Taariikhda Naxwaha Carabiga
تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية
Noocyada
إذا نظرنا إلى كتب النحو العربي وشروحها وتلخيصاتها، وإلى كتب تراجم النحاة وطبقاتهم ومراتبهم، وخلافهم من حيث هي كتب أخرى أكثر من كونها تشرح أو تختصر قضايا ومسائل نحوية، أو تترجم لحياة هذا النحوي أو خلافه، فإن ذلك قد يؤدي إلى تحول في تصورنا لتاريخ النحو الذي يأسرنا الآن. ويحاول هذا المدخل أن يظهر تصورا آخر ومختلفا لتاريخ النحو.
لن يكشف هذا التصور إذا ظللنا نسأل الأسئلة ذاتها: متى ولد نحوي ما؟ وأين؟ ومن شيوخه؟ وما كتبه؟ وهي الأسئلة النمطية التي تفرضها الصورة المألوفة لتاريخ النحو؛ ذلك أن التراجم والمراتب والطبقات بدت لنا مقتطفات متعلقة بسيرة حياة النحوي مخلوطة بفكره النحوي. ولكي يتضح التصور الجديد يجب أن تتغير الأسئلة من الأسئلة أعلاه إلى: لماذا يشرح النحاة كتب بعضهم بعضا؟ لماذا يختصرون كتب بعضهم بعضا؟ ما علاقة النحوي المتأخر بالنحوي المتقدم؟ هل عارضه أم وافقه في آرائه النحوية؟ وأسئلة أخرى ستبدو من نمط مختلف. إن تغيير الأسئلة يغير الإجابات، وحينما نجيب عن أسئلة كهذه فإن تصورا لتاريخ النحو سيبدو مختلفا.
تشبه هذه الأسئلة تساؤلات الفيلسوف كارل ياسبرز في آخر نص فلسفي كتبه
2
عن معنى المعارف والنصوص التراثية عندنا. وعلى أي نحو تمثل لنا هذه النصوص كلا متكاملا، والكيفية التي تتسق بها فيما بينها. وتذكر هذه الأسئلة في الوقت ذاته باقتراحه أن الإجابة عن أسئلة كهذه تكون تالية لفهمنا معارف التراث ونصوصه، وأن تصورنا للتراث وتأويلنا له هو ما يجعله حاضرا أمام عقولنا. ما الذي يمكن لهذا النص الفلسفي أن يقدمه لموضوعنا؟ الفكرة الموجهة لذلك النص الفلسفي؛ أعني أن تاريخ النحو العربي يشبه تاريخ الفلسفة من حيث هو كل متكامل. لكن إذا ما بحثنا تفتت الكل إلى وجهات نظر أفراد فكروا في معاني ومضامين، وعاشوا قضايا وإشكالات. وبذلك يصير تاريخ النحو العربي تاريخ إشكالات تحاور النحاة حولها، وطرحوا أسئلة، وقدموا إجابة عنها. كل واحد من هؤلاء النحاة مميز ولا ينوب عنه آخر، ومكانته في تاريخ النحو العربي الكلي تخضع لأسلوبه ونوع فكره. كل واحد من هؤلاء النحاة له علاقة بغيره؛ فهو يقرؤهم، ويستوعبهم، ويتصارع معهم. وبذلك يكون تاريخ النحو العربي تاريخ تواصل وحوار بين النحاة. هذه الفكرة الموجهة لكتاب ياسبرز هو ما أريد تحسسها في تراث النحو العربي، شرحا واختصارا ونقدا ومعارضة وتراجم ومراتب للنحاة، وبين فكرة وفكرة هناك أفكار أخرى تشكل في نهاية المطاف ما أراه مخططا ممكنا لتحليل التصور التاريخي للنحو العربي الذي لم يقم به أحد حتى الآن.
شرح الكتب النحوية واختصارها
يشعر قارئ التراث النحوي العربي أن الكتب النحوية التي شرحت الكتب النحوية شرحا أو اختصرتها أكثر من الكتب التي شرحت أو اختصرت، حتى ليخيل للقارئ أن كتب التراث النحوي لا تقول شيئا سوى أنها تشرح أو تلخص بعضها بعضا. على سبيل المثال: أحصى عبد السلام هارون في مقدمته لتحقيق كتاب سيبويه «23» كتابا في شرحه و«11» كتابا في شرح شواهده و«3» كتب في اختصاره أو اختصار شروحه و«4» كتب في الاعتراض أو رد الاعتراضات. ومجموع هذا كله «55» كتابا شارك فيها كبار علماء العربية كالمازني وابن السراج والسيرافي. قد يقول قائل: إن كتاب سيبويه ؛ لأنه من الكتب المؤسسة للنماذج العلمية، وكما هو معروف، فهدف مثل هذه الشروح والتلخيصات هو الحفاظ على نموذج نحوي متماسك؛ أي إن مهمة هذه الكتب هي أن تصفي نموذج نحو سيبويه، وأن تشذبه، وأن تصقله. غير أن حجة كهذه يترتب عليها أن مهمة النحاة في تاريخ النحو العربي لن تكون إبداع المفاهيم النحوية الجديدة، ولا تطوير النحو من حيث هو علم بأن يضيفوا إليه، أو أن يولدوا نماذج نحوية أخرى. إنما مهمتهم أن يحافظوا على نموذج نحوي معين، ويفنوا أعمارهم في تشذيبه وتنقيته وصقله. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشرح لم يقتصر على كتاب سيبويه، فقد شرح النحاة كتبا أخرى تعليمية وميسرة؛ أشهر هذه الكتب كتاب «الجمل في النحو» للزجاجي. قد أحصى محقق الكتاب «41» كتابا في شرحه، يتراوح حجمها بين مجلدين وبين تعليقات. كما أحصى «18» كتابا في شرح أبيات الكتاب وشواهده. وعلى أي حال، ليس هذا الجرد السريع بلا دلالة؛ إذ يمكن أن نستنتج التصور الفكري الذي يتحرك خلف التراث النحوي العربي؛ وهو أن المعرفة النحوية هي ما ينقل من أسلوب إلى أسلوب، وأن المعرفة تقوم على التشابه؛ لأن الشرح والاختصار يشبهان ما شرحاه أو لخصاه.
من منظور الفكرة التي نقترحها لتاريخ النحو العربي، وتهم مؤرخ النحو: أن شرح الكتب النحوية يشبه الشعب المرجانية التي تتكون من طبقات عديدة من حيوان المرجان. الطبقة الأخيرة على قيد الحياة. تموت هذه الطبقة بعد عدة سنوات لتحل محلها طبقة جديدة. وبعد أن تلد كل طبقة حية يتغير نوعا ما شكل الشعب؛ يصبح «أعلى قليلا، أكبر قليلا، ويبدو مختلفا قليلا.»
3
يعطي هذا الشبه مؤرخ النحو العمق التاريخي لشرح الكتب النحوية؛ ذلك أن شرح كتاب نحوي مرتبط بالكتاب الذي شرحه؛ ما يعني أن مفهوم النحو بني وتكون عبر الأجيال. يموت جيل ويأتي جيل، لكن الجيل الذي أتى لا يبدأ من جديد، إنما يواصل البناء على أساس ما تركه النحويون السابقون. وبالمقارنة مع الشعب المرجانية يحافظ الجيل الجديد على مفهوم النحو، لكن في الوقت ذاته يتغير معه مفهوم النحو. أو لنقل: يستمر مفهوم النحو، لكن مع المدد المديدة يتغير قليلا.
Bog aan la aqoon