في كتابه بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد عند ذكر الحسين بن سلامة قال : (وكانت دولتهم قد تضعضعت أطرافها وغلب ملوك الجبال على الحصون والمخاليف فحاربهم الحسين حتى رجع إليه غالب مملكة ابن زياد الأولى» (3).
ولم يزل الحسين بن سلامة في الملك بالنيابة عن الطفل إلى أن توفى سنة 402 وقيل ثلاث واربعمائة.
وكان رحمه الله عادلا كريما ، حسن السيرة طيب السريرة ، كثير
Bogga 63
المبرات كلفا بالعمران ، أختط مدينة الكدرا في وادي مهام ، ومدينة المعقر ، على وادي ذؤال ، وعمر الجوامع الكبار ، والمنائر الطوال في المدن ، وحفر الآبار والقلب العادية ، وعمل المصانع وبنى الأميال والفراسخ والبرد في الطرقات ، من حضرموت إلى مكة نحو ستين مرحلة في كل مرحلة جامع (1) ومأذن وبئر ، وجدد عمارة جامع عدن وعمر مسجد الجند المشهور ، وقال الخزرجي نقلا عن عمارة ما لفظه : وللحسين بن سلامة في طريق مكة العليا عدة مآثر ، فيها جامع الجوه ثم مسجد الجند المذكور ، ثم ذي اشرق ، ثم إب ، ثم النقيل ، ثم ذمار ، ثم ما بين ذمار وصنعاء مسافة خمسة أيام (2)، في كل مرحلة منها بناء ، ثم جامع صنعاء وهو جامع عظيم ، ثم من صنعاء إلى صعدة عشرة أيام ، في كل مرحلة من ذلك جامع (3)، ثم عقبة الطائف وهي مسيرة يوم للطالع من مكة ونصف يوم للهابط إلى مكة عمرها حسين بن سلامة عمارة متقنة يمشي في عرضها ثلاثة أجمال بأحمالها ، ثم أورد مآثره على طريقي تهامة الساحلية والوسطا ، وسور مدينة زبيد ، وهو أول من سورها ، وقد أطال المؤرخون فيه ، حتى قال الخزرجي : وأخبار الحسين بن سلامة في اليمن تستغرق مجلدا بل مجلدات : وكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة
Bogga 64
ولا شك أنه من العظماء الذين أثبتوا نبوغهم وتفوقهم بالواقع الملموس ، فإنه فتح المعاقل وارشد الضلال ، وأدى الأمانة لمواليه ، ووفاء بالعهد ، ونهض بمشروع الزعامة فظفر بغنيمة المسجد والثناء الصالح.
وآثار الرجال إذا تناهت
الى التاريخ خير الحاكمينا
واستأثر بغاية وأسما من كل غاية ، فكان يعمل الخير للخير ويتعب نفسه ليسعد المجموع ، وكان عصاميا ، ولو لم يكن كذلك ، لما قدر على إعادة ناموس الدولة الزيادية ، بعد ذهابها ولما استطاع أن يقف في وجوه كثير من المنازعين والمواثبين لتلك الدولة التي شاخت وذوى غصن مجدها ، وانهار بنيان عظمتها ولم يبق لها من النفوذ والسطوة ما تحمي به حماها.
