كلمة المؤلف
شعار المؤلف
1 - ما هو تاريخ ما قبل التاريخ؟
2 - قبل الحياة على الأرض
3 - الحياة على الكرة الأرضية
4 - عصر الزواحف
5 - عصر اللبونات
6 - عصر القردة والإنسان الناقص
7 - الإنسان الحقيقي الأول
8 - التطور والتدهور
9 - العصور الچيولوچية وعصور المصنوعات المعدنية
10 - قصص آدم وحواء وجنة عدن والطوفان ونوح
11 - الدين والتأليه
12 - السحر والشعوذة
13 - العقل والعلم والتعليم
14 - المثيولوچيا: الأساطير والأدب
15 - اللغة والكتابة والطباعة
16 - الفلسفة
17 - الصناعة
18 - الفن
19 - التنقيب عن الآثار
20 - الزراعة
21 - العواطف الجنسية
22 - العادات: طعام الأمم القديمة وغيره
مراجع الكتاب
كلمة المؤلف
شعار المؤلف
1 - ما هو تاريخ ما قبل التاريخ؟
2 - قبل الحياة على الأرض
3 - الحياة على الكرة الأرضية
4 - عصر الزواحف
5 - عصر اللبونات
6 - عصر القردة والإنسان الناقص
7 - الإنسان الحقيقي الأول
8 - التطور والتدهور
9 - العصور الچيولوچية وعصور المصنوعات المعدنية
10 - قصص آدم وحواء وجنة عدن والطوفان ونوح
11 - الدين والتأليه
12 - السحر والشعوذة
13 - العقل والعلم والتعليم
14 - المثيولوچيا: الأساطير والأدب
15 - اللغة والكتابة والطباعة
16 - الفلسفة
17 - الصناعة
18 - الفن
19 - التنقيب عن الآثار
20 - الزراعة
21 - العواطف الجنسية
22 - العادات: طعام الأمم القديمة وغيره
مراجع الكتاب
تاريخ ما قبل التاريخ
تاريخ ما قبل التاريخ
تأليف
عبد الله حسين
كلمة المؤلف
حين أعددت كتابي عن «السودان من التاريخ القديم» للطبع في عام 1935، كنت أرجو أن يكون مقدمة لمؤلفات أخرى تتناول حياة مصر السياسية والبرلمانية ونهضتها الاجتماعية والاقتصادية وبحوثا علمية أخرى.
غير أن أحداثا حدثت وشواغل عرضت، لعل في مقدمتها أن حالتي الصحية كانت مهددة بالإعياء بل بالانهيار على أثر طبع كتابي «السودان والمسألة الحبشية»، مما كان من عاقبته أن عمدت إلى التخفف من أعبائي والتحلل من تبعاتي إلى ما يتفق وحالتي الصحية المجهدة.
ثم إنه قد أعقب هذا أن الحياة السياسية المصرية، التي كنت أعتزم أن أتناولها بالبحث والتأريخ والتأليف قد قل نشاطها على أثر المفاوضات التي انتهت بعقد معاهدة الزعفران، معاهدة التحالف والصداقة بين مصر وبريطانيا العظمى في العاصمة البريطانية في 26 أغسطس سنة 1936، ومعاهدة مونترو التي قضت بإلغاء الامتيازات الأجنبية في 8 مايو 1937.
كذلك نجم خلف سياسي كان من جرائه أن أعيد تأليف وزارة مصطفى النحاس باشا الرابعة في 3 أغسطس 1937، وأن بدت في إثر ذلك أزمة سياسية حادة انتهت باعتزال الوزارة الحكم في 30 ديسمبر 1937، وبتأليف وزارة محمد محمود باشا الثانية. وعلى أثر قبول استقالتها في 18 أغسطس 1939 تألفت وزارة علي ماهر باشا الثانية، ثم إنه في 3 سبتمبر 1939 قامت الحرب بين الحلفاء وبين ألمانيا وأعلنت الأحكام العرفية المصرية وفرضت الرقابة على الصحف، واستقالت الوزارة الماهرية الثانية في 23 يونيو 1940 وفي 28 يونيو قبلت استقالتها، وخلفتها وزارة حسن صبري باشا، وعلى أثر وفاة دولته إذ كان يلقي خطاب العرش في 14 نوفمبر 1940، تألفت وزارة حسين سري باشا في 15 نوفمبر 1940، ولما استقالت الوزارة السرية خلفتها الوزارة النحاسية الخامسة في 6 فبراير 1942، فالوزارة النحاسية السادسة في 26 مايو 1942.
كان من جراء هذه الأحداث مع ما تخلل هذا من الغارات الجوية على البلاد واقتحام حدودها الغربية وانتشار الظلام، واضطراب الأفكار، وغلاء الورق، والانتقال في سرعة من طور إلى آخر، أنني آثرت إرجاء طبع مؤلفاتي إلى ما بعد الحرب.
غير أنه، وقد مضى على الحرب أعوام خمسة، مستقبلة عامها السادس، مرجئة ولا شك حين تضع أوزارها أسباب الاستقرار السامي أعواما أخرى، اعتزمت أن أمضي في إعداد مؤلفاتي للطبع، وكان باكورتها هذا الكتاب «تاريخ ما قبل التاريخ».
أما موضوعه فإنه يتناول تلك العصور البعيدة التي سبقت الحضارات التاريخية القديمة المعروفة، مبتدئا بالكون وظهور الحياة على الكرة الأرضية عارضا للتقلبات الطبيعية ونشوء الإنسان وغرائزه وإنتاجه المادي والعقلي. ولما كان هذا الموضوع يتطلب من الاستقصاء والاستيعاب ما تقصر عنه هذه الصفحات، كان حماداي أنني جمعت أصوله ونسقت فصوله وأوجزت تفاصيله، ميسرا للمستزيدين أن ينهلوا من مراجعه المدونة في آخره، معتمدا على فطنة القارئين في استدراك الأخطاء المطبعية واللغوية، وفي إدراك الألفاظ الأجنبية من ترجمتها العربية، داعيا أبناء مصر والعروبة إلى استكمال بحث هذا الموضوع.
عبد الله حسين
شعار المؤلف
كل كتاب جديد لا يضيف جديدا إلى المعرفة، إما أن يكون رجعا لصدى غيره أو لغوا غير جدير بعناء القراءة.
الفصل الأول
ما هو تاريخ ما قبل التاريخ؟
قلنا في «مقدمة الكتاب» إن موضوعه «يتناول تلك العصور البعيدة التي سبقت الحضارات التاريخية القديمة المعروفة، مبتدئا بالكون وظهور الحياة على الكرة الأرضية، عارضا للتقلبات الطبيعية ونشوء الإنسان وغرائزه وإنتاجه المادي والعقلي».
ونقول هنا إن هذا الموضوع يتناول الكثير من البحوث الفلكية والأرضية - الچيولوچية - والأثرية والنظريات الفلسفية، والعلوم النظرية والتطبيقية، ومن الدراسات المتصلة بالآداب والفنون والسياسة والغرائز والعواطف الحيوانية والبشرية، كما سنجلوه على القارئ الكريم في الفصول التالية، فليس بعجيب أن يتعاون الفلكيون والأرضيون والمؤرخون والأثريون والفلاسفة وعلماء الطبيعة والاجتماع والزراعة والاقتصاد والصناعة والطب والكيمياء على إيضاح سر الكون وأصل الخليقة، أو شيء من هذا؛ لأن ما أدركوه إلى الآن ليس يبلغ من بحر الحقيقة إلا قطرة ومن بستانها إلا زهرة.
ولما كان «التاريخ» يتناول ما وقف عليه المؤرخون منذ مطلع نشوء الحضارات القديمة ممثلة في الممالك ذات التيجان والإمبراطوريات ذات العروش، مبتدئة بحادث أو يوم معين أو بسنة بعينها، آثرنا أن نطلق على الحوادث التي جرت قبل «التاريخ» اسم «تاريخ ما قبل التاريخ»؛ إذ إننا لسنا حيال ممالك وإمبراطوريات وأشخاص بأسمائهم وذواتهم، بل إننا قبل «التاريخ» المدون المعروف، بإزاء عصور طويلة وتقلبات عديدة ونظريات معقولة أو غريبة، مرغمين على أن نضرب في بيداء الظنون وأن نلجأ إلى المنطق؛ لنصل إلى النتائج من مقدماتها.
يقول المؤرخون إن «التاريخ» هو عرض الحوادث أو قل إنه الحوادث ذاتها، وإنه كان - في أصله - بحثا وبسطا. أما في العصر الحديث فإن «التاريخ» هو تلك الظاهرة الإنسانية التي تؤلف أو تعين على أن تؤلف موضوع الحوادث ذلك أننا إذا أردنا أن نعرض «لتاريخ مصر» كان لا معدى لنا عن أن نتحدث عن ملوكها وحكامها.
وثمة معنى أوسع منحى من معنى ظاهرة حياة الإنسان وأسره المالكة. ذلك أن الحوادث التي ينبغي أن يتناولها «التاريخ» يجب أن تشتعب كل ما في الدنيا الطبيعية ذاتها وما يحيط بها، فيتحدث عن كل شيء في الكون والكرة الأرضية يكون هدفا للتقليب والتغيير. ولما كان ليس ثم شيء في هذا الكون ثابتا، كان للكون كله ولكل جزء فيه «تاريخ»، فلقد كان من أثر كشف «الأثير» أن غير العلماء رأيهم في العالم الطبيعي، بأن تطور البيان الحسابي الثابت إلى معنى الحركة الدائمة التغيير في الكون، وبأن انتقلت الصخور والمعادن من مرحلة التحليل والتبلور إلى مرحلة التسلسل والتطور، فأصبح علم الطبيعة وعلم الحياة - البيولوچيا - من بحوث «التاريخ».
لقد كان الناس يقيمون المباني لتخليد ذكرى ملوكهم وحكامهم. أما الآن فالمباني تقام في المناسبات وللمنفعة الشخصية ولوقت محدود.
ولما كان لم يسن للأدب والفلسفة والسياسة والأخلاق والنقد والتجربة في العصور القديمة، مقاييس أو معايير - فإن التاريخ حقيق بأن يردنا إلى الصواب، حين نعمد إلى نقد شاعر كشاكسبير محتجين بأنه قد خالف قوانين الدرامة. (1) تدوين التاريخ
كان اليونانيون الأقدمون يعنون «بالتاريخ» البحث عن الحقيقة في أوسع نطاقها، وكان «هيرودوت» المؤرخ اليوناني الكبير في القرن الخامس قبل الميلاد وصافا لأحوال الأمم وخاصة مصر، والحروب القديمة التي قامت بين البلاد اليونانية وبين إيران، وكان كاشفا رحالة طلعة حالته قلعة في غيرما إجادة أو دقة، وجاء «ديودور الصقلي» في القرن الأول للميلاد يصف مصر كما رآها يومئذ مماثلا لهيرودوت. وكان التاريخ، على عهد «أرسطو» والعرب، نوعا من الأدب. أما في العصر الحديث فإن «التاريخ» يتألف من عنصرين: أولهما البحث، وهو الجانب العلمي، وثانيهما العرض الأدبي ذلك أن «تاريخ» التاريخ يدل على أن نهضة التاريخ كانت مسايرة للنهضة الأدبية والفنية؛ إذ كان المؤرخ لا غنى له عن: (1) التفكير. و(2) عن الخيال. و«التاريخ» الذي يدونه عالم غير أديب، لا يكون تناوله قريبا كما أن أسلوبه لا يكون جذابا وحوادثه ليست مشرقة خلابة؛ لأن العالم الباحث لا يحتفل للفظ، فالمعنى هو كل ما يعنيه.
من أجل هذا كان البون كبيرا بين التاريخ في عصر بيتيكلر ومؤلفات هيرودوت وتكسيديديس وفيدياس، وبين تاريخ يضعه السير ويليام فليندرز بيتري العالم البريطاني الأثري الكبير الذي توفي في 28 يوليو سنة 1942 عن 86 سنة، وهو واضع قواعد علم التنقيب عن الآثار؛ لأن تاريخ الأولين طابعه أدبي، وخالد على الدهر.
ولما كان التاريخ - في معناه الأعم - يتناول، كما قلنا، كل شيء؛ كان هناك تاريخ سياسي، وتاريخ للتجارة، وللمدن، وللقانون، وللعلم، والفلسفة؛ الفلسفة في ذاتها وفلسفة التاريخ التي تتحدث عن الحقائق التي سيطرت على حوادثه.
ومما يجدر بالذكر أن الناس كانوا - قبل إتقان الكتابة وانتشارها - يتناقلون الحوادث التاريخية مشافهة، وكانت هذه الحوادث ممتزجة بالأساطير والأناشيد والشعر والنثر وأنباء البطولة والآلهة، وكانت الأسر اليونانية تعنى بتدوين أنباء رجالها على اللوحات، كذلك حفظ لنا كتاب «مانيثون» تاريخ الأسر المصرية القديمة. و«مانيثون» هذا كان كاهنا مصريا من سمنود، أمره ملك مصر بطليموس فيلادلفوس بأن يجمع البيانات المتصلة بتلك الأسر.
وبعد الشاعر والأديب جاء الكاهن فدون الحوادث في المعابد والكنائس، فقد كان بونتفيكس ماكسيموس في عهد الجراكي (131ق.م) يؤرخ الحوادث سنويا في ألواح من الخشب.
وهناك تقاويم سنوية مختلفة ظهرت في عصر التاريخ وقبله، فقد كان اليونانيون يؤرخون التاريخ تبعا لدورات الألعاب الرياضية (الأولومبية)، والرومان ببناء مدينة روما أو حكم أباطرتهم، والعرب بعام الفيل. ولعل تقسيم السنة إلى 12 شهرا قمريا يرجع إلى ما قبل التاريخ؛ لأن الإنسان الأول عرف القمر يدور حول الأرض 12 مرة في السنة. وكان روملس منشئ روما يجعل السنة 10 شهور. (2) خصوم التاريخ
وقبل أن نختتم هذا الفصل، لا معدى لنا عن أن نذكر أن للتاريخ، إلى مزاياه وآثاره في العلم والتعليم والتربية والحياة الإنسانية، خصوما في أوروبا ومصر، ذلك أن عندهم أن المفتريات والدعايات وألوان التزيد والغلو قد تدسست إلى المرويات التاريخية، وحسبهم من الشواهد على هذا أن يشيروا إلى أن مئات الحوادث قد تباينت فيها الوقائع، وأن ما يجري تحت أعيننا، ونحن نزعم أننا في عصر العلم والنور والحرية والمطبعة، لا يذكر ولا ينقل مشافهة أو كتابة على حقيقته، مع أنه سيكون الأساس الذي يقيم عليه المؤرخ المقبل تاريخ هذه الأيام. وعلى رأس خصوم التاريخ من المصريين، عبد العزيز فهمي باشا رئيس محكمة النقض الأسبق، فقد نشرت مجلة «المصور» في 13 نوفمبر 1942 لمعاليه الحديث التالي:
إنك مصدر من مصادر التاريخ المصري للحركة الوطنية الأخيرة، فهل تسمح بأن تتحدث عن هذا التاريخ ؟
لست من المؤمنين بالتاريخ بل إني من الكافرين بآلهة التاريخ؛ لأنه مملوء بالكذب. وإذا حدثتك عن يوم 13 نوفمبر فقد يكون ما أرويه لكم اختلاقا؛ لأنه رواية والرواية خبر من الأخبار، والخبر كما يقول علماء اللغة: يحتمل الصدق والكذب، أو كما يقول الشرعيون: ما يحتمل الصدق والكذب لذاته. وقد زادوا كلمة «لذاته»؛ لئلا يتناول الأنبياء وهم معصومون عن الكذب أما غيرهم فيجوز لهم الكذب، بل إن الكثيرين يكذبون في التاريخ وليس هناك حقيقة تاريخية تكون صدقا صرفا.
ولكن حادثة ذهابك أنت وسعد باشا وعلي باشا شعراوي إلى سيرونجت حقيقة صادقة صرفة؟
قد يكون أننا ذهبنا إلى سيرونجت بدار المعتمد البريطاني، ولكن هل يعلم أحد حقيقة ما حدث في اجتماعنا به؟ وإذا رويت أنا هذه الحادثة كما وقعت، فإن روايتي تحتمل الصدق والكذب، كما أن رواية كل من زميلي تحتمل ذلك، فأينا يكون الصادق؟
الفصل الثاني
قبل الحياة على الأرض
الكون والوجود والطبيعة والخليقة والعالم والدنيا ألفاظ تطلق - لغة واستعارة واصطلاحا في اللغة العربية واللغات الأخرى - على معان عامة ومدلولات شائعة.
والناس قد يذكرون أو يتعاورون اللفظ من هذه الألفاظ على أن معناه هو المعنى ذاته الذي تدل عليه الألفاظ الأخرى أو بعضها، وحسبنا أن نذكر هنا أنهم قد يتحدثون عن «العالم»، ومعناه لغة: الخلق كله أو صنف من صنوفه، وهم يريدون أن يعرضوا «للدنيا»، ومعناها هذه الحياة الدانية القريبة منا؛ أي التي نشهدها وتلابسنا.
ولا مرية في أن الإنسان القديم والجديد، جاهلا كان أم مثقفا صبيا كان أم شيخا، قد خطر بباله هذا «الكون» نشوءا وبقاء، وتمنى أن يقف على سره ومصيره.
فأما الذين استهواهم هذا الموضوع واسترعت عقولهم عجائب الكون وغوامضه، فقد وقفوا حياتهم على حل معمياته وتوضيح مشكلاته، غير أنهم لم يوفقوا إلا إلى كشف القليل جدا من حقائق الدنيا، وجملة ما يقال أن المتأخرين قد أصابوا من المعرفة أضعاف أضعاف ما وفق إليه المتقدمون.
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
قرآن كريم.
ففي مستهل القرن الثامن عشر الميلادي ، لم يسهم للناس أن يعرفوا من تاريخ الدنيا ما يزيد على 3000 سنة. بل إنه عند بعض الدارسين أن الدنيا قد خلقت فجأة في عام 4004 قبل الميلاد، على أنهم قد اختلفوا في هل وقع هذا في فصل الربيع أو في فصل الخريف!
أما مصدر الاختلاف فيرجع إلى اختلاف في تأويل بعض ما ورد في «التوراة»، وإلى تفسير بعض الأقوال والروايات التي انتهت إليهم!
وقد أسميت الأرض الكرة الأرضية؛ لأنها تماثل الكرة على وجه تقريبي. غير أنها تشبه البرتقالة؛ لأن كرة الأرض مضغوطة من طرفيها. أما طول قطرها فهو 8000 ميل.
ولم يدرك كبار العلماء - وما كان أقلهم - هذه الكروية إلا منذ 2500 سنة تقريبا. فقد كان الناس قبل هذا - كما يبدو من التاريخ المدون - يعتقدون أن الأرض مستوية منبسطة. بل إن هناك رأيا عصريا، وإن كان لا يزال شاذا، يقرر أن الأرض غير كروية.
وهي تتابع الدوران حول محورها في خلل الليل والنهار؛ أي في الساعات الأربع والعشرين. ثم إنها تدور حول الشمس في السنة دورة بيضوية الشكل على مبعدة منها تختلف مسافة بين 91 مليونا ونصف ميل وبين 94 مليون ونصف، هذا ويدور القمر حول الأرض في دائرة تبعد عن سطحها مسافة 239000 ميل. (1) انفصال الأرض عن الشمس
هذا ويقال إن الأرض كانت قطعة من الشمس انعزلت عنها منذ ألفي مليون سنة تقديرا. أما عن مرجع هذا الانفصال فالآراء متضاربة: منها أن نجما كبيرا اقترب من الشمس محدثا زيادة قوة الجذب بينهما؛ الأمر الذي نشأ عنه خروج لسان من مادتها إلى الفضاء منفصلا عن الشمس مبتعدا عنها دائرا حولها، ومن اللسان تألفت الأرض والكواكب وأشباهها دائبة الدوران حول الشمس، ثم إن هذه الكتلة الغازية الملتهبة قد تحولت إلى سائل، تجمد بعضه وتألفت القشرة الأرضية بما عليها من الجبال والسهول والبحار، وانفصل القمر كما انفصلت أقمار أخرى من كواكبها.
ومن الآراء أيضا أن الأرض انفصلت عن الشمس من غير أي احتكاك بين الشمس وجسم آخر. أما دوران الأرض حول الشمس فهو يجري في فلك قريب الشبه بالإهليلجي في سرعة قدرها 18 ميلا ونصف الميل في الثانية. ويقرب نصف قطر هذا الفلك من 93 ميلون ميل، وتستغرق المدة التي تمضيها الأرض في قطع محيطه سنة. وعند «چينز» أن الأرض ليست إلا ذرة تافهة في الفضاء الفلكي العام ولا ترى إلا بالمجهر.
يقال إن «كوبرنيكس» في القرن السادس قبل الميلاد، كان أول من قال إن ما يبدو من حركة الشمس والقمر والنجوم من الشرق إلى الغرب حول الأرض قد نشأ عن دوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق؛ إذ إن الأرض والكواكب السيارة ليست إلا أجراما، تدور حول الشمس.
وقد تتابعت آراء الدينيين والعلماء عامة والفلكيين خاصة من منددة بنظرية كوبرنيكس إلى مقرة بها مستوعبة لتفاصيلها بعد التردد. وشاهدنا على هذا أن بطليموس وحكماء اليونان، ثم البوزجاني والبيروني والبتاني والصوفي وأضرابهم من فلكيي العرب، ذهبوا إلى أن الأرض ملكة الكون ومركزه، تحيط بها الشمس والقمر والكواكب والنجوم، وملحقاتها دائرة من فوقها نهارا ومن تحتها ليلا. (2) وزن الأرض
ثقل المادة هو مقدار جاذبية الأرض لها، وجميع المواد تتجاذب، فإذا أخذنا كرة صغيرة من الفلين مع كرة أكبر منها من الرصاص تسنى لنا أن نقيس مقدار جذب كل منها للأخرى، أما الكرة الكبرى فهي أقوى جذبا من الصغرى، ثم إن مقدار جاذبية الأرض للكرة الصغرى (أي ثقل الكرة الصغرى) هو أضعاف مقدار جاذبية كرة الرصاص لكرة الفلين؛ أي إن الأرض هي أثقل من كرة الرصاص بعدد تلك الأضعاف، فإذا عرفت وزن كرة الرصاص فاضربه في عدد تلك الأضعاف يكن لك وزن الكرة الأرضية.
هذا وثمة طريقة أخرى وهي أن يؤخذ حجم الكرة الأرضية طبقا لقواعد هندسة الأجسام أو الهندسة الفراغية، ثم تؤخذ كرة صغيرة من مادة نسبة كثافتها إلى كثافة الماء 5,52 وتقيس حجمها ثم تستخرج النسبة بين هذا الحجم وحجم الكرة الأرضية، ثم تضرب هذه النسبة في ثقل الكرة الصغيرة فيكون من ذلك ثقل الكرة الأرضية؛ إذ إن متوسط كثافة الكرة الأرضية هو 5,52 أضعاف كثافة الماء. وعند الفلكي (چينز) أن وزن الأرض 5885516 ألف ألف ألف ألف ألف طن.
وعند الدكتور والي الأستاذ بجامعة هارفارد الأمريكية أن القشرة الأرضية لا تزيد على 64 كيلومترا، وأن تحتها مواد أصلب من الفولاذ كثافتها 1800 ميل، وعند قلب الأرض حديد مصهور حار جدا. (2-1) جوف الأرض
أما جوف الأرض فإن ما تحمله البوصة المربعة من الصخور والمواد المختلفة يزن أكثر من 300 طن على عمق 100 ميل، أما الحرارة فتزيد درجة سنتيجرادية في كل مائة قدم. (2-2) عمر الأرض
وأما عمر الأرض فقد عكف الرياضيون والفلكيون والأرضيون (علماء طبقات الأرض) على تقدير هذا العمر منذ القرن السابع عشر، مستخدمين نظريات وطرقا، منها قياس ما يستغرق من الزمن في بناء طبقات الأرض أو نقل الأملاح الذائبة من الأنهار والسيول إلى المحيطات أو برودة القشرة، أو معرفة كمية هذه الأملاح في المحيطات، وهناك من عمد إلى قياس الزمن الذي يمضي على تحول اليورانيوم والثوريوم والراديوم والعناصر المعدنية الأخرى إلى رصاص، أو تقدير ينبوع الحرارة ومصدر النشاط الإشعاعي لهذه العناصر.
هذا ويتابع هؤلاء الاستقصاء. (2-3) الفضاء المحيط بالأرض
أما الفضاء المحيط بالأرض فيتألف من طبقة جوية من النيتروچين والأوكسيچين، ومن قليل من الأركون وثاني أوكسيد الكربون والهيدروچين، ثم الكريبتون والنيون والهليوم وغيره من الغازات النادرة.
وبعد ستة أميال فوق الأرض تقل كثافة الهواء ويلطف، وينبغي على الطيار حينئذ أن يستنشق الأوكسيچين الصناعي. هذا والجو طبقات قد تصل إلى مائتي ميل. وبعد عشرين ميلا فوق الأرض يوجد غاز الأوزون الذي يمتص الأشعة فوق البنفسجية للشمس والنجوم، ويحول دون إضرارها بالإنسان.
وتنعكس أشعة الشمس إلى كل الجهات فتضيؤها حين تقع الأشعة على ذرات الهواء وغباره وعلى الأجسام الأرضية. (2-4) قلب الأرض وحرارتها
يقول الدكتور ليسون آدمز مدير المعمل الچيوفيزكي في معهد كارنيجي في واشنطون: إنه يؤخذ من دراسة أمواج الزلازل وحقائق طبقات الأرض أن على سطح الأرض قشرة ثخانتها بين 25 و30 ميلا، وفي قلبها كرة ضخمة قطرها حوالي 4000 ميل، وما بينهما طبقة متوسطة ثخانتها ألفا ميل، وأن الكرة المركزية كثيفة ومحشوكة جدا لضغط القشرة وتقلص كتلة الأرض ولوجود مادة يرجح أنها معدن الحديد، ذلك أن الحديد رابع المعادن وفرة في القشرة الأرضية، وهو كثير في الرجم والنيازك، ومفروض وجوده في الشمس كما يبدو من دراسة طيفها. أما حرارة مركز الأرض، فمع أن (آدمز) يبدي ما يواجه تقديرها من صعوبة، فإنه يقدرها بثلاثة آلاف درجة مئوية. (3) الشمس
يبلغ حجم الشمس مليون وثلاثمائة ألف مرة مثل حجم الأرض. ولئن كانت تبدو لنا أكبر الأجسام السماوية لقربها منا. غير أن بين هذه ما يكبرها بمئات الألوف من مثلها. ولا يسع أسرع الطائرات أن يصل إليها في أقل من عشرين سنة؛ إذ إن المسافة بين الشمس والأرض 93 مليون ميل تقديرا. أما درجة الحرارة على سطح الشمس فهي ستة آلاف درجة سنتيجرادية.
هذا ويشاهد الفلكيون على الشمس كلفا، وهي بقع سوداء، ويذهبون إلى أنها من أثر إشعاع الشمس وخروج حرارة جوفها أو برودة في قشرتها.
وعند «چينز» أن الشمس تفقد أكثر من أربعة ملايين طن في الثانية. (3-1) الكلف الشمسية
الكلف الشمسية هي المناطق القاتمة على سطح الشمس كما يوضحها المنظار. أما أول كاشف لها فهو جاليليو العالم الفلكي المشهور في سنة 1610، وقد كان ذلك بعيد استنباط المرقب (التلسكوب). والكلف كثيرة جدا تبدو كأنها حفر هائلة تسع كل ما في الكرة الأرضية، وهي تختلف حجما فإن بعضها لا يزيد قطره على ألف ميل، في حين أن قطر البعض الآخر قد يبلغ مائة ألف ميل. والكلف تكثر وتقل في كل إحدى عشرة سنة؛ ولظهورها واختفائها علاقة بمغناطيسية الأرض وبوقوع الأمطار والخصب والجدب، بل بوقوع كثير من حوادث العالم من حروب ومجاعات وأمراض وما إلى ذلك.
هذا ولا يزال العلماء يجهلون حقيقة هذه الكلف. والمظنون أنها مواد مصهورة غازية تخرج من جوف الشمس، وتنتشر على سطحها في فترات محددة يبلغ متوسطها 11,39 سنة. ويكون فيها كهربائية مغناطيسية قوية. (3-2) عمر الشمس وطيفها
أما عمر الشمس فهو 7550000 مليون سنة. وتفقد بالإشعاع أكثر من أربعة ملايين طن في الثانية. هذا وقد يحتجب نور الشمس عنا فيسمى (الكسوف).
وهناك آلات فلكية توضح كيماوية الشمس والنجوم، منها آلة كاشفة للطيف «السبكترسكوب». أما الطيف فهو شريط ملون ينشأ من مرور شعاع النور الأبيض، كضوء الشمس، على منشور ثلاثي زجاجي، من شأنه أن يدع الأشعة تنفذ منه وتتحلل. ومتى وقعت على حاجز أبيض، ظهرت الأشعة النافذة عليه كشريط ملون طرفه الأسفل أحمر والأعلى بنفسجي، وما بين اللونين يقع البرتقالي فالأصفر فالأخضر فالأزرق فالنيلي. وقد استدل من هذه الخطوط الشعاعية على غاز الهليوم وغيره، وعلى أن في الشمس عناصر أرضية، كالهيدروچين والهليوم والكبريت والنيكل والكلسيوم والكربون والصوديوم والحديد والنحاس.
هذا وقد تم في أمريكا بناء منظار كبير - تلسكوب - قطر مرآته خمسة أمتار، وقد أعان الفلكيين على كشف نجوم جديدة. (4) المجرات
تستطيع العين المجردة أن ترى حوالي تسعة آلاف نجم. أما المراصد الفلكية فتستطيع أن ترى أكثر من مائة ألف مليون، ومن كل مجموعة من النجوم يتألف ما يسمى «المجرة». والمجرات تختلف عن الأرض أبعادا بين 30 مليون سنة ضوئية ومائة مليون.
وهذه النجوم المتجمعة تكون على صورة قرص مستدير منفوخ غيمي كالرغيف، ثخانته ثلث قطره، نصفها في الليل من الشمال إلى الجنوب تسمى درب التبان عند العرب، وعند الأوروبيين الطريق اللبني، وفي دائرته تقع المجرة. وهناك مجرات أخرى في الفضاء اللانهائي. والمجرة التي منها الكرة الأرضية يطلق عليها «قارة» أما المجرات الأخرى فهي متجمعة بيضويا، وتسمى جزرا.
ويقول الدكتور هبل مدير مرصد جبل ويلسون في أمريكا إن في الكون مائة مليون مجرة في نطاق قطره 500 سنة ضوئية. أما السنة الضوئية فهي المسافة التي يجوزها الضوء في سنة في سرعة قدرها 186 ألف ميل في الثانية.
هذا وقد صنع في أمريكا تلسكوب كبير وبدئ به كشف مجرات لم تكن معروفة قبل الآن كما قدمنا.
وعند چيمس چينز الفلكي الإنجليزي أن عمر الكائنات كلها عشرة ملايين مليون سنة. أما الدكتور بوك الفلكي في مرصد هارفارد الأمريكية، فيقدر عمر الكون بعشرين ألف مليون سنة؛ أي بجزء من 500 جزء من تقدير چينز.
وعند هنري منيور الفلكي الفرنسي أن المجرة لا تزال في طفولتها فإن عمرها لا يزيد على 20 ألف مليون سنة. أما الكون فعمره نحو ألف ألف ألف مليون سنة. (4-1) السديم
هو مجموع كبير من المادة الغازية اللطيفة جدا تتقلص تدريجا، وتتألف منها الأجسام والنجوم ثم تنفصل منه.
وهناك سدم تتألف من الغازات الملتهبة الحارة جدا، وخاصة من غازي الأيدروچين والهليوم. (4-2) الهيولى والبروتون
الهيولى معربة معناها الهباء المنبث في جو الغرفة يوضحه خط ضوء الشمس، أو هو المتناثر من القطن. وقد أطلق هيولى على طينة العالم. والعالم الهيولي أو الهيولاني هو العالم المادي.
أما البروتون فهو أحد أركان العنصر (أو الجوهر الفرد) أو الومضة الموجبة، التي تدور مع الومضة السلبية (الإيلكترون) حول نواة العنصر كما تدور الكواكب حول الشمس. (5) القمر
لكل كوكب من الكواكب السيارة ملحق أو تابع أو أكثر يتقيد بها ويدور حولها. فأما تابع الأرض فهو القمر وهو أقرب الأجرام السماوية إلى الأرض، مع أنه من أصغر الأجرام، وهو أصغر من الأرض نحوا من خمسين مرة، ويبعد عنها 85000 فرسخ ويدور حول الأرض في 29 يوما ونصف اليوم، وهذه الدورة تؤلف الشهر القمري، الذي يقال إنه كان أصل التقاويم السنوية قبل الحضارات التاريخية المعروفة، وإن بعض هذه الحضارات، ومنها الحضارة الإسلامية، قد أخذته عما قبل التاريخ؛ لأن حركة القمر ضمورا وظهورا استرعت، ولا شك، الإنسان البدائي، الذي كان لا يفتأ ينظر إلى السماء مفكرا معجبا بضوء نجومها وبأمر هذا القمر يتقلب رويدا بين المحاق والبدر، ومن أجل هذا كان القمر من آلهة الأقدمين الذين كانوا يعزون إليه الكثير من خير الدنيا وشقائها.
هذا ويبلغ متوسط بعد القمر عن الأرض نحو 240 ألف ميل متأرجحة بين 222 ألفا، وبين 253 ألفا؛ لأن المدار ليس دائريا، ولأن الأرض تنحرف قليلا عن مركزها إلى بؤرتها. أما قطره فيزيد قليلا على ربع قطرها؛ أي 2200 ميل، أما كثافة مادته فسدس مادة الأرض.
ويبدو أنه ليس حول الوسط المحيط بالقمر غازات أو ماء، وأن جباله وفجواته على فطرتها، وأن على سطحه مساحات واسعة مظلمة أطلق عليها اسم البحار مع عدم وجود الماء بها، هذا وقد درس الفلكيون القمر دراسة واسعة، وخاصة فيما يتصل بأثره في الجاذبية وإحداث الجزر والمد والخسوف. كذلك تغنى الشعراء والكتاب بوصفه وتشبيه الجمال ببدره، وسير الركب على ضوئه. (5-1) الحياة على القمر
هذا وقد تباينت آراء الفلكيين حول احتمال وجود الحياة بالفعل أو في المستقبل في هذا القمر؛ إذ إن الناظر إلى القمر يلمح على سطحه أشياء تبدو كأنها الجبال والوديان. على أن هناك من يقطع بأنه ليس ثمة حياة على وجه القمر، وللفريقين من النظريات والحجج ما لا يتسع المقام لإيرادها. (5-2) الوصول إلى القمر
هذا ويتحدث بعض الفلكيين والطيارين عن احتمال الوصول من الأرض إلى القمر، على أن الذي يحول دون تحقيق هذا أنه على بعد مائتي كيلومتر من سطح الأرض، توجد منطقة لا هواء فيها، ثم إن جاذبية الأرض تمنع الخروج من محيطها الهوائي.
ومما خطر ببال بعض الفلكيين والرياضيين والطيارين إعداد قذيفة صاروخية من المدفع كرسالة من الأرض إلى القمر! (6) الكواكب السيارة
وثمة كواكب سيارة أخرى كعطارد والزهرة تماثل الأرض والقمر في طوافها حول الشمس على مبعدة 36 مليون ميل و67 مليون من الشمس. أما كواكب المريخ والمشتري وزحل وأورانوس ونبتون، فتدور حول الشمس على مبعدة 141 مليون ميل و483 مليونا و886 مليونا و1782 مليونا و2793 مليونا على التوالي.
هذا ويقع مركز الأرض على عمق 4000 ميل من سطحها. أما الحياة، فإلى أنه لم يتحقق وجودها في غير الكرة الأرضية، فإنها لم تعرف إلا على مبعدة ثلاثة أميال إلى جوف الأرض. أما على سطحها فهناك متسع للصعود إلى عشرات الأميال في المستقبل القريب.
ومنذ القرن الماضي نهض العلماء الباحثون لكشف عمر الكرة الأرضية، ثم التنقيب عن بداية الحياة النباتية فالحيوانية فالبشرية فيها، وكلما امتد هذا البحث، غلا المنقبون في تحديد هذا العمر. ولكل باحث الأداة التي يستند إليها والفروض التي تخطر بباله والنتائج التي ينتهي إليها بحثه. وكلها، على ما يبدو إلى الآن، ظنون لم تبلغ مرتبة اليقين والجزم، فعند بعض الباحثين أن الأرض تدور، ككوكب سيار، حول الشمس منذ 2000000000 سنة أو أكثر ، وأن الشمس والأرض والكواكب الأخرى والأقمار والنجوم كانت كلها دوامة من المادة المتناثرة الشائعة في الفضاء. ذلك أن المرقب (التلسكوب) يبين لنا سحبا حلزونية مضيئة من المادة، السدم اللولبي، الذي يبدو أنه يدور حول مركز ما.
ومما يظنه الكثيرون من الفلكيين أن الشمس وكواكبها السيارة كانت لولبية على النحو المتقدم، وأن مادتها قد كثفت وتركزت في الشكل الحاضر في غضون دهور تعاقبت بعد أن تأججت هذه المادة وصهرت عند سطحها، وكانت الشمس ذاتها تبدو شعلة أكبر مما صارت إليه الآن.
ثم إنه يفترض أن الأرض أدنى إلى أن تكون تنورا متفجرة أو سطح حمم قبل أن تبرد، وأن الماء كان بخارا حارا جدا في جو عاصف من الغازات الكبريتية والمعدنية، وأن تحت هذا يغلي ويدور محيط من المادة الصخرية المصهورة، وأن ومض الشمس والقمر المتحركين في سرعة، يكتسح في طريقه كل شيء كما تندفع ألسنة اللهب، وأن هذه النار المندفعة قد فقدت تأججها، وأن الأبخرة قد صارت أمطارا، وأن الأقراص الصخرية المتجمدة البطئية شرعت تبدو على سطح البحر المنصهر ثم تهبط فيه وتحل أخرى محلها، مؤلفة هذه الكرة الأرضية بعد أن برد الجو الذي كان تغشاه تلك السحب والأبخرة، وبعد أن جرت خطوط من الماء الحار على الصخور المتبلورة، ومن البحيرات والأخاديد التي كانت تستقبل ما يجيء به ذلك الماء الجاري الحار من الرواسب والمواد المتفتتة.
في ذلك الزمن البعيد جدا الذي لا يحصي العد قرونه، لم تكن هناك حياة ما على وجه الأرض؛ إذ كانت الحياة مستحيلة يومئذ؛ لأن الأمطار الغزيرة كانت تهطل، ولأن الرياح كانت شديدة جدا وحارة جدا، والسحب كانت دائمة والسماء غائمة.
أما كيف عرفنا أن الأرض كانت هكذا قبل أن تعرف الحياة فيها، فإنا نعيد القول هنا بأن كل ما قدمنا لم يزل من الفروض والظنون، ذلك أنه لم يصل إلينا ما يعد حقا لا ريب فيه، إنما هي آراء خرجت من نظراتنا الفاحصة فيما تركت لنا الدهور ، وفيما تخلف في الأرض من الآثار في بعض البقاع.
أما الكواكب السيارة الأخرى فإن مدة دورانها حول الأرض بين 88 يوما أرضيا أو سنة كوكبية، وبين 48 سنة أرضية وسنة كوكبية (حسب الكوكب وبعده). (6-1) المريخ
المريخ أكبر من الأرض ثلاثمائة مرة، وتستغرق دورته حول الشمس 12 سنة أرضية وسنة واحدة مريخية. ويبدو أن قلب المريخ كرة صخرية فوقها محيط من الماء البارد المتجمد، وأن على قشرته زوابع وأن جوه غائم جدا، وأن له أقمارا كثيرة عرف منها 11 قمرا. (7) نور النجوم
نجم ألفا قنطورس هو - بعد الشمس - أقرب النجوم إلينا يصل نوره إلينا مرة في أربع سنوات وربع السنة. أما نجم النسر الطائر فإن نوره يصل إلينا في 14 سنة ونصف، والسماك الرامح في 50 سنة، ومنذ ألوف السنين خرج نور السدائم والمجموعات النجومية، فقد وصل نور سديم الدجاجة إلينا منذ 5000 سنة، وهناك نور سديم خرج قبل 1700 سنة. ومن السدائم ما يستغرق وصوله إلينا 140 مليون سنة. (7-1) مقاييس الفلكيين
يعتمد الفلكيون في نتائج رصدهم على قياس زاوية الاختلاف في النجوم القريبة من الأرض، وقياس مسافات المجموعات النجومية من سير النظام الشمسي في الفضاء، وقياس المسافة من مقارنة نور النجم المطلوب تحديد مسافته بنور النجم المعروفة مسافته، والآلة الكاشفة للطيف «السبكترسكوب». (8) النيازك
في شهر سبتمبر سنة 616ق.م سقط حجر من السماء وقتل عشرة أشخاص وحطم عربات، وفي القرن العاشر سقطت أحجار نارية أحرقت بيوتا، وفي شهر نوفمبر من القرن التاسع عشر سقط حجر انفجر عند قلعة لوزير أحرق محصول القمح والأغنام.
وفي 1832 شاهد عمال فرنسيون شهبا لامعة منقضة، وفي 1846 سقط حجر في (هوت كارون) أحدث دويا وأحرق حاصلات وأغناما. وفي 1872 سقط نيزك كان يبدو كالموقد المشتعل. وفي 1908 سقط في سيبريا نيزك كبير أحدث سقوطه دويا وعطبا إلى مسافة 100 ميل.
ولم يبدأ في دراسة سقوط هذه الأحجار السماوية إلا منذ أن انقض جسم كبير في أوائل القرن التاسع عشر على إحدى مدن فرنسا، فقد مضى العلماء والمجمع العلمي الفرنسي في بحث هذه الأجسام وبواعث سقوطها، وقد تبين أنها كتل نارية من المادة تسير حول الشمس في سرعة كبيرة قابلة للقياس، قيل إنها أكثر من 25 ميلا في الثانية جذبت إلى فلك الأرض حين اقتربت منها.
والقطعة الصغيرة من هذه الأجسام تسمى شهبا. أما الكبيرة فأسماها (نيزك) وحرارة هذه الأجسام كبيرة جدا ومحدثة زيادة في كثافة الهواء والحرارة، ويبقى الشرر بضع دقائق بعد احتراق النيزك، وبينما يبقى سطح النيزك حارا يكون داخله باردا. وكلما انفجر قبل وصوله إلى الأرض، ضعف ولم يغر فيها.
هذا ويرجح أن تكون النيازك والشهب مواد تقذفها الكواكب السيارة أو من بقايا السديم الأصلي الذي تألفت منه الشمس والكواكب، وحين حللت هذه الأجسام وضح أن بها أكثر من ثلاثين معدنا كالحديد والنحاس والنيكل والبوتاس والكلسيوم والصوديوم والقصدير والأوكسيچين والسيليكون والمغنسيوم والكوبلت والكبريت، ويقال إنها من غير الأنواع التي على الأرض.
ولما أحميت، خرج منها غاز الهيدروچين والنيتروچين والهيدروكاربون وأول أوكسيد الكاربون وغيرها.
هذا ويبلغ عدد النيازك التي تنفصل من كواكبها خمسة عشر مليون نيزك في كل أربع وعشرين ساعة. ولكن أكثر هذه النيازك يحترق وهو بعيد جدا من الأرض فلا يصل إلى سطحها بل يتبدد في الفضاء، ومن الشذوذ أن يبلغ النيزك سطح الأرض، ولكن هذا نادر الحدوث، ففي ولاية كنساس الأمريكية قد لا يقتل بسبب سقوط نيزك إلا واحد في كل أربعة عشر ألف سنة. وقد سقط النيزك الكبير في سيبريا الشمالية في سنة 1908، فأحدث حريقا هائلا في غاباتها أتلف ما مساحته مائة ميل مربع مسببا أمواجا هوائية.
وقد صار نيزك سيبريا إلها تعبده بعض القبائل المقيمة هناك؛ إذ تزعم أنه إله هبط من السماء ليوقد ناره في الفجرة والعصاة.
وقد أخمدت إحدى الثورات على أثر سقوط نيزك في أمريكا الوسطى، فإن النيزك قتل زعيم ثورة إحدى الطوائف فخاف الثوار وتفرقوا.
ويغلب سقوط الأجسام ليلا خاصة بعد منتصف الليل. وفي متحف نيويورك نيزك حجمه 385 قدما، ووزنه 36 ونصف طنا، وأكبر نيزك هو الذي سقط قريبا من فانوفارا في سيبريا فإن وزنه 136 طنا.
على أن ما ينزل على الأرض من الأجسام يقدر بألوف المرات مما يشاهده الفلكيون والناس. وقد كان لسقوط الأجسام أثره قديما وحديثا. (9) القرآن ونشوء الكرة الأرضية
آثرنا - إتماما للحديث عن نشوء الأرض - أن نورد هنا بعض الآيات القرآنية التي عرضت لهذا الموضوع:
جاء في سورة الأنبياء:
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون * وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون .
وعند المفسرين أن السماوات والأرض كانتا مرتوقتين؛ أي مضمومتين؛ لأن الرتق هو الضم والالتحام؛ أي كانتا شيئا واحدا، ففتقهما الله؛ أي فتحهما فصارتا أفلاكا وطبقات وأقاليم وأقساما منوعة تفتح بعضها بالماء والمطر والإنبات. كذلك جعل الله في الأرض ثابتات كراهة أن تميد؛ أي تضطرب، كما جعل فيها فجاجا؛ أي مسالك.
وجاء في سورة المؤمنون:
وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون * فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون .
وجاء في سورة النور:
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور .
كوكب دري؛ أي مضيء متلألئ.
وجاء في سورة البقرة:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون .
وفي سورة آل عمران:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .
وجاء في سورة الروم:
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون * ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون * ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين * ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون * ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون
إلى قوله تعالى:
ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .
وجاء في سورة لقمان:
ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير .
وجاء في سورة فاطر:
والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير * وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .
وجاء في سورة ص:
كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب .
وجاء في سورة الدخان:
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون .
وجاء في سورة الجاثية:
إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين .
وجاء في سورة الحجرات:
إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون .
وفي سورة ق:
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ .
وجاء في هذه السورة أيضا:
كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود * وعاد وفرعون وإخوان لوط * وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد * أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد .
وفي سورة الحديد:
سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم * له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير * هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم .
وجاء في سورة الدهر:
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا .
إن الاستفهام بهل في هذه الآية الكريمة هو استفهام تقرير وتقريب؛ ولذلك فسر بقد.
وجاء في سورة يونس:
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون .
الفصل الثالث
الحياة على الكرة الأرضية
من العسير تعريف «الحياة» ماهيتها. وعند جمهرة الفسيولوچيين أن الحياة نوع من التوازن بين الأفعال الكيمائية والطبيعية المعقدة. وكلما نجم حافز يضيع هذا التوازن، بادر البروتوبلازم إلى إعادته، أما إذا عجز، مات الكائن حتما، ووجب أن نرجع هذا العجز إلى أن الحافز كان من القوة بحيث أصبح فقدان التوازن كبيرا لا يمكن إعادته.
هذا وقد استنبطت أداة جديدة يطلق عليها اسم «ثرموبيل» لقياس الحرارة التي تطلقها العضلة حين تنقبض إلى أربعة أجزاء من مليون جزء من درجة مقياس سنتيجراد. وثمة كواشف كيمائية أبانت أن هذا الانقباض لا يرجع إلى تأكسد السكر في الخلايا، بل إلى تكون مادة «الفوصفچين» التي يحل محلها الحامض اللبنيك بتحول الفوصفچين إلى العناصر التي تؤلفه، ثم إن الحامض اللبنيك يتحول بالتأكسد إلى ثاني أوكسيد الكربون والماء.
هذا والمفروض أنه حين بردت القشرة الأرضية وهدأت الأمطار والعواصف والرياح الشديدة، وذاب ماء البخار والغازات ونفذت أشعة الشمس رقيقة هينة، أصبحت الأرض صالحة لبدء الحياة فيها، فنبت النبات واخضر العود، ثم برز الحيوان من تربة الأرض ثمرة للتفاعل بين بعض موادها، بعد أن تدرج في مراحل عدة في ملايين السنين، ثم انتهى المزج والتفاعل بين: (1) الحيوان. (2) والنبات. (3) ومواد الأرض. أو من أحد هذه العناصر الثلاثة إلى خلق الإنسان.
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (قرآن كريم).
غير أن الفيلسوف آرينيوس يذهب إلى أن قوة الدفع في الضوء قد دفعت جراثيم الحياة إلى الأرض، ذلك أن هذه الأشعة تدفع الجسم الذي تهبط عليه، ثم تعود فتنسحب كما أن المدفع يعود إلى الوراء بعد الانطلاق. أما قوة الدفع فهي أقل من عشرة جرامات في الهكتار المربع، ومن ثم كانت قوة الدفع في الأشعة الشمسية على سطح الأرض مائة مليون كيلوجرام، وهي قوة تدفع جراثيم الحياة من الفضاء إلى الأرض، على أنه ليس من البعيد أن بعض هذه الجراثيم التي وصلت إلى الأرض قد انتقلت إلى بعض الأجرام الفلكية الأخرى، وعلى هذا تصل الحياة من الأرض إلى المريخ في عشرين يوما، وإلى المشتري في ثلاثة أشهر، وإلى نبتون في أربعة عشر شهرا.
ولما صعد منذ عشر سنوات العالم الأمريكي «سيتل» في منطاد إلى طبقة الستراتوسفير في الجو العالي، أبدت الخلايا المكروسكوبية، التي كان العالم قد وضعها على مقدمة المنطاد، نشاطا غريبا، وزاد توالدها في وسط الهواء الرقيق والجو البارد جدا والأشعة التي وراء البنفسجية المالئة الفضاء، وقد عادت الجراثيم حية إلى الأرض.
وعند الفيلسوف كيزرلنج أن الحياة أزلية تنتقل في الفضاء من جرم فلكي إلى آخر ومن مكان إلى مكان، وجراثيم هذه الحياة لا تفتأ تنتقل في الفضاء الفاصل بين هذه الأجرام إلى أن تهبط إلى الأجرام والأماكن التي تصلح حالتها الجوية والطبيعية لإيوائها ونموها وتكاثرها. وقد أيد العالم البريطاني الكبير اللورد كلفن هذه النظرية قائلا إنه يحتمل جدا أن تكون الحياة قد وصلت إلى أرضنا من أجرام أخرى. ذلك أن المفروض أن النبات الذي في الأرض جزء من نبات يكسو سطح الكثير من الأجرام الفلكية.
غير أن علماء آخرين يذهبون إلى أن هذه الأجرام بعضها مستقل عن بعضها الآخر، وعلى هذا لا يكون مصدر الحياة فيها جميعا واحدا. أما الأستاذ روچيه سيمونه الكاتب العالم في مجلة ميروار دي موند، فيرى أن عزلة بعض الأجرام عن بعضها الآخر عزلة خيالية، ذلك أن الكثير من الرجم والنيازك يهبط إلى الأرض من أجرام أخرى، وأن من المحتمل أن تصحب جراثيم الحياة ما يصل إلينا من الرجم، وإن كان من الرجم ما يصل إلينا مصهورا على أثر احتكاكها بالهواء الذي ينشئ على سطحها حرارة تكاد تجعل الحياة مستحيلة.
وعندي أن هناك برودة شديدة جدا من شأنها وقاية الجراثيم من أسباب الفناء كما أثبته «سيتل» فيما قدمنا.
وعند الأستاذ روچيه أنه إذا أخذنا بهذه النظرية - نظرية وصول جراثيم الحياة إلى الأرض - وجب القول بأن هذه الجراثيم قد وصلت إلينا على دفعات، على حين أنه قد ثبت أن الحياة ظهرت على الأرض، ومضت في سلك الارتقاء رويدا وتدريجا، فكانت الكائنات الحية حلقات متتابعة في خط واحد. •••
تقلبت الحياة على الأرض في مراحل كثيرة. على أن العنصر الأول الباعث على الحياة إنشاء وبقاء، هو الحرارة التي تستمدها من الشمس. أما حرارة جوف الأرض فقليلة وتافهة الأثر في الحياة وعند الأرضيين «الچيولوچيين - علماء طبقات الأرض»، أن عمر الأرض بين 1500 مليون سنة إلى ألفي مليون، وأنها ستعيش مثل هذا العمر أو أطول منه.
ويقال إن العصر الحاضر - ويقدر بالألوف من السنين - هو فترة تقع بين عصرين جليديين؛ أي إنه يحتمل أن تتجه الأرض نحو البرودة طويلا اتجاها، من شأنه أن يغطي الجزء الكبير من كندا والولايات المتحدة الأمريكية وإسكنديناوة بطبقة من الجمد المشتق من ماء المحيطات، مما يفضي إلى قلته فإلى انحسار الماء عن الأجزاء البحرية غير العميقة. غير أنه قد يحدث أن تزداد الحرارة ازديادا من شأنه أن يذيب الجليد، ومن ثم يزداد ماء المحيطات مغطيا الأراضي القليلة الارتفاع.
أما الجنس البشري فإن عمر حياته على الأرض بين 300 ألف سنة و400 ألف. وأما النوع الإنساني فإن عمره 50 ألف سنة. وقد وسع الإنسان أن يتحكم في الأوساط المتباينة والطقوس المتغايرة تحكما لم يسهم مثله للحيوان؛ ذلك لأن الإنسان استطاع استخدام القطن والكتان والصوف والفحم والحديد والبترول والنحاس والقصدير والرصاص والمعادن.
وعند الأرضيين أنه بعد أن عاشت ال «بلاسينتاليا» - وهي نوع من الحيوان المشيمي الثديي - بين أكثر من مليوني سنة وثلاثة ملايين؛ انقرضت، وكذلك انقرضت الجياد ذوات الأصابع الثلاث والجمال ذوات الأربع. (1) العصر الآزويكي
هذا ولا نزال نستند في وقوفنا على مظاهر الحياة الأولى وأسبابها. إلى ما تخلف على الأرض من العلامات والأحافير وبقايا الأشياء الحية في صخور منسقة طبقة فوق أخرى، ففي الأحجار الكلسية والرملية والأردوازية كشفت عظام وقشر وألياف ونسيج وفاكهة وجذوع أشجار وآثار أقدام وخدوش محفورة إلى جانب العلامات المتموجة، الناشئة عن المد والجزر وعن سقوط الأمطار في العصور القديمة جدا.
ومن فحص هذه الأشياء كلها في جلد ودقة وقف العلماء على جانب من تاريخ الحياة على الأرض، ذلك أن رواسب الصخور قد لا تكون منسقة طبقة فوق طبقة، بل قد تتخذ مكانا منحرفا وطريقا معوجا بعضها مختلط بالبعض الآخر، مما يجعل الفحص شاقا مرهقا.
ويقدر عمر هذه الصخور والبقايا ببليون و600 مليون سنة. ويطلق على العصر الأول لها اسم العصر «الآزويكي» أو عدم الحياة. وفي شمال أمريكا صخور آزوكية يقدر الأرضيون (علماء طبقات الأرض) أنها ترجع إلى 800 مليون سنة، أما قبل هذا التاريخ فإنه ليس ثمة ما يبين كيف استقل الماء عن اليابسة؛ إذ ليس هناك علامات حياة لأي نوع من الكائنات. (2) عصر البليزويك الأدنى
كلما اقتربنا من عصر التاريخ، زاد وقوفنا على الحياة الماضية، فيبدأ عصر البليزويك الأدنى؛ أي العصر الذي وضحت فيه أمارات الحياة، كبقايا أنواع الحيوان البسيطة والدنيئة، وقشر المحار والقواقع وجذوع الحيوانات المائية ورءوسها والأعشاب البحرية وبقايا الديدان البحرية والقشريات.
ثم ظهرت مخلوقات دنيئة كقمل النبات وكالزواحف التي تطوي أنفسها فيما يشبه الكرة وذوات الفصوص الثلاثة. وبعد بضع ملايين من السنين ظهرت العقارب البحرية، التي كان طول بعضها تسعة أقدام. وليس هناك علامات عن أي نوع من الحياة على الأرض، نباتا كان أم حيوانا كالسمك والفقريات. فإن كل ما خلفه لنا ذلك العصر من النبات والكائنات الحية هو الدنيئيات الجزرية المطمورة. ولتقريب فهم حالة هذه البقايا، علينا أن نضع، تحت المجهر، نقطة من الماء المأخوذ من بركة صخرية أو حفرة مرغوة.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الألوف والملايين مما كان يعيش قبل عصر التاريخ لم تتخلف منه آثار تدل عليه؛ لأن ما احتفظت به الطبيعة للتاريخ هو ما تصلب وتجمد وما في وسعه أن يكسو نفسه بغطاء ما أو قشرة. على أن الأرضيين - علماء طبقات الأرض - قد يعنيهم أن يقعوا على شيء من شتيت الفحم أو رشاشه لدراسته والأنباء عنه. (3) هل ظهرت الحياة فجأة أو تطورا
وهناك نظريات متباينة حول نشوء الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية على الأرض، وحسبنا أن نذكر هنا النظريتين الأساسيتين، فإن أولهما تذهب إلى أن الحياة ظهرت فجأة؛ أي إنه حين استقلت الأرض برقعتها برزت هضابها ووديانها وزرعها وحيوانها وإنسانها؛ إذ إنه ليس ثمة دليل علمي صحيح لا يتداخله شك، يؤكد لنا أن الحياة بدأت دنيئة هينة رقيقة نباتا ثم حيوانا فإنسانا بدائيا فمتحضرا؛ أي تطورت «تطورا عضويا».
أما ثانية النظريتين فتذهب إلى نقيض النظرية الأولى، ذلك أن الحياة مؤلفة من الفرديات الكيانية، التي تتحد بمواد أخرى أو تتخذها غذاء، والتي تتوالد وتنتج ما يخلفها، وقد ثبت أن الخلف يحمل، إلى صفات مشتقة من السلف، أشياء أخرى مختلفة عنها، وأن انتقال النبات والكائنات الحية إلى أماكن أخرى، يغير من طباعها أو من صفاتها. وعند العالم الروسي «سينتسين» أن الحياة ترجع إلى الذرات الترامكروسكوبية التي تملأ فضاء الكون، وأن هناك جراثيم تقاوم الحرارة والسموم، وجراثيم تعيش من غير الأوكسيچين. (4) عصر السمك
هذا وقد بدأت الأسنان والمخالب قليلة في الكائنات البحرية، كالعقارب البحرية، ثم ظهر جيل آخر تخلقت فيه الأعين والأسنان تامة والأعضاء المساعدة على العوم، وهذه هي أنواع الحيوان الفقري، والسمك البدائي، وكان يعرف باسم الفقريات. ثم زادت الأسماك ونمت وانتشرت في الصخور الديفونية، وعرف عصرها «بعصر السمك»، ومنها ما ينتسب إلى المعروف اليوم بالأرش أو القرش وكلب البحر وكانت هذه الأنواع البائدة تجري في الماء وتفقز وتثب في الهواء، وتأكل الغصون والأوراق الخضراء بين الأعشاب، وأحدث نشوؤها حياة جديدة في الماء العالمي بعد هدوئه الطويل، وكان أطولها لا يزيد على عشرين قدما والقليل بين قدمين وثلاثة والأكثر صغير جدا.
وقد استقصى الأرضيون معرفتهم الحالية بها عن طريق فحص الخلف، واستيعاب تدرج نشوء بيضه ونموه، وكان سلف هذه الأنواع البائدة كائنات دنيئة سابحة ناعمة البدن، منشئة شيئا صلبا كالأسنان، كما كانت أسنان الورنك وكلب البحر تغطي فمه متصلة عند الشفة بالقشر المحدب فيما يشبه الأسنان كاسيا أكثر الجسم. (5) على اليابسة
عند الأرضيين أن الحياة بدأت في الماء ثم انتقلت إلى اليابسة خلال الملايين من السنين، فكان هناك رءوس الصخور والمرتفعات العارية تحت الشمس والأمطار، ولم يكن هناك تربة لأن دودة الأرض التي تساعد على وجودها وخصبها لم تنشأ بعد، وليس هناك نبات يفتت الأرض إلى طمي، ولم يكن هناك طحلب ولا حشائش أو شيبة أو أشنة. (6) عصور الجليد
وقد استهدفت الأرض لصنوف من الطقس لأسباب لم تعرف على وجه اليقين بعد، لتغيير في شكل مدارها وأشكال القارة بل قد يكون في حرارة الشمس ذاتها، مما أفضى إلى تعرض المساحات الواسعة إلى عصور من الجليد (الجمد) وبعدئذ ظهر الدفء.
ويبدو أن الأرض قد انشقت وانبعثت منها خطوط بركانية ومرتفعات، وأن البحار قد زادت عمقا، وأنه بعد أن هدأت طويلا نزلت الثلوج وهطلت الأمطار على قمم الجبال والهضاب، مفتتة الرواسب الآجرية «الطينية» وناقلة إياها إلى البحر مخفضة عمقه، وعلى هذا شهدت الكرة الأرضية عصورا بلغت فيها المرتفعات أعاليها والبحار أبعد أغوارها، كما شهدت مرتفعات أقل علوا وبحارا أقل غورا.
على أن سطح الأرض قد احتفظ ببرودته الشديدة طويلا، فكان ثمة عصور ثلجية في العصر الآزويكي «عديم الحياة». (7) عصر البرمائيات
أخذت الحياة تدب على الكرة الأرضية منذ ظهرت البحار القريبة الغور والمستنقعات، فانتقلت الحياة إلى اليابسة. وبعد أن اجتازت هذه الحياة الملايين من السنين في الماء ثم على اليابسة اتخذت لها صورة أوضح، فبدأت الحياة النباتية ثم تبعتها الحياة الحيوانية. كان النبات في بداية ظهوره على شكل نسيج خشبي يكفل له وظيفة السيقان وامتصاص الماء، ويظهر على الصخور نبات السرخس والطحلب والأمسوخ. ثم تبع هذه ألوان من الحيوان الدنيء مثل: أم أربعة وأربعين، والدودة الألفية الأرجل، والحشرات البدائية. وكذلك ما يمت بصلة إلى السرطان (أبو جلمبو) والعقارب التي تطورت إلى العناكب والعقارب البرية ثم الفقاريات. وكان من الحشرات البدائية فراشة يبلغ طولها 29 بوصة. وقد أعدت هذه الدنيئيات نفسها لتتنفس الهواء؛ إذ كانت وهي في الماء تتنفسه من الماء ذاته، وذلك بنشوء غطاء للخيشوم البدائي لوقف التبخر، أو بمد مجار أو أي أعضاء تنفسية داخل الجسم وترطبها إفرازات مائية، وصارت المثانة السابحة للسمكة عضوا تنفسيا مستكنا؛ أي الرئة، مشتقة من الزور. ثم زالت شقوق الخيشