إهداء الكتاب
مقدمة
الجزء الأول: الترنسفال
الإقليم
الزراعة والمعادن
السكان
أشهر المدن
التجارة
إيرادات الحكومة
عوايد البوير وصفاتهم
الجيش وقانون العسكرية
اكتشاف الذهب
الزنوج
الجزء الثاني: تاريخ الترنسفال
أصل البوير1
احتلال إنكلترا الأول
الرحيل إلى الناتال
الملك شاكا
حادثة دنجان
المهاجرة من الناتال
الأورنج
الرحيل إلى الترنسفال
الرئيس برجر
فظائع البوير
سكسوني ومقتل يوحنا
تداخل إنكلترا
الانضمام
طلب الاستقلال
أسباب الثورة
طلب الصلح
شركة أفريقيا الجنوبية الإنكليزية (الشار ترد)
مشروع المستر سسل رودس
أسباب حرب سنة 1899
إهداء الكتاب
مقدمة
الجزء الأول: الترنسفال
الإقليم
الزراعة والمعادن
السكان
أشهر المدن
التجارة
إيرادات الحكومة
عوايد البوير وصفاتهم
الجيش وقانون العسكرية
اكتشاف الذهب
الزنوج
الجزء الثاني: تاريخ الترنسفال
أصل البوير1
احتلال إنكلترا الأول
الرحيل إلى الناتال
الملك شاكا
حادثة دنجان
المهاجرة من الناتال
الأورنج
الرحيل إلى الترنسفال
الرئيس برجر
فظائع البوير
سكسوني ومقتل يوحنا
تداخل إنكلترا
الانضمام
طلب الاستقلال
أسباب الثورة
طلب الصلح
شركة أفريقيا الجنوبية الإنكليزية (الشار ترد)
مشروع المستر سسل رودس
أسباب حرب سنة 1899
تاريخ الترنسفال
تاريخ الترنسفال
تأليف
ميشيل أغيا
سعادة يوسف بك متوره.
إهداء الكتاب
سيدي
هذا باكورة أعمالي وبكر أفكاري، دفعني إلى تأليفه نزوع إلى التشبه برجال الأدب وأصحاب الأقلام؛ تطفلا على موائدهم، مع علمي الأكيد بفتور القريحة وقلة البضاعة، لكن لي في حسن القصد والغاية ما يضمن لي العذر في تقصيري عن بلوغهما. وقد لاقيت من تنشيطك إياي أثناء الاشتغال به ما شدد عزيمتي الواهنة وأثار همتي الوانية، فرأيت من الواجب علي أن أقابل الفضل بالشكر، فأهديت هذه الباكورة إليك، مصدرة برسمك الكريم عوذة لها، فاقبلها غير مأمور؛ إن في قبولها تنشيطا لهذا العاجز، لا زلت له زخرا.
ابن أختك
ميشيل أغيا
خريطة الترنسفال
مقدمة
لما نشبت الحرب الأخيرة بين الترنسفال وبريطانيا العظمى، اتجهت أنظار العالم المتمدن وجهة الأولى منهما، وتشوق قراء الجرائد ومحبو الأخبار إلى الوقوف على أحوالها، وودوا لو يكون لديهم من الكتب ما يستعيضون به على معرفة البلاد وسكانها، وشيء من تاريخها وجغرافيتها، ويرجعون إليه في تعيين مواقع مدنها المشهورة ومضايقها وحصونها، التي كثر ورود أسمائها في الرسائل البرقية التي نقلت أخبار الحرب.
وشعرت بهذه الحاجة في من شعر بها، فرأيت أن أقدم لجمهور القراء كتابا جمعت فيه زبدة أخبار تلك البلاد بمشتملاتها، مبينا فيه عادات أهلها وعقائدهم، وأحوالهم الاجتماعية، وما هم عليه من الحضارة والمدنية، وأتيت على طرف من تاريخها وكيفية استعمارها، وما فيها من مصادر الثروة، إلى آخر ما يهم الوقوف على معرفته، ملتزما في جميعه الإيجاز مبتعدا عن التطويل الممل.
وجل ما أتمناه أن يقع هذا الكتاب موقع القبول والاستحسان من المطلعين عليه، وأن يتجاوزوا ما فيه من الخطأ والهفوات؛ ففوق كل ذي علم عليم.
الجزء
الترنسفال
موقعها الجغرافي، حدودها ومساحتها
الترنسفال بلاد واقعة في جنوب القارة الأفريقية ما بين درجة 28 من العرض الجنوبي ودرجة 38 من الطول الشرقي، يحدها جنوبا نهر الفال وبلاد أورنج وبلاد الناتال وجريكالان الغربية، وشمالا نهر ليمبوبواي (نهر التمساح)، وشرقا جبال ليمبوبو وصحراء كالأري وبلاد الزولس، وغربا مستعمرة الرأس والباشوانالند، ويبلغ محيطها ألفا وستمائة ميل، ومساحتها ثلاثمائة وخمسة عشر ألفا وخمسمائة وتسعون كيلومترا مربعا.
جبالها
فيها سلسلة جبال عظيمة تخترقها من الشرق إلى الغرب، وتتألف هذه السلسلة من جبال دراكنستين، وجبال ليمبوبو، وجبال دراكنسبرج، وجبال بلوبرج، وجبال زوتنسبرج، وجبال ليدنبرج، وفيها أيضا جملة جبال صغيرة وتلال لا موضع لذكرها هنا.
أنهارها وبحيراتها
أما أنهارها فهي: «نهر ليمبوبو»: ومنبعه من جبال بالقرب من برتوريا ومصبه في المحيط الهندي، ويبلغ عرضه عند مصبه ثلاثمائة متر تقريبا، وماؤه يهدأ في فصل الشتاء ويهيج في فصل الصيف، وبعد أن يصب في نهر الأفيال يأخذ ماؤه بالنضوب لكثرة التبخر ويغور في أرضه الرملية. ويروي هذا النهر أراضي واتربرج ويمر بجبال مورال وزوتنسبرج، وفيه اثنا عشر شلالا؛ ولذلك لا يصلح للملاحة، وكانت التماسيح تكثر فيه، وعلى ضفتيه كثير من جاموس البحر، والسباع، والقردة، والزرافات، والأفيال. «نهر الأفيال»: ومنبعه من جبال كليستابيل وتافلكوب، ويروي أراضي ميدلبرج، ويمر ببلاد تكثر فيها المعادن، وضفافه خصبة بأنواع المزروعات والمراعي ، وكانت الفيلة تكثر فيها، على أنها آخذة بالانقراض. وهو لا يصلح للملاحة أيضا. ويقطن في الجهات التي يمر فيها هذا النهر كثير من الزنوج غير مبالين برداءة الإقليم، وكثرة الأمراض التي تردي بكثير منهم في زمن الصيف. «نهر الفال»: ومنبعه من جبال هوج فيلد، ويجري في أراضي أزملو، ويروي القسم الجنوبي من الترنسفال، وبه كثير من الجزر، وتزرع على جوانبه الذرة، ويصب في نهر أورنج، عند جريكلان، وهو كالذي تقدم ذكره من الأنهار لا يصلح للملاحة. «نهر أم كوماس»: يجري في أراضي الترنسفال، ويصب في خليج دلاجوي البرتغالي، وفيه كثير من التماسيح، وثعابين البحر، والسمك الأصفر، وتكثر على ضفتيه الغزلان، والتيوس البرية، والأرانب، والبط، والإوز البري، وغير ذلك؛ مما يجعلها مطمحا لأبصار الصيادين الذين يأتونها طلبا للصيد والارتزاق. «نهر الكاب»: ومنبعه من الجهة الجنوبية من الجبال القريبة من باربرتون، وله فروع كثيرة، أشهرها نهر الملكة، والبلاد التي يمر بها رديئة الإقليم، أما الزراعة على ضفتيه فقليلة في فصل الشتاء؛ لقلة مياهه، وتكثر في فصل الصيف حين فيضانه.
بحيراتها
أما بحيراتها فقليلة جدا، لا تستحق الذكر، ما عدا بحيرة كريستي في إسكوتلندا الجديدة، ويبلغ محيطها ستة وثلاثين ميلا، وهي عميقة جدا.
حيواناتها
أما حيواناتها فهي أجمل حيوانات أفريقيا، لا سيما السباع الصفراء التي تكثر في جهة زوتنسبرج. وحمير الوحش في الجهات الشمالية من الترنسفال. وجاموس البحر، ويبلغ طوله ثلاثة أمتار وستين سنتيمترا، ويتواجد في نهر ليبومبو، وفي الأنهار القريبة من المحيط الهندي، وقد منعت الحكومة صيده بالأسلحة النارية. والزرافة ويبلغ طولها ستة أمتار، وأكثر ما يوجد منها في الجهات الشمالية. والجاموس ويمتاز عن الجاموس المصري باتصال قرنيه من الوسط وانفصالهما من الطرفين، ويبلغ طول الجاموس الواحد نحو مترين ونصف، وارتفاعه مترا وسبعين سنتيمترا. وكان في البلاد كثير من الضباع وابن آوى، ولكنها أخذت بالانقراض لانتشار الأسلحة النارية المفرقعة. ومن حيوانات هذه البلاد أيضا الفيران والقطط البرية، والنموس الحمر، والفهود والقردة، ومنها نوع يسمى قرد شاسينا، وهو نبيه شديد القوة ، قابل للتعليم ، ولكن البري منه خبيث يسطو على الحدائق، ويقتلع الأشجار الصغيرة، ويفترس الحملان، فيشق بطنها ويشرب ما فيها من اللبن الذي ترتضعه من أمهاتها، وهذا النوع يمتاز بقوة حاسة الشم؛ ولذلك له فائدة مشكورة عند أهل البلاد هناك؛ حتى إذا ما اشتبه أحد في شيء وظن به سما وضعه أمام هذا القرد، فإن أكل منه كان خاليا من السم وإلا فلا، وبعض الناس يأخذ صغار هذا النوع ويربيه في الورش ويعلمه النفخ على كير الحداد، وسحب المنشار مقابل النجار، ويستعين به في كثير من الأعمال، وبعضهم يربيه في المنازل، ويعلمه إحضار الأشياء من موضعها، وتوصيل البقر إلى الحقول، وحراثة المواشي، وسوقها في المساء إلى الزرائب. ومن أنواعها أيضا نوع يسمى «الماهي» يأتلف جماعات، وهو في حجم الفأر، ومن خصاله أنه ينام في النهار ويستيقظ عند غروب الشمس، ويظل يقفز من مكان إلى مكان، بدون انقطاع حتى يطلع الفجر، ثم يصعد إلى مرتفع وينام. ومن أنواعها أيضا نوع يسمى «الميركاتس» يخرج في المساء من أوجرته ويقف على قدميه، ويحدق بالناس كالمندهش منهم، ويذهب من حيث أتى. وهو شجاع، قوي، يفترس الكلاب، فهي تخشاه وتهرب منه. وتكثر في تلك البلاد الخفافيش
1
على اختلاف أجناسها، ومنها نوع برتقالي اللون.
أما الطيور فأهمها النعام، ويكثر على شواطئ نهر الفال، والصقور، والنسور ذوات المخالب القوية، ترفع صغار الغنم وتطير بها، وهناك أيضا طير يسمى «السكرتير» له ريشة وراء أذنه تشبه القلم إذا وضع وراء أذن الكاتب، وهو السبب في تسميته بهذا الاسم. وهناك أنواع البوم والكركي وأبو قردان، والديوك البرية، والحجل الرمادي والأحمر، ودجاج فرعون على اختلاف أجناسه. ويوجد أيضا طير قبيح المنظر، يسمى «الكالو»، تنبعث منه رائحة كريهة، وله منقار طويل، وهو أشبه شيء بالديك الهندي، يعيش جماعات، ويأكل الجيف، وتعتقد قبائل الكفرة أنه إذا ذبح ورمي في نهر جاف قريبا من أحد الجبال تنفجر المياه من الجبل لتبعده عنه، ويكون ذلك سببا في إفعام النهر حسب زعمهم.
ومن الطيور أيضا طير يسمى «الفيسكال»، يصنع عشه من الشوك، ويصطاد العصافير الصغيرة والسحالي والضفادع، ويرشقها فيه ليأكل منها متى شاء. ويوجد أيضا البط والإوز، والبلبل الذي يغرد على أغصان الشجر من غروب الشمس إلى شروقها بدون انقطاع، ويوجد أيضا كثير من الطيور المختلفة الأشكال التي لا يوجد مثلها في البلاد المصرية.
ومن أنواع الثعابين ثلاثة؛ واحد يسمى «الموسكاتر»، خال من السم، يعيش في المغازل، فيألفها، ويستخدمونه في طرد القطط وصيد الفيران، ونوع يسمى «التفاف» وهو محب للأذى، يبصق بصاقا ساما، ونوع يسمى «البرجادر» وهو من الثعابين السامة أيضا، ويعيش في الجبال والأماكن الحارة. وفيها من أنواع الأفعوان ثلاثة، واحد يسمى البيتون، ويختلف طوله من سبعة أمتار إلى ثمانية، وهو سام، لكنه ليس شديد الخطر كالنوع الثاني المسمى «الناجاهاج»؛ فإنه مخيف جدا يرهبه كل من يراه لجرأته وخبثه وميله للأذى، ويختلف طوله من متر ونصف إلى مترين، ويركض وراء الخيال ساعات متوالية ويقذف السم من فمه إلى بعد 40 قدما، والنوع الثالث هو أفعى سامة لها أربعة أرجل، ولكنها لا تستطيع القفز إلى الأمام بل إلى الوراء.
أما التماسيح فهي كثيرة جدا في بعض الأنهر، ويبلغ طول الواحد خمسة أمتار، ومنها نوع بدون أعين ولا آذان، له في رأسه فتحة تشبه الفم، وفتحتان يشبهان الأنف. وهناك أيضا سلاحف صغار تأوي إلى الأنهار، وضفادع يبلغ طول الواحد منها خمسة عشر سنتيمترا فعشرين، وكثير من أشكال الحرباء.
وتهب ريح من الغرب في بعض الأحيان، فتحمل كثيرا من الجراد، فتأكل منه الخيول، والبقر، والغنم، والكلاب، والدجاج، والسمك، والحيوانات المفترسة، وتأكله الزنوج أيضا مشويا، ويحوم عليه نوع من العصافير يسمى «الراعي» فيأكل الميت منه، وما فضل عن الحيوانات المذكورة، وتسطو الكراكي على هذه العصافير فتفترسها. أما العنكبوت فنوعان: الأول يبلغ طوله ثلاثة سنتيمترات، ويأوي إلى البيوت، أما الثاني فإنه مثل الأول في الحجم يكثر في زمن المطر، فينسج بيته من شجرة إلى أخرى. وفي تلك البلاد أيضا النمل الأبيض، وهو يلحق بعض الخسائر بالمنازل والحدائق، وهناك أيضا كثير من العقارب والخنافس، ونوع من الذباب يلتصق بالناس والبهائم، فيمتص من دمائهم، ولشدة أذاه يستعمله بعض القبائل عقابا للمجرمين، فيؤتى بهم، ويربطون إلى شجرة بعد أن يعروا من ثيابهم، ويتركون عرضة للذباب، فيتهافت عليهم، ويمتص دماءهم، فيذهبون فريسة له. وهناك أيضا نحل بري يستخرج منه العسل الأبيض، وفي بعض الأحيان ينقلب عسله سما؛ وذلك إذا أكل عشبا ساما يسمى «الإيفورب»، وإذا أكل الإنسان منه يشعر في الحال بالتهاب في الحنجرة، فإن لم يسرع لاتخاذ الترياق اللازم مات في الحال. ويوجد كثير من أنواع الفراش الملون بألوان مختلفة، ومنه نوع جميل جدا، إذا طار امتدت وراءه سحابة نيرة أشبه شيء بالخيط الأبيض.
الإقليم
يتصف سكان الترنسفال بقوة البنية وجودة الصحة والنشاط؛ وتعزى هذه إلى جودة الهواء واعتدال الطقس؛ لأن البلاد مرتفعة عن سطح البحر ألفا ومئتي متر. والإقليم على أجوده في الجهات الشمالية منها وفي بعض الأواسط، وتقل جودته بالقرب من نهر ليمبوبو، وفي الجهات المحاذية لبرج الجدي؛ فالهواء هناك حار والماء آسن؛ ولذلك تكثر فيها الحميات الخبيثة، وسائر الأمراض العضالة، وكثيرا ما تفتك بأهل تلك الأنحاء، وأما في الأخرى فإن الهواء نقي جاف والجو صحو صاف. وبالجملة فإن الطقس يماثل طقس أوروبا الجنوبية وبعض أقسام من مستعمرة الكاب. ويبتدئ الشتاء فيها من شهر أبريل وينتهي في شهر أغسطس، وتكون درجة الحرارة في هذا الفصل من 15 إلى 18 بميزان سنتي جراد، ويكون معتدلا نهارا ويشتد البرد ليلا، ويبتدئ الليل هناك من الساعة السادسة بعد الظهر، وينبثق الفجر الساعة السادسة صباحا. وأما فصل الصيف فابتداؤه غرة شهر سبتمبر وانتهاؤه في أواخر شهر مارس، ويكون الطقس حارا نهارا، ورطبا ليلا، ودرجة الحرارة من 18 إلى 23 بميزان سنتي جراد، ويبتدئ الليل من الساعة السابعة بعد الظهر وينتهي في الساعة الخامسة صباحا، وتهب فيه الزوابع العظيمة ويتساقط البرد، وتبتدئ الأمطار وتكثر في شهر يناير وفبراير ومارس. وكان معدل ارتفاع مياه الأمطار عن سطح الأرض بمدينتي بريتوريا وجوهانسبرج في السنين الثلاث كما هو في الجدول الآتي:
جدول ارتفاع المياه.
سنة 1894
سنة 1895
سنة 1896
مليمتر
مليمتر
مليمتر
جوهانسبرج
885
720
657
برتوريا
910
518
475
جدول فصول السنة.
الشتاء
يونيو
يوليو
أغسطس
الربيع
سبتمبر
أكتوبر
نوفبر
الصيف
ديسمبر
يناير
فبراير
الخريف
مارس
أبريل
مايو
تقسيم بلاد الترنسفال
تنقسم هذه البلاد إلى ثلاثة أقسام: قسم أعلى وقسم متوسط وقسم أسفل.
أما القسم الأعلى، فهو مشهور بكثرة المعادن، خصوصا الفحم الحجري والحديد، وتبلغ مساحته 90650 كيلومترا مربعا، يحده جنوبا جبال دراكنسبرج، وشرقا جبال ليبومبو، وغربا مقاطعة ويتواتر سرند، ويحيط به من الجهات الثلاث جبال شاهقة، يختلف ارتفاعها من ألف إلى ألفي متر، وذلك مما يكسب سكان تلك الأنحاء صحة ونشاطا؛ لجودة الهواء واعتدال الإقليم.
أما القسم الثاني فهو مشهور بجودة الأرض، وفيه أحسن أراضي الترنسفال الزراعية، ففيه الرياض النضرة، تجري فيها الأنهار الكثيرة، وتبلغ مساحته 69940 كيلومترا مربعا، وهو ما بين جهة بشوانلند ومقاطعة ويتواتر سرند، ويحده جنوبا مملكة أورنج وشمالا نهر ليبومبو.
والقسم الأسفل يضاهي القسم الأعلى في الزراعة، وتبلغ مساحته 155000 كيلومتر مربع، ومع انخفاض أراضيه فإن الحرارة فيه أشد منها في القسمين السالف ذكرهما.
الزراعة والمعادن
أما أراضي هذه البلاد فشديدة الخصب، تعطي إثمارها في حينه، ويمكن لزارعها أن يزرعها مرتين في السنة، وهي أحسن أرض في جنوب أفريقيا وأخصبها؛ وأكثرها يزرع حبوبا، وهي سريعة النمو، وفيها صنف من الحبوب أشبه شيء بالكزبرة، يزرع في شهر سبتمبر أو أكتوبر، ويحصد في شهر مارس، ويطحن ويصير كالبرغل. والجزء الشمالي منه مشهور بزراعة العنب، والدخان، وقصب السكر، والقطن. يوجد صنف من العشب يزرع في الحدائق، فيكسوها خضرة، ويختلف طوله من متر إلى مترين وعشرة سنتيمترات، ويستعملونه في تسقيف المنازل، فيضعونه فوق الأخشاب. وأما مقاطعة برتوريا فمشهورة بالفواكه، حتى إذا غرست الأشجار في شهر مارس، وتطعمت في شهر أكتوبر، تثمر في السنة الثانية من زمان غرسها.
وقد اشتهرت الترنسفال بكثرة معادنها، فإنها تلد المعدنين النفيسين؛ وهما الذهب والفضة، على ضفاف نهر الكاب وبالقرب من نهر التمساح، وفيها مناجم النحاس في ناحيتي واتربرج وزوتنسبرج. وكانت قبائل الكفرة القاطنة على شواطئ نهر لمبوبو تعرف النحاس من زمن بعيد، وكانوا يستنبطونه من مناجمه. وفي جهات ليدنبرج، وأوتربرج، وسوتنزبرج يكثر الحديد، وهو ظاهر على وجه الأرض. وفي مقاطعة ميدلبرج يوجد النيكل والكوبلت، وكثير من حجر الجرانيت. وفي مقاطعة إسكوتلندا الجديدة يوجد الفحم الحجري. وفي أقسام ميدلبرج وجبال دراكنسبرج، وبالقرب من بريتوريا توجد الأحجار التي يصنع منها الجير. وفي ليشتنبرج وسوتنسبرج توجد البرك والمستنقعات التي يستخرج منها الملح. وفي مقاطعات واكرستروم واترتش وزوتنسبرج غابات عظيمة، فيها أخشاب صفراء. وفي مقاطعة سوتنسبرج خشب الأبانوس والمهوجني، وباقي الأخشاب الثمينة، وأخشاب البناء، وأشجار يستخرج منها زيت القطران.
السكان
ينقسم سكان الترنسفال إلى أربعة أقسام؛ زنوج، ووتلندر وبوير، وأفريكندر.
أما الزنوج فهم أصحاب البلاد الأصليون، وهم عبارة عن قبائل من الجنس الأسود.
أما الويتلندر فهم الغرباء الذين استوطنوا تلك البلاد، والأفريكندر هم الهولنديون المولودون في أفريقيا. وأما البوير فإنهم أتوا بعد الأفريكندر وافتتحوا البلاد، وأخذوها من أصحابها، ونظموا إدارتها، وجعلوها لنفسهم وطنا عزيزا.
وقاطن في الجهة الشمالية من الترنسفال ثلاث قبائل عظيمة، وهي المكالاك والمتابيل والمتانيا، ويتصف رجال هذه القبائل بالقوة والشجاعة، فلا يهابون القتال، ولا يخافون الموت الزؤام، وفي الجهة الغربية أربع قبائل، وهي قبيلة الشيلي، وقبيلة البنجوكسي، وقبيلة البارالنج، وقبيلة الكورانا. وقد بلغ عدد سكان الترنسفال «1089156 نفسا» حسب إحصاء سنة 1898.
أشهر المدن
بريتوريا
وهي عاصمة الجمهورية ومركز إدارة الحكومة، وقد سميت بهذا الاسم نسبة لبرتوريوس قائد البوير الأول. ويبلغ طول بعض شوارع تلك المدينة ميلين، يظللها شجر اللبخ المزروع على الجانبين، أما منازلها ففي غاية العظم والفخامة؛ يفصل بينها مسافات طويلة، ويحيط بها البساتين الغناء، ويجري فيها الماء، وعلى ضفاف تلك المجاري أشجار السفرجل، والتفاح، وسائر أنواع الفواكه؛ مما يزيد في جمالها. وحين يرخي الليل سدوله عليها تلبس حلة الأنوار الكهربائية، فتتألق فيها، فتكون كعروس حسناء لبست حلاها، فازدادت بهجتها وتسامت قيمتها. وهواؤها في الشتاء منعش للأبدان، والرطوبة قليلة، وتشتد الحرارة في الصيف. ويبلغ عدد البيض فيها خمسة عشر ألف نفس، والسود عشرة آلاف نفس، والمدينة كافية لسكنى نصف مليون من البشر على الرحب والسعة. وفيها سوق كبير يسع جميع السكان القاطنين فيها. وفي كل صباح يغص بالعربات المغطاة بالقماش الأبيض تجرها الثيران، والراكبون عليها من الطبقة السفلى من السكان، يقصدون هذا السوق لقضاء حوائجهم. وفي وسطه بناء مرتفع مربع، تدل هيئته على قدمه مع حفظ رونقه الذي لم يقو طول الزمن عليه، وهو كنيسة هولندية بنيت يوم تأسست المدينة، ولها في عيون البوير منزلة رفيعة؛ لأنها من كنائسهم القديمة. وحول دائرة السوق المصالح العمومية والبنوكة، وسراي الحكومة، وهو بناء مرتفع مربع، يحتوي على ثلاث طبقات، وفي أعلاه قبة كبيرة نصب عليها تمثال الحرية قابضا بيده على راية الجمهورية، وهي بشكل الراية الهولندية تتميز عنها بلون أخضر.
جوهانسبرج
كانت هذه المدينة قطعة أرض فسيحة، يمتلكها رجل من البوير اسمه يوحنا، وذلك سنة 1868. وفي سنة 1885 اكتشفت فيها مناجم الذهب، فأخذتها الحكومة منه.
وفي غرة سبتمبر سنة 1886 بلغ عدد العمال في مناجمها ستة آلاف رجل، فأسسوا هذه المدينة، وشيدوا فيها المنازل وأنشئت فيها المعامل، وسميت باسم صاحبها الأول جوهانسبرج (مدينة يوحنا). وفي سنة 1887 قسمت الحكومة أراضي تلك المدينة إلى 900 قطعة، مساحة كل قطعة منها خمسون قدما مربعا، وكانت تبيع القطعة بمائة وخمسة وسبعين فرنكا، ولم يزل ثمنها في صعود إلى أن بلغ ثمن القطعة الواحدة عشرين ألف فرنك. وطول المدينة ثمانية كيلومترات من الشرق إلى الغرب، وعرضها كيلومتران من الشمال إلى الجنوب. وعدد سكانها حسب إحصاء سنة 1896 «100723 نسمة»، ينقسمون هكذا:
أوروبايون
51225
زنوج
42533
هنود وصينيون
40187
أخلاط
2878
100723
وهاك بيان كل جنس على حدته من الأوروبيين:
إنكليز
34338
بوير الترنسفال
6205
بوير أورنج
1745
روسيون
3333
ألمانيون
2262
هولنديون
819
فرنساويون
402
سويديون
302
إيطاليون
206
أمريكيون
616
أخلاط
997
51225
مدينة جوهانسبرج سنة 1882.
أحد شوارع مدينة جوهانسبرج سنة 1896.
ومن هذا الإحصاء يعلم أن العنصر الإنكليزي أكثر من سائر العناصر الموجودة فيها، وللإنكليز أكثر الأملاك وأكبر موارد الثروة. وقد بلغ تعداد السكان لغاية 1899 «150000 نفس». والداخل إلى جوهانسبرج يرى بأجلى بيان أنها مدينة صناعية محض، لا تختلف في هيئتها عن المدن الأوروبية. ومداخن الفوريقات مرتفعة في الجو، تقذف الدخان من أفواهها، فيتصاعد في الهواء ويذوب فيه، ويطير في الهواء تراب ناعم فيلتصق بالوجه والشفتين والحدق، وهذه الأتربة هي التي تتصاعد من خمسة آلاف طاحونة معدة لسحق الأحجار المتحد بها الذهب. وفي شوارع المدينة أعمدة ثخينة يحمل بعضها الأسلاك البرقية، والبعض يحمل أسلاك الكهربائية، التي يسير بها التراموي، وفي المدينة جملة كنائس للمسيحيين على اختلاف مذاهبهم، وشركتان إحداهما لتوزيع الماء والثانية للغاز. ويصدر فيها يوميا ثلاث جرائد تطبع فيها. وفيها تياترو وقهوة كبيرة عمومية، يؤمها الصناع زمرا حينما تسمح لهم الفرص بعد الفراغ من أشغالهم. وفيها ما عدا ذلك من القهاوي الصغيرة والكلوبات والملاهي شيء كثير. ومما يقضي بالعجب والدهشة أن المدينة بلغت هذه الدرجة في نحو خمسة عشر عاما مضت من تاريخ تأسيسها. ومع كثرة قاصديها من كل فج للانتفاع بكنوزها، فهي لا تضيق بهم ذرعا؛ لكثرة الأشغال العظيمة فيها وأرباحها الجسيمة التي لم يؤثر فيها غلاء الأثمان وارتفاع أجور المنازل؛ فأقل منزل فيها لا يمكن استئجاره بأقل من ثلاثين جنيها في الشهر الواحد، وثمن أي مشروب في القهاوي لا يقل عن خمسة غروش، ولو كان فنجانا من القهوة. وبالجملة فإن مكاسبها عظيمة جدا، تكفي لهذه النفقات، ويتوفر منها مبلغ جسيم. والدليل على ذلك ما نراه من عظم ثروة الإنكليز وغيرهم، الذين ذهبوا إلى هذه البلاد النائية فقراء لا يملكون شروى نقير، وعادوا إلى بلادهم وثروتهم تقدر بالملايين.
ومما يروى من هذا القبيل أن إيطاليا أتى هذه المدينة في سنة 1889 واستخدم في إحدى القهاوي، ولما رأى رواج أشغال الذهب شمر عن ساعد الجد، وصار يسعى في جمع الثروة من هذه المهنة، تاركا القهوة لأصحابها، وبعد ثمان سنوات رجع إلى بلاده ومعه من الثروة ما ينوف عن خمسة ملايين من الفرنكات. وأمثاله كثير ممن يهاجرون إلى هذه البلاد ذات المناجم الذهبية، وقد قدر الذهب المستخرج منها في تسع سنوات ابتداؤها سنة 1887 «322518 كيلوجراما». وقد اتفق الجيولوجيون أنه إذا حفر في الأرض منجم على عمق ثمانمائة متر يستخرج منه من الذهب ما لا تقل قيمته عن عشرة مليارات من الفرنكات، وإذا حفر على عمق ألف ومائتي متر يستخرج منه ما يساوي سبعة عشر مليارا من الفرنكات، وقس على ذلك.
بوتشستروم
كانت هذه المدينة عاصمة الجمهورية قبل برتوريا إلى سنة 1863، واسمها هذا مركب من أسماء ثلاثة أشخاص من نخبة البوير الذين خدموا بلادهم خدمات جليلة، فسميت هذه المدينة بأسمائهم تخليدا لذكرهم، وهم بوتجتر وشرف واستوكنستروم، فأخذوا الثلاثة حروف الأولى من الاسم الأول وحرفا واحدا من اسم الثاني وأربعة أحرف من الاسم الثالث، فصارت بوتشستروم، وهذه المدينة واقعة على نهر الموي، وبها محطة سكة حديد على خط جوهانسبرج الذي ينتهي في كلير كسدورب، وشوارعها منتظمة طويلة، تظللها أشجار الصفصاف المتراخية الأغصان على المنازل المحاطة بالحدائق الغناء، ذات الرياض الفيحاء.
ميدلبرج
هي عاصمة مقاطعة ميدلبرج، أخذها البوير من البازوتس في سنة 1839. وفي سنة 1848 أسسوا فيها حكومة جمهورية مستقلة. وفي سنة 1858 انضمت لجمهوريتهم مقاطعة إيترتش، وما زالوا كذلك إلى سنة 1860، ثم ألغيت حكومتهم وانضموا إلى جمهورية الترنسفال.
زيروست
هي عاصمة مقاطعة ماريكو، وموقعها على نهر ليمبوبو، وهي مشهورة بجودة أرضها وحسن زراعتها، وبها كثير من البساتين؛ ولذلك لقبت بحديقة الترنسفال.
كروجر سدورب
لهذه المدينة شهرة واسعة على صغرها وحقارتها، والبوير يزورونها سنويا؛ لأن فيها مقابر أبطالهم العظام الذين ذهبوا شهداء الوطن، وهي محطة على فرع سكة حديد جوهانسبرج.
كليركسدورب
هي بلدة صغيرة ينتهي إليها سكة حديد جوهانسبرج، ويخترقها نهر شون سبروت، ويبلغ عدد سكانها 2300 نفس.
باريرتون
مؤسسها رجل بويري اسمه جراهم باربر؛ ولذلك سميت باسمه، وهو أول من أتى من الناتال وسكن في تلك النقطة، وتاريخ وصوله إليها سنة 1881، وفي آخر هذه السنة بلغ عدد الذين جاوروه ثلاثين نفسا، وما زال المهاجرون إليها يزدادون حتى بلغ عددهم سنة 1889 «1200 نفس تقريبا».
بولسبرج
هي بلد الفحم الحجري في الترنسفال؛ ففيها أعظم مناجمه، وأكثر سكانها من الزنوج الذين يشتغلون في المناجم، وقليل من البوير والوتلندر الذين هم أصحاب المناجم المذكورة.
ويوجد غير ذلك من البلدان، مما لا أهمية لذكرها.
التجارة
يمكن الوقوف على حالة التجارة في بلاد الترنسفال من سنة 1883 إلى سنة 1898؛ أي: عندما أخذت ترتقي من درجة إلى أخرى، من مطالعة الجدول الآتي:
بيان قيمة الصادرات من بلاد الترنسفال.
سنة
فرنك
1883
9200000
1886
10200000
1889
86500000
1892
87500000
1895
245400000
1896
352000000
1897
339000000
1898
265800000
وهاك جدولا آخر لبيان الأصناف الصادرة في السنين الآتي ذكرها:
صنف
سنة 1896
سنة 1897
سنة 1898
كيلوجرام
كيلوجرام
كيلوجرام
فحم
3888335
21450000
38774000
صوف
1234694
4608000
2537000
جلود
1816519
1953000
2101000
معادن خام
1177471
1203000
1920000
حبوب
90168
512000
899000
دخان
117231
138000
659000
أحجار
337064
288000
334000
أخشاب -
299000
196000
فواكه
120472
103000
174000
مشروبات -
33000
30000
طيور
1109
18000
21000
الجملة
8783063
30605000
47645000
إيرادات الحكومة
إيرادات الحكومة تتحصل من الجمارك والسكك الحديدية والمعادن، وهذا جدول ببيان الإيرادات والمصروفات في السنين المبينة أدناه:
سنة
إيرادات
مصروفات
فرنك
فرنك
1892
31 مليونا
12 مليونا
1893
43 مليونا
32 مليونا
1894
56 مليونا
44 مليونا
1895
89 مليونا
69 مليونا
1896
120 مليونا
119 مليونا
1898
99589025
99286825
وفي يناير سنة 1899 كان المتوفر في خزينة الحكومة عشرة ملايين من الفرنكات، أما زيادة مصروفاتها في السنين الأخيرة، فكانت لكثرة الأسلحة والأدوات الحربية التي اشترتها من فابريقات ألمانيا وفرنسا.
ويؤخذ من جدول إيرادات الحكومة السابق أن إيرادها ازداد زيادة جسيمة من ابتداء سنة 1896، والسبب في ذلك اكتشاف الذهب في أوقات مختلفة في مقاطعة ويتواتر سرند.
أما دين الحكومة فكان في سنة 1897 «68 مليونا» من الفرنكات.
السكك الحديدية
يوجد في بلاد الترنسفال ثلاثة فروع سكك حديدية كبيرة، وهي واسطة الاتصال بين تلك البلاد والبلاد المجاورة لها؛ أما الفرع الأول: فهو خط فولسكراست، يمر بهيدلبرج وبريتوريا وبيترسبرج، ويمتد إلى مستعمرة الناتال، فيمر بدربان ولادي سمث وشارلستون، والفرع الثاني: خط كوماتي بورت، يمر بميدلبرج وبريتوريا ولورنسو مركيز، ويصل إلى خليج ولاجوي البرتغالي.
والفرع الثالث: خط نوبورت، ويمر ببريتوريا وبيترسبرج، ويمتد إلى كرنستاد، ويصل إلى بلوم فنتين عاصمة الأورانج.
ويوجد غير ذلك فرعان؛ أولهما: خط جوهانسبرج، ويمر على كروجر سدورب بونشستروم وينتهي في كليركسدورب، وكان في نية البوير أن يمدوا ذلك الخط إلى بلوم هوف ليتصل بسكة حديد الكاب، ولكن الحرب الأخيرة؛ ونعني بها حرب سنة 1899، حالت دون إتمام ذلك المشروع.
والفرع الثاني: يبتدئ من كوماتي بورت وينتهي إلى بريتوريا.
ويبلغ طول هذه الخطوط المذكورة 1433 كيلومترا، للحكومة منها 286 كيلومترا فقط، والباقي ملك شركة هولندية.
جدول ببيان الركاب في ثلاث سنوات مختلفة.
سنة
عدد الركاب
1890
66176
1895
1000000
1898
1718139
وقد قدرت البضائع التي شحنت في القطارات الحديدية في مدة الثلاث سنوات السالف ذكرها بهذا القدر «1749098 طونيلاته».
البوستة والتلغراف
للبوستة والتلغراف إدارة واحدة، يشتغل فيها 400 مستخدم في 65 مكتبا، وبين أيديهم 153 آلة تلغرافية، و27 تليفونا، وهذه المصلحة آخذة في التقدم والنجاح، كما يشهد بذلك زيادة إيرادها من سنة إلى أخرى.
سنة
فرنك
1885
127000
1890
1132000
1895
2858000
1898
4016000
النقود
أكثر النقود شيوعا في بلاد الترنسفال النقود الإنكليزية والنقود الترنسفالية. أما الثانية فإنها مضروبة في برتوريا، ومرسوم على أحد وجهيها صورة الرئيس كروجر، والوجه الثاني منقسم إلى أربعة أقسام، على شكل صليب، في القسم الأول منها صورة فلاح، وفي الثاني صورة محراث، وفي الثالث صورة أسد، وفي الرابع صورة هلب مركب، وقد نقش على هذا الوجه الحروف الآتية:
Z.W.D AFRIK REPUB.
ومعناها «جمهورية أفريقيا الجنوبية».
ويوجد عندهم من الأوراق المالية المتعامل بها ما يساوي عشر شلنات إلى خمسين جنيها، ولا يستعملون نقودا من البرونز لاستعاضتهم عنها بطوابع البوستة.
عوايد البوير وصفاتهم
للبوير صفات حسنة ومزايا جميلة نادرة الوجود في باقي الأمم، ولهم في الشجاعة وإتقان الفنون الحربية شهرة تحاكي الشمس، لا يختلف فيها اثنان، ولغتهم الهولندية، وهم أصحاب تقوى، ميالون إلى السلم، محبون للحق، كارهون للكذب، ويعتنون كثيرا باقتناء الكتاب المقدس؛ ولذلك لا تجد منزلا لهم، حقيرا كان أو عظيما، إلا وفيه هذا الكتاب، وهم يقرءون فيه يوميا عند الصباح وجزءا عظيما من الليل، ولا ينشدون الأغاني الغرامية، بل إذا كانوا فرحين يرنمون الترانيم الروحية، عاملين بقول الإنجيل: «إذا كنت فرحا فرتل وإذا كنت حزينا فصل.» ولا يعرفون للكسل معنى بل هم أقوياء البنية.
مطالعة التوراة في عائلة بويرية.
متصفون بالنشاط التام والاجتهاد المستمر، وهم قليلو الشفقة على غيرهم، ولا يميلون إلى التملق، وكانوا لا يحبون تثقيف عقولهم بالعلوم والمعارف، ولكنهم عدلوا عن هذه الخطة من زمن ليس ببعيد، وتغير خطتهم هذه هي التي أحوجتهم لإرسال شبانهم إلى العواصم الأوروبية.
ولكن عادات تلك العواصم لم تؤثر على طباعهم، بل ظلوا على كرههم للتمدن الحديث ، ينفرون منه كما ينفر الإنسان من الأفعى، أما لونهم فأشقر، وهم حسان الخلق والخلق، ونساؤهم على جانب عظيم من الرشاقة والخفة، جمعن بين رشاقة القد وذكاء العقل، وتحلين بالعفة والشرف، وعندما يصل الرجال والنساء إلى درجة الشيخوخة يميل الفريقان إلى السمن. وأول شيء ما يربى عليه أولادهم الخضوع التام لسلطة الوالدين وتوقيرهما؛ ولا يتأنقون في ملابسهم، والمثرون منهم يستثمرون أموالهم بالتجارة والزراعة، أو يضعونها في صناديق ويفضلون حفظها فيها عن إقراضها بالربا؛ إطاعة للأوامر الإلهية المدونة في الكتب المقدسة، القائلة: لا تعط فضتك بالربا. وكل منهم يختار لسكنه قطعة من الأرض لا تقل مساحتها عن ستين فدانا مصريا، فيشيد له منزلا في جزء منها؛ ولذلك تجد منازلهم بعيدة عن بعضها بعدا شاسعا، ويبنون الزرائب لمواشيهم في قطعة بعيدة عن المنزل، وما تبقى من الستين فدانا يترك بعضه مرعى للماشية والقسم الآخر يزرع حبوبا وبقولا وما شاكل ذلك. وبعضهم يقتني النعام ويبيعون ريشها في منيا اليصابات. ومن عاداتهم الصمت؛ حتى ربما يسير أحدهم مع أخيه أو صديقه طول النهار في طريق واحد وهو صامت لا يتكلم إلا للضرورة. وكل فرد منهم يسعى بجد واجتهاد لتوسيع نطاق أملاكه، وما يعود بنمو ثمارها وبإكثار نتاج ماشيته التي يتولى رعيها بنفسه. ومن صفاتهم شدة كرههم للدولة البريطانية؛ نظرا لنفوذ كلمتها وامتداد سطوتها التي تشمل كثيرا من إخوانهم القاطنين في المستعمرات الإنكليزية، وهم يحتقرون الجنس الأسود، ولا يكلمونه إلا بالخشونة والعنف؛ لما هو كامن في الصدور من الحقد المتبادل بين الطرفين، الناتج عن الدماء التي بينهم. وهذه الطباع يتوارثها الأبناء عن الآباء. ولما كانت فلاحة الأرض وزراعتها مهنة البوير ألقوا أتعابها ومشاقها على العبيد المساكين الذين يتحملون ذلك بمزيد الكره والملل؛ لما يقاسونه من الضرب والإهانة، ومضض المعيشة والازدراء، فضلا عن التعب الشديد في تأدية خدمتهم التي فوق الطاقة. ومما يزيدهم حزنا وكرها أنهم لا يقبضون من البوير مقابل أتعابهم إلا الصفع على القفاء والضرب المؤلم.
أما الصيد والقنص وحمل السلاح فعامة فيهم، وهي مزية حسنة خاصة بالبوير ، يمتازون بها عن الأمم المختلفة، فعندما يبلغ الولد العاشرة يحمل البندقية وتكون هي لعبته الوحيدة، فيتمرن أولا على صيد العصافير الصغيرة، ثم الطيور الكبيرة، وهكذا إلى أن يصل إلى صيد الوحوش الضارية، فلا يبلغ الرابعة عشرة إلا وقد حذق فن الرماية كأحسن الماهرين به، وفي ذلك منتهى الإعجاب.
وإذا أراد أحدهم الزواج يكتب قائمة بأسماء الفتيات الموجودات في المنازل المجاورة له، وحينئذ يضع له ريشة مخصوصة لهذا الأمر في قبعته، ويركب جواده ويذهب إلى منازلهن، وعندما يصل إلى منزل إحدى الفتيات المذكورات يدخله بسكون، ويقدم لوالدة الفتاة علبة من مربى البرقوق، وللفتاة شمعة مصنوعة من شمع النحل، فتدركان بذلك القصد من زيارته؛ والفتاة مخيرة حينئذ في قبول الشمعة أو ردها إذا كانت لا تقبله زوجا لها، فإذا ردتها غادرهما في الحال وامتطى صهوة جواده قاصدا منزلا آخر، أما إذا حل طلبه محل القبول، فتأخذ الفتاة الشمعة وتوقدها، فتأتي الوالدة بدبوس وتدسه في الشمعة على مسافة أربعة سنتيمترات أو ثمانية من أعلاها، ويأخذ الفتى والفتاة يتحدثان حتى إذا بلغ النور الدبوس قفل باب الحديث بينهما، ولكن ذلك لا يمنع الفتاة من نقل الدبوس إلى أسفل؛ لإطالة المدة والتلذذ بالمحادثة إذا طابت لهما، ومتى انقضى حديثهما تذهب الفتاة إلى والدتها، وتخبرها بما تراءى لها من مكالمتها معه، ففي الحال يحدد يوم الاحتفال بالقران، وليس للوالد أدنى مداخلة بأمر الزواج، بل المنوط به الأمهات فقط مع البنات، وإذا توفيت زوجة أحدهم فلا يسوغ له أن يتزوج إلا بعد مضي ثلاثة أشهر على الأقل من تاريخ الوفاة.
ديانتهم ومذاهبهم
يدين البوير عموما بالدين المسيحي، ويلهجون دائما بذكر الله؛ لكثرة تمسكهم بالدين، وكبارهم وصغارهم يكررون الصلاة الآتية كل صباح:
يا إله الرحمة، ارحم شعبك هذا؛ لأنه هرب ليعبدك بسلام بعد أن تحمل الأتعاب الشاقة، وقاسى أهوال القتال من الأشرار الذين لا يعرفونك. والذين يعرفونك ولا يعملون بوصاياك. وأنت يا إلهنا كنت لنا معينا في الشدة، ومنقذا وقت الضيق، ولم تزل ترفق بنا وتغمرنا بمراحمك الإلهية . ولما كنا على شفاء الهلاك ناديتنا بفمك الطاهر الشريف بهذه الكلمة، قائلا: عش يا شعبي وتبارك وكن عظيما. فكنا يا إلهنا كما قلت. ولم تتخل عنا إلى هذا الوقت؛ لأننا متمسكون بمحبتك الثمينة والخضوع الدائم لوصاياك، فأعنا يا إلهنا ولا تنسنا من الآن وإلى الأبد، آمين.
ولهم عيد عظيم يحتفلون به سنويا، وهو يوم 16 ديسمبر، ويسمى عندهم يوم دنجان، وهو تذكار لواقعة حربية كانوا قد انتصروا فيها انتصارا عجيبا، وسيأتي الكلام عليها.
أما المذاهب عندهم فثلاثة؛ أولها المذهب البروتستانتي، وهو أكثرها انتشارا بينهم، وهو المذهب الرسمي الذي تعتبره الحكومة، ويليه المذهب الأرثوذكسي، ثم الكاثوليكي، وهو أقل المذاهب انتشارا هناك.
العلوم والمعارف
بلغ تعداد المدارس في كل أنحاء الجمهورية لغاية سنة 1899 «500 مدرسة»، فيها 13561 من الطلبة، يتلقون فيها اللغة الهولندية، ويوجد غير ذلك مدارس مخصوصة للإنكليز؛ لأن مدارس الترنسفال لا تجيز لطلبتها تعليم اللغة الإنكليزية التي يكرهونها ككرههم لأصحابها. وتوجد مدرسة كلية في بريتوريا. وفضلا عن هذه المدارس، فإنه يوجد أساتذة تعلم القاطنين في القرى البعيدة عن المدارس. وقد كانت المعارف منحطة إلى أدنى الدركات، ولكنها أخذت ترتقي في السنين الأخيرة، حتى بلغت مقاما رفيعا، ولم يكتف شبان البوير بمدارسهم هذه، بل سار بعضهم إلى مدارس أوروبا؛ لتلقي العلوم العليا، وخصوصا الطب والصيدلة، وهذا بيان تعداد الطلبة في أربع سنين مختلفة، ومنه يتضح مقدار تقدمهم:
سنة
تلميذ
مصاريف
1885
1000
200000
1890
8000
800000
1895
7000
1400000
1898
13000
2200000
المحاكم والقوانين
لكل مقاطعة في بلاد الترنسفال محكمة ابتدائية تسمى «لندروست»، للحكم في القضايا المدنية التي لا تتجاوز قيمتها خمسمائة جنيه، وفي القضايا الجنائية التي لا يتجاوز الحكم فيها غرامة قدرها خمسة وسبعون جنيها، أو السجن أو الأشغال الشاقة لستة أشهر فقط، أو خمسة وعشرين جلدة، وتستأنف أحكام هذه المحاكم إلى محكمة عليا، يرأسها قاض من مجلس القضاء العمومي، وهذا المجلس مؤلف من قضاة منتخبين من ثلاث مقاطعات مختلفة، ومن ثمانية عشر عضوا من ثمانية عشر مقاطعة، ينظرون في القضايا الكبرى المهمة، إذا لم يقتنع أربابها بالأحكام الابتدائية والاستئنافية، ويرأس هذا المجلس رئيس الجمهورية ، وأحكامه نافذة على جميع القاطنين في بلاد الترنسفال. ولكل مقاطعة لجنة مشكلة من ثلاثة أعضاء منتخبين من أعيان البوير القاطنين فيها، وأصحاب أملاك بها للنظر في القضايا المختصة بالأراضي، ويحكمون بما يتراءى لهم، ثم يعلنون للمتنازعين الحكم الذي أصدروه، ويرفعون بذلك تقريرا لمجلس القضاء العمومي لتنفيذ حكمهم. وفي كل مقاطعة محكمة صغرى اسمها «فيلدكورنت»، للنظر في القضايا المنزلية والمنازعات التي تحدث ما بين المستخدمين والمخدومين، وتستأنف قضاياهم كغيرهم إلى المحكمة العليا، أو مجلس القضاء العمومي. وأما القضايا التي تكون بين الزنوج فقط؛ فإنها تنظر أمام لجنة مشكلة من بني جنسهم؛ إلا القضايا الكبرى، فإنها ترفع إلى المحكمة العليا، أو مجلس القضاء العمومي للنظر فيها بحسب ما يتراءى للنائب العمومي.
أما قوانينهم فعلى قاعدة القانون الروماني الهولندي.
تقسيم الحكومة
تنقسم حكومة الترنسفال إلى ثمانية عشر مقاطعة - كالمديريات في القطر المصري - ولكل مقاطعة حاكم خصوصي كالمدير، ينتخبه مجلس التنفيذ لمدة ثلاث سنوات، وتنقسم كل مقاطعة إلى أقسام أخرى كالمراكز، لكل قسم منها حاكم كمأمور المركز؛ لتحصيل الأمور الأميرية، وإدارة أشغال الضبط والربط والتنظيم، والإقرار على الطلبات التي يجب طلبها من الحكومة لمصالح البلاد. وفي أيام الحرب تكون له السلطة في تجنيد الشبان المطلوبين من قسمه، وحكام الأقسام المذكورة يكونون تحت سلطة حكام المقاطعات. ولكل مقاطعة مجلس يسمى مجلس المقاطعة، مؤلف من أعضاء منتخبين من الأقسام التابعة لها، وهذا المجلس يجتمع تحت رئاسة حاكم المقاطعة للنظر والإقرار على الطلبات التي يجب طلبها من الحكومة وفي ربط الضرائب، وينتخب من كل مقاطعة عضوين أو ثلاثة أعضاء من نخبة البوير، ينوبون عن الأهالي أمام الهيئة الحاكمة، ويتألف من هؤلاء المنتخبين مجلس الفولسكراد (مجلس النواب)، وأعضاؤهم اثنان وأربعون، كل منهم ينتخب لمدة أربع سنوات، يقضيها في عضوية المجلس المذكور، ولا يخول له الحق في الاستعفاء ما لم يكن قضى فيه سنتين، ومتى انسحب أحدهم ينتخب في الحال بدلا عنه من أهالي مقاطعته، ويشترط لقبول كل منتخب أن يكون متحصلا على الشروط الآتية وهي ؛ أولا: أن لا يقل عمره عن الثلاثين سنة. ثانيا: أن يكون مسيحيا تابعا للمذهب البروتستانتي. ثالثا: أن يكون من القاطنين في البلاد، وله أملاك فيها. رابعا: أن لا يكون أبوه أو أحد أبنائه منتخبا في ذلك المجلس. خامسا: أن لا يكون أحد أبويه غريب الجنسية. سادسا: أن لا يكون ضابطا في الجيش.
وهذا المجلس لا يمكن إلغاؤه إلا إذا أقر جميع الأعضاء على ذلك، وهو الذي ينتخب رئيس الجمهورية لمدة خمس سنوات كاملة، ويمكن تجديد الانتخاب عند انتهاء كل مدة. وللرئيس المذكور الكلمة النافذة، ويقوم بمساعدته مجلس يسمى مجلس التنفيذ، ينتخب أعضاءه مجلس الفولسكراد، وهو مؤلف من وكيل الجمهورية الذي ينتخب لمدة عشر سنوات، ومندوب عن الزنوج ينتخب لمدة سنتين، ومن اثنين مستشارين من مجلس القضاء العمومي؛ لينوبا عنه مدة سنتين، ويرأس هذا المجلس رئيس الجمهورية، ولأعضاء مجلس التنفيذ كراسي مخصوصة في مجلس الفولسكراد، وليس لهم أصوات فيه، لكنهم ينظرون في آراء الأعضاء ومناقشاتهم، وما يتفقون عليه من الأمور العائد تنفيذها إلى رئيس الجمهورية وإليهم. ويرتبط بمجلس الفولسكراد المذكور مجلس يسمى الراد، وأكثر أعضائه من الأجانب الذين لا تقل مدة إقامتهم ببلاد الجمهورية عن أربع سنوات، وهذا المجلس مكلف بالنظر في أشغال المعادن والتجارة، وهو تحت رئاسة مجلس الفولسكراد الذي ينتخب أعضاءه، ولا يعتبرون الرجل وطنيا ما لم يكن مولودا في البلاد، ووالده من البوير، وأما الأجانب فينالون حقوق الوطنيين بعد إقامة أربعة عشر عاما في البلاد.
الجيش وقانون العسكرية
ليس للجمهورية قوة حربية تستحق الذكر، ومعظم ما عندها للدفاع عن البلاد، لا يزيد عن عشر بطريات وفرقة من الطوبجية، وفرقة من البوليس لحفظ النظام واستتباب الأمن، ومتى أرادت الجمهورية إشهار الحرب، فما على رئيسها إلا أن يستدعي جميع البوير واللائقين لحمل السلاح، فيلبون نداءه طائعين، فينتظم الجيش في الحال، بدون عناء ولا تعب ولا إضاعة وقت في التمرين؛ لأنهم جميعا يحسنون الرمي بالبنادق. وفي أيام الحرب تربط ضريبة قدرها عشرون جنيها إنكليزيا على كل صاحب حقل. ويعافى من الخدمة العسكرية أعضاء مجلس الفولسكراد والكهنة ومعلمو المدارس؛ ولكن عليهم أن يدفعوا مساعدة حربية قدرها خمسة عشر جنيها إنكليزيا. وإذا وقع الجيش في ضيق أثناء الحرب وقضت الحالة بتجنيدهم، فيمكن استدعاؤهم بواسطة مجلس عسكري ينعقد لذلك، وينتدبهم للانضمام في الجيش فيلبون نداءه. أما البوير التابعون للجمهورية وبعيدون عنها، فإذا لم يمكنهم الحضور للخدمة يعافون منها؛ ولكنهم لا يفرون من دفع المساعدة الحربية. أما الضباط فيعينهم رئيس الجمهورية ومجلس التنفيذ، بشرط أن يكونوا من نخبة البوير المشهورين بالمهارة، ويكون رئيس الجمهورية هو القائد العام، وأول تجنيدة تكون من الشبان الذين يبلغ سنهم من 18 إلى 24 سنة.
والتجنيدة الثانية من سن 34 إلى 50، وإذا احتاج الأمر إلى تجنيدة ثالثة فتطلب من سن 15 إلى 18، ومن 50 إلى 60، ولكن ذلك لا يأتي إلا إذا دعت الحاجة الشديدة إليه، وهذه التجنيدة الأخيرة تكون في مؤخرة الجيش. وعلى كل رجل من المنتخبين أن يجهز نفسه بالملابس اللازمة وبندقيته، وما يحتاج له من المئونة والزخرة. ويشترك في الخدمة العسكرية مع البوير بعض الزنوج الخاضعين للجمهورية، وهم يتحملون معظم أثقال الحرب، ويكونون في مقدمة الجيش، ولا ينالون من الغنائم الحربية شيئا، بل تقسم على جنود البوير بحسب ما يستحق كل منهم.
ولما انتشبت الحرب بين جمهورية الترنسفال ودولة بريطانيا العظمى سنة 1899 كان جيش البوير في بدء القتال كما يأتي:
40000
بوير الترنسفال
4500
مسترزقة (مأجورة)
27500
من جمهورية أورنج
2500
من متطوعي الدول الأجنبية
4500
من بوير مستعمرة الرأس والناتال
79000
المجموع
اكتشاف الذهب
لمعادن الذهب الكثيرة في بلاد الترنسفال الفضل في ارتقائها وتحسين ماليتها، فكل من ضاقت به الدنيا وقصد هذه الجهة الفسيحة يجد خير مأوى، فيعيش فيها ما طاب له من الزمن، وإذا أراد العودة من حيث أتى، يعود طاردا بالأصفر الرنان عوامل الفقر. ولا تعجب أيها القارئ من ذلك؛ لأن آنية سليمان ملك إسرائيل وبيته وعرش ملكه العظيم ما صنع إلا من الذهب الذي أتي به من تلك البلاد، وقد ذكر ذلك في الكتاب المقدس في سفر الملوك الثالث «ف9 ي26: وبنى الملك سليمان سفنا في عصيون جابر التي بجانب أيلة عند شاطئ بحر القلزم (بحر الأحمر) في أرض آدوم، وأرسل ملك حيرام عبيده مع عبيد الملك سليمان قوما ملاحين عارفين بالبحر، فأتوا أوفير وأخذوا من هناك أربعمائة وعشرين قنطارا من الذهب، وأتوا بها إلى الملك سليمان.»
وفي الفصل العاشر من هذا السفر «ي14: وكان وزن الذهب الذي ورد على سليمان في سنة واحدة ستمائة وستة وستين قنطارا.» ومن هذا القدر المذكور مائة وعشرون قنطارا وكثير من الطيب والأحجار الكريمة أهدتها إليه ملكة سابا،
1
ويظهر أن رجالها ذهبوا أولا إلى زنجبار وساروا على شطوط الأقيانوس الهندي، حتى وصلوا إلى موزنبيق، ومنها إلى بلاد الأورنج والترنسفال، ومن هناك جاءوها بالذهب الكثير، فأهدته إلى أعظم ملوك عصرها. ومن ذلك يتضح بأجلى بيان أن معادن الذهب في تلك الجهات كانت معروفة عند بني إسرائيل، ثم خفي أمرها زمنا طويلا حتى سنة 1498، وفيها أوغل الرحالة البرتغالي المسمى فاسكو دي جاما في تلك البلاد، فصادفه الفلاح وقاده النجاح لاكتشاف معادن الذهب على شواطئ نهر الزنبيز، ولكن خبر ذلك الاكتشاف ظل مستترا، إلى سنة 1591، وفي هذه السنة كان رجل برتغالي يسمى باريتو جائلا في هذه البلاد التي لم يكن يقطنها إلا الزنوج المتوحشون الذين لا يعرفون للذهب قيمة، فلما مر باريتو بنهر الزنبيز تأكد له وجود الذهب هناك، فعاد إلى ليسبون عاصمة بلاده، وأخبر بما رآه، فلقبه مواطنوه بأمير الذهب، فحاز منزلة رفيعة، فأراد أن يعظم خدمته العمومية ليحسن ذكره ويزداد مجده، فعاد في أثناء السنة إلى بلاد الموزنبيق، وهناك أرشده أحد المرسلين اليسوعيين إلى شواطئ نهر كورانا حتى يصل إلى بلدة مانيكا، حيث يجد معادن الذهب المسماة معادن بوتنا ومانشيكا. وفي سنة 1845 أثبت العالم الجيولوجي النمساوي فون بوك وجود معادن الذهب والفضة في جنوب أفريقيا. ومن هذا الوقت تنبهت الأفكار للرحيل إلى هذه البقاع، وكثر الطامعون إليها، فتغلب الجنس الأبيض على الأسود، وذلك بعدما ملكت إنكلترا بلاد الكاب والناتال، وامتلك البوير الأورانج والترنسفال، وحينئذ ابتدأ العلماء الجيولوجيون في البحث. وفي سنة 1862 اكتشف الجيولوجي النمساوي كارل موك مناجم تاتي التي تبلغ مساحة أرضها الممتدة فيها عروق الذهب 240 ميلا مربعا. وفي سنة 1865 اكتشف السالف ذكره مناجم باشونالند التي تبلغ مساحة أرضها الذهبية 220 ميلا مربعا، وفي نفس السنة اكتشف أحد صيادي الأفيال المسمى نافارتي معادن ذهب أخرى في تأتي، وقد احتكرت شركة إنكليزية استخراج الذهب في هذه الجهة بمقتضى معاهدة عقدت بينها وبين ملك هذه البلاد المدعو لوبنجولا. وفي سنة 1868 اكتشف كارل موك معادن الذهب في شمال نهر الأفيال في مقاطعة ليدنبرج ببلاد الترنسفال، ثم اكتشفت في هذه الجهة معادن أخرى.
يوجد الذهب في بلاد الترنسفال في إحدى عشرة جهة مسماة بأسماء البلاد القريبة منها، ويدعوها البوير حقول الذهب، وتبلغ مساحتها نحو ستة ملايين متر مربع، وأهم هذه المدن ثمانية، وهي: ليدنبرج، الكاب، كوماتي، ويتواتر سرند، كليركسدورب، ملماني، زوتنسبرج، واتربرج.
معادن ليدنبرج
تنقسم إلى أربعة أقسام؛ الأول: في جبال دراكنسبرج القريبة من مدينة ليدنبرج، اكتشفت سنة 1868. والثاني: في جهة سبيون كوب، واكتشفت سنة 1869، ومكتشفوه ثلاثة، وهم المستر بيتون من الناتال، والمستر سيترلند الأمريكاني من كاليفورنيا، والمستر توماس ماك لكلان الإنكليزي، وقد كافأتهم الحكومة على خدمتهم. والثالث: معادن على شواطئ نهر بلجرزرست، اكتشفها سنة 1873 بيتون وسيترلند. والقسم الرابع: معادن ماكماك، اكتشفها المستر توماس سنة 1873، وفي ثاني سنة من تاريخ هذا الاكتشاف أرادت الحكومة إنشاء بلدة بالقرب منها، فحال دون قصدها وقوع النزاع والخلاف بين مستخرجي الذهب هناك، انجلى عنه مغادرتهم تلك الجهة، وتعطيل الأشغال فيها إلى سنة 1886، حين استولت عليه شركة إنكليزية وباشرت العمل، فكان حظها وافرا من ربحه العظيم.
معادن الكاب
تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول اكتشفه المستر توماس السالف ذكره في سنة 1875، ثم اكتشف القسم الثاني أحد الجولوجيون سنة 1882، وفي نفس هذه السنة اكتشف المستر شموز القسم الثالث، وكان الذهب فيه ظاهرا على وجه الأرض، وشعابه ممتدة إلى الرمال.
معادن كوماتي
لم يعلم تاريخ اكتشافها، والذهب فيها يوجد قطعا متفرقة، وعروقا ممتدة في الرمال.
معادن ويتواتر سرند
هذه المعادن من المعادن الكبرى ، اكتشفها سنة 1854 رجل من أمريكا فرنساوي الأصل، يسمى ماريا، وكانت الحكومة قد منعت استخراج الذهب في ذاك الوقت. وفي سنة 1868 صرح بريتوربوس رئيس الجمهورية بالاشتغال فيها، وكافأ المكتشف. وفي سنة 1878 وجد الذهب في قطع كثيرة من الأراضي في هذه الجهة، وفيها تأسست مدينة جوهانسبرج في أول سبتمبر سنة 1886.
معادن كليركسدورب
واقعة على الطريق الموصلة من كمبرلي إلى جوهانسبرج، وقد اكتشفت سنة 1886، وتأسست مدينة كليركسدورب بقربها بعد الاكتشاف بسنة واحدة، بعد أن كثر العمال في ذلك المكان، وهي تبعد عن كمبرلي مدينة الماس في الناتال بمقدار 130 ميلا.
معادن ملماني
تنقسم إلى سبعة أقسام، وتبلغ مساحتها 16300 هكتار، ويقدر عمق طبقة الأرض الذهبية بخمسة عشر ميلا، وهي طويلة تمتد أميالا كثيرة على شاطئ نهر ملماني.
معادن زوتنسبرج
تنقسم إلى قسمين، وتبلغ مساحتها 65684 هكتارا، واكتشفت سنة 1873، وهي ملك الحكومة، وفيها مناجم كثيرة، وذهبها كثير؛ ولذا تحسب في عداد الأقسام المهمة.
معادن واتربرج
هي آخر المعادن اكتشافا، وليست بمكان كبير من الأهمية.
مقادير الذهب
أما مقدار الذهب المستخرج من معادن الترنسفال في بدء ظهورها، فلم يكن كثيرا كما في سنة 1890 وما بعدها، ففي سنة 1887 كان المستخرج «1710 كيلوجرامات» وبلغ في سنة 1890 «16250 كيلو جراما»، أما في سنة 1897 فكان المستخرج من ست مقاطعات 72462 كيلو جراما، وهذا بيان كل جهة وما استخرج منها:
الجهة
كيلوجرام من الذهب
ويتواترسرند
62943
الكاب
2878
ليدنبرج
1884
كليركسدوب
4416
زوتنسبرج
331
ملماني
10
الجملة
72462
وفي سنة 1879 كثر الأجانب في بلاد الترنسفال للبحث عن الذهب واستخراجه، وحينئذ أنشأت حكومة الجمهورية مجلسا وناطت به النظر في أشغال الذهب، ووضعت له القوانين والعقوبات اللازمة، وهذه أهمها:
لا يمكن لأحد أن يشتغل بهذه الحرفة إلا إذا كان حسن السيرة والسلوك، وبيده رخصة من الحكومة تسوغ له ذلك، وإذا حدثت من أحد المستخرجين مشاجرة أو فتنة يحكم عليه بغرامة قدرها 26 فرنكا وتنزع منه رخصته.
وإذا تجرأ أحد على استخراج الذهب من قطعة أرض بدون نيل رخصة؛ يعاقب بدفع غرامة من 125 فرنكا إلى 625، وإذا امتنع عن دفعها يحبس من شهر إلى ستة أشهر.
وكل من تجار الأحجار الكريمة أو المعادن النفيسة يجب أن يكون له دفاتر حسابية، يقدم بمقتضاها كشفا بحسابها في أوائل كل شهر إلى نظارة المعادن، وإذا تأخر عن ذلك يعاقب بدفع غرامة قدرها 1250 فرنكا، وإن لم يدفع يحبس شهرا واحدا، وإذا ضبط أحدهم بدون رخصة يحكم عليه بغرامة قدرها 2590 فرنكا، أو يحبس بدل ذلك ستة أشهر.
وإذا تأخر أحد حاملي الرخص عن إبرازها عند طلب أحد مفتشي نظارة المعادن، يعاقب بدفع غرامة من 25 إلى 75 فرنكا.
وكل من يتعدى على حدود القطعة التي هي في إيجاره يحكم عليه بدفع غرامة قدرها 2500 فرنك، وإذا عجز عن دفعها يحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات.
وإذا أعطى أحد مستخرجي المعادن للزنوج العمال أحجارا كريمة أو معادن نفيسة مقابل أجورهم، يعاقب عقابا صارما، إما بالأشغال الشاقة أو بدفع غرامة لا تتجاوز 12500 فرنك، وتستولي الحكومة على أملاكه.
وكل من يبيع أو يستبدل أحجارا كريمة أو معادن خام ثمينة إلى أحد من الزنوج، يجازى بدفع غرامة 2500 فرنك، وإذا تأخر عن الدفع يحبس خمس سنوات، وتستولي الحكومة على أملاكه.
وكل من يتجرأ على فساد منجم
2
أو يعطل آلة من آلات الاستخراج، يعاقب بغرامة 2500 فرنك إلى 25000 فرنك، وبالأشغال الشاقة من ستة إلى عشر سنوات.
ومن عصى من الزنوج سيده أو تركه بدون أن يعلنه أو تهاون في أشغاله يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز عن الشهر أو يضرب 25 جلدة.
وعلى كل رئيس معمل أن يستأذن الحكومة في استخدام كل عبد يريده، ويوضح اسمه واسم قبيلته، ومن أغفل ذلك يعاقب بدفع غرامة ستة فرنكات وربع عن كل عبد، وثمن الرخصة عن كل عبد فرنك وربع.
وإذا انتهى أحد من استنباط الذهب في أرض وتركها بدون أن يعلن نظارة المعادن، يعاقب بغرامة من 25 فرنكا إلى 50 فرنكا، وبالحبس من نصف شهر إلى شهر كامل.
الزنوج
هم قبائل كثيرة مسماة بأسماء مختلفة، ولكل قبيلة رئيس يليق أن يطلق عليه اسم ملك؛ لأنه نافذ الكلمة مطاع الأمر مهاب من مرءوسيه، يدبر أمورهم وينظر في شكواهم. وقد كانوا قبلا متمتعين بالحرية والاستقلال، يسرحون ويمرحون كما تشتهي نفوسهم، وظلوا كذلك حتى داهمهم البوير بالأسلحة النارية التي كانوا يجهلونها، فحاربوهم المرة بعد المرة، حتى سلبوا استقلالهم وملكوا بلادهم، وحرموا عليهم السكنى في داخل المدن، فإذا دخلوها لقضاء حاجة فلا يؤذن لهم بدخولها بثيابهم الرثة؛ ولذلك كانوا يبتاعون ملابس الجند القديمة ليلبسوها حين دخولهم إليها، وقد حرم عليهم أيضا المشي على أرصفة الشوارع، بل يسيرون في وسطها، وعليهم أن يلزموا منازلهم من الساعة التاسعة مساء، ويوجد لهذه الغاية جرس في كل مدينة يسمى بجرس الزنوج، يقرع في الساعة المذكورة لتنبيههم بالتزام مساكنهم، فيلبون دقاته مطيعين. ويجتمع سكان كل كرال
1
معا في المساء، ويغنون بأصوات مزعجة تصدع الآذان.
وكذلك يقضون أيام أعيادهم بالرقص والطرب، وكل سكان كرال يذبحون في كل يوم عيد «بقرة»، ويفعلون ذلك بطعنها بالحراب في مواضع مختلفة حتى يسيل دمها وتفارقها روحها، وبعد ذلك يقسمونها بجلدها، وكل منهم يأخذ نصيبه ويشويه على النار، ويأكله مع أفراد عائلته. والساكنون منهم في خارج المدن يصنعون بيوتهم كالأكواخ، فتارة يصنعونها من البوص وطورا من الخيزران، ويسقفونها بتراب الطفل بعد عجنه بالماء. أما القاطنون في المدن؛ فأكثرهم يبنون مساكنهم بصناديق السردين الفارغة بعد ملئها بالتراب؛ لتحمل صدمات الزوابع والأمطار. أما ملابسهم فلا يهتمون بها مطلقا، وهم في غالب الأحيان عراة إلا رءوسهم، فإنهم يغطونها بأي شيء، ويكثرون من الحلقات في آذانهم وأيديهم وأعناقهم وأرجلهم، ومتى لبس أحدهم ثوبا فلا ينزعه عنه حتى يبلى.
ومنهم قبائل تسمى قبائل الكفرة، تعتقد بالأرواح، ومن عاداتهم أنه إذا مرض أحدهم مرضا خطرا يأخذ أهل المريض بقرة مسنة من عند أحد أقاربه؛ ليذبحها ضحية للأرواح، وبعد ذبحها يأخذون دمها ويحفظونه في وعاء ويضعونه في عشة مقفلة، ثم يفرقون على الجيران لحمها، فيأخذونه ساكتين؛ لئلا يزعجوا الأرواح المطالبة بشفاء المريض، ثم تذهب الأبكار، ويأتين بفروع الزيتون، ويضعنها على اللحم المراد توزيعه، وعلى كل مدعو أن يقدم تقدمة صغيرة زرا كان أو قطعة من الحديد ونحو ذلك ثم يبدأ بالأكل، وبعد ذلك يحملون العظام بكل احتراس ويضعونها في العشة التي وضع فيها الدم، ويضعون عليها أغصان الزيتون التي كانت على اللحم، ثم يحرقون العشة وفي ظنهم أن الدخان المتصاعد يسر الأرواح، وإذا توفي المريض ظنوا أن الأرواح غاضبة. ومن عاداتهم استيلاء الابن الأكبر على جميع نساء والده بعد وفاة هذا الأخير. والنساء في قبائل الزولس يعملن في فلاحة الأرض، وعلى الرجل أن يلاحظ المواشي فقط. ويقضي الرجال أوقاتهم في الصيد والتدخين، وإذا كانوا في سفر فعلى النساء حمل جميع الأحمال، حتى أولادهن، وهن عند رجالهن كالحيوانات، وللتدخين عند هؤلاء القبائل مزية عظيمة، لكل منهم قصبة مصنوعة من قرن البقر، يبطنونه بما يمنع احتراقه، ويوقدون فيه نوعا من الكتان البري، فعله كفعل الأفيون، يسبب لهم سعالا قويا يمكث بضع دقائق.
أما لغتهم فإنها كثيرة الأمثال والحكايات، يقضون الليالي في سردها، ويتوارثون ذلك أبا عن جد. أما قبائل البازوتس فقد كانوا في غاية التوحش، ولكنهم خطوا خطوة طويلة في سبيل التمدن. وبلادهم حافلة بالسكان، وأكثرهم يتجر في الصوف ويبنون منازلهم بالطوب والأحجار. ويدين كثير منهم بديانتهم القديمة، وهي عبادة الإله «باريني»، ويعتقدون أن له علاقة مع أرواح الأموات، ويصدقون بالخرافات التي لا يقبلها العقل. ويحل عند بعض القبائل قتل العجائز والمقعدين والمصابين بالأمراض العضالة التي لا سبيل إلى الشفاء منها.
ومن مصائبهم الكبرى إنكار الحكومة عليهم حق امتلاك شبر واحد من الأرض، وإذا أراد أحدهم أن يشتري قطعة للاسترزاق منها، يقصد أحد البوير ويستعير اسمه ويشتري الأرض، ويسجلها باسمه، فإذا كان البويري صاحب ذمة عاش العبد في مأمن من غدره، أما إذا وسوس له شيطان الطمع طرد العبد من أرضه واستولى عليها غنيمة باردة، فيتركها العبد بحالة تفتت الأكباد، ولا يجد مسليا إلا البكاء ولا ملجأ غير الشقاء، وماذا يفعل وباب العدل مغلق في وجهه والمحاكم لا تسمع له شكوى ولا تجيب له نداء؟!
الجزء
تاريخ الترنسفال
تأسيس مدينة رأس الرجا الصالح
لا بد من الإتيان على تاريخ هذه المدينة قبل النظر في تاريخ الترنسفال لما بين الاثنين من العلاقات التاريخية.
في سنة 1498 اكتشف الرحالة البرتغالي فاسكو دي جاما طريق الهند عن رأس الرجاء، فكان من خير الاكتشافات وأهمها لتسهيل التجارة ما بين هولندا والهند، فتأسست في هولندا شركة تجارية عظيمة، سميت باسم شركة الهند الهولندية، وصارت ترسل البضائع من هولندا على مراكبها وتستبدلها بالبضائع الهندية، ولم يكن سير المراكب سهلا لما كان يتهددها من المخاطر قبل وصولها إلى مكان مدينة رأس الرجا، فلم يكن ملاحوها ولا ركابها في مأمن إلا بعد وصولهم لسان داخلة في البحر، فإذا بلغوه قالوا: لقد وصلنا إلى رأس الرجا الصالح، فشاعت هذه التسمية. وفي سنة 1652 كان في أحد مراكب الشركة طبيب ماهر هولندي يسمى ريبيك، فخطر له في إحدى رحلاته أن يبني مدينة هناك، تكون ملجأ للسفن إذا أصيبت بسوء وتكون مينا في جنوب أفريقيا، تقف عندها المراكب، ولم يتردد في هذا العزم، بل أخرجه سريعا من حيز الفكر إلى العمل، فوضع أساسها وسميت باسمها الشائع إذ ذاك؛ أي: رأس الرجا الصالح. ولم يمض عليها قليل من الزمن حتى حل فيها بعض الناس من الذين تحطمت مراكبهم، فسلموا من الغرق وأسماك البحر. ثم تنبهت شركة الهند الهولندية لتعمير هذه الجهات تماما، فأسست فيها شركة زراعية لهذه الغاية، ولغايتها الخصوصية، فخدمها السعد وقصدها كثير من المهاجرين تقدموا للعمل، فكانت تعطي لكل قاصد ما يكفيه من الأرض التي تمكنه زراعتها مع الأدوات اللازمة لفلاحتها والحبوب الكافية. وبالجملة فإنها كانت تعطيه كل ما يحتاج إليه على شروط مؤداها أن لا يبيع محاصيله إلا للشركة، فكثرت السكان وامتدت المساكن إلى جهة الشمال، وصارت مدينة هولندية، وتعين مؤسسها حاكما عليها من حكومة هولندا.
أصل البوير1
وكان يوم 22 أكتوبر سنة 1685 يوما مشهورا في فرنسا، بسبب إلغاء فرمان «نانت»،
2
وقد قيل: مصائب قوم عند قوم فوائد؛ لأن إلغاء هذا الفرمان عاد بالفائدة على شركة جنوب أفريقيا الزراعية؛ لكن كان ضربة قاضية على هامات البروتستانت الذين لم يعد في وسعهم الإقامة في فرنسا بعد إلغاء الفرمان الضامن لمصالحهم، فأجبروا على مغادرة وطنهم، وعولوا على الرحيل إلى جهة أخرى، ليتخذوها وطنا لهم، وطلبوا ذلك من بروسيا وإنكلترا وهولندا، فعندئذ بادرت شركة جنوب أفريقيا الهولندية لإجابة ملتمسهم، وأرسلت من قبلها مندوبين يدعونهم للرحيل إلى جنوب أفريقيا والإقامة هناك إذا طابت لهم المعيشة، فلبوا دعوتها، فهاجر من فرنسا إلى هولندا مائة وخمسون عائلة على نفقتهم، ومن ثم نقلتهم الشركة إلى جنوب أفريقيا بدون مقابل، بعدما عقدوا معها معاهدة بتاريخ 20 أكتوبر سنة 1687، وإليك أهم بنودها:
أولا:
تتعهد الشركة بتسفيرهم من هولندا إلى رأس الرجا الصالح على نفقتها.
ثانيا:
لا تتكلف الشركة بالإنفاق عليهم بعد وصولهم، وإنما عليها أن تعطيهم الآلات والأدوات اللازمة والأرض الكافية للزراعة والحبوب اللازمة لها، وكل ذلك بدون مقابل لمدة معلومة.
ثالثا:
على المهاجرين أن يقيموا في جنوب أفريقيا مدة لا تقل عن خمس سنوات، ولكن إذا اضطر أحدهم للرحيل لداع شرعي يطلب ذلك من مجلس الشركة.
رابعا:
بعد انتهاء السنوات الخمس، يتخير المهاجرون في الإقامة أو المهاجرة، فإذا أراد أحدهم العودة إلى بلاده أو إلى بلاد أخرى، يطلب ذلك من مجلس الشركة؛ لكي تستلم الأرض وتسفره على نفقتها إلى حيث شاء.
خامسا:
من يريد الإقامة بعد فوات الخمس سنوات، فعليه أن يقسم يمين الطاعة والخضوع لأحكام البلاد أمام مجلس الشركة.
ولما حصل الاتفاق بين الطرفين، أمرت الحكومة حاكم هذه المدينة أن يستقبل المهاجرين، فكانت المراكب تقوم بهم من «ديلتهافن» إحدى موانئ هولندا، وما زالوا يهاجرون إلى هذه المدينة الجديدة إلى سنة 1690، وقد بلغ عدد المهاجرين ثلاثمائة وخمسين نفسا. أما حاكم المدينة فإنه جمع الفرنساويين وأمرهم بالإقامة في جهتين وهما: وادي نهر اللؤلؤ ونهر الأفيال، فبنوا هناك بلدة سميت «فرنش هوك»؛ أي: الركن الفرنساوي، ثم أخذوا يمارسون مهنة الفلاحة بمزيد الدقة والإتقان، فنجح اجتهادهم خصوصا في كروم العنب، فإنها فاقت كروم فرنسا. وكان الهولنديون يجهلون في ذلك الوقت كيفية استخراج النبيذ وباقي الخمور والزيوت، فعلمهم المهاجرون زراعتها وعاشوا معهم تحت ظل الصفا والهناء إلى سنة 1709، ثم حصل خلاف ونفور بين الهولنديين والمهاجرين الفرنساويين، بعد أن ولي الأحكام رجل اسمه فان درسين؛ فهذا أصدر الأوامر الشديدة القاضية بعدم استعمال اللغة الفرنساوية في الأمور الرسمية، وتشييد الكنائس والمدارس الهولندية، مع عدم منح المهاجرين حرية الأديان والمذاهب، وجعل تعليم اللغة الهولندية إجباريا؛ فأحدثت هذه الأمور كرها في أفئدة الطرفين، وعارض المهاجرون في ذلك كثيرا، ولكن ذهبت معارضتهم أدراج الرياح، فزال من بينهم الصفاء والهناء. وفي سنة 1724 قرئت التوراة لآخر مرة باللغة الفرنساوية. وفي سنة 1780 كانت اللغة الفرنساوية في خبر كان في هذه البلاد، وتعود المهاجرون على اللغة الهولندية، وصاروا يحسنون التكلم بها.
احتلال إنكلترا الأول
ولما تحسنت الزراعة والتجارة في بلاد الرأس، وكثرت سكانها واتسعت بلدانها، وصارت مستعمرة واسعة الأرجاء، كثيرة الخيرات، يسرح سكانها في ميادين الهنا ويمرحون في ساحات العز؛ أرادت بريطانيا العظمى حفظ الموانئ والطرق الموصلة إلى الهند، فطلبت من حكومة هولندا أن تتنازل لها عن هذه المستعمرة، فتعطيها مقابل ذلك تعويضا، فلبت هولندا الطلب، وكان ذلك في سنة 1795، فجهزت إنكلترا أسطولا تحت قيادة الأميرال ألفنستون، وعقدت لواء الجيش على الجنرال كريج، ولما علم المهاجرون بقدوم الجيش الإنكليزي تناسوا ما بينهم وما بين الهولنديين المقيمين معهم من النفور والعداوة، وعقدوا الخناصر على الاتفاق ضد الجنود البريطانية.
وفي الحال تألف من الطرفين جيش تحت قيادة أحد المهاجرين المسمى الكابتن دي بلسيس، فقاوم الجنود البريطانية مقاومة عظيمة، حتى أوقفها في مضيق فيزنبرج 48 ساعة، وأظهر من المهارة وضروب الشجاعة ما يحير العقول، ولكن جميع ذلك ذهب دون جدوى؛ لأن النصر تم للإنكليز، أما أعمال دي بلسيس وتدبيراته الحربية فقد جعلت له مقاما ساميا في عيون العظماء، حتى إن نفس الجنرال كريج بعد احتلاله المستعمرة وتوليه أحكامها، أراد أن يكافئه على شجاعته، فقدم له سيف الشرف ليكون تذكارا له، وأشيع بأن نابوليون بونابرت أرسل له يشكره ويدعوه للعودة إلى فرنسا ووعده أن يعطيه لقب دوق، فأبى أن يهجر مستعمرة الكاب، ولو أنها صارت مستعمرة إنكليزية، أما هذا الاحتلال فكان قصير العمر، ففي سنة 1802 عقدت معاهدة سميت بمعاهدة أمين
1
بين فرنسا وإنكلترا وإسبانيا وهولندا، مآلها سحب الجنود الإنكليزية من مستعمرة الرأس حسب طلب فرنسا، فأجابت إنكلترا ذلك وصادقت الدول الأربع على المعاهدة المذكورة، على أن أجلها كان أقصر من أجل الاحتلال المشار إليه؛ فلم يعمل بها سوى أربع سنوات؛ وذلك أنه لما تولى لويس بونابرت ملكا على هولندا سنة 1806 انتهزت إنكلترا هذه الفرصة، فطلبت منه أن تحتل مستعمرة الرأس مرة ثانية، فأجاب طلبها، وللحال أرسلت جنودها لاحتلال بلاد الرأس كما كانت، وأنفذت من قبلها حكاما من نخبة الإنكليز أجروا العدل في أرجائها، ونشروا لواء الحرية على ربوعها. ولما احتلت إنكلترا البلاد تنازلت للبوير عن الأراضي التي أخذوها من الشركة، فاستغزروا منها هذا الكرم الذي لم يحلموا به قبلا، وما علموا أن ذلك التنازل ما حصل إلا لتستميلهم إليها؛ لأن سلطتها كانت سلطة احتلالية فقط، وكانت تنتهز الفرص لضم هذه المستعمرة إلى أملاكها، وقد أتيح لها ذلك في سنة 1814 بمقتضى معاهدة عقدت بينها وبين هولندا، ولما علم المهاجرون بذلك تناسوا فضلها وما رضوا بالخضوع لأحكامها، وأرادوا مقاومتها على قدر استطاعتهم، فامتدت الفتنة حتى شملتهم جميعا. وكان زعيمهم الأكبر رجل منهم يدعى بذندنهوت، كان يحرضهم كثيرا على نبذ أوامرها، وكأن إنكلترا احتقرت الأمر في بدأته ثم استعظمته أخيرا؛ ولذا قبضت على خمسة من زعمائهم، وفي مقدمتهم بذندنهوت وحكمت عليهم بالإعدام شنقا عبرة لرفقائهم، وأنفذ فيهم الحكم على قمة جبل يسميه البوير «سلشيترنسك»؛ أي: قمة المذبحة.
وكان ذلك في 9 مارس سنة 1814 فأخلد البوير إلى السكينة وجعلوا صدورهم حجابا لحقدهم متوعدين الإنكليز بالانتقام والأخذ بالثأر، ووطنوا النفس على انتهاز الفرصة، وما زالوا كذلك إلى سنة 1827، ثم أرادوا العودة إلى العصيان ودس الدسائس وإلقاء الفتن بينهم وبين الإنكليز، فلما أشعر الإنكليز بذلك أخطروا حكومتهم، وبعد المفاوضات بين حكام الكاب وحكومة لندرا لاستبدال النظام الهولندي بنظام إنكليزي وجعل تعليم اللغة الإنكليزية إجبارية، تعين لهذا الغرض مندوب سياسي اسمه استوكنستروم، وكان يبغض قبائل الزنوج بغضا شديدا لقتلهم والده، فأراد أن ينتقم منهم؛ ولذلك صار يشجع البوير ويغريهم على قتال الزنوج، فما زالت الفتن منتشرة بينهم إلى سنة 1833، ثم قنع المندوب الإنكليزي بما مضى من المشاكل، فأراد أن يوقف البوير عند حدهم، وأصدر أمرا بمنع تجارة الرقيق ومنح الحرية والمساواة بين جميع السكان، فهاج البوير عند ذلك، وماجوا وملئوا الفضاء بصراخهم واعتراضاتهم. ولما رأى أن الفتنة تعاظمت طلب الاستعفاء من حكومته، فأعفته وعينت بدله مندوبا آخر يسمى بنيامين دربان، وبعد تعيينه هاجم عشرون ألفا من قبيلة الكفرة بلاد الرأس تشفيا وانتقاما من البوير، فاتحد البوير والإنكليز على قتالهم وردوا الزنونج خاسرين إلى ما وراء نهر الكي. وكانت إنكلترا تظن أن هذا النصر كان فاتحة الاتحاد مع البوير، ولم تدر أنه صار سببا لتشحيذ همتهم وتشجيعهم وحبهم للاستقلال، فعولوا على السعي في سبيله من تلك الساعة.
الرحيل إلى الناتال
وكان من البوير رجل جليل القدر مسموع الكلمة، محبوب من بني جنسه اسمه ريتيف، فكتب منشورا ووزعه على إخوانه، دعاهم به إلى الرحيل إلى بلاد بعيدة عن النفوذ البريطاني، يتخذونها وطنا لهم، ويعيشون فيها مستقلين، فصادف اقتراحه قبولا تاما ولحق به عشرة آلاف رجل. وكانت بلاد الترنسفال حينئذ لا يقطنها إلا الزنوج، فألف بير ريتيف فرقة من رجاله وأرسلها لارتياد أرض كافية تقوم بمعيشتهم، فذهبت هذه الفرقة، وعبرت نهر أورنج ثم نهر الفال، ووقفت تحت جبال اسمها جبال عشب السكر، ثم عادوا إلى إخوانهم، وأخبروهم بوجود أرض خصبة شاسعة، فهاجر العشرة الآلاف تحت قيادة ريتيف إلى تلك الأراضي. أما إنكلترا فهالها ذلك الأمر، وأخذت تبحث عن أسباب مهاجرتهم، ومنعت إخوانهم عن الالتحاق بهم، فانتهز إستوكنسروم هذه الفرصة واعترض على أعمال بنيامين دربان، وانتقد صنعه أمام حكومته، فعينته الحكومة ثانيا حاكما لمستعمرة الرأس مع بنيامين دربان، باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع المهاجرين، فبوصوله أصدر الأوامر والمنشورات الكثيرة وعقدت معاهدات مع القبائل.
وقرر بأن سلطة إنكلترا تشمل السكان والأراضي الممتدة إلى درجة 25 من العرض، وفعل ذلك دون أن يستشير بنيامين، فلما رأى هذا الأخير استقلاله بالرأي استقال عن وظيفته وترك المستعمرة لاستوكنستروم الذي لم ينجح في أعماله أيضا، إذ زاد عدد المهاجرين في أيامه فبلغ سبعة عشر ألفا. أما المهاجرون فانقسموا إلى أربعة أقسام، تولى قيادتهم أربعة من عظمائهم؛ وهم: جيرت موريس، وبيتر هيز وبوتجتر وبرتوريوس، والجميع تحت قيادة بير ريتيف، وذهب كل فريق في جهة، واتفقوا على الاجتماع في نقطة واحدة، ولما وصل بعضهم إلى حدود المتابيلان وقف على شاطئ نهر موريكفه في أراضي موزيليكاتس ملك إحدى قبائل الزنوج. فلما علم هذا الملك بوصولهم طمع في أخذ عشر خيام وعشر نساء منهم.
زنوج يقاتلون معسكر بويري.
فأرسل من قبيلته ثلاثة آلاف رجل، وكان عدد البوير في هذه النقطة لا يتجاوز الأربعين رجلا، غير نسائهم وأطفالهم، ففي ليلة دهماء أخذ الزنوج بالمسير زمرا زمرا بغير نظام، قاصدين موقع البوير، ولكن عواء الكلاب نبه أفكارهم وأعلمهم بأن عدوا يريد مفاجأتهم، فأخذوا يستعدون للقائه، ووضعوا عرباتهم بشكل مربع وتحصنوا فيها، وعند بزوغ الشمس بدأ القتال بين الفريقين، ولم تمض نصف ساعة حتى بلغ عدد قتلى الزنوج مائة نفس تقريبا، وقتل من البوير اثنان، وجرح اثنان، فولت الزنوج مدبرة مذعورة. هذا كان نصيب بعض المهاجرين، ولم تقل عثرات البعض الآخر عن ذلك؛ لأن القبائل الأخرى كانت تناوشهم كثيرا، حتى كادوا أن يرجعوا من حيث أتوا، ثم سهل لهم الله بأن انتشب القتال ما بين دنجان ملك الأمازولس وموزيليكاتس، فانتهز البوير الفرصة وهجموا على بلاد موزيليكاتس، وغنموا منها غنائم كثيرة. كل ذلك حدث لهم قبل أن يقطعوا جبال دراكنسبرج، حيث صعد بير ريتيف إلى أعلاها فأراهم أراضي الناتال، وقال لهم: سيعطيكم الله هذه الأرض الفسيحة الخصبة لتكون وطنا لكم عن قريب. ولما علمت إنكلترا بقصدهم هذا أرسلت تنذرهم بأنها لا تجيز لهم التخلص من نفوذها، كما أنها لا تسمح لهم بإنشاء حكومة مستقلة في الأراضي التابعة لأملاكها، وكانت مينا الناتال ملكا لإنكلترا ولها حاكم إنكليزي، وحول المينا أراضي واسعة تكفي لإقامة الملايين من البشر، ولكنها خالية من السكان، وهي التي طمع في امتلاكها البوير؛ لذلك شحذوا غرار عزيمتهم وقطعوا الجبال المذكورة قاصدين بلاد الناتال التي كان جزء منها تابعا لإنكلترا، فعبروا نهر توجلا من عند منبعه، وأقاموا على ضفتيه ثم تركهم بير ريتيف قاصدا مينا الناتال، وكان وصوله إليها في أكتوبر سنة 1837، فلقي فيها المستر بيجر حاكمها، فقابله هو والسكان بكل ترحاب، ولما أطلعهم على قصده من رغبته في الإقامة بجوارهم أذنوا له بذلك بكل ارتياح وطيبة نفس.
الملك شاكا
وفي سنة 1813 تولى شاكا على قبيلة الزولس، وكان رجلا قويا برجاله حكيما بعقله، مشهورا بالطمع، شديد الرغبة في غزو البلاد المجاورة له، وكان ينتصر في أكثر وقائعه الحربية حتى أرهب القلوب وخافته جميع القبائل، وقد اشتهر بالظلم لسوء معاملته لأسرائه ومعاملته لأهل قبيلته أيضا؛ لأنه كان يأمر بقتل 800 رجل من رجاله في كل عيد، ولما ماتت والدته أمر ألفا من رجاله أن يقتلوا أنفسهم حزنا عليها، وذبح معهم ألف بقرة، وكان من أحكامه أيضا قتل جميع الحبالى، وكان تحت سلطته رجال أبطال وقواد شجعان أعظمهم يسمى موزيليكاتس الذي لفرط إعجاب قومه بمهارته في فن الحرب وقوته العقلية والجسدية لقبوه بالأسد.
ولما رأى هذا القائد العظيم ما وصلت إليه درجته بين قومه وشدة محبتهم له شق عصا الطاعة على ولي أمره. وانضم تحت لوائه كثير من رجاله، ولم يكن يريد خلع الملك شاكا والتولي بدله، بل أنشأ قبيلة جديدة، يكون هو حاكما عليها؛ ولذلك أخذ رجاله ورحل إلى الجهة الشمالية في سنة 1824، وكان سكانها من قبيلة البازوتس، وكان بينهم وبين قبيلة الزولس ضغائن وأحقاد كامنة في صدور الطرفين. فاحتل الأسد بلادهم، وبعدما نال ما تمنى أراد أن يتمتع بالراحة في بلاده الجديدة، ويفتخر بما ناله من السيادة مهنئا نفسه بنوال المشتهى. أما الملك شاكا فاستشاط غضبا من هذا القائد، وأراد أن ينتقم منه، ويرده خاسئا أو يورده المنون، فشرع في تنظيم جيش ليرسله إليه، فصادفته المنية بأن قتله أخوه دنجان قبل أن يبلغ إربه سنة 1828 بعد أن حكم خمس عشرة سنة، وتولى بعده أخوه دنجان الذي قتله طمعا في الملك، ولما صفا له الجو، سار على خطة أخيه وجمع جيشا وأرسله لقتال الأسد، فسار الجيش بعيدا عن بلاد الزولس نحو 300 ميل، وعبر جبال كتلا هنبين، وهناك التقى برجال موزيليكاتس والتحم القتال بينهما، وانجلى عن قتل الأسد وتبديد رجاله، وكان ذلك في سنة 1836.
حادثة دنجان
وبعد وصول بير ريتيف إلى الناتال لقي رجالا من قبيلة الزولس، فأعطاهم كتابا مؤرخا 23 أكتوبر سنة 1837 لملكهم دنجان يعلمه فيه بأنه عازم على زيارته قريبا؛ ليخبره عن الأسباب التي دعتهم للمهاجرة من بلاد الكاب، ولكي يعين له الأراضي التي يرغب الإقامة فيها هو ورجاله؛ لأنها مجاورة لأملاكه، ويقول له: إنني آمل أن نعيش معا بالاتفاق الدائم والصفا المستمر. ولم تمض أيام قلائل على إرساله الكتاب حتى قام قاصدا إنكجلوف عاصمة الزولس، فقابله دنجان بكل فتور؛ لعلمه بما كان يحدث منه ضد إنكلترا من الفتن في مستعمرة الكاب، فعقد النية على التخلص من البوير ومجاورتهم، فقال له دنجان: لا تؤاخذني إذا قلت لك بأني لا أعرفك، ولا أعرف رجالك قبل الآن، ولقد سرقت بهائم كثيرة من قبيلتي، وقال لي بعض رجالي بأنهم رأوها عندكم؛ ولذلك لا يمكنني التصريح لكم بالإقامة في الأراضي التي جئتم تطلبونها حتى أتفحص الأمر جيدا. فاستفهم حينئذ ريتيف عن البهائم المسروقة من دنجان، فأجابه بأنه رآها عند شيخ قبيلة صغيرة اسمه سينكويولا، وأعطاه وعدا صريحا بأنه يأتيه بها من السارق، ففرح دنجان بهذا الوعد، وأفهمه بأنه إذا وفى بما وعد يمنحه طلبه، وعلى ذلك تم الاتفاق.
وفي يوم 3 فبراير سنة 1838 حضر إلى دنجان رجال من البوير وفي مقدمتهم بير ريتيف، ومعهم البهائم المسروقة والسارق سينكويولا، فشكرهم على عملهم وحدد لهم يوم 5 فبراير للتوقيع على المعاهدة القاضية بإعطائهم الأراضي التي طلبوها للإقامة فيها، وفي اليوم المذكور عقد مجلسا ضم أقرباءه وأمراء قبيلته وانتظم به البوير، وصار التوقيع على المعاهدة، ولكن بعد التوقيع عليها ظهرت على دنجان علامات الارتباك كأنه ندم على ما حصل. وكان هذا الملك من دهاة قومه قد اشتهر بالغدر والخيانة، فأخذ يثني على البوير كثيرا وأظهر لهم التودد الصادر عن التملق، وكان حديثه الحلو حجابا لفكره المر، فظنوا أنفسهم في مقام صديق ودود لا يغيره الدهر. ولما أرادوا الانصراف منعهم ودعاهم إلى مأدبة شائقة قد أعدها لهم أمام منزله، فلبوا دعوته وذهبوا إليها، فوجدوا مقاعد مصطفة على شكل دائرة في صدرها مقعد مرتفع، جلس عليه دنجان، وأجلس البوير بالقرب منه، ثم أمر خدمه بإحضار الشولا
1
وأمر رجاله بأن يغنوا ويرقصوا، وبعد مضي نصف ساعة قام دنجان منتصبا على قدميه، وغنى نشيدا بلغته لم يفهمه البوير، قال في آخره ما معناه: «اشربوا اشربوا حتى لا يمكنكم شربه بعد.» وكان غناؤه بصوت جهوري أفزع البوير وانقبضت قلوبهم منه، وبينما هم كذلك صرخ صرخة اهتز لها المكان، وقال: إلي يا رجالي، هيا اقتلوهم عن آخرهم. فما أتم كلماته هذه حتى هجم كل عشرة من الزنوج على رجل من البوير، وذبحوهم ذبحا، فذهب هؤلاء المساكين شهداء الخيانة والغدر، وفي أثناء هذه المذبحة كان دنجان يصيح برجاله؛ لكي ينزعوا كبد وقلب بير ريتيف فنزعوهما وقدموهما لدنجان، فأمر بإلقائهما على الطريق المؤدي إلى الناتال. وبعد ذلك تفاوض في الأمر مع اثنين من رجاله أحدهما يدعى أشلالا والثاني تامبوسا، فأشارا عليه بإرسال حملة إلى الجهة المقيم بها البوير، فقبل مشورتهما، وفي 16 فبراير سنة 1838 أرسل دنجان عشرة آلاف رجل إلى نهر بوشمن فهجموا على البوير القاطنين بالقرب من النهر المذكور، وأهلكوهم عن آخرهم.
يوم الباغي دنجان
وبعد واقعة نهر بوشمن عزم الزنوج على مواصلة القتال والهجوم على باقي البوير، وانقسموا إلى جملة فرق سارت كل منها في جهة، وأكبر فرقة قصدت نهر بلوكرنتز، حيث كان بوتجيتر وجاكوبيس هيز وموريتسن، ولما بدءوا بالهجوم كان البوير جميعا في استعداد تام للقائهم، فهزموهم شر هزيمة، وقتلوا منهم ما ينوف عن الستمائة رجل، عدا الذين غرقوا في النهر عند عبوره، فرجعوا متقهقرين إلى بلادهم، ولم يكتف البوير بذلك، بل أرادوا أن يهاجموا بلاد الزولس ليأخذوا بثأر إخوانهم ، ولو دفعهم ذلك إلى الموت عن بكرة أبيهم، ولكن قلة عددهم وعددهم كانت حائلا دون مشتهاهم، فاستغاثوا بالإنكليز سكان الناتال، وطلبوا منهم المساعدة فلم يضنوا عليهم بها، وساروا لمحاربة دنجان. ولما علم هذا بقدومهم جمع رجاله تحت قيادة أخيه المسمى بندا. وانقسم جيش الأمازولس إلى ثلاثة أقسام، بقي قسم منها بالعاصمة للمحافظة عليها، وسار القسمان الآخران لمقابلة البوير؛ فالتقى الجيشان في 16 أبريل سنة 1838، واحتدمت نيران الوغى بينهما، وكان يوما هائلا شابت فيه لمم الأطفال، وفنيت فيه أبطال الرجال، وما غربت شمسه إلا والبوير عائدون بخفي حنين، يقطرون بدل الدمع دما، ويصعدون بدل التنفس نارا؛ لشدة الحقد والغيظ والندم على ما قتل منهم؛ خصوصا على فقد أحد قوادهم بيتر وابنه، فضلا عن عودتهم بالخيبة والخزلان؛ ولذلك كانت كبارهم تبكي كصغارهم، وسميت النقطة التي كسروا فيها ونين؛ أي: محل البكاء. وظلوا عاكفين على الجمر إلى ديسمبر من السنة نفسها، وقد ضاقت بهم الدنيا على رحبها، فطلبوا المساعدة من الناتال مرة ثانية، وكان حاكم الكاب في ذاك الوقت اسمه جورج نابير، فأصدر أمره بعدم مساعدتهم بالكلية، ومنع عنهم الأسلحة والبارود، وأعلنهم بأن يعودوا إلى مستعمرة الرأس، ويعيشوا كما كانوا، فأبوا أن يقبلوا ذلك، واكتفوا بما عندهم من الميرة والذخائر، وهاجروا جزء عظيم منهم بلاد الناتال تحت قيادة بريتوريوس. فأرسل الحاكم المذكور في أثرهم مائة عسكري بقيادة الميجر شارتر لإرجاعهم، فما قدروا عليهم، ورجعوا مخذولين. وكان بندا ينظر لأخيه دنجان بعين الحسد، ولما علم هذا الأخير بذلك خاف منه أن يسعى في خلعه أو قتله، فأراد قتله ليكتفي شره. ولما أحس بندا بما يضمره له أخوه من السوء؛ هرب من عنده ومعه كثير من رجال القبيلة المخلصين له، وتقابل مع البوير، وانضم معهم وسار في مقدمتهم لمقاتلة أخيه، فما شعر دنجان إلا والبوير على حدود بلاده بالقرب من نهر الجاموس، وكان ذلك في 14 ديسمبر سنة 1838، فجمع من رجاله خمسة وثلاثين ألف مقاتل، وخرج بنفسه لقتالهم، فعلموا البوير بذلك، وكان عددهم وقتئذ لا يتجاوز الألفين غير رجال بندا.
وفي صباح 15 ديسمبر سجدوا جميعا وصاروا يصلون ويتضرعون إلى الله بخضوع طالبين منه القدرة على إذلال عدوهم، ونذروا جميعا أنه إذا تم لهم النصر يشيدون كنيسة عظيمة تذكارا لذاك اليوم، ويجعلونه يوما سعيدا يحتفلون به سنويا، وبعد انقضا صلاتهم برزت الغزالة من خدرها بثوبها الوردي، كأنها تخاطبهم قائلة: صلواتكم صعدت أمام الله فقوبلت بالقبول! وبينما هم كذلك تقدمت طليعة جيش الزولس فقابلتهم البوير بالمدافع والبنادق وظل القتال مشتغلا النهار بطوله، وثبت الفوز فيه للبوير، وفي اليوم الثاني؛ أي: يوم 16 ديسمبر جدوا في القتال، وكانت يد الله معهم؛ فما غربت الشمس حتى مدت أشعتها إليهم تصافحهم وتبشرهم بالنصر. ولما رأى دنجان عجز رجاله أمرهم بالهجوم دفعة واحدة، فهجموا كقطيع بلا راع، وقد أوقع الله الرعب في قلوبهم لأمر دبره بحكمته، فكانوا يختبئون وراء الصخور وألقى الكثيرون منهم بنفوسهم في نهر الجاموس ورصاص البوير يتساقط عليهم، وبلغ عدد القتلى أربعة آلاف تقريبا. ولما عجز دنجان عن المقاومة أشعل النار في عاصمة بلاده وفر هاربا مع بعض رجاله إلى قبيلة البازوتس، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقتلوه أشر قتلة. أما البوير فإنهم وصلوا العاصمة في 19 ديسمبر ووفوا بنذرهم وشيدوا كنيسة بيتر ماري تزبرج تذكارا لانتصارهم هذا. وظلوا يحتفلون بمثل هذا اليوم من كل سنة ويسمونه عيد يوم دنجان. وفي 13 يناير سنة 1839 قامت حملة من البوير من بيتر ماري تزبرج للبحث عن دنجان ورجاله مؤلفة من 300 بويري و400 رجل من قبيلة الكفرة وقبيلة الهوتنتو، وأخذوا معهم ما يلزمهم من الذخيرة والمؤنة، وساروا خمسة أيام حتى وصلوا إلى نهر توجلا، وكان ذلك في مدة فيضانه، فقاسوا كثيرا في عبوره، وعسكروا على الضفة المقابلة منتظرين المدد من الغرب، ومكثوا في الانتظار يومين قضوهما في مطالعة التوراة والترانيم الروحية. وفي 21 منه وصل المدد فقاموا جميعا وعبروا نهر كليب، وتطوع لهم عدد عظيم من قبيلة الماتانيا، وبعدما استراحوا جملة أيام قاموا وعبروا نهر أم شيناتي. وفي 31 منه، عبروا نهر أم فيلوس، وفي 2 فبراير وصل إليهم مدد آخر مؤلف من 150 بويريا بقيادة القومندان لومبار. وبعد البحث الطويل اتضح لهم موت دنجان، ولكنهم التقوا برجاله فهزموهم، فاكتفى بريتوريوس بذلك وولى بندا ملكا على قبيلة الأمازولس، بعد أن أقسم له أن يعيش خاضعا للبوير ومسالما لهم. ثم أعلن برتوريوس أن الأراضي الكائنة ما بين نهر توجلا ونهر أم فيلوس صارت من أملاك البوير، فقطن كثير منهم تلك الأراضي وأسسوا فيها مدينة ميدلبرج. وهذه كانت أول حرب أظهر فيها البوير ما يدهش العقول من الشجاعة في القتال.
المهاجرة من الناتال
لم تطل مدة إقامة البوير في الناتال؛ وذلك أن بريطانيا العظمى أرادت ضم الناتال إلى أملاكها، فألغت القرار الذي أصدره استوكنستروم حاكم مستعمرة الرأس قبلا، القائل فيه بأن نفوذ جلالة الملكة وسلطتها تنبسط إلى درجة 29 من العرض، وطلبت احتلالها احتلالا حربيا، فاعترض البوير عليها، وجاهروا بالعصيان والاستقلال. وفي 20 مايو سنة 1842 أرسلت إنكلترا من بلاد الرأس إلى مينا الناتال 350 جنديا بقيادة الكابتن سميث ومعهم خمسة مدافع وخمسة وستون عربة تحمل المؤنة والذخيرة. ولما وصلوا أخذوا في إقامة الحصون، فأرسل إليه بريتوريوس يطلب منه الكف عن العمل، فلم يعبأ بكلامه وأعلنه بأنه تعين حاكما للناتال، ويأمره بأن ينجلي عن بلدة كونجيلا الواقعة شمال المينا، فما أجاب طلبه؛ وعلى ذلك أخذ الكابتن المذكور مدفعين و115 عسكريا وسار بهم قاصدا كونجيلا لطرد البوير، فأرسل إلى بريتوريوس يطلب منه المقابلة للمفاوضة في الأمر قبل استفحاله، فأجاب الطلب، ولكنهما افترقا على غير اتفاق.
وطلب بريتوريوس مرة أخرى من الكابتن سميث إيقاف بناء الحصون فأبى الكابتن ذلك؛ وحينئذ ابتدأ القتال بين الطرفين وظل مستمرا إلى 23 مايو، فلم يتمكن الإنكليز من فتح كونجلا، فعولوا على المسير إليها ليلا ليفتحوها عنوة، فقامت فرقة ثانية في الساعة الحادية عشرة مساء، وكان سيرهم سرا، ولكن غاغة المدافع والعربات هتكت السر وأيقظت البوير، فاختبأ منهم 80 رجلا في غابة عظيمة بطريق الإنكليز، فبينما هم سائرون لا يحسبون للعدو حسابا تساقط عليهم الرصاص كالبرد، ولشدة الظلام لم يتمكن الإنكليز من مشاهدة البوير، فتقهقروا، وكانت خسارتهم 23 قتيلا و45 جريحا، وظلت الحرب سجالا بينهما حتى 15 يونيو سنة 1842، حتى تمكنت إنكلترا من التغلب عليهم، وامتلكت بلاد الناتال، ونظمت بها حكومة شوروية، ورتبت لها القوانين اللازمة. وفي أواخر سنة 1845 ذهب برتوريوس إلى الكاب ليعترض على هذا الاحتلال فأبى حاكم الكاب وقتئذ هنري بوتجيتر مقابلته، فرجع إلى الناتال. وبعد مدة قليلة استبدلت إنكلترا هذا الحاكم بآخر يسمى هاري سميث، فذهب هذا الأخير بناء على أمر حكومته للنظر في مطالب البوير، وتدبير الطرق المسهلة لراحتهم، فخولهم كل ما تتوق إليه أنفسهم، فمكثوا بعد ذلك صامتين مدة من الزمن، ولكن في نفوسهم صوت يدعوهم إلى الشر. فأخذ بريتوريوس يدس الدسائس ويوعز الصدور ضد الإنكليز، إلى أن حمل إخوانه على محاربتهم في نقطة أخرى غير الناتال، وجعل مركز قصده بلاد الأورنج، وبعدما جمع من أطاعه سار برجاله وعبر نهر أورنج، ووصل إلى بلوم فنتين، ولم يكن بها غير ضابط إنكليزي وقليل من الجند، وعدد قليل من البوير الخاضعين لبريطانيا العظمى، فعلمت بذلك إنكلترا وأرسلت مددا من مدينة الرأس، فعجز بريتوريوس عن محاربتهم، وانسحب إلى جهة بلومباتز، وكان ذلك في شهر أغسطس سنة 1848.
الأورنج
سنتكلم على جمهورية أورنج كلاما موجزا؛ نظرا لما هو بينها وبين بلاد الترنسفال من العلاقات، فنقول:
تبلغ مساحة بلاد الأورنج 48326 ميلا مربعا، ويبلغ عدد سكانها 510207 أنفس، البيض منهم 77720 والباقي من السود. وأشهر مدن هذه الجمهورية مدينة بلوم فنتين، وهي عاصمتها، وفيها خمسون ألف نفس، وهذه المدينة هي أشبه شيء بواحة وسط صحراء كبيرة، وبها قلعة مبنية على تل مرتفع، ولا تخلو المدينة المذكورة من قصور شاهقة، ومنازلها مبنية بناء بسيطا، وفيها شوارع منتظمة تظللها أشجار البلخ الكبيرة من الجانبين وموقعها الطبيعي جيد جدا، مفيد للصحة؛ ولذلك يقصدها كثير من الإنكليز طلبا لاكتساب الصحة وتبديل الهواء، وهي تبعد 90 ميلا عن كمبرلي مدينة الماس في الناتال، 105 أميال عن كولسبرج في الترنسفال، و400 ميل عن دربان. وفي سنة 1853 هاجمها موشيش رئيس قبائل الزولس القاطنين على جبال داراكنسبرج، فأرسل السير هاري سميث حاكم مستعمرة الكاب حملة بقيادة الكابتن جورج كاسكارت للمدافعة عنها. فلما رأى موشيش أن إنكلترا هي المدافعة من الأورنج، خاف العاقبة ورجع عن قتالهم. وفي 24 فبراير سنة 1854 أعلنت إنكلترا استقلال الأورنج وتركها للبوير، فنظموا فيها جمهورية مثل جمهورية الترنسفال.
الرحيل إلى الترنسفال
ولما انخذل البوير أيضا في جهة أورنج ساروا بقيادة بريتوريوس إلى جهة الشمال، طالبين وطنا يعيشون فيه مستقلين، فذهبوا أولا إلى ميدلبرج، وكانت البوير قد أخذتها أولا من البازوتس في سنة 1839، فأقاموا مع إخوانهم هناك، وصارت أملاكهم تمتد شيئا فشيئا. وفي سنة 1848 شرع البوير المقيمون بها يؤسسون حكومة جمهورية مستقلة، فانتخبوا لها رئيسا، ثم ألفوا مجلس الفولسكراد ومجلس التنفيذ، وجعلوا عاصمة حكومتهم مدينة ميدلبرج، فتشبه بهم بريتوريوس وأسس له جمهورية ثانية، صار هو رئيسا عليها، وجعل عاصمتها مدينة بوتشستروم، وعقدوا الخناصر على امتلاك الأراضي الواسعة في هذه الجهات الشاسعة، حيث بها قبائل البازوتس. ولما درى هؤلاء بأن البوير طامعون في امتلاك أراضيهم اتحدوا على مقاومتهم، وصاروا يقاتلونهم جهد استطاعتهم، فكانت تذهب أتعابهم هباء منثورا. وفي أواخر سنة 1851 طلبت البوير من إنكلترا الاستقلال، فلبت طلبهم لما رأتهم أبدوا من الهمم مما يشهد لهم بالفخر والعظمة، وانتدبت الميجر هوج والميجر أون لتحديد التخوم الفاصلة ما بين مستعمرة الناتال وأملاك البوير الجديدة التي سميت بلاد الترنسفال،
1
ولما وصلوا إلى هناك تشكلت لجنة من البوير يرأسها بريتوريوس، واتحدت مع المندوبين الآنف ذكرهما، وتم الاتفاق بينهما على ما يرضي الطرفين، وعملت معاهدة بذلك في أول يناير سنة 1852، وهذه هي أهم بنودها:
أولا:
يعتبر نهر الفال حدا فاصلا ما بين مستعمرة الناتال وأملاك البوير.
ثانيا:
ليس للحكومة الإنكليزية حق التداخل في أحكامهم الإدارية أو السياسية.
ثالثا:
منع تجارة الرقيق منعا كليا.
رابعا:
ليس للبوير الحق في عقد معاهدات أو اتحاد مع القبائل القاطنة في شمال الترنسفال.
خامسا:
منح حرية التجارة.
سادسا:
الأسلحة النارية والذخائر لا تنقل من بلاد الكاب إلا بإذن وإطلاع الحاكم الإنكليزي عليها.
وبعد هذه المعاهدة أخذت الترنسفال تسعى في الارتقاء وتوسيع دائرة نفوذها. ومن سنة 1852 إلى سنة 1876 لم يحدث بينها شيء تاريخي يستحق الذكر سوى بعض حوادث حدثت في أعوام مختلفة، سنتكلم عليها.
الرئيس برجر
هو ثاني رؤساء جمهورية الترنسفال، ولد في مستعمرة الكاب، ثم غادرها وهو في السابعة عشرة من عمره، واستوطن بلاد الترنسفال، وكان رجلا فاضلا متوقد القريحة، شديد الذكاء، مشهورا بالفصاحة، وقد انتظم في سلك الكهنة وقضى سنين معهم، ثم تركهم وتفرغ للأعمال السياسية، وكان يخدم وطنه ليلا ونهارا، مشتغلا بما يعود بصالح بلاده وبما يكسبه رضاء أبناء وطنه عنه.
وفي سنة 1872 انتخبه البوير رئيسا للجمهورية بدلا من بريتوريوس الذي انتخبه بوير أورنج بعد ذلك رئيسا لجمهوريتهم، وأما المستر برجر فلما عهدت إليه زمام الجمهورية، رغب في نظمها سلك الممالك المتمدنة؛ فأراد أن يوجد بها السكك الحديدية والأسلاك البرقية وصك النقود لتسهيل موارد الثروة، وكانت مشروعاته هذه ضد إرادة البعض من أغبياء البوير؛ لأنهم كانوا يخافون ثقل الضرائب، ولذلك كانوا يضعون العقبات في سبيله، وحينما أراد أن يبرز رغبته إلى عالم الوجود، بادر بالسفر إلى أوروبا وما راعى إشارة الأطباء الذين كانوا ينهونه عن السفر لعدم موافقته لصحته، بل نبذها ظهريا وأناب عنه المستر كروجر،
1
وكان سفره في أوائل سنة 1875، وزار أولا إنكلترا ثم توجه منها إلى هولندا، وعرض مسألة إنشاء السكك الحديدية على أغنيائها، فتألفت منها شركة رأس مالها تسعون ألف جنيه، واشترت به بعض الأدوات اللازمة تحت ملاحظته، وعاد إلى بلاده في أبريل سنة 1876، فقوبل بمزيد الحفاوة والإكرام. وفي أثناء غيابه كان قد انتظم في مجلس الفولسكراد أعضاء لم يكونوا على وفاق معه، فصاروا يحرضون المستر كروجر على مضادته، ولما تمت أعماله قدروها حق قدرها، حتى إن الذين كانوا يعارضون عليها صاروا في مقدمة الراضين عنها.
فظائع البوير
أما أراضي البوير الواسعة، فقد امتلكوا بعضها بالحيلة وبعضها بحد الحسام، وقد كانوا شديدي الرغبة في اتساع مملكتهم، فنجحوا نجاحا عظيما في زمن قليل، وأصبحت مساحة أرضهم تكفي لأمثالهم أضعافا، وقد كان يذهب الرجل منهم إلى شيخ إحدى القبائل، ويرجوه أن يسمح له بأن ترعى ماشيته بقطعة أرض من أراضيه، فمتى سمح له ونزلت بها ماشيته يدعي امتلاكها، فإذا أتى صاحب الأرض يطالب بها، يهينه ويحتقره، فيذهب إلى شيخ قبيلة لرفع شكواه، ويذهب معه البويري ومعه رأسان من الغنم هدية للشيخ، الذي لعلمه بقوة البوير ونفوذ كلمتهم يضطر صاغرا لقبول الهدية والتصريح بتسليم الأرض إليه. وحينما كان الرئيس برجر متغيبا في أوروبا، طلب النائب عنه من ستيواو ملك الزولس تغيير الحدود الفاصلة بين أملاك الطرفين، وأعلنه بأنه إذا لم يبادر لإجابة طلبه، يجرد عليه عشرة آلاف مقاتل لتنفيذ طلباته بالرغم عنه، فاستاءت الزولس من تهديده ووعيده، واشتد الخلاف بينهما حتى كاد أن يفضي إلى القتال، فطلب الطرفان تدخل حاكم مستعمرة الكاب ليحكم بينهما، فأجاب طلبهما وحدد بمعرفته التخوم، وفي 18 أغسطس سنة 1875 قامت البوير تدعي بأن الحدود التي حددت بمعرفة حاكم الكاب مجحفة بحقوقهم؛ فتشكلت لجنة للنظر في ذلك وأعادت تحديد التخوم مرة ثانية، نال فيها البوير ما سد أفواههم.
وفي سنة 1876 أرسل أحد رؤساء القبائل أخاه المدعو مونتسيا إلى حاكم جريكالان الإنكليزي وعززه بمكتوب يقول فيه:
أني أرسلت إليك أخي ليخبرك عما نقاسيه من سوء معاملة البوير، وما نتحمله من قساوتهم واستبدادهم.
ولما وصل هذا الرسول إلى الحاكم أخذ يقص عليه بعضا من أفعالهم، فقال: «إنه في يوم من الأيام تعدى أحد خدام البوير على رجل من قبيلتنا، وأخذ يضربه ضربا حتى أسال الدم من جسمه، ولم يكن هذا المسكين جنى ذنبا يستحق عليه ذلك، فخوفا من الوقوع في المشاكل كظمنا غيظنا، ولزمنا السكوت. وفي مرة أخرى بينما كان أحد رجالنا جالسا في حقله، إذ أقبل عليه رجل من البوير ممتطيا صهوة جواده، فنزل من فوقه وأمسك الرجل، ووضع حبلا في عنقه وربطه في السرج ثم ركب جواده، وأخذ يجري فتهشمت عظام الرجل، وفارق الحياة الدنيا شهيد القسوة والاستبداد. ومما يزيدنا حزنا أنهم يلقبوننا بالمتوحشين، وهم يأتون أعمالا تنفر الوحوش منها . وقد حكى لنا أحد رجالنا أنه ذات يوم قبض عليه رجل منهم، وأخذ يضربه ضربا شديدا، حتى أغمي عليه فأدخله منزله، وجعل يذيقه أنواع العذاب، وهو يستغيث ولا مغيث، إلى أن تحركت الشفقة في قلب زوجة البويري فمنعته عنه بكل جهد.»
ثم بعد أن استراح الرسول وهدأ روعه استأنف الحديث وقال: «إنا لم ننس فظيعة سنة 1865 حينما كان البوير يقاتلون قبيلة الكفرة في جهة زوتنسبرج، وهرب من هذه القبيلة عدد عظيم واختبئوا في مغارة هناك، فأحضر البوير أخشابا وأعشابا ووضعوها على باب المغارة وأشعلوا النار فيها، فأحرقوهم عن آخرهم، ولم تزل للآن إشارة الدخان في سقف المغارة تشهد على ذلك، وأيضا العظام المتراكمة فوق بعضها أقوى شاهد. ومن فظائعهم أثناء الحروب أنهم يجمعون أطفالنا ويضعون عليهم عشبا يابسا ويحرقونهم، وإذا أردت أن أعدد لك فظائعهم يطول بي الشرح، ولكني ذكرت ما ذكرت لنقف على أعمال هؤلاء الناس وكيفية معاملتهم للجنس الأسود.»
تجارة الرقيق
أما البوير فلم يراعوا معاهدة نهر الفال، ونبذوا بنودها ظهريا، فكانوا يأخذون أطفال العبيد بعد أن يقتلوا والديهم ويربونهم، ومتى شب الطفل وجد نفسه بين ظهرانيهم لا يعرف والديه، فيكون عبدا لمربيه، يسخره ويحمله أثقال الأشغال، ويبيعه متى شاء، وكان أكثرهم نخاسين على هذه الصورة، وشوهد ذات يوم أحدهم شاحنا قطارا بالعبيد الصغار ذكورا وإناثا، وصار يبيعهم باسم قطع الأبانوس الأسود، باعتبار القطعة ثلاثة عشر جنيها، أو يأخذ بدلا عنها عجلا أو حصانا.
وفي أوائل سنة 1871 أرسل خاما ملك إحدى القبائل كتابا إلى السير بركلي يقول فيه: «يعلم الله أني سطرت هذا بأنامل مرتجفة وأفكار مرتبكة؛ لشدة ما حولي من عويل النساء وبكاء الرجال، الذي بلغ السبع الطباق، وهو السبب في تسطير هذا المكتوب، وبه أستغيث بمراحام جلالة الملكة لتخصنا ببعض النعم التي أسبغتها على شعوب كثيرة غيرنا، ولا يخيب ظني إذا قلت بأنها ستبادر للذود عنا، كما هي عادتها مع كل ضعيف مثلنا، يستظل بظل حمايتها، ونحن جميعا مستغيثون من هؤلاء البوير الذين دخلوا بلادنا وعاملونا بما أنتم أدرى به، وما نحن عندهم إلا كالبضائع نباع ونشرى ، ولعلمي بأن جلالة الملكة لا ترضى بذلك، قد استغثت بها أنا وعشيرتي لتجعل بلادي تحت حمايتها، ونحن راضخون لكل ما يرضيها.» فلما وصل هذا المكتوب إلى السير بركلي، أرسله في الحال إلى لندرا، فأمرت جلالة الملكة بتشكيل لجنة وإرسالها إلى نيوكاسل
1
للنظر في شكاوي العبيد، وبعد البحث والتحقيق تأكد لها ظلم البوير وممارستهم النخاسة، ومما يستغرب أيضا هو أن بريتوريوس رئيس الجمهورية في ذاك الوقت كان يتعاطى تلك المهنة، وقد تقدم للجنة عبد يدعى فردريك مولباكان خادما عند أحد البوير، ولما علم باللجنة فر هاربا من عنده ليشكو أمره إليها، فقال: «إن أحد البوير اختطفني من أهلي رغما عني وعنهم، وباعني لآخر ببقرة وآنية من الفخار، وهذا الأخير كان يخدمني بدون شفقة ويعطيني جزاء أتعابي ضربا.» ثم أتى عبد آخر وقال: «فليعلم سيدي رئيس اللجنة أنه كان بين قبيلتي وبين البوير قتال، فلما تغلبوا علينا أخذوا البعض منا وباعونا بالمزاد العلني، وقد اشتراني رجل منهم يدعى فريتزبوثا وهذه كنيسة بريتوريا تشهد بخدمتي في بنائها سخرة.» ثم تقدمت للجنة جملة إثباتات أخرى، فعملت بها تقريرا وقدمته للحكومة لترى رأيها فيها.
سكسوني ومقتل يوحنا
كانت قبيلة عظيمة من قبائل البازوتس، تسمى قبيلة السكسونيين نسبة إلى اسم ملكها، قاطنة على حدود ليدنبرج ومتمسكة بالدين المسيحي، وكانت خاضعة للبوير تدفع إليهم مالا سنويا، ففي سنة 1875 أثناء غياب المستر برجر تولد النزاع بشأن قطعة أرض بها قلعة في جهة بوتسبلو، يسكنها يوحنا أخو سكسوني، فقامت البوير تدعي ملكية هذه الأرض، بأنها اشترتها من قبيلة السوازيس، وأرسلت إلى يوحنا تأمره بالانسحاب منها، فأبى إجابة طلبهم، فأرسلوا إلى سكسوني ينذرونه بسوء العاقبة، فأجابهم بقوله: «إن الأرض التي تدعون بأنها من أملاككم هي ملك قبيلتي، ولأخي الحق أن يقيم بها، وجميع القبائل تشهد بأن الأرض أرضنا، وليس لكم فيها قيراط واحد، وبما أنني ممن يكرهون إهراق الدماء، فأرغب أن ينتهي الأمر بيننا بسلام، وإلا إذا كنتم عقدتم النية على مناوشتنا واغتصاب أملاكنا ظلما، فهذا أمر لا يمكننا الصبر عليه، والحسام يفصل بيننا.»
وقد كان يظن سكسوني أن ما فعله البوير من قبيل التهديد فقط، فجاء الأمر على خلاف ذلك؛ لأن برجر رئيس الجمهورية لما عاد من أوروبا وعلم ذلك، جمع خمسة آلاف رجل نصفهم من البوير والنصف الآخر من قبيلة السوازيس، وساروا بقيادة الرئيس المذكور إلى المحل المقيم فيه يوحنا، فأمر قائد البوير العبيد بالهجوم على القلعة، فهجموا عليها، وكان قتالهم مما يفتت الأكباد، لما كانوا يفعلونه من الأمور الوحشية؛ وذلك لأن رجال السوازيس كانوا يقتلون النساء ويهشمون رءوس الأطفال على الصخور، وبعد قتال هائل انجلى عن فوز البوير وامتلاك ما كانت تطمح إليه أنظارهم، وخرج يوحنا من القتال مجروحا جرحا بليغا، أذاقه الحمام بعد ثلاثة أيام، وأما البوير فإنهم فرحوا بهذا النصر وسموا هذه الموقعة موقعة النصر العجيب.
واقعة إيزندلوانا
ولما انتصر البوير في بوتسبلو أرادوا أن يضربوا السكسونيين الضربة القاضية، فاجتمع مجلس الفولسكراد لهذه الغاية في 4 سبتمبر سنة 1876، واقترح الرئيس برجر تأليف حملة أخرى لمطاردة العدو، يتولى قيادتها الكابتن فون شليكمان، فصادف اقتراحه قبولا، وعملت الاستعدادات اللازمة، وبعد أيام وجيزة سارت الحملة ليلا إلى قرية ستيل بور التي هي ضمن أملاك سكسوني، فأمر فون شليكمان رجاله بمهاجمتها، فاستيقظ أهلها، ولما كانوا على غير استعداد ولوا هاربين، فأمر حينئذ قائد البوير بقتل جميع من بقي بالقرية، فذبحوهم عن آخرهم. وبعد هذه المذبحة صارت البوير تتقدم ورايات النصر تخفق فوق رءوسهم، حتى وصلوا إيزندلوانا عاصمة سكسوني، ولكن خانهم النصر في هذه المرة، وهزمهم السكسونيون شر هزيمة، وتبعوهم إلى بريتوريا وأرادوا أن يقاتلوهم هناك، فاستغاث البوير بإنكلترا، فأغاثتهم وأصلحت بينهما.
هذه كانت حالة حكومة الترنسفال مع القبائل في الخارج، أما حالتها الداخلية، فلم تكن بأصلح من تلك؛ لأن خزينة ماليتها كانت خالية من الأموال، فأقر مجلس الفولسكراد على إصدار أوراق يتعامل بها بدل النقود إلى أن تتحسن حالة ماليتها، وربط ضريبة باهظة على أصحاب الحقول، أجانب كانوا أو وطنيين. ولما كان للإنكليز أكثر الأملاك رفضوا تأديتها، وقدموا شكاوى كثيرة للحكومة، فكان جوابها لهم هكذا: «من يريد الإقامة ببلادنا فليخضع لقوانين الجمهورية، ومن يأبى فليرحل.» ولما أخفقوا سعيا، رفعوا عريضة إلى جلالة الملكة موقعا عليها من ستة آلاف منهم يطلبون بها مداخلتها، وكانت الأحوال في بريتوريا مرتبكة بعد ربط هذه الضريبة الفادحة من جهة، ولانتخاب رئيس الجمهورية من جهة أخرى؛ لأن مدة الرئيس برجر كانت قد انتهت، فظهر حينئذ في بريتوريا أحزاب كثيرة، أهمها حزب الدوببز وزعيمه المستر كروجر، فرشحوه للرئاسة، ولكن حزب برجر فاز عليه، وتم الأمر بتجديد انتخابه، وكان لا يتمنى ذلك؛ لأنه رأى ما في داخل بلاده من الهياج العظيم، وما بخارجها من عداء القبائل لها، ومما زاد الطين بلة اتحاد أعضاء مجلس التنفيذ على خزله، مع أن المنتظر منهم الأخذ بناصره وشد أزره لتنفيذ آرائه، ولكن كثرة الأحزاب كانت تدفع كلا منهم للسعي في إحباط مساعي الآخر.
تداخل إنكلترا
وفي أوائل نوفمبر سنة 1876 كان السير بركلي في لندرا، فتفاوض مع كبراء حكومته بخصوص حالة الترنسفال، وبين بأن الخطر محدق بها من كل جانب، وأيد كلامه هذا بعرائض الاستغاثة المقدمة من بعض القبائل التي تقاسي مرارة العذاب من حمل ذل البوير، واتحادها على مهاجمة بلاد الترنسفال، فأرادت إنكلترا أن تتداخل في الأمر حسما للنزاع، فانتخبت لهذا الأمر رجلا قد اتصف بالوداعة وحسن التدبير، واشتهر بالحكمة والشفقة، ألا وهو السير تيوفيل شيبستون حاكم مستعمرة الكاب، وأمرته بالتوجه إلى تلك البلاد للنظر بعين الدقة في أحوالها، وتقديم التقرير اللازم عما يتراءى له، وإذا تأكد بأنه يرجى إصلاحها كان به، وإلا فتضم لإنكلترا. وفي 30 ديسمبر سنة 1876 أرسل السير شيبستون مكتوبا إلى الرئيس برجر يقول فيه: إني عازم على زيارة بلادكم بصفتي مندوبا من حكومتي للاتحاد معكم وإجراء اللازم لحل المشاكل الحاضرة قبل اتساع الخرق، وخصوصا بعد ما رأيناه من أن القبائل كلها قد اتحدت يدا واحدة ضد جمهوريتكم، وذلك مما يدعوننا إلى المبادرة لمساعدتكم وحفظ المستعمرات البريطانية في جنوب أفريقيا من الخطر؛ لأنها تصبح مهددة إذا أصيبت بلادكم بسوء. فكان لهذا الخبر أعظم تأثير في قلوب القاطنين في بلاد الترنسفال على اختلاف أجناسهم، فمنهم من تلقاه بالفرح والسرور، ومنهم من تلقاه بالحقد والغيظ، وهم من حزب الدوبيرز لعلمهم بأن بحار الحرية سترويهم وسماء العدل ستظللهم، ممتدة إليهم من لندن بيد السير شيبستون، وذلك عكس ما يرغبون.
ولما حضر السير شيبستون إلى الناتال أقام فيها بضعة أيام، ثم قصد بريتوريا، وحينما صار على مقربة منها وانتشر خبر قرب وصوله إليها هرعت الناس إليه أفواجا لاستقباله، وفي أثناء مروره كان بعض الأهالي يتقدم إليه بمزيد الانعطاف، ويظهر له من الإخلاص والولاء ما لم يكن يظنه منهم، وعند وصوله إلى بريتوريا تقاطرت إليه الحكام يهنونه بسلامة الوصول، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية وآيات البشر على محياهم، إظهارا لما يكنه ضميرهم من المحبة له؛ لعلمهم بأنه ما وطئ بلادهم إلا لقصد مصالحهم، وما يعود بمنافعهم، فخطب فيهم قائلا: «إن الحوادث قد أظهرت لكل عاقل ضرورة الاتحاد وتبادل المحبة، وخصوصا بين الأمم المسيحية؛ لتستنتج منه الراحة والحرية والسلم والسعادة بين الجنس الأبيض والأسود، وإني واثق بمساعدتكم على إتمام مشروعي هذا؛ لعظم فائدته، ولأجل أن نكتب على راية جنوب أفريقيا هذه الكلمات اللطيفة: «الاتحاد أساس القوة».» ثم طلب من الرئيس برجر تشكيل لجنة للنظر في أحوال الجمهورية الداخلية والخارجية، فأجاب طلبه، وتألفت من المستر هندرسن والمستر أوزبرن من الإنكليز، والمستر كروجر والمستر جوريسن من البوير، وكانت الرئاسة للسير شيبستون، فلم تأت هذه اللجنة بالغرض المقصود؛ لاختلاف آراء أعضائها، ولأن حزب الدوبيرز وأتباعه كان متفقا ومصرا على مقاومة إنكلترا ومنعها من التداخل في أمورهم، غاضا الطرف عن حالة بلادهم وحرج مركزهم. وكان المستر كروجر زعيم الحزب المذكور والعاضد له؛ إذ كان يطمح إلى رئاسة الجمهورية؛ ولذلك صار هذا الحزب يدس الدسائس ويلقي الفتن سرا؛ لئلا تحبط مساعيهم إذا ظهرت وتتوطد أقدام إنكلترا في بلادهم، فتناقشهم الحساب.
وفي أول فبراير سنة 1877 قال الرئيس برجر لأعضاء مجلس الفولسكراد: «إنكم تعلمون أن بلادنا أصبحت في خطر عظيم لجملة أوجه؛ أولها: نفاد المال من خزينة الحكومة، وعدم استطاعتنا تحصيل الضرائب. ثانيا: اتحاد القبائل يدا واحدة ضدنا وعزمها على مهاجمتنا، وفي مقدمتهم قبيلة الزولس، وقد أرسلت إنكلترا مندوبا من طرفها ليقف على أحوالنا، وهو يقول بوجوب ضم بلادنا لمستعمرات دولته، والذي أراه أن أفكار الشعب لا تميل إلى ذلك، ولكني إذا سئلت عن ذلك أجاوب بأن انضمامنا إلى هذه الدولة القوية، إلى أن يمكننا حفظ استقلالنا بأنفسنا تكون نتيجته حسنة، وأرى من الضروري خضوع البوير لهذا الرأي، ومتى تم ذلك الانضمام تكون جميع مستعمرات جنوب أفريقيا من رأس الرجا الصالح إلى مينا اليصابات مملكة واحدة ذات قوة عظيمة، توقع الرعب في قلوب أعدائها، وإني أرى بعين الأسف بعض البوير الذين لا يذعنون لدستور البلاد ولا يميلون إلى الأحكام، ويفضلون معيشتهم بدون ارتباط ولا نظام كالوحوش البرية، ويأبون الخضوع للحكومة الإنكليزية؛ ولذلك فإنهم يعرقلون مساعي المندوب الإنكليزي، وإذا أصروا على هذا العناد فإن العاقبة تكون وبالا عليهم.» وبعد انتهاء كلامه انفض المجلس على غير جدوى، ولم يبت أحد من أعضائه رأيا فيما أبداه ذلك الرئيس.
وفي أوائل أبريل علم السير شيبستون أن سكسوني يحشد قواه على الحدود ويستعد لاستئناف قتال البوير، فأرسل إليه مكتوبا يعلنه بأن يوقف استعداده ويفرق قوته، وإلا تكون إنكلترا ضده، فخاف سكسوني العاقبة، وأرسل إليه يطلب توسطه في الصلح مع حكومة الترنسفال، فأطلع السير شيبستون الرئيس برجر على ذلك، وبعد المفاوضة أقرا على تشكيل لجنة وإرسالها إليه لعقد معاهدة الصلح، وانتخب لذلك ثلاثة من الترنسفال، وهم المستر فان جوركن والمستر هولت هوزن والقومندان فريريا واثنان من الإنكليز، وهما المستر أوزبورن والكابتن كلارك، فتوجهوا إلى مدينة ميدلبرج الواقعة على الحدود، وتقابلوا مع اثنين من كبار السكسونيين، فطلب البوير منهم ثلاثة شروط؛ أولا: الخضوع لجمهورية الترنسفال. ثانيا: تقديم ألفي رأس من الغنم تعويضا حربيا. ثالثا: منع تعدي رجال القبيلة الحدود التي يصير تحديدها بمعرفة اللجنة. فعرضوا هذه الطلبات على ملك القبيلة في إيزندلوانا، فصادق عليها وعقدت معاهدة، وأرسلت للفولسكراد للتوقيع عليها، وبذلك تم الصلح. وقد كتب السير شيبستون تقريرا بأعماله وأرسله لحكومته في لندن، بين فيه الخوف على البوير من القبائل القاطنة حول دائرة الترنسفال باتحادها معا، وذكر أيضا أن سكسوني قبل الصلح خوفا من إنكلترا، ومتى رحلت عن البلاد رجع لقتالهم، وختمه بأنه لا يمكن رفع الخطر عنها إلا بانضمامها لإنكلترا.
الانضمام
ولما علم السكسونيون بعد إتمام الصلح بأن الترنسفال لم تزل مستقلة؛ أرادوا تجديد النزاع حتى ينتقموا من البوير، ويأخذوا بثأرهم منهم، ولما كانت معاهدة الصلح لم تمض عليها إلا أيام قلائل لم يرق في عين سكسوني أن يبدي حراكا، بل ترك ذلك لستيواو رئيس إحدى قبائل الزولس، فأرسل هذا الأخير رسولا من قبيلته بمكتوب إلى حكومة الترنسفال، يعلنها باستقلاله ورفض سيادة الجمهورية والقتال بينهما إذا أنكرت عليه ذلك. وكان وصول مكتوبه في 11 أبريل سنة 1877، وفي الحال حشد رجاله على الحدود، ولما علم بذلك السير شيبستون خاف العاقبة، وتوجه في الحال إلى الرئيس برجر للمفاوضة في مكتوب ستيواو، فاستدعى الرئيس أعضاء مجلس التنفيذ، فأقروا على إرسال مكتوب إلى ستيواو ويعلنونه بضم الترنسفال إلى إنكلترا، ويهددونه بالقوة الإنكليزية إذا أصر على حشد جيوشه أو تعدى الحدود. ولو تأخر هذا المكتوب أسبوعا واحدا لكانت مضارب الزولس دقت في بريتوريا، ولما وصل هذا المكتوب إلى ستيواو فرق رجاله وأرسل إلى السير شيبستون يقدم له الطاعة، ويعلنه بأنه فرق رجاله لما علم أن بلاد الترنسفال قد انضمت لإنكلترا.
وفي 12 أبريل سنة 1877 أعلن رسميا ضم جمهورية الترنسفال لإنكلترا، وكانت ساعة ذلك الإعلان هائلة جدا، وقد كان المندوب الإنكليزي يخشى حدوث ثورة، ولكن كان يزيل الصعاب ويزحزح العثرات بحكمته وتدبيره، ومن جملة ما فعل من هذا القبيل عدم رفعه الراية الإنكليزية؛ لئلا تكون سببا في شبوب نار العداوة، ولئلا يتخذها الأعداء فرصة لإظهار ما تكنه بواطنهم، وأبقى ذلك ريثما يستتب الأمن، وأخذ من فوره يسعى في اتخاذ الطرق اللازمة لإماتة روح التعصب، غارسا في أفئدة الشعب بذور الألفة والمحبة، موفقا بين آراء الأحزاب المختلفة، فنجحت مساعيه وخابر حكومته بكل ما تم، فأعجبت لمهارته وحسن درايته ولما أتى به من الأعمال الجليلة التي كانت تستلزم إهراق دماء الألوف في سبيل إتمامها. وفي 31 مايو ورد من لندرا كتابا إلى السر شيبستون يتضمن ممنونية جلالة الملكة وشكرها له على أعماله، وبعد ذلك أراد الذهاب إلى إنكلترا للمفاوضة مع حكومته فيما يلزم أعماله لتحسين تلك البلاد وإصلاحها، فوفدت عليه رؤساء القبائل وعظماء الأوروبيين ليودعوه، فغادرهم في 20 يونيو، مزودا بدعائهم ومستصحبا محبتهم، وأناب بدله السير أون لانيون. ولما وصل السر شيبستون إلى إنكلترا قدم تقريرا مطولا لحكومته، أوضح فيه كل أعماله التي أداها وأضاف إليه ما رأى إجراءه لازما لإصلاح تلك البلاد، وبين أن لا مانع من رفع الراية الإنكليزية الآن على بلاد الترنسفال، فانتدبت إنكلترا لذلك الماجور كلارك، فوصل إلى بريتوريا في 20 من شهر يوليو، وبعد وصوله بيومين عزم بعض رعاع البوير بإغواء حزب الدوبرز على قتل الماجور كلارك قبل أن يرفع الراية على بلادهم. وفي ذات ليلة اجتمعوا بعدما ثملوا بالخمور وأرادوا الهجوم على منزله والفتك به، ولكنه وقف على ما يضمرونه له، وعندما قربوا من المنزل وقف أمام نافذة غرفته وقال لهم بكل هدوء: «إنني أرى رءوسكم مثقلة بالخمر، وأقدامكم لا تقوى على حمل أجسادكم، فأنصحكم أن تتوجهوا إلى منازلكم لتستريحوا وتستفيقوا.» فلما سمعوا منه ذلك ورأوه مستيقظا، خابت مساعيهم وعادوا على أعقابهم، ولم يحدث ما يكدر الصفا في تلك الليلة.
وفي 23 يوليو سنة 1877 وصلت أورطتان من الجيش الإنكليزي إلى بريتوريا، فأرسل الماجور كلارك يستدعي رؤساء القبائل عموما لحضور الاحتفال برفع العلم البريطاني، فحضر الجميع واصطفت الجنود الإنكليزية حول ديوان الجمهورية، ورفعت الراية بيد الكولونل بروك، وبعد ذلك اشتهر رسميا انضمام بلاد الترنسفال لإنكلترا، وكان فرح الأمة الإنكليزية عظيما جدا.
طلب الاستقلال
وبعد رفع الراية أخذ حزب الدوبرز بمساعدة القائد برتوريوس يقاوم الإنكليز ويختلق الأكاذيب عليهم، وينسب إليهم الظلم وأشاع بأن هذا الانضمام ضد رغبة البوير عموما ، وكل ما حدث من الزولس دسيسة إنكليزية بإغراء السير شيبستون؛ فإنه هو الذي جرأهم على مهاجمتنا وقتالنا ليهدد بهم الجمهورية، ويرغمها على قبول الانضمام. فبلغت هذه الإشاعات مسامع السير لانيون، فأرسل مكتوبا إلى برتوريوس يقول له فيه: «قد اختلقت الأكاذيب وأثرت الإشاعات، وقلت بأن إنكلترا هي التي هيجت قبائل الزولس عليكم، وأنها هددت مجلس التنفيذ ليضطر إلى قبول الانضمام، فأؤكد لكم بأنكم لو اطلعتم على كتابات أعضاء اللجنة التي تشكلت للمفاوضة في مسألة سيتواو لتأكدتم براءتهم مما تختلقونه، وأنهم قابلون الانضمام برغبتهم لصيانة بلادهم. وقد أظهر السير شيبستون بإفادته المرسلة لنظارة المستعمرات بتاريخ 12 أبريل بأنكم لم تكونوا ممن حضر في المجلس، فكيف علمتم بأن إنكلترا هددت أعضاءه حتى اضطروا لقبول الانضمام، وكيف تأكدتم بأننا أغرينا الزولس على قتالكم، وإنني لآسف من صدور مثل ذلك منكم؛ لأنه سيكون سببا لتهيج الشعب وإيقاد نار الثورة التي تكون عاقبتها وبالا عليكم، فأنصحكم أن تقلعوا عن هذا الأمر المنكر.»
وفي أول أكتوبر اجتمع كروجر وجوبير
1
وبريتوريوس، واتفقوا على تشكيل لجنة وإرسالها إلى لندرا لطلب الاستقلال، فأقر رأيهم على انتخاب المستر كروجر وجرسون وبوك من غير أن يستشيروا الرئيس برجر؛ لأنهم كانوا غير راضين عن سياسته، وكانوا ينتظرون انتهاء مدة رئاسته ليولوا كروجر بدلا منه، وهذا الأمر كان يقوي كروجر وينشطه على طلب إعادة الاستقلال، ولما وصلوا إلى لندرا تقابلوا مع اللورد كرنارفون ناظر المستعمرات، فعرضوا عليه أمرهم وشكوا إليه بأنهم غير راضين عن تصرف حكام الإنكليز في بلادهم، فعرفهم بأن انضمامهم قد صار أمرا نهائيا، ومن العسير إلغاؤه إلا إذا سنحت الفرص، ولكنه ينظر في أمرهم ويزيل أسباب أتعابهم، فتظاهروا بقبول كلامه ووعدوه بأنهم سيبذلون جهدهم في إرضاء إخوانهم المشتركين معهم في طلب الاستقلال بالخضوع للحكومة الجديدة ونظامها، وهموا بالرجوع إلى بلادهم.
الجنرال جوبير.
وفي 18 يوليو سنة 1878 تعين السير شيبستون مندوبا سياسيا في الترنسفال والسير لانيون وكيلا له، وفي نوفمبر من هذه السنة كانت مدة انتخاب المستر كروجر في عضوية مجلس التنفيذ قد انتهت ، ولم يتجدد انتخابه، فاتحد ثانيا مع جرسون وبريتوريوس وصاروا يستميلون إخوانهم المتحدين مع الإنكليز إلى الانضمام معهم، وتوجه كروجر وجوبير وبوك مرة ثانية إلى لندرا، وتقابلوا مع السير مخائيل هكس بيتش، وطلبوا منه التوسط في طلب الاستقلال، فأبى أن يتداخل في هذا الأمر، وعرفهم بأن من المستحيل سحب السلطة الإنكليزية من بلادهم. فعادوا إلى بلادهم وأوقدوا نار الثورة، فانضم إليهم ثلاثة آلاف من إخوانهم وعقدوا اجتماعا في موضع يبعد ثلاثين ميلا عن بريتوريا، وأرسلوا رسلا إلى رؤساء القبائل يدعونهم للانضمام معهم لمقاومة الإنكليز وطردهم من بلادهم، فرفضت رؤساء القبائل قبول هذا الطلب.
وفي أثناء ذلك تعين المستر غلادستون ناظرا للمستعمرات، وكان مشهورا بمحبته للبوير والإعجاب بشجاعتهم، وكان يسميهم رجال القوة، ولما تولى هذا المنصب ظن البوير أنهم ينالون الاستقلال بمساعدته، فعمدوا إلى السكينة ولم يتظاهروا بمقاومة الإنكليز، فقط صاروا يهاجمون من وقت إلى آخر قبائل الزولس، فحملوا عليهم هؤلاء حملة منكرة وهزموهم، وما زالوا يطاردونهم حتى أدخلوهم بريتوريا وحاصروهم فيها مدة مديدة، وقف في أثنائها دولاب التجارة والصناعة، وما زالوا كذلك حتى أتتهم النجدات الإنكليزية، ورفعت الحصار عن بريتوريا وردت الزولس إلى بلادهم.
ولما انتهوا من مقاتلة الزولس لم تطل مدة سكوتهم، بل عادوا إلى طلب الاستقلال، وصاروا يهينون الإنكليز ويتعصبون عليهم، فأنفذت إنكلترا السير بارتل فرير، الذي حال وصوله أخذ يلقي الخطب الودية بينهم، ويحثهم على الاتحاد والاتفاق، ويعدهم بأنه سيسعى في منحهم طلبهم، وأظهر لهم بأن إنكلترا تمنحهم الاستقلال متى تأكدت أن عندهم قوة كافية لصيانته، فتظاهروا بأنهم أذعنوا لنصائحه، وأخمدوا نار الثورة، ولكن بعد مغادرة المذكور بلادهم عادت البوير إلى معاصيها، فعينت إنكلترا في هذه المرة السير جارنت ولسلي ليعضد السير شيبستون، وبوصوله عدل القوانين وأصدر أوامر ومنشورات جديدة، ورتب المجالس ونظم في عضويتها رجالا أكفاء. فلم يكترث البوير بذلك، بل عادوا يقرعون باب البرلمان الإنكليزي بالعرائض، متظلمين طالبين الاستقلال وسحب الجنود الأجراء من بلادهم، وكان الزعيم المهيج هو بريتوريوس، فقبضت الحكومة عليه وأحالته إلى التحقيق، فثبت أنه ثوري ومسبب للقلاقل، وكان المنتظر معاقبته عقابا شديدا، ولكن بعد انتهاء التحقيق تحول السير ولسلي من العنف إلى اللين، وعفا عنه وعينه عضوا في مجلس الفولكسراد، فأظهر أنه ارتضى بذلك. وقد ذكرهم السير ولسلي في خطبة ألقاها في بريتوريا كما قال لهم أولا بأن «المتعصبين ضدنا يلحون بطلب الاستقلال، وما معنى هذا الاستقلال الذي تطلبونه؟ هل تناسيتم الخطر الذي كان محدقا بكم وببلادكم، ولولا جنودنا لكانت بلادكم في خبر كان، ولو انجلت الآن رجالنا عن بلادكم لسقطت ولم تقم لها قائمة، وأظنكم لم تنسوا حالتكم التعيسة قبلا حينما كانت الضرائب لا يتحصل منها شيء، وخزينة المالية خاوية من الأموال، وقد بات الأمر الآن بالعكس، فلماذا لا ترضون بما فعلناه معكم، وتتحدون معنا على صيانة حقوقكم وتحسين أحوال بلادكم التي لم نزل مجدين ومجتهدين في سبيل ارتقائها، حتى يمكننا بعد ذلك ننجلي عنها مطمئنين عليها من هجمات الأعداء؟ وآخر شيء أقوله لكم: إن الاتحاد خير من العناد.» فحصل بعد هذه الخطبة هدوء تام، وهاجر كثير من الإنكليز إلى بلاد الترنسفال واستوطنوا بها، وصارت الضرائب تتحصل بالعدل، وتتقدم بالرضاء من الأهالي، وفي يوليو سنة 1879 أرسل السير ولسلي إلى حكومته يقول: إنه لم يبق أثر للثورة، وقد ارتضت جميع الأهالي بالحالة الحاضرة، ووعدوه بأنهم لا يعودون إلى الهياج والعصيان.
أما إيرادات الحكومة فقد تحسنت تحسنا عظيما بعد الانضمام، فبلغ في الستة شهور الأولى من 1879 «69000 جنيه إنكليزي»، وفي الستة شهور الثانية بلغ «160000 جنيه إنكليزي»، وفضلا عن تحسين المالية، فإن التجارة أيضا تقدمت بعد انحطاطها، وارتفعت أثمان الأطيان، وكثرت المنازل وارتفعت أجورها، وفي أواخر سنة 1880 عاد البوير إلى الفتن والعصيان بعد السكوت الذي كان مقدمة للهياج العظيم الآتي ذكره.
أسباب الثورة
وفي يوليو سنة 1880 بارح السير ولسلي بلاد الترنسفال، وتوجه إلى لندرا، وترك بدلا منه السير لانيون، فتبعه وفد من البوير برئاسة كروجر لطلب الاستقلال، وبوصولهم إلى لندرا قابلوا المستر غلادستون، وكانوا يؤملون قضاء سؤلهم، ولكن بالنسبة لاشتغال البرلمان الإنكليزي بأمور أخرى أشد خطرا من مسألتهم عادوا كعودتهم السالفة، ولما علموا بأن لا فائدة في الصبر، وأن كل ما يسمعونه من المواعيد مجرد أقوال، اتفقوا على العصيان وشق عصا الطاعة، وصاروا ينتهزون سنوح الفرص لإشهار أمرهم. فلما جاء ميعاد جباية الأموال الأميرية جاهروا بالعصيان، فأرسل السير لانيون فرقة من الجند بقيادة الكولونيل تورنهيل، فكانت غير كافية لإخماد نار الثورة لاستفحالها، فأرسل السير لانيون إلى السير جورج كولي حاكم مستعمرة الرأس يطلب منه إرسال نجدة، فأجابه بعدم الاستغناء عن الجنود الموجودة عنده، فكان هذا التأخير فرصة حسنة لمقاصد البوير وسببا لجرأتهم على دوام العصيان، فانتشرت الثورة واشترك الكثيرون فيها، وأخذوا يهددون باقي البوير الموالين لإنكلترا وينسبون إليهم الخيانة إن لم ينضموا إليهم، فكانوا يتبعونهم خوفا منهم؛ ولذلك صار عددهم عظيما، فأرسلوا كذلك يستدعون رؤساء القبائل للأخذ بناصرهم، فأبوا إجابة طلبهم، وذهب نداؤهم صرخة في واد. ثم جعل الثائرون مركز حركاتهم مدينة ميدلبرج، فكتبوا إعلانا وبعثوه إلى الحكومة الإنكليزية، ومن ضمنه: «إننا لا نميل إلى الحرب وإهراق الدماء، فإذا اضطرمت نيرانها فأنتم المسئولون عن ذلك، فإذا لم تجيبوا طلباتنا لأننا حينئذ ندافع عن الوطن لننال بالقوة ما عجزنا عنه بالسلم. وأرسلوا إعلانهم هذا يوم 17 ديسمبر سنة 1880 الساعة العاشرة والنصف مساء إلى السير لانيون، وطلبوا منه الرد في مدة 48 ساعة.
واقعة بوتشستروم وبرنكرسبلنت
وفي 20 ديسمبر سنة 1880 أرسل السير لانيون إلى الثائرين ردا على إعلانهم يقول: «إني عرضت طلباتكم على حكومة جلالة الملكة، وها أنا منتظر الأمر، وعند صدوره أخبركم به.» ولعلمه بأن هذه الإجابة لا تقنع الثائرين أرسل أورطة للمحافظة على الطريق من ميدلبرج إلى بريتوريا، وفي يوم 16 ديسمبر؛ أي اليوم الذي كتب فيه الإعلان السالف ذكره، حصل قتال في بوتشستروم، فأرسل السير لانيون الكولونيل ونسلو والكابتن فولز وراف فتحصنوا جميعا في سراي المحكمة، وكانت حصونهم ضعيفة لا كالحصون التي اتخذها البوير، فصار الرصاص يتساقط عليهم بكثرة، وما مضت مدة قليلة حتى أصيب الكولونيل فولز، وذهب أول شهيد تلك الثورة، وقتل كثير منهم، فاضطروا إلى التسليم وسقطت مدينة بوتشستروم في أيدي الثائرين.
وبعد هذا الحادث أرسل السير لانيون إلى مستعمرة الناتال يطلب من الكولونيل بلرز إرسال أورطة إلى بريتوريا، فقامت هذه الأورطة في الحال بقيادة الكولونيل أنستروتر وتبعها قطار مشحون بالمئونة والذخيرة، ولما وصل الإنكليز نقطة اسمها برنكرسبلنت تبعد 38 ميلا عن بريتوريا، نظر الكولونيل عن بعد فرأى عددا عظيما من البوير يفوق عددهم، واقفين أمامه على الطريق من الجهة الشمالية، فلما صاروا على بعد نصف ميل منهم طلع عليهم رجل يحمل راية بيضاء وسلم إلى الكولونيل خطابا من الجنرال جوبير مكتوبا فيه:
لم يأتنا إلى الآن رد إعلاننا الذي أرسلناه للسير لانيون، ولم نعلم إذا كانت طلباتنا رفضت أو وقعت موقع القبول؛ ولذلك فإننا نحذركم من التقدم إلى الأمام أو القيام بأية حركة، بل يجب أن تقفوا في مكانكم حتى نعلم النتيجة، وإذا خالفتم نوقفكم بالقوة ولا نبالي.
الإمضاء
جوبير
فلما قرأ الكولونيل هذا الخطاب هاله ذلك التهديد، فكتب كتابا مختصرا وسلمه للرسول قال فيه:
إني أمرت بالتوجه إلى بريتوريا وإليها يجب أن أذهب.
الإمضاء
أنستروتر
ولما علم البوير بما حواه مكتوبه ابتدءوا بإطلاق الرصاص، فقابلهم الإنكليز بالمثل، واستمر القتال خمس عشرة دقيقة، أصيب في أثنائها الكولونيل بجروح، ولكنه ما انفصل عن موضع القتال، بل كان يدير حركات جنوده ثابتا ويشجعهم، وكانت ضباط هذه الأورطة تسعة، قتل منهم سبعة وهرب الثامن وهو الكابتن إليوت، وجرح التاسع جرحا طفيفا، وبلغ عدد القتلى 56 والجرحى 81 رجلا، فضعفت قوة الكولونيل، ولم يعد يستطيع على الثبات، فسلم ووقع أسيرا مع من بقي من جنوده في أيدي البوير، وكانت خسارة البوير لا تذكر. وبعد هذه الواقعة كتب زعماء الثورة إعلانا ووزعوه على جميع البوير مكتوبا فيه: أيها الإخوان، ارفعوا جميعا أكف الحمد للخالق العظيم على ما أولانا من الفوز على أعدائنا بهمة الجنرال جوبير قائدنا العام ورجاله، ولنسجد للقادر على كل شيء، الذي منحنا هذه القوة التي بها تغلبنا على الإنكليز وهزمناهم شر هزيمة.
واقعة لنجزنك
وفي 24 ديسمبر سنة 1880 وزع البوير إعلانا يتهمون به السير لانيون بأنه أمر بقتل النساء والأطفال، وبتجنيد العبيد لمحاربتهم ، وكانت هذه الإشاعة عارية عن الصحة، وإنما كان القصد منها زيادة الهياج، فشرع البوير يعتدون على العبيد، ويأخذون مواشيهم؛ وذلك لحقدهم عليهم، حيث رفضوا مساعدتهم، وفي يناير سنة 1881 قبضوا على ثلاثة من العبيد كانوا حاملين رسائل للإنكليز، وبعدما استولوا على ما معهم أعدموهم رميا بالرصاص، فهاجت جميع القبائل وأرسلت الرسائل لإنكلترا، يقولون فيها إنهم مستعدون لمساعدة جنودها في مقاتلة البوير، فرفضت إنكلترا ذلك وأمرتهم بأن يلتزموا الحياد، وفي أثناء هذه الحوادث أخذت نساء الإنكليز في المهاجرة من بريتوريا إلى نيوكاسل، فأرسلت البوير قوة عظيمة وقفت في مضيق لنجزنك القريب من نيوكاسل، وفي 10 يناير سنة 1881 قام السير جورج كولي ومعه ألفان من الجند قاصدا نيوكاسل، ولما وصل إليها مكث فيها بضعة أيام لينظر في استحكاماتها ويتفقد حصونها، وكان القاطنون بها من الإنكليز في غاية الرعب والخوف، وفي 24 منه قام السير جورج كولي من المدينة المذكورة قاصدا مهاجمة مضيق لنجزنك، وفي 27 منه وصل إلى نقطة اسمها «هاتلي»، فرأى بها جنود البوير واقفين له بالمرصاد في المضيق، وفي منتصف الساعة السادسة من صباح الثامن والعشرين أمر السير كولي جنوده بالزحف حتى صار بين الجيشين ألف وخمسمائة متر، ثم أمرهم بإطلاق المدافع، وظلوا كذلك ساعتين فلم يجبهم البوير، فتقدم الإنكليز إلى الأمام حتى صار البعد بين الفريقين ثلاثمائة متر تقريبا، فبادرهم البوير بالرصاص وأصابوا من الإنكليز 17 بين قتيل وجريح، وحينئذ أمر السير كولي قومه بالهجوم، فقابلهم البوير بنار حامية دامت خمسا وأربعين دقيقة كان الإنكليز في أثنائها يحاولون اختراق الصفوف ليعبروا من المضيق، فلما أخفقوا تقهقروا بعد أن قتل منهم سبعة ضباط، وجرح اثنان، وبلغت القتلى والجرحى 195، وقد اعتذر السير كولي لنظارة الحربية عما فرط منه بدعوى أنه كان يقصد الوصول إلى بريتوريا لإنقاذ السير لانيون ومن معه من الإنكليز.
واقعة إيجونجو
وبعد الحادثة السالف ذكرها قامت حملة من إنكلترا بقيادة الجنرال وود، فلم ينتظر الجنرال كولي هذا المدد، بل أخذ خمس أورطات ومدفعين وعبر بهم نهر إيجونجو في مساء 6 فبراير سنة 1881، فشعر بهم البوير وقابلوهم بالرصاص، ودام القتال بينهما من الساعة السادسة صباحا إلى الساعة الثالثة بعد الظهر، ثم استراحوا ساعتين واستأنفوا القتال، وكانت الأمطار تتساقط مع الرصاص، وقصف الرعد يدوي مع فرقعة القنابل، حتى خيم الظلام وحال بين المتحاربين، فكفا عن القتال وأحصى الجنرال كولي عدد القتلى والجرحى من جنوده فكانوا 150، فعاد بالباقين تحت جنح الظلام إلى نيوكاسل، وقاسوا في عبور النهر مشقة وتعبا شديدين، وغرق أكثرهم فيه لشدة فيضانه بالأمطار الغزيرة التي تساقطت بعد الظهر.
وفي 11 فبراير سنة 1881 رجع البوير إلى مستعمرة الناتال لمقابلة المدد الآتي بقيادة الجنرال وود ومقاتلته قبل أن يجتاز بلادهم، ومن 11 فبراير إلى 18 منه كان القسم الشمالي من مستعمرة الناتال في أيدي البوير، فنسفوا السكك الحديدة وقطعوا الأسلاك البرقية، وكانوا ينهبون ويقتلون كل من يصادفهم في الطريق من الإنكليز، وحجزوا قطارا مشحونا بالبضائع ونهبوا ما فيه ثم أحرقوه. أما سكان نيوكاسل الإنكليز، فكانوا يخشون هجوم البوير عليهم؛ ولذلك كانوا متأهبين للقتال، حتى إن الرجل منهم كان ينام وسلاحه تحت الوسادة، وخيولهم دائما مسرجة، واستأجروا رجالا من العبيد لمساعدتهم في حراسة المدينة، ومع كل هذه الاحتياطات كان أكثرهم يريد التسليم، وبينما هم يضربون أخماسا لأسداس إذا وجدوا أن البوير غيروا خطتهم، ورجعوا إلى مضيق لنجزنك. وفي مساء 14 فبراير وصلت الحملة الإنكليزية بقيادة الجنرال وود إلى نيوكاسل، فقابلها أهلها بهتاف السرور والابتهاج، ورفعت عن كواهلهم أثقال الخوف والرعب بعد أن أعيتهم زمنا طويلا.
واقعة ماجوبا
وفي 23 فبراير 1881 أرسل البوير إلى السير كولي يقولون: «إننا لا نبغي قتالكم طمعا في امتلاك شبر واحد من أراضيكم، وإنما غايتنا المقصودة وضالتنا المنشودة أن نمنح الاستقلال الذي لا نستطيع الحياة بدونه.» فرد عليهم السير كولي بأن يلقوا أولا سلاحهم في ظرف 48 ساعة، وبعد ذلك تشكل لجنة للنظر في طلبهم، فتأخر وصول هذا الجواب إليهم، فأخذوا يستعدون للقتال، فظن السير كولي أنهم لا يسلمون بالشروط التي افترضها عليهم، فأصدر أمرا سريا لست أورطات بالاستعداد للمسير، ولم يطلع أحدا على الخطة التي رسمها لإخفائها عن جواسيس البوير. وقاموا في الساعة الرابعة بعد الظهر من يوم 26 فبراير وظلوا سائرين طول تلك الليلة في ظلام دامس، وكانت الطريق وعرة والمسالك كثيرة الهضاب، فبلغوا تل ماجوبا في الساعة الثالثة صباحا من يوم 27 فبراير، فأرادوا الهجوم على البوير وهم في غفلتهم، وكانت المسافة بينهما ألفي ياردة، فترك بعضا من الجند لحفظ خط الرجعة، وجعل البعض الآخر في أعلى التل، وتقدم مع 350 جنديا إلى الأمام، فنظرهم البوير وهجموا عليهم هجمة الأسود، حتى أحوجوهم أن يحاربوا بالسلاح الأبيض. أصيب في أثناء ذلك السير كولي برصاصة في رأسه كانت القاضية، فتبددت عساكره بموته وولوا الأدبار من وجه البوير، تاركين قتلاهم على التل وكثيرا من جرحاهم الذين لم تعتن البوير بأمرهم، وكان أنينهم يتصاعد مع الهواء، وقد بلغت خسارة الإنكليز في هذه الموقعة 21 ضابطا، و260 جنديا بين قتيل وجريح.
طلب الصلح
وفي 2 مارس سنة 1881 طلبت إنكلترا هدنة ثمانية أيام، وكان في نيتها استئناف القتال؛ ولذلك أمرت الماجور جنرال روبرتس بالاستعداد لقيادة خمسة عشر ألف مقاتل والذهاب بهم إلى جنوب أفريقيا، فلما علم بذلك البوير خافوا العاقبة؛ لعلمهم أنهم ليس في إمكانهم الوقوف أمام هذه الحملة، فأسرعوا بطلب الصلح، ووسطوا المستر برند رئيس جمهورية أورنج، وأرسلوا إلى السير وود يطلبون منه تشكيل لجنة من البوير والإنكليز للبحث في الطلبات المرضية للطرفين، فأرسل السير وود إلى المستر غلادستون بذلك، وأعرب عن رغبته في إجابة طلباتهم، فسعى هذا الأخير لدى حكومته ليقنعها بقبول الصلح، ومنح البوير الاستقلال، فنجحت مساعيه، وأوقفت الحملة التي كانت على نية المسير. وفي 5 مارس 1881 أرسل المستر غلادستون إلى الجنرال وود يقول له بأن جلالة الملكة قبلت تشكيل لجنة للبحث في طلبات البوير، وأنها أمرت السير هركيل روبنصن حاكم مستعمرة الكاب والسير هنري دي فيليه والسير وود بعقد معاهدة الصلح، فاجتمع هؤلاء الثلاثة مع قواد البوير كروجر وجوبير وبريتوريوس وعملت المعاهدة في 3 أغسطس 1881، وهاك أهم بنودها:
أولا:
منح جمهورية الترنسفال استقلالا إداريا تحت سيادة بريطانيا العظمى.
ثانيا:
تعيين مندوب إنكليزي في بريتوريا لحماية الإنكليز القاطنين في أنحاء البلاد.
ثالثا:
منح حرية الأديان.
رابعا:
منع تجارة الرقيق منعا كليا.
خامسا:
معاملة الأجانب معاملة الوطنيين مع التخويل لهم حق الانتخاب في مجالس الحكومة.
سادسا:
قضايا الأجانب وقضايا العبيد الكبرى تحل بواسطة المندوب الإنكليزي.
سابعا:
للمندوب الإنكليزي الحق أن ينظر في القوانين والأوامر التي تسنها الحكومة والاعتراض عليها، إن لم تكن موافقة.
ثامنا:
للمندوب المذكور الحق في مخابرة دولته واستدعاء الجنود الإنكليزية إذا أوجب الحال.
وأمضى هذه المعاهدة مندوبو البوير والإنكليز في نفس الموضع الذي عقدت فيه معاهدة الانضمام بيد السير شيبستون، ثم عرضت على مجلس الفولسكراد، فأقر على عدم قبولها وطلب تحوير بعض بنود، منها البند القائل بأن علاقات الأجانب وقضايا العبيد الكبرى تحل بواسطة مندوب إنكلترا، بل طلب أن يكون معه عضو آخر من البوير برئاسة رئيس الجمهورية، ثم اعترض على تخويل المندوب الإنكليزي حق الاعتراض على ما تقرره الحكومة من القوانين والأوامر، وأرسلوا بذلك تقريرا إلى المندوب الإنكليزي ليعرضه على حكومته، فأرسله في الحال إلى لندرا، فأجاب اللورد كمبرلي بقوله إنه تقرر عدم تغيير بند من بنود المعاهدة، ولكن إذا قام الفولسكراد بإنفاذ هذه الشروط ورأت إنكلترا ما يؤهله الاستقلال التام، فلا تضن عليه به. ولما أبلغ هذا الجواب إلى أعضاء الفولسكراد أصروا على الرفض، ولولا طالع سعد البوير لكادت الحرب تعود بينهما، وإنما جاء في ذلك الحين تعيين اللورد بيكونسفيلد ناظرا للمستعمرات، فأجاب طلبهم، وتحورت المعاهدة بما يلائم رغبتهم، وكان ذلك في أكتوبر سنة 1881. ولما انتشر ذلك الخبر بين البوير أخذوا جميعا يلهجون بالدعاء لجلالة الملكة واللورد بيكونسفيلد، والسير وود، الذي كان أعظم مساعد لهم على نيل مطالبهم، وحاولوا أن يحرقوا رسم المستر غلادستون؛ لأنه لم يف بوعده لهم، وبقدر سرور البوير باستقلالهم كان حزن رعايا إنكلترا؛ ولذلك غادروا البلاد أفواجا وأكثرهم من الأغنياء والتجار، فبخست أثمان الأطيان وانحطت التجارة.
أما المستر كروجر فلم يجن أثمار أتعابه إلا في يناير سنة 1882، حينما انتهت مدة انتخاب الرئيس برجر فانتخبوه رئيسا للجمهورية بدلا عنه، وبذلك نال أمنيته التي طالما علل بها النفس، وكان يوم انتخابه عظيما جدا، فتواردت عليه التهاني من كل فج، وعندما تولى الرئاسة لم يقنع بالاستقلال، بل وجه نظره لطرد الإنكليز من مستعمرات جنوب أفريقيا، وضمها إلى جمهوريته، فتوجه مع المستر تويت وسميث إلى لندرا في سبتمبر سنة 1883 وتقابلوا مع اللورد دربي الذي كان ناظرا للمستعمرات في ذاك الوقت، وطلبوا منه تحوير معاهدة سنة 1881، وأنهم لم يقبلوها في بادئ الأمر إلا رغبة في السلم، فطرح أمرهم على البرلمان الإنكليزي، فقرر إجابة سؤلهم وغير بعض بنود منها ببنود جديدة، منها تسمية حكومة الترنسفال جمهورية أفريقيا الجنوبية، ومنها عدم تخويل الجمهورية عقد معاهدة مع أي دولة خلاف جمهورية أورنج، ومنها إلغاء سيادة إنكلترا على الجمهورية، وكان ذلك جل ما يتمناه الرئيس كروجر ليكون مطلق الحرية، وبعد أن نال مشتهاه زار بعض العواصم الأوروبية، فقوبل بمزيد الحفاوة والإكرام، وعاد إلى بلاده ظافرا مسرورا.
شركة أفريقيا الجنوبية الإنكليزية (الشار ترد)
وفي سنة 1889 اتحد الدوق أبركورن، والدوق فيف صهر البرنس دي غال، واللورد جغورد، والمستر سسل جون رودس، والمستر ألفريد بيت، والمستر جورج جراي، والمستر جورج كاوستون؛ على تأسيس شركة في جنوب أفريقيا تسمى بشركة أفريقيا الجنوبية، مركز إدارتها في لندن وأشغالها تمتد ما بين البشوانالند وأملاك البرتغال جنوبا، والغرض منها نشر لواء التمدن على سكان هذه الجهات، وتوسيع نطاق التجارة ومنع تجارة الرقيق، وعقد المعاهدات مع رؤساء القبائل لضمانة راحة جميع الأجانب، وطلبوا من جلالة الملكة التصريح لهم بذلك، فصرحت لهم على شروط أهمها أن رؤساء الشركة يكونون من الإنكليز، وأن معتمد الحكومة الإنكليزية يكون صاحب الحكم فيما يقع من الخلاف بين الشركة والقبائل، وأن تضمن السلم واستتباب الأمن في الجهات التي تحل فيها، وأن تتعهد بمنع تجارة الرقيق وببيع جميع أصناف المسكرات إلى العبيد، وأن تحترم جميع الديانات والمذاهب على اختلاف أجناسها، وليس لها الحق في إعطاء أي احتكار تجاري لأحد، وأن تقدم حسابا سنويا لمعتمد إنكلترا يتضمن إيراداتها ومصروفاتها. وبعد ذلك أخذت الشركة في العمل تحت رئاسة الدوق فيف وأصدرت مليون سهم، وجعلت ثمن السهم جنيها إنكليزيا، ولما اجتمع لديها ثمن الأسهم المذكورة صارت تشتري المراكب وتنشئ البنوك المالية، وتمد السكك الحديدية، فمدت أولا خطا حديديا من مدينة الرأس إلى كمبرلي، وخطا آخر إلى مفكنج موازيا حدود الترنسفال، وعملت طريقا يسمى سيلوس وطوله 343 كيلومترا، وأنشأت مكاتب للبوستة والتلغراف، ونظمت جندا للبوليس، وألفت لجنة للنظر في الأعمال التجارية والزراعية وغير ذلك.
وفي أوائل سنة 1890 أراد البوير أن يضموا إلى أملاكهم أراضي المتابيلان الواقعة شمال بلاد الترنسفال، وأرسلوا حملة لهذا الغرض، فبينما هي سائرة وإذا بجنود الشركة قد قابلتها بقيادة الماجور ألن عند نهر تولي فأوقفتها عن المسير، وردتها من حيث أتت، ثم ذهب المستر سسل رودس وبعض من الجند، وقد ألبسهم ملابس الخدم حتى لا ينزعج منهم لوبنجولا ملك قبيلة المتابيلان، وقدم إليه ما كان يحمله من الهدايا، فقبلها منه، ثم عرفه المستر سسل أن بلاده في خطر من مهاجمة البوير، وأنهم كانوا قاصدين قتاله، لولا أنه صدهم وردهم إلى بلادهم، وعرض عليه قبول حماية جلالة الملكة، فأجاب بالقبول. ومن هذه السنة صارت المتابيلان خاضعة لسيادة إنكلترا، فأنشئوا فيها البوستة والتلغراف وأخذوا في تنظيمها، ثم بحثوا في أراضيها، فوجدوا فيها مناجم الذهب، فأرادوا أن يستنبطوه، ولكنهم خافوا من عدم رضاء الملك لوبنجولا، فقدموا له هدية أخرى وهي ألف بندقية وكمية عظيمة من الخرطوش، وسفينة تحمل مدفعا لكي يتنزه بها في نهر الزنبيز، وربطوا له مرتبا شهريا ألفين وخمسمائة فرنك، ثم سألوه أن يعقد معهم معاهدة لأجل استخراج الذهب، فأجابهم إلى ذلك. فأخذت رجال الشركة تنشئ المعامل اللازمة، وكانت على تمام الوئام والوفاق مع رجال الماتبيلان، لا يمانعهم ممانع ولا يعارضهم أحد. وفي سنة 1893 دخل شيطان الشقاق في قلوب رجال قبيلة الماتبيلان، فمنعوا الإنكليز من استخراج الذهب، وصاروا يلحون على ملكهم أن يطرهم من بلاده، وما اقتصروا على ذلك، بل مدوا أيديهم إلى البوستة ، ونهبوها مرارا عديدة، وكان الإنكليز في كل مرة يطلبون من لوبنجولا معاقبة الجانين وإيقافهم عند حدهم، فلم يجب لهم طلبا. ولما فرغت جعبة اصطبار المستر سسل قبض على المجرمين وأودعهم السجن، فطلب منه لوبنجولا أن يطلق سراحهم فأجاب: «إنني طالما طلبت منك أن تعاقبهم بنفسك فأبيت؛ ولذلك اضطررت لأن أسجنهم عقابا لهم.» فلم يرعو لوبنجولا من كلامه، بل ألح بطلبه، فأبى أن يسلمهم إليه، وخابر حكومته في أمرهم، وطلب منها التصريح له بقتال المتابيلان فصرحت بذلك.
وكان سروره لذلك لا يوصف حتى جعل مصاريف الحملة من ماله الخاص، فجهز ستمائة مقاتل تحت قيادة الدكتور جمسون وأمرهم بالهجوم على المتابيلان، فانتشب القتال بينهما، ثم انجلى عن قتل الملك لوبنجولا وتبديد رجاله أيدي سبأ، وكانت خسارة الإنكليز 245 نفسا، ما بين قتيل وجريح، وبلغت مصاريف هذه الحملة ثلاثة ملايين من الفرنكات أنفقها المستر سسل رودس وهو يكاد أن يطير فرحا لنجاح أعماله التي قدرتها حكومته حق قدرها، فسمت هذه البلاد ولاية رودسيا تذكارا حسنا لتخليد اسمه، ومن هذه السنة عظمت شهرته وصار يعد من رجال إنكلترا الأكفاء، المشهود لهم بإجادة العمل، وسداد الرأي، وعلو الهمة، ثم تعين رئيسا لوزارة حكومة الكاب.
مشروع المستر سسل رودس
ولما نجح المستر سسل في المتابيلان حدثته نفسه بعمل أعظم، وهو اتحاد الترنسفال والأورنج والناتال بمستعمرة الكاب، حتى تصير مملكة واسعة الأرجاء، تلقب بممالك أفريقيا الجنوبية المتحدة، ويتلو ذلك إنشاء سكة حديد تخترق أفريقيا من مدينة الرأس إلى مدينة الإسكندرية، فلما اطلع مواطنوه على مشروعاته هذه وغايتها، لقبوه ب «نابليون أفريقيا»، وقد ساعده على الاهتمام بها ما كان من الارتباك ما بين جمهورية أفريقيا الجنوبية وقبيلتي السوازيس والمجازوتس، وكانت إنكلترا ترغب كثيرا في دوام استقلال القبيلة الأولى، وجعلها بمعزل عن سيادة جمهورية أفريقيا الجنوبية؛ ولذلك عقدت معاهدة في سنة 1884 مع جمهورية الترنسفال تمنع فيها نفوذ هذه الجمهورية من الجهة الشمالية من نهر ليمبوبو؛ لكيلا يمس استقلالها، فما راعى البوير هذ المعاهدة وحاولوا نكثها. فأنفذت إنكلترا من قبلها السير فرنسيس دي ونتون إلى بلاد السوازيلان؛ ليقف على حقيقة الأمر، فاقترح على حكومته أن تجعلها تحت سيادتها أو تكلف شركة أفريقيا الجنوبية بملاحظتها، فرفضت إنكلترا اقتراحه، وأرسلت إلى الرئيس كروجر تحذره من إتيان أي عمل كان خارقا للمعاهدة، ثم استترت هذه المسألة بحجاب السكوت إلى سنة 1890، فعادت الجمهورية إلى السعي للاستيلاء عليها، فوقفت إنكلترا في السبيل، وقد اشتد الخلاف بينهما حتى أصبحت الحرب على قاب قوسين أو أدنى، ولكن جلالة الملكة حبا في نشر لواء السلام وحقن الدماء أرسلت السير هوفمير إلى الرئيس كروجر، فاتفق معه على حالة ترضي الطرفين.
وفي سنة 1893 عاد البوير إلى غايتهم الأولى، فلما ملت إنكلترا من هذه المسألة سمحت للجمهورية بأن تجعل بلاد السوازيس تحت سيادتها من غير أن تضمها إلى أملاكها، مع مراعاة حفظ حقوق إنكلترا فيها، وتعين لهذا الصدد مندوب إنكليزي، وعقد بذلك معاهدة في 14 فبراير سنة 1894، ثم ربطت الجمهورية ضرائب على هذه القبيلة، فما قبلت بها وقامت ضدها، وكان ملك تلك القبيلة المسمى إيليني قد رأى من أحد أعضاء مجلسه ميلا إلى البوير، فقتله، فاعترضت عليه الجمهورية، وأرسلت تطلبه للمحاكمة، فرفض إجابة الطلب، وقتل خمسة آخرين من الأعضاء الذين حثوه على إجابة طلبها، فاشتد حنق الرئيس كروجر وأصر على استحضاره بالقوة إلى بريتوريا لمحاكمته، وأرسل إليه مندوبين يأمرانه بالحضور، فأبى مقابلتهما، فأمر حينئذ الرئيس كروجر بإرسال حملة بقيادة الجنرال جوبير، وبعد قتال عظيم دخل البوير عاصمة الزولس، فهرب الملك إيليني من وجههم، واختبأ مع ثمانية من عائلته، وبعض من رجاله في الزولولند، بالقرب من بحيرة القديسة لويسة تحت حماية المندوب الإنكليزي، فجمع الجنرال جوبير 180 رجلا من كبراء القبيلة، وأمرهم أن ينتخبوا لهم ملكا بدلا عن الأول، فوقع اختيارهم على والدة إيليني، فولاها عليهم، وعاد إلى بريتوريا بعدما ترك نحو مائة جندي للمحافظة على الأمن، ثم أرسلت الجمهورية لإنكلترا تطلب منها تسليم إيليني لمحاكمته، فأجابت طلبها تحت شرط أن يحضر مندوب إنكليزي معهم في المحاكمة، فعينت إنكلترا المستر هنري لسوك، وتم الحكم على إيليني بالنفي من بلاده.
وفي بحر هذه السنة؛ أي سنة 1894، كان ملك المجازوتس المدعو مبغو شق عصا الطاعة على حكومة الترنسفال ورفض دفع الضريبة المربوطة عليه، وثارت جميع رجاله على جميع البيض القاطنين ببلاده، وحرقوا أحد المرسلين حيا، فجردت عليهم الجمهورية حملة في 13 أكتوبر بقيادة الجنرال جوبير، فدمرتهم، وفازت بالنصر، وولى مبغو هاربا على شواطئ نهر ليبومبو هو ومن معه، وبعد مدة وجيزة عاد من معه إلى بلادهم وقدموا الطاعة للجمهورية، فلما علم بذلك مبغو حاول أن ينتحر ففاجئته رجال بوليس ولاية رودسيا، وقبضوا عليه وسلموه للجمهورية وولت آخر بدله.
أما حالة الترنسفال في ذاك الوقت فكانت على غير ما يرام؛ لأن قانون العسكرية كان يقضي على الوتلندر القاطنين هناك بالانتظام في سلك الجيش الترنسفالي، فأبى خمسة منهم الالتحاق بالحملة التي أرسلتها الجمهورية لإخضاع مبغو، فألقت القبض عليهم وسجنتهم، ولما علمت حكومة إنكلترا بهذا الأمر، كلفت المستر هنري لوك بأن ينظر في أمرهم، وفي أثناء ذلك كان الهياج شديدا في جوهانسبرج، وخصوصا الإنكليز بعد أن سجن إخوانهم، وكان في هذه المدينة جمعية إنكليزية تسمى جمعية الإصلاح تابعة لشركة أفريقيا الجنوبية، فأرسلت إلى المستر هنري لوك في بريتوريا تطلب منه التوسط والنظر في أمرهم، فلبى دعوتهم، فعلم بذلك رئيس نظارة المعادن في جوهانسبرج المسمى ليونيل فيليبس، فكتب إلى حكومته كتابا يدعي فيه بأن المستر هنري لوك لم يحضر إلا ليختبر حالة مدينة جوهانسبرج والقوة الحربية التي فيها، وليقف على ما عندنا من المئونة والذخيرة؛ فكان لكتابه هذا دوي عظيم في بلاد الترنسفال، فأرسل الرئيس كروجر إلى المستر لوك إفادة بتاريخ 26 يونيو سنة 1894 يقول فيها: «إني أرجوكم عدم زيارة جوهانسبرج؛ إيقافا للفتنة وإبطالا للهياج الذي أتأكد تعاظمه عند حضوركم، ولكيلا أتحمل مسئولية ذلك أرسلت إليك إفادتي هذه لترفض طلب الوفد الآتي إليك فأصبح ممنونا لكم، وفضلا عن ذلك فإنكم تكونون قد فعلتم ما يديم الوفاق والوئام والمحبة الدولية بيننا.»
فلما علم السير هنري بما نسب إليه، تعجب كثيرا وكتب إلى الرئيس كروجر يقول: «إني أؤكد لكم موافقتي لأفكاركم وقبول ما أبديتموه بإفادتكم، ودليلي على ذلك رفض طلب من دعاني للذهاب إلى جوهانسبرج، وإنما أقول بأنه ظهر لي بأن هذا الهياج هو نتيجة اهتضام حقوق الوتلندر، وحيث أعهد فيكم الميل إلى السلم والابتعاد عن الظلم، فأطلب تلافي هذا الأمر قبل استفحاله باتخاذ التدابير اللازمة، وحكمتكم المشهورة كفء لمثل هذا العمل، ويسرني كثيرا ألا أرى أثرا لهذا الهياج بعد قليل من الزمن.»
فإجابة لهذا الطلب أطلق الرئيس كروجر سراح الخمسة الإنكليز المسجونين، ولكن أصر على عدم تغيير قانون العسكرية، فلما علمت بذلك جمعية الإصلاح عمدت إلى القوة، فأخذت في استحضار الأسلحة والذخائر من أوروبا بطرق سرية، وكان ذلك بمعرفة شركة أفريقيا الجنوبية، وفي سنة 1895 جمعت هذه الشركة كل قوتها في نقطة اسمها بيليواجوا وأعطت قيادتها للكولونيل هوايت، والقيادة العامة للدكتور جمسون، وفي 18 أكتوبر من هذه السنة طلبت الشركة من إنكلترا أن تسمح لها بجعل جنود البوليس المقيمة في جهة باشوانالند تابعة لإدارتها، فصرحت لها بذلك، وفي 29 منه صدرت الأوامر من المستر سسل إلى الكولونيل هوايت أن يقوم مع رجاله إلى مفكنج فصدع بالأمر، وكانت المسافة بين بيليواجوا ومفكنج 890 كيلومترا تقريبا، فقطعوها في مدة ثلاثين يوما، وعسكروا في نقطة تسمى بيتسلاني بيتسلاجو، وأنشئوا مخازن في طريقهم لوضع الذخيرة، وأول مخزن كان بقرب منجم ملماني. وفي 26 ديسمبر ابتدأ الهياج في جوهانسبرج، وقفلت الحوانيت وأخذت النساء والأطفال بالمهاجرة إلى مستعمرات إنكلترا وأغلبهم من الإنكليز، وأوقفت حركة الأشغال بالكلية، واستقال المستر سسل من منصبه في مستعمرة الرأس، وأرسل في صباح يوم 30 ديسمبر سنة 1895 أربع أورطات لمقابلة الدكتور جمسون ومن معه، فتقابلوا في مساء اليوم المذكور بالقرب من ملماني، وبعدما استراحوا في هذه النقطة ساروا منها حتى وصلوا إلى شواطئ نهر إيلندس، وفي 31 ديسمبر قبل الغروب بساعة تقابلوا بالكولونيل هوايت ومعه بعض الجند فظلوا سائرين معا حتى قطعوا 130 كيلومترا في 21 ساعة.
وفي صباح أول يناير الساعة الخامسة مساء، بينما هم سائرون في الطريق إذا أتت رسالة للدكتور جمسون من مندوب إنكلترا في بريتوريا يوقفه عن المسير باسم الحكومة الإنكليزية، ويأمره بالعود من حيث أتى، فأرسل ردا على هذه الإفادة يقول: «إنه ليس في إمكاني العودة لكثرة ما معي من الرجال، ولعدم وجود معي مئونة كافية، فأنا مضطر بأن أتقدم حتى أصل إلى كروجر سدورب أو جوهانسبرج، على أنه لم يحدث مني شيء يمس بفرد من السكان على اختلاف أجناسها.» ثم أخذ في مواصلة السير إلى الظهر، فوصل إلى نقطة تبعد 29 كيلومترا عن كروجر سدورب من الشمال الشرقي، فأتى رسول من جوهانسبرج حاملا كتابين من سسل رودس إلى جمسون؛ أولهما يحذره فيه من البوير؛ لأنهم مختبئون له في بعض المناجم المهجورة التي في طريقه، وثانيهما يقول فيه:
عزيزي جمسون
لا صحة لما سمعته عن حدوث مذبحة في المدينة حتى اضطررت لتنجدنا، ولكن لا تخلو المدينة من الهياج، ونتمنى أن نراك عن قريب، وسأرسل لمقابلتكم ثلاثمائة رجل يلاقونكم بالقرب من كروجر سدورب.
أما البوير فما خفيت عليهم تلك الاستعدادات، ولكنهم تجاهلوها وأخذوا بالاستعداد سرا، وفي 30 ديسمبر طلب الرئيس كروجر من جمعية الإصلاح تشكيل لجنة للاتحاد مع لجنة أخرى من البوير للبحث في طلبات الوتلندر، فقبلت الجمعية ذلك، ولما عرضت الوتلندر طلباتها أبت البوير قبولها، وقالت بأن البلاد بلادهم يفعلون فيها كيف شاءوا، وفي الحال حمل البوير سلاحهم حتى شيوخهم وتطوع لهم ما ينوف عن 200 رجل بين ألمانيين وهولنديين وقدموا أنفسهم للمحافظة على بريتوريا وضواحيها من هجمات الإنكليز. وفي أول يناير سنة 1896 عند بزوغ الشمس سار 1250 رجلا من البوير بقيادة الجنرال كرونجي إلى كروجر سدورب، وقرب الظهر وصل جمسون إلى نقطة قريبة، فأرسل يطلب منهم الإذن بالمرور إلى جوهانسبرج فأبوا، فأمر رجاله بالهجوم والمرور قهرا عنهم، فأصلتهم البوير نارا حامية أحوجتهم إلى التقهقر، وبعد هنيهة أراد جمسون أن يعيد الكرة فكانت الضربة الثانية شرا من الأولى، فصف جنوده بشكل مربع، وجعل الذخيرة والأدوات الحربية بداخلها، وأصر على المقاومة إلى أن تأتي له النجدة التي كان وعده رودس بها، فخابت آماله وتأخرت عنه إلى أن هجمت عليه البوير صبيحة اليوم الثاني من يناير. وكان أمل البوير تبديدهم قبل وصول المدد إليهم، ولكن لم ينجحوا، فانتهز جمسون الفرصة واخترق صفوفهم، وعبر من كروجر سدورب، وبعدما مشي قليلا قابلته فرقة أخرى من البوير بالقرب من جبال درونكوب، فأوقفته وانتشب القتال بينهما، فانجلى عن خسارة جمسون 167 رجلا ما بين قتيل وجريح وأربعين أسيرا، وكان من ضمن المجروحين الميجر راليج وجراي وكوفنتري والكابتن راف، ولما رأى جمسون عدم مقدرته على القتال رفع الراية البيضاء، فوقف القتال وأرسل رسولا إلى الجنرال كرونجي يخبره أنه يريد التسليم، فرد عليه بقوله: «إنا نقبل تسليمك على شرط أن تتعهد بدفع غرامة حربية، وتسلم لنا أسلحتكم، وها نحن منتظرون الرد في مدة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة.» فقبل جمسون هذا الشرط لاضطراره، وماتت آماله هو ورودس ودفنت مأسوفا عليها، أما المدد الذي وعد به رودس لمقابلة جمسون فإنه لما قام من جوهانسبرج بقيادة بتنجتون علم في أثناء سيره بانهزام جمسون ووقوعه أسيرا، فرجع إلى المدينة وأخبر بما علم، فكذب المسيو ليونار هذا الخبر تسكينا للهياج ومنعا للاضطراب.
وفي مساء 3 يناير سنة 1896 أرسل المستر شامبرلن ناظر المستعمرات تلغرافا إلى السير هركول روبنصن حاكم بلاد الرأس يأمره بمخابرة الرئيس كروجر بشأن جمسون ورفاقه، فأرسل إليه السير هركول يقول بأن الجمهورية قد حكمت على أربعة من الأسرى بالإعدام وهم: جمسون، ويلغوبي، وهويت، وكوفنتري، وأنها لحسم الخلاف تطلب أيضا نزع السلاح عن سكان جوهانسبرج، فكان لهذه الرسالة وقع مخيف في فؤاد المستر شامبرلن؛ ولذلك أرسل في الحال تلغرافا إلى الرئيس كروجر يرجوه العفو عن الأسرى، وبالأخص من حكم عليهم بالإعدام، فأجابه بأن «الجمهورية ليس في نيتها قتلهم، وإنما أعلنت ذلك إرهابا لأعضاء جمعية الإصلاح، أما الحكم فإنه لم يتجاوز الحبس والغرامة؛ ولعلمي بأن ما أتوه من الأعمال السيئة هو ضد رغبة حكومتكم، فأرسلهم لكم لتجازوهم بما يستحقونه. وأرجو أن تأمروا رعاياكم الموجودين في جوهانسبرج بتسليم أسلحتهم لنا.» فشكرت إنكلترا الرئيس كروجر على ذلك، وأمرت حاكم بلاد الرأس بالتوجه إلى بريتوريا ومفاوضة رئيس الجمهورية في الأعمال التي يرغبها، فتوجه إليها في 6 يناير سنة 1896 وتقابل مع الرئيس، وبعد المفاوضة صدر أمر لعموم الرعايا بتسليم السلاح في ميعاد 48 ساعة، وفي يومي 7 و8 يناير استلمت الجمهورية 1820 بندقية، وما اقتنعت بذلك لعلمها أن عندهم أسلحة كثيرة لم يظهروها، فتشكلت لجنة وأخذت في تفتيش المنازل، فخافت السكان وسلمت ما عندها، فبلغ عشرين ألف بندقية أخرى، وفي 9 منه قبضت الجمهورية على أعضاء جمعية الإصلاح، وفي مقدمتهم المستر سسل رودس، وساقتهم إلى بريتوريا لمحاكمتهم، وفي 10 منه سلمت الجمهورية جمسون ورفاقه إلى حاكم الكاب ليوصلهم إلى دربان فأرسلهم مخفورين بالجنود، ومن هناك أبحروا إلى إنكلترا، فأحيلوا على محكمة جنايات لندرا، فحكمت على جمسون بالحبس خمسة عشر شهرا وويلغوبي عشرة أشهر، وهويت تسعة أشهر، وجراي وكوفتري خمسة أشهر، وعفت عن الباقين. أما حكومة بريتوريا فقد أحالت أعضاء جمعية الإصلاح على محكمة الجنايات التي حكمت بإعدام المستر سسل وليونار وفرارها منود وفيليبس، وحكمت على الباقين بغرامة قدرها خمسة آلاف فرنك، وبالحبس سنتين وبالنفي المؤبد، فعارضت إنكلترا أيضا في هذا الحكم، وطلبت من الرئيس كروجر تخفيفه، فما ضن بذلك، وأحال القضية على مجلس التنفيذ فاستبدل حكم الإعدام بالحبس خمس عشرة سنة، واستبدل النفي المؤبد بالحبس ست سنوات، ثم تلطف الحكم مرة ثانية وثالثة حتى صدر آخر مرة في 11 يوليو سنة 1896 بالعفو عن كل من حكم عليه بالسجن أو النفي بعد أخذ التعهدات عليهم بعدم التداخل في الشئون السياسية، فقبلوا ذلك. أما الغرامة فلم تتنازل عنها الجمهورية، فدفعوها بكل ارتياح.
وبعد هذا الحادث وعود السكان إلى السكينة اتحد المستر كروجر مع الدكتور ليدس وكيل الجمهورية على اتخاذ الطرق اللازمة لطرد الإنكليز من مستعمرات الرأس وضمها لجمهوريتهم، وأخذا يفكران فيما يمهد لهما الطريق توصلا إلى تلك الغاية.
أسباب حرب سنة 1899
فلما طمحت أنظار البوير إلى الاستيلاء على مستعمرات إنكلترا، أخذوا يدبرون الحيلة سرا خوفا من بطش بريطانيا، فعقدوا في مارس سنة 1897 مع جمهورية أورنج معاهدة دفاعية هجومية على أن يكونا معا يدا واحدة في أي عمل، سياسيا كان أو حربيا، فيقاوما أية دولة أو قبيلة تريد شن الغارة على أحدهما، وشكلا مجلسا مركبا من عشرة أعضاء ينتخبون من الجمهوريتين ويجتمع هذا المجلس في كل سنة مرتين: الأولى في بريتوريا، والثانية في بلوم فتين ليبحث في الأعمال التجارية والسياسية، وإذا حدث حادث خطر تعقد جلسات فوق العادة، فلما علمت رعايا الإنكليز بذلك خابرت حكومتها به، فكلفت هذه المستر شامبرلن ناظر المستعمرات أن ينظر في ذلك الذي لم يعد بوسعه السكوت، بل جاهر بأفكاره وبينها في خطاب ألقاه في البرلمان الإنكليزي في 22 أبريل سنة 1897، ذكر فيه أن إنكلترا لها السيادة على الجمهورية، وعدم مخابرتها بمعاهدة أورنج خروج عن القانون يحملنا على سوء الظن بها. فحملت كلماته هذه على صفحات الجرائد حتى وصلت إلى مسامع الرئيس كروجر، فقال في 25 أغسطس سنة 1897 في مجلس الفولسكراد ردا على هذا الكلام: «إني مطلق الحرية في بلادي، وأدير شئون حكومتي كيف شئت، فلا حق للمستر شامبرلن في أن يذكر سيادة حكومته على جمهوريتنا؛ لأن هذه الكلمة كانت قبلا في معاهدة سنة 1881، ومحيت من المعاهدة سنة 1884، وسكوت الحكومة الإنكليزية للآن دليل على صحة كلامي؛ وعلى ذلك فلا حق لوزير المستعمرات فيما أبداه، ولا يسعنا الاعتراف به أبدا.»
وفي أوائل يناير سنة 1898 كانت مدة رئاسة المستر كروجر قد انتهت، فأعيد انتخابه بأغلبية الأصوات، فأراد حينئذ تغيير نظام حكومته واستبدال قوانينها بما هو أحسن، فأصدر أوامر كثيرة أهمها طرد الأجانب الذين يثبت عليهم عدم الاستقامة، وتنزيل خمسة شلنات من عوائد الديناميت، والسجن من سنة إلى ست سنوات لكل من يفشي أسرار الحكومة، ومثله عقابا لكل محرر جريدة ينشر كلاما ضد الجمهورية. وفي 31 مايو سنة 1898 اجتمع المجلس المؤلف من جمهوريتي الأورنج والترنسفال فأقر على إصلاح مدارس الوتلندر، وإلزام تلامذتها بتعلم اللغة الهولندية وتاريخ جنوب أفريقيا. وفي 19 يوليو أقر مجلس الفولسكراد على إلغاء عوائد الجمرك عن الدخان الوارد من بلاد الكاب. وفي 6 أكتوبر أصدرت الجمهورية أمرا بإعفاء الوتلندر من الخدمة العسكرية إجابة لطلب إنكلترا والتصريح ببيع المواد الكحولية للعبيد، فكان هذان الأمران داعيين لرضاء الوتلندر وسرورهم ، وظنوا أن الإصلاح قد فاجأهم على حين غفلة منهم، ولم يعلموا بأن الجمهورية جعلت ذلك تمهيدا لما يبعد حدوثه عن الظن؛ ففي 17 نوفمبر سنة 1898 اجتمع مجلس الفولسكراد وطلب من شركات التعدين نزع ملكية الأراضي التي يستخرجون منها الذهب، وطلب أيضا احتكار الديناميت، وربط ضريبة قدرها اثنان ونصف في المائة على الذهب المستخرج، ثم في 2 نوفمبر من تلك السنة زاد الفولسكراد الضريبة وجعلها خمسة في المائة، فاعترض أصحاب المناجم على ذلك، ولكن اعتراضاتهم ذهبت بغير فائدة. ثم أقر على عدم نيل الأجنبي حق الانتخاب ما لم يكن قد قضى في بلاد الجمهورية مدة لا تقل عن أربع عشرة سنة، فهاج الوتلندر وماجوا؛ لأن هذه الطلبات كانت ضد صالحهم، ودلالة على تولد الشر، وأرسل الرئيس كروجر يخابر معامل أوروبا بشأن صنع تماثيل نحاس بصور الرجال الذين تغلبوا على جمسون لتوضع في ساحات الشوارع تذكارا حسنا للبوير، وسيئا للإنكليز.
فبعد هذه التغيرات الكثيرة لم يجد سسل رودس بابا للصبر، خصوصا وقد رأى مواطنيه في ارتباك عظيم من اهتضام حقوقهم، فأرسل يطلب من حكومته أن تتداخل في هذا الأمر، فلبت طلبه وأرسل المستر شامبرلن تلغرافا في 13 يناير سنة 1899 يعترض على حكومة الجمهورية احتكار صناعة الديناميت، فما أجابته على هذا الاعتراض. وفي أثناء ذلك خابر ناظر خارجية الترنسفال السير ألفريد ملنر حاكم مستعمرة الكاب بشأن تعيين قنصل ترنسفالي في بلاد المستعمرة المذكورة، فأجابه بأن يرفع طلبه هذا إلى حكومة إنكلترا مباشرة، فما ركنت الجمهورية لهذه الإجابة، بل طرحتها ظهريا وأرسلت قنصلا إلى هناك، فعارضتها إنكلترا في 27 فبراير سنة 1899، فاحتجت الجمهورية عليها بأنها سبق لها تعيين قنصل في جوهانسبرج بدون مخابرتها على أنها خابرت حاكم مستعمرة الكاب بهذا الصدد، فأجابها إجابة ليست كافية مع اضطرارها لتعيين قنصل لها في تلك الجهات.
أما الوتلندر فكانوا في قلق شديد خوفا من إهمال إنكلترا أمرهم، وتركهم تحت تصرف الجمهورية، فقدموا في 28 مارس سنة 1899 عريضة ممضاة من واحد وعشرين ألفا منهم إلى السير ألفريد ملنر، تتضمن شكايتهم من اهتضام حقوقهم ، فأرسلها السير ألفريد ملنر إلى جلالة الملكة، وكان الرئيس كروجر في ذاك الوقت يتجول في بلاده ليتفقد راحة أهاليها، فكان يقابل بكل ترحيب وتبجيل، وفي أثناء جولاته قدمت إليه عريضة ممضاة من أربعة عشر ألفا من البوير يطلبون منه أن يمنع تداخل الأجانب في شئونهم؛ لأن عددهم أصبح نحو ثلثي السكان، ويخشى منهم أن يستولوا على إدارة الحكومة؛ فيخرج الحكم من أيدي البوير إلى أيديهم.
وفي 3 مايو سنة 1899 تقدمت عريضة أخرى من الوتلندر إلى البرلمان الإنكليزي يستغيثون فيها من البوير، ويطلبون النظر في أمرهم فورا، ولما قرئت هذه العريضة في الجلسة قال المستر شامبرلن: «لا يجب علينا أن نصم آذاننا عن نداء واحد وعشرين ألف رجل من رعايانا، ولا بد أن يكونوا في موقف حرج حتى جاءوا بلسان واحد يطلبون تداخل حكومتهم، ويستغيثون بها من ظلم البوير ومعاملتهم.» فاتفق أعضاء البرلمان على مطالبة حكومة الترنسفال بمعاملة الوتلندر بالعدل وإعطائهم حقوقهم.
فلما علم المستر ستين
1
رئيس جمهورية أورنج بما تقرر في البرلمان، خاف العاقبة لعلمه بأنه إذا هدم استقلال الترنسفال يجعل استقلال بلاده ضربا من المحال، وأراد أن يرتق الخرق قبل اتساعه، فطلب من إنكلترا أن تعين مندوبا في بلوم فنتين للمفاوضة معه ومع حكومة الترنسفال في الأحوال الحاضرة، وحل المشاكل التي بينهما حلا سلميا، فلبت إنكلترا الطلب، وأرسلت إلى السير ألفريد ملنر تأمره بالذهاب إلى بلوم فنتين، فقام إلى هناك، وتقابل مع الرئيسين ستين وكروجر، واتفقوا على عقد جلستين في 2 يونيو سنة 1899؛ الأولى من الساعة العاشرة صباحا إلى الساعة الثانية عشرة، والثانية من الساعة الثانية بعد الظهر إلى الساعة الرابعة. فلما فتحت الجلسة الأولى طلب السير ألفريد ملنر منح الوتلندر حق الانتخاب في رئاسة الجمهورية، وقيادة الجيش، وعضوية جميع المجالس، بعد مضي خمس سنوات من تاريخ نزولهم في الترنسفال، وأن يسمح لهم بالتكلم باللغة الإنكليزية في المجالس. فأبى الرئيس كروجر قبول هذه الطلبات وقال: «إن عدد البوير المخول لهم الحق في الانتخاب لا يتجاوز ثلاثين ألفا، وإذا منحنا حق الانتخاب للوتلندر على هذه الصورة يبلغ عدد من ينالون الأحقية سبعين ألفا، فتكون الأكثرية لهم، وتخرج أزمة الأحكام من أيدينا.» وبعد المناقشات الطويلة اقترح الرئيس كروجر هذه الطلبات:
أولا:
الأجانب الموجودون الآن في البلاد ينالون حق الانتخاب إذا قضوا فيها تسع سنوات، وسبع سنوات لمن يأتي بعد السنة الحاضرة.
ثانيا:
أن يكون ربع أعضاء المجالس من الوتلندر والباقي من البوير.
ثالثا:
يكون التكلم في المجالس باللغة الهولندية.
فلم يقبل السير ألفريد ذلك ورجع إلى مدينة الرأس وعرض الأمر على حكومته، وبعد المخابرات بين إنكلترا والجمهورية أقر مجلس الفولسكراد في 15 سبتمبر سنة 1899 على ما هو آت:
أولا:
تنقيص المدة وجعلها خمس سنوات.
ثانيا:
لا تتداخل إنكلترا في شئونهم مطلقا.
ثالثا:
المشاكل التي تحصل بين إنكلترا والجمهورية تعرض على لجنة دولية للفصل فيها، ويكون حكمها نافذا على الطرفين.
ثم أرسل هذا التقرير إلى إنكلترا، فأبت قبوله.
وفي 25 سبتمبر سنة 1899 اجتمع البرلمان، وكان المستر شامبرلن هو الصوت الصارخ فيه، يطلب حقوق الوتلندر وتنفيذها رغما عن المستر كروجر، وبعد المفاوضة أقر الأعضاء على تسيير حملة مؤلفة من خمسين ألف مقاتل إلى بلاد الترنسفال، وفي الحال تعين المال الكافي لنفقاتها. ولما علم الرئيس ستين أن الحرب أصبحت من المقرر، أعلن بأن جمهوريته ستتحد مع جمهورية الترنسفال في محاربة إنكلترا، فأرسلت إليه تحذره من الاتحاد وتضمن له استقلاله إذا لزم الحياد، فأبى الرئيس ستين ذلك.
وبينما كانت الاستعدادات سائرة على قدم السرعة في بلاد الجمهوريتين، كان الحزب المعارض للحرب يشدد النكير على المستر شامبرلن وينشر المقالات الطوال في الجرائد ضد سياسته، وكان الرئيس كروجر يستند إلى هذا الحزب ويظن أنه سينتصر على سياسة المستر شامبرلن ويوقفها أو تتداخل الدول بينهما، وخصوصا ألمانيا، لما كانت تظهره من الانعطاف والوداد، ولكن خاب ظنه وذهبت مساعي هذا الحزب أدراج الرياح، ولم تتداخل أي دولة من الدول في هذا الأمر، بل تركتهم وشأنهم.
وفي 28 سبتمبر سنة 1899 كانت الجنود الإنكليزية المقيمة في مستعمرة الكاب محتشدة بالقرب من جلانكوي، وفي 29 منه اجتمع البرلمان في لندرا تحت رئاسة اللورد سالسبوري وأقر على إرسال الجنود إلى جنوب أفريقيا، ولكن لا يبدءون بالقتال إلا متى كمل الجيش، وقد كان سير التأهب بطيئا جدا، وقد اتهمتها بعض الدول المبغضة لها أنها تروم الحرب من زمن بعيد. وفي 9 أكتوبر أصدرت الجمهورية أمرا بإقفال جميع المناجم وحجزت مقدارا عظيما من الذهب كان مرسلا إلى إنكلترا وجمعت جنودها، وكان عددهم سبعة وثلاثين ألفا، وانضم إليها جيش الأورنج وعدده عشرون ألفا، ثم أرسلت إلى السير ألفريد ملنر بلاغا رسميا في نفس هذا اليوم تقول فيه هكذا: «أرجو تبليغ حكومتكم هذه الطلبات الآتية، وأومل قبولها منعا لما لا تحمد عقباه:
أولا:
الفصل في المسائل الحادث فيها الخلاف بيننا بواسطة التحكيم، أو بأي واسطة أخرى يصير الاتفاق عليها.
ثانيا:
الأمر بسحب الجنود الإنكليزية الواقفة على الحدود حالا.
ثالثا:
استرجاع ما زاد من الجنود التي أضيفت على جيش مستعمرة الكاب من ابتداء شهر يونيو.
رابعا:
الجنود الآتية في البحر لا تنزل إلى البر، بل تعود من حيث أتت.
وها نحن في انتظار الإفادة لغاية يوم الأربعاء 11 أكتوبر الساعة الخامسة بعد الظهر، وإذا لم يأتنا رد مرض في الميعاد المحدد نعتبر ذلك بمثابة إعلان حرب تعود مسئوليتها على الحكومة البريطانية، ونكون نحن بريئين من تبعتها.
فأرسل في الحال السير ألفريد ملنر هذا البلاغ على جناح البرق إلى حكومته، فكان له وقع سيئ في نفوس جميع الإنكليز، حتى إن الحزب الذي كان يدافع عنهم في إنكلترا أمسك عن اعتراضه، وعد ذلك عنادا وإهانة. وفي 10 أكتوبر الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة والأربعين مساء بعث المستر شامبرلن إلى السير ألفريد ملنر تلغرافا يقول فيه: «بلغ حكومة الترنسفال أن تلغرافهم عرض على جلالة الملكة، فرفضت قبوله.»
وفي 11 أكتوبر تحرك جيش الترنسفال بقيادة الجنرال جوبير، وسار إلى مستعمرة الناتال وحاصر مدينة لادي سميث، وكان قائد حاميتها الكولونيل كيكوينش، وكان معه نجل اللورد سالسبوري والمستر سسل رودس عدو البوير ، وحاصر مدينة مفكنج، وكان قائد حاميتها الكولونيل بادن بول (هو اليوم ميجر جنرال )، ثم تطوع لجيش الترنسفال عشرون ألفا من البوير الخاضعين لإنكلترا في مستعمرة الكاب والناتال، وأعلن الرئيس كروجر بأنه يعطي مكافأة قدرها عشرون ألف جنيه لمن يأتي بالمستر سسل رودس حيا أو ميتا.
ولما تطايرت إلى لندرا أخبار حصار المدن الثلاث أمرت الحكومة الجنرال السير ردفرس بولر بالذهاب إلى جنوب أفريقيا لاستلام القيادة العامة للجيش البريطاني، فأبحر إلى هناك مع أركان حربه في 15 أكتوبر سنة 1899، وفي 20 منه حدثت واقعة جلانكوي حيث أصيب الجنرال سيمونس برصاصة في أمعائه، وقبل أن يفارق الحياة أخذ أسيرا، فحينما رأت الجند أن هذا البطل العظيم أصيب وأسر هجموا على البوير قائلين: «فلننتقم لقائدنا.» فأخذوا منهم قمم دندي وهزموهم، فارتد البوير خاسرين ومعهم الجنرال سيمونس يتألم من جروحه، ويهنئ نفسه بفوز جنوده. وفي الساعة الخامسة من مساء 26 أكتوبر فارق الحياة الدنيا مأسوفا عليه، وكان لخبر وفاته وقع سيئ في قلوب جميع الإنكليز، وأرسلت جلالة الملكة رسالة إلى اللادي سيمونس تعزيها على فقد زوجها.
وحينما وصل الجنرال بولر إلى الناتال كان موضوع خطته الحربية خلاص لادي سميث من الحصار أولا، ثم المدن الباقية بعدها، وبعد وصوله ظلت إنكلترا تنتظر أخبار النصر حتى مضت الأيام الطوال، ولم يأتهم ما يفرج كربهم، بل كانت أخبار الكسرات المتوالية تطن في كل وقت، حتى تخيل لكل أحد أن الدولة الإنكليزية ستقضي نحبها في هذه الحرب، وصارت الدول المعادية لها تظهر الشماتة والازدراء، ولم يزل الأمر على هذا الحال والحكومة الإنكليزية ترسل الجنود والعدد الحربية من وقت إلى آخر، ولكن بدون فائدة حتى خافت العاقبة بعكس البوير الذين كانوا ثملين بخمرة الانتصارات العديدة في جميع وقائعهم.
وفي 17 ديسمبر سنة 1899 اجتمع البرلمان الإنكليزي وقرر زيادة الجيش إلى مائة ألف مقاتل، وتعيين اللورد روبرتس قائدا عاما، واللورد كتشنر بطل الخرطوم رئيسا لأركان حربه، وجعل الجنرال بولر قائدا حرا على ثلث الجيش فقط، منعا لمس إحساساته، وحينما وصلت الأوامر إلى اللورد كتشنر في مصر قام في الحال في 27 ديسمبر إلى جبل طارق حيث تقابل مع اللورد روبرتس، وفي 10 يناير سنة 1900 وصلا إلى مدينة الرأس، فعند وصولهم عزم اللورد روبرتس على تغيير الخطة التي سار عليها الجنرال بولر، فأمر الجنرال فرنش أن يقود ثلاثة ألوية من الفرسان والطبجية والبيادة، ويسير بهم شرقا عابرا نهر مدر حتى يصل إلى أورنج، ثم أمر فريق الجنرال طوكر واللورد كتشنر أن يقوما بإثره وألحق بهم الجنرال كليكني، فعبروا نهر مدر من جهة معبر كليب، فصادفوا البوير في طريقهم، فتغلبوا عليهم، وفي 11 فبراير سنة 1900 استولوا على ثلاثة معسكرات، وفي 16 منه دخل الجنرال فرنش مدينة كمبرلي بعدما رفع عنها الحصار، فقوبل بالدعاء والسرور العظيم.
أما الجنرال كرونجي الذي كان محاصرا لكمبرلي، فتقهقر برجاله قاصدا بلوم فنتين ليحصنها ويرد هجمات الإنكليز عنها، فجد الجنرال كليكني واللورد كتشنر في إثره، وفي 17 فبراير سنة 1900 غنم الإنكليز منه 95 مركبة محملة بالذخيرة، وفي اليوم المذكور كان التعب قد أنهك قوى البوير، فوقف الجنرال كرونجي في نقطة اسمها باردي برج بالقرب من نهر مدر في أرض منبسطة، وصف المركبات الباقية معه على شكل دائرة حول جنوده، وأخذ بإطلاق الرصاص على الإنكليز فجاوبتهم بالمثل، وفي 18 منه جاء الجنرال فرنش ليساعد الجنرال كليكني واللورد كتشنر، ثم لحقه اللورد روبرتس، وفي 19 منه أحاطت الجنود الإنكليزية بجيش الجنرال كرونجي من كل جانب، ولما تيقن هذا الأخير بعدم الخلاص وقد فقد من جيشه 800 مقاتل وكثيرا من الخيل، أرسل إلى اللورد كتشنر يطلب هدنة ليدفن القتلى، فرد عليه بقوله: «لا أوقف القتال حتى تسلم.» فأبى كرونجي التسليم وأصر على القتال حتى يقتل، وفي مساء 26 فبراير هجمت الإنكليز على خنادق البوير وحمي وطيس القتال في هذه الليلة، حتى تمزقت القلوب، ولما لاح الفجر أتى رسول من البوير رافعا راية بيضاء وبيده كتاب التسليم بدون شرط من الجنرال كرونجي، فأوقف القتال، وتم الفوز في هذا اليوم للإنكليز الذي في مثله من سنة 1880 كسروا على تل ماجوبا، وقد محا هذا النصر الأخير ذكر الانكسار السيئ . وفي 3 مارس 1900 أبحر الجنرال كرونجي ومن معه إلى جزيرة القديسة هيلانة.
وبينما كان اللورد روبرتس يحارب البوير شرقا في باردي برج، كان الجنرال بولر يحاربهم غربا عند نهر توجلا، وقد انتصر عليهم وهزمهم ورفع الحصار عن لادي سميث، وكان فرح الأمة الإنكليزية عموميا لا يوصف لما أحرزوه من النصر المتوالي، ووردت رسائل التهاني إلى جلالة الملكة، كما أن جلالتها أرسلت التهاني أيضا لجميع قوادها في جنوب أفريقيا.
وفي 6 مارس سنة 1900 أرسل الرئيسان كروجر وستين رسالة برقية إلى اللورد سالسبوري يطلبان منه الصلح على شروط أهمها حفظ استقلالهما، فأجابهما في 11 منه يقول: «إن حكومة جلالة الملكة لا يمكنها إجابتكم إلا بالرفض القطعي وعدم الرضاء باستقلالكما.» فأرسل الرئيسان إلى جميع الدول يستغيثان بها ويطلبان منها التداخل في أمرهما، فرفضت طلبهما، فانتخب البوير وفدا منهم برئاسة المستر فلورنزا رئيس وزارة أورنج، والمستر فيشر رئيس وزارة الترنسفال، وقام الوفد المذكور في 12 مارس قاصدا الذهاب إلى عواصم أوروبا لإلقاء الخطب وتهييج الرأي العام للأخذ بناصرهم.
أما إنكلترا فما اكترثت بما فعله البوير، وظلت تقاتل إلى أن بقي بينها وبين بلوم فنتين خمسة عشر ميلا، ومن ثم أرسل اللورد روبرتس إلى الرئيس ستين يطلب منه التسليم فأبى، وكان إباؤه بعكس رغبة الأهالي؛ ولذلك هرب إلى مدينة كرونستاد وجعلها عاصمة جديدة لحكومته، وفي الساعة الثامنة من صباح 13 مارس دخل اللورد روبرتس مدينة بلوم فنتين، ورفع علما بريطانيا فوق ديوان الجمهورية كانت صنعته اللادي روبرتس بيدها، وأعلن في الحال باسم جلالة الملكة احتلاله لعاصمة جمهورية أورنج رسميا، وعين الجنرال بريتمان حاكما عسكريا للمدينة.
وفي 15 مارس سنة 1900 استقال الجنرال جوبير من قيادة الجيش العامة؛ لأنه كان يلح كثيرا على الرئيس كروجر في طلب الصلح أيام انتصارهم فلم يسمع الرئيس لكلامه، حتى وقعوا فيما كان يخشاه، ولما قنط من النصر فضل الاستقالة وأوصى بتسليم القيادة بعده للجنرال بوثا.
أما الجيوش الإنكليزية فلم يزل النصر قائدهم حتى أنقذوا مدينة مفكنج، فدخلها فيلق الكولونيل ماهون في الساعة الرابعة من صباح 16 مايو بعدما عانى تعبا شديدا في رفع الحصار عنها، ثم فتحوا أكثر بلاد الجمهوريتين، ونخص بالذكر مدينة جوهانسبرج التي فتحوها في غرة يونيو سنة 1900، وفي 4 منه دخل اللورد روبرتس مدينة بريتوريا عاصمة جمهورية الترنسفال، وما زال الإنكليز يفتحون بلاد الجمهوريتين الواحدة بعد الأخرى حتى أوائل أكتوبر سنة 1900.
ولما تيقن الرئيس كروجر بعدم نجاح جنوده ووقوع أكثر بلاده في أيدي الإنكليز، قام من خليج دلاجوي في 9 أكتوبر سنة 1900 قاصدا السياحة في عواصم أوروبا؛ ليطلب من ملوكها التداخل بينه وبين الإنكليز لإيقاف رحى الحرب وإعادة استقلاله تحت سيادة إنكلترا، أو بأي الشروط، وترك الرئيس ستين والجنرال دي ويت والجنرال بوثا وغيرهم في ساحة القتال، وقد امتنعت كل ملوك أوروبا عن التداخل ولازموا الحياد.
ولقد أظهرت هذه الحرب ما أدهش العالم بأسره من فعال المتحاربين؛ فالبوير على قلتهم قد أتوا بما يدهش العقل ويحار له الفهم من ضروب الشجاعة والصبر على الدفاع عن بلادهم، حتى صارت أخبارهم لا تكاد تصدق لاستعظامها، فجدير بتاريخهم أن يحفظ بخزائن الفكر ويرسم على صفحات القلوب؛ لأنهم شخصوا في ميدان القتال رواية عظيمة ذات فصول مهمة، كان موضوعها محبة الوطن والدفاع عن الاستقلال.
وقد شخصت هذه الحرب أيضا نصب أعين العالم آخر ما تصل إليه مدارك الإنسان، ونبهت الأفكار إلى تقلبات الأيام وتغيراتها السريعة التي لم تكن في الحسبان، فبعدما كانت جمهوريتا أورنج والترنسفال في استقلال تام واطمئنان عظيم تعللان النفس بتوسيع نطاق أملاكهما، قلب لهما الدهر آمالهما بهدم استقلالهما، وصارت الجمهوريتان مستعمرتين إنكليزيتين ابتداء من منتصف سنة 1900، فسبحان مغير الأحوال ومبدل الآمال.
Bog aan la aqoon