* آخر طفل من بني زياد مرجان العبد واحداثه
قال الخزرجي (1): ولما مات الحسين بن سلامة انتقل الملك إلى طفل آخر منهم قال عمارة أظن اسمه عبد الله فكفلته عمة له وعبد حبشي اسمه مرجان ، وهو من عبيد الحسين بن سلامة فاستقرت الوزارة لمرجان ، وكان لمرجان عبدان حبشيان رباهما صغارا ، وولاهما كبارا ، وهما نفيس ونجاح ، وكان نجاح يتولى أعمال الكدرا (2) والمهجم (3) وبيش وهذه الأعمال الأربعة جل الأعمال الشامية غير زبيد ، وكان نفيس يتولى تدبير الحضرة ، فوقع التنافس بين نفيس ونجاح عند مرجان على تدبير الحضرة وكان نفيس ظلوما غشوما فكانت القلوب تنفر عنه طبعا وتميل إلى نجاح لرفقه ورأفته وعدله غير أن مرجان مولا هما كان يميل إلى نفيس ويحبه ، وكان ابن زياد وعمته يفضلان نجاحا على نفيس ، فلما علم نفيس بميل ابن زياد وعمته إلى نجاح
Bogga 65
ومكاتبتهما له شكاهما إلى سيده مرجان ، فقبض مرجان عليهما وسلمهما إلى نفيس فأخذهما وعمر عليهما جدارا وهما قائمان يناشدانه الله عز وجل حتى ختمه عليهما ، فكان آخر العهد بهما وذلك سنة 407 سبع وأربعمائة (1)، وهكذا ختمت الحكومة الزيادية بمأساة مريعة بعد أن حكمت زيادة عن قرنين فسبحان من يغير ولا يتغير :
وكان حصن وإن طالت اقامته
على دعائمه لا بد مهدوم
وكان نجاح يوم هذه المأساة غائبا بالأعمال الشامية ، وكان هذا الولد وعمته آخر من ولي من آل زياد ومدة ولايتهم مئتا سنة وثلاث سنين من تأريخ اختطاط مدينة زبيد سنة 204 ، وكان بنو زياد لما علموا باختلال الدولة العباسية من قتل المتوكل ، وخلع المسنعين تغلبوا على ارتفاع اليمن ، وركبوا بالمظلة وساسوا قلوب الرعية بإبقاء الخطبة لبني العباس ، ولم يزالوا على ذلك إلى التاريخ المذكور والله أعلم.
قال الجندي : وذكر المعلق أن الحسين بن سلامة توفى سنة 304 بزيادة سنة على ما ذكره عمارة.
(واعلم أن هذه الأخبار يدخلها الصدق والكذب والزيادة والنقصان (2)) وسبب ذلك اختلاف النقل ، ثم اختلاف كتب التاريخ ، قد يكون المصنف واحدا والتصيف واحدا ، ويختلف ما يوجد باحدى النسخ عن الأخرى ، ويعرف
Bogga 66
ذلك العارف ، فربما ينكر المنكر ، ما نقلت عن المفيد وغيره ولا ينسب ذلك لقصوره على الاطلاع إلى كتب التاريخ والنظر في عدة نسخها ، فقد تمحص لك ان ملك بني زياد أستقل عن مواليهم من سنة 203 إلى سنة 371 مائة وثمانية وستون (1) سنة (168) وبالنيابة عنهم ثمانية وثلاثون سنة 38 لقيام ابن سلامة ، ثم كانوا أعوانا لمواليهم متأدبين معهم ، حتى كان من انيس المذكور سابقا ما قدمنا ذكره قال الديبع في كتابه بغية المستفيد (2): وقد ضبط الجندي نفيسا هذا فجعله انيسا بفتح الهمزة وكسر النون وهو وهم فليتنبه له والله أعلم.
* انتقام نجاح واستيلاؤه على زبيد
ولما بلغ الخبر إلى نجاح استنفر الأحمر والأسود لحرب نفيس وقتاله ، وقصده إلى زبيد في جموع عظيمة ، والتحم القتال بينهما في عدة وقائع ، منها يوم رمع (3) ويوم فشال (4) وهما على نجاح ومنها يوم القعدة (5) وهو على نفيس ، ومنها يوم العرف (6)، وفيه قتل نفيس على باب زبيد بعد أن قتل من الفريقين زهاء خمسة آلاف رجل ، ودخل نجاح زبيد وملكها في ذي القعدة سنة 412 ، وقبض على مرجان مولاه وقال له ما فعلت مواليك (7) وموالينا
Bogga 67
قال : هما في هذا المكان ، فاخرجهما نجاح ، وجهزهما ، وصلى عليهما وجعل مرجان وجثة نفيس المقتول موضعهما ، وعمر عليهما ذلك الجدار حتى ختمه جزاء وفاقا :
ونابش الموتى له ساعة
تأخذه انبش من نبشه
وتم لنجاح ملك البلاد من التاريخ المذكور ، وركب بالمظلة وضرب الدراهم باسمه ، وكاتب خليفة بغداد ، وبذل له الطاعة ونعت بالمؤيد نصير الدين ، وضبط أمر التهائم ، وخوطب بالملك واستمر كذلك ، حتى سمه علي بن محمد الصليحي ، على يد جارية أهداها إليه كما سيأتي ان شاء الله تعالى وفي أيام نجاح انتقضت معظم البلاد التي كانت خاضعة للحسين بن سلامة ، وتغلب كل رئيس على ما تحت يده.
* ذكر عمال بني العباس على اليمن
لما كانت أخبار بني زياد غير مرتبة على السنين اضطررنا إلى سرد اخبارهم على ذلك الأسلوب ، وخالفنا المنهاج الذي رسمناه لأنفسنا في كتابة هذا التاريخ ، وها نحن نعود إلى خطتنا الأولى والله ولي التوفيق.
قال الخزرجي وغيره : ودخلت سنة 206 فيها عزل الافريقي (1) عن اليمن بنعيم بن الوضاح الأزدي ، والمظفر بن يحيى الكندي اشتركا في العمل ، وقدما صنعاء في صفر من السنة المذكورة ، وسار المظفر إلى الجند ، وأقام بها مدة يجبي مخاليفها (2) ثم رجع إلى صنعاء ومات بها بعد أيام من رجوعه وصار الأمر جميعه لنعيم بن الوضاح ، إلى أن عزل بمحمد بن عبد الله بن محرز مولى المأمون ، فقدم اليمن سنة 208 وأمر ابنا له يقال له ابو
Bogga 68
الحميد يجبي الجند وكان في ولايته ضعف فخرج نحو الحجاز واستخلف عباد بن عمر الشهابي ، فقام بالأمر حتى قدم عليه عامل الخليفة اسحق بن العباس من ولد عبد الله بن عباس ، وكان قدومه آخر رجب سنة 209 فأساء السيرة وعسف الرعية ، وظهرت منه اخلاق منكرة غليظة. ونال من أهل اليمن (1) كل منال ، وتعصب عليهم تعصبا لم يفعله أحد قبله ، كان لا يسأل أحدا عن نسبه فينسب إلى حمير إلا قتله ، ولم يترك لهم ذكرا حتى أمر بقلع الخوخ الحميري مما (2) أسرف به في التحامل عليهم.
وفي أيامه في سنة 216 (3) كانت الزلزلة الشديدة بصنعاء وعدن انهدمت منها المنازل ، وخربت القرى وهلك عالم لا يحصى ، ولم يزل هذا العامل يمرح في طغيانه لا يخاف خليفة بغداد لبعده ولا غيره حتى هلك بهذا العام ، واستخلف عند موته ولده يعقوب فلم تصف له اليمن ، وكان بينه وبين أهل صنعاء خلاف أفضى إلى قتال ، قتل فيه جماعة من أهل صنعاء ، ثم انهزم إلى ذمار ، فعزله المأمون بعبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس ، فقدم في المحرم سنة 217.
ولم يزل بها إلى أن مات المأمون سنة 218 فلحق بالعراق واستخلف عباد بن (4) عمر الشهابي ، ولما ولي المعتصم أقر الشهابي على عمله عدة سنين (5)، ثم عزله بعبد الرحيم بن جعفر بن سليمان الهاشمي ، ثم عزله المعتصم بمولاه جعفر بن دينار وذلك سنة 225 ، فأرسل جعفر خليفة له يقال منصور بن عبد الرحيم التنوخي ، فقدم اليمن في صفر من السنة
Bogga 69
المذكورة ، فضبط البلاد ووجه العمال إلى المخاليف ، وقدم عليه عبد الرحمن بن علي بن عيسى (1) بن ماهان ، وقد أشرك معه في العمل ، فأقام مع منصور في اليمن برهة ، ثم عزل جعفر بن دينار بايتاخ التركي ، مولى المعتصم ، فأقر منصور ، وعبد الله على عملهما فلم يزالا إلى أن مات المعتصم سنة 227.
* أول دولة الحواليين (2)
لما تولى الخلافة الواثق بن المعتصم ، أقر ايتاخ التركي على اليمن فوجه أبا العلاء العامري ، فلما وصل صعدة أرسل الأمير يعفر (3) بن عبد الرحيم الحوالي غلامه طريف بن ثابت في عسكر نحو صنعاء فخرج إليهم منصور بن عبد الرحيم في أهل صنعاء فهزمهم وقتل من موالي آل يعفر بن عبد الرحيم نحوا من ألف رجل وأسروا آخرين ، فضرب أعناقهم ، وقدم أبو العلاء صنعاء بعد الوقعة فأقام بها حتى مات واستخلف أخاه عمر بن العلاء ، فأقام بها مدة ثم ان ايتاخ استعمل على اليمن هرثمة ، مولى المعتصم ، فوصل في آخر المحرم سنة 230 ثلاثين وماءتين ، ومكث أياما ثم خرج لمحاربة الأمير يعفر بن عبد الرحيم ، وهو بشبام ، فحاربه أياما ، وعاد إلى صنعاء ثم إن الواثق عزل ايتاخ عن اليمن واستعمل عليها جعفر بن دينار ، فسار إلى اليمن وحاصر يعفر بن عبد الرحيم مدة بشبام ، ثم كان الصلح بينهما ، وعاد العامل إلى صنعاء فلبث فيها إلى أن توفى الواثق آخر ذي الحجة سنة 230 (4).
Bogga 70
وفي أنباء الزمن (1) ان الذي حارب يعفر بن عبد الرحيم هو هرثمة وانه بقي إلى أن مات الواثق سنة 230 ، وقام بعده المتوكل فاستعمل على اليمن جعفر بن دينار ، فأقام فيها أياما واستخلف ولده محمد ، وخرج إلى العراق ، فلم يزل ولده محمد على اليمن حتى قتل المتوكل واستمر على اليمن مدة المنتصر والمستعين والمهتدي إلى أيام المعتمد ، فكتب الموفق وكان هو المتولي شؤون الخلافة إلى الأمير محمد بن يعفر الحوالي بولاية اليمن فوجه عماله على المخاليف ، وفتح حضرموت ، وكانت قد تمنعت من قبل ، قال الخزرجي : هذه رواية الشريف ادريس (2) في كتابه «كنز الأخبار» ، وقال الجندي : لما مات الواثق وقام بالأمر بعده المتوكل أقر جعفر بن دينار على اليمن مدة ، ثم عزله واستعمل حمير بن الحرث فلم يتم له الأمر مع الأمير يعفر بن عبد الرحيم وعاد حمير إلى العراق هاربا ، واستولى يعفر بن عبد الرحيم على صنعاء ومخاليفها ، وقتل المتوكل عقيب ذلك إلى أن قال ولما ولي الخلافة المعتمد على الله واستوثقت له البلاد ، وامتدت أيامه ، أخذ البيعة له في اليمن الأمير محمد بن يعفر بن عبد الرحيم الحوالي ، وتابع له الخطبة ، فلما وصل خبره إلى المعتمد كتب إليه بنيابته على صنعاء ومخاليفها ، فغلب على صنعاء والجند وحضرموت وكان مع ذلك يوالي ابن زياد ويحمل إليه الخراج ، ويظهر أنه نائب عنه لعجزه عن مقاومته ، وكان وصول كتاب المعتمد سنة 257 سبع وخمسين ومائتين ، فأقام على عمله إلى سنة 262 ، وعزم للحج واستخلف ابنه ابراهيم بن محمد.
وفي أيامه حصل في صنعاء سيل عظيم وهو السيل الثاني في الإسلام وأخرب دورا كثيرة.
قال الجندي (3): وفي سنة 265 بنى الأمير محمد بن يعفر جامع صنعاء
Bogga 71
على الحال الذي هو عليه الآن (1) (في القرن السابع)، ولم يزل ابراهيم بن محمد بن يعفر على ولايته الى سنة 270 ، ثم أمره جده يعفر بن عبد الرحيم بقتل محمد بن يعفر واحمد بن يعفر فقتلا بعد المغرب ، في صومعة شبام فانتشرت على يعفر بن عبد الرحيم الأمور ، وخالف عليه الفضل بن نفيس المرادي بالجوف وولد طريف غلامه بيحصب ورعين والمكر مال ببيحان ، ومالوا إلى جعفر بن احمد المناخي ، فجهز لمحاربتهم ابراهيم بن محمد بن يعفر ، فكانت الحرب بينهم سجالا واستعمل بن يعفر على الجوفين الدعام بن ابراهيم ، فتغير له الدعام ، ونصب له الحرب فسار إليه عسكر ابراهيم بن محمد بن يعفر والتقوا بورود فهزمهم الدعام وقتل منهم كثيرا ، وفي كفران الدعام لما أولاه هذا الأمير الحوالي يقول الشاعر :
Bogga 72
وقدم (1) عهد يعفر بن ابراهيم بن محمد بن يعفر على صنعاء ومخاليفها من صاعد بن مخلد وزير المعتمد ، فاعتزل ابراهيم بن محمد عن الإمارة وولي ابراهيم بن عبد الرحيم فأقام بصنعاء مدة واستعمل على صنعاء ولاة كثرا ، وكان أكثر مقامه بشبام ، ثم اجتمع أهل صنعاء من الأبناء وغيرهم والشهابيين على عمال ابي يعفر فقاتلوهم واخرجوهم من صنعاء ونهبوا دار أبي يعفر واحرقوها ، ولم يلبث ابو يعفر ان قتل بشبام آخر المحرم سنة 277 ، فقام بالأمر بعده ابن عمه عبد القاهر بن احمد بن يعفر اياما حتى قدم من العراق احمد بن الحسين جفتم عاملا على صنعاء ، وكان قدومه في صفر سنة 279 ، فقاتله الدعام في صنعاء فهزمه جفتم ، ودخل عليه صنعاء وطرده عنها ، ودامت صنعاء في يد جفتم الى ان توفى المعتمد في رجب سنة 279 ، فقام بالخلافة المعتضد بن الموفق طلحة فأقر جفتم على ولايته بصنعاء فلم يزل بها إلى سنة 282 ، وكان حازما شديد الحذر ولما عاد إلى العراق في السنة المذكورة ، وثب الدعام على صنعاء ثم هرب منها ، ورجع الأمر الى بني يعفر ، ولم يزل إبراهيم بن يعفر على صنعاء ومخاليفها ، وهو يهادن ابن زياد ولم تطل مدته ، وقام بعده إبنه أسعد بن ابي يعفر بن ابراهيم بن محمد يعفر بن عبد الرحيم ، وفي أيامه ظهرت القرامطة فخرج قوم من اليمن إلى
Bogga 73
جبل الرس بالمدينة فقدم مولانا الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام (1).
* ظهور الدولة العلوية الإمام الهادي نسبه ومناقبه آثاره العلمية فتوحه وحروبه
مؤسس الدولة العلوية الامام المجتهد المطلق الهادي الى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب عليهم السلام قال فيه الفقيه حميد الشهيد (2) رحمه الله في كتابه الحدائق الوردية (3) بعد ان ذكر صفاته ونعوته (فضله عليه السلام لا يخفى ونور مجده لا يطفى ، وظهور حاله يغني عن ذكر محاسن خلاله ، إلا انا نذكر من أحواله طرفا ، رعاية لحقه الواجب ، وهو الذي فقأ عين الضلال ، وأجرى معين العلم السلسال ، وضارب عن الدين كافة الجاحدين ، حتى عرف الله من أنكره ، ومناقبه أكبر من أن تنظم في سلك المدائح ، وقد روينا عن بعض علمائنا رحمهم الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال يخرج من هذا النهج وأشار بيده إلى اليمن رجل من ولدي اسمه يحيى الهادي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، يحيي الله به الحق ويميت به الباطل : فكان عليه السلام هو الذي نشر الاسلام في أرض اليمن بعد أن كانت ظلمات الكفر فيه متراكمة ، وموجات الالحاد متلاطمة ، حتى انهل من نحورهم الأسل الناهلة ، وأنقع من هامهم السيوف الضامية فانتعش الحق بعد عثاره ، وعلا بحميد سعيه مناره فسلام الله على شخصه الكريم)
Bogga 74
وقال فيه السيد صارم الدين الوزير (1) فى بسامته (2)
وفى إمام الهدى الهادي المتوج
بالعليا اكرم داع من بني مضر
ومنها في ذكر وقائعه عليه السلام :
وفي ابن فضل ومن لبى لدعوته
وفي مسودة تدعو إلى سقر
ذو الفقار سيف امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام خرج بعد الإمام الهادي إلى اليمن وتقدم الكلام على ذي الفقار عند كلامنا على صمصامة عمرو بن معدي كرب الزبيدي والجفر جلد ثور صغير مكتوب فيه علم ما سيقع لأهل البيت عليهم السلام مروى عن جعفر الصادق قال أبو العلاء المعري :
لقد عجبوا لأهل البيت لما
أتاهم علمهم في سك جفر
كان خروج الإمام الهادي عليه السلام إلى اليمن المرة الأولى سنة
Bogga 75
280 (1) فوصل إلى الشرفة قرب صنعاء ومكث بها مدة ، اشتغل فيها بنشر مبادىء الإصلاح وتهذيب العقول ، ولكن الأمة كانت اذ ذاك في سبات عميق وجمود جاف ، وغفلة سادت على العقول واستولت على الأفكار ، فمنعتها عن التفكير في الوسائل المخلصة من آفات المقاصد الذاتية والمطامع الشخصية ، فساءه ما عرف من خراب في الذمم ، وفساد في الضمائر ، وتيقن ان الاصلاح لا يستسيغونه بحال وما لبث أن غادر إلى بلده بالحجاز وبقيت الأمة ترزح بأصارها (2) وتنوء بأعبائها وشملها ما لا يطاق من البلاء والأرزاء والفتن العمياء ، والغارات الشعواء كف (3) تقصيرهم ومعاندتهم للحق وأهله ، ولما اشتد بهم الحال وأضربهم البلاء كتبوا إلى الإمام الهادي يسألون النهوض اليهم ، ويعلمونه بتوبتهم ورجوعهم إلى الله من خطاياهم ، وعند ذلك رأى من الواجب عليه تلبية دعوة أهل اليمن وامتشاق الحسام لإصلاح الفاسد ، وتقويم مناد (4) المعاند ، واحياء ما اندرس من معالم الدين ونصر شريعة سيد المرسلين واقتحام الغمرات في سبيل ذلك :
فالحق أخفى ما يكون مجردا
وتراه أوضح ما يكون مدرعا
ولم يحفل بما كان من تقصير اليمنيين وخذلانهم ، ولا بالى بما أمامه من العقبات ، بوجود الطامحين إلى السيادة من أهل اليمن والمتغلبين من غيرهم ، واثقا بنفسه معتمدا على ربه ، لا يثنيه عن وثبته العلوية ، طول المدى ووعورة الطريق غايته احدى الحسنيين الفوز أو الشهادة ولسان الحال منه تنشد :
Bogga 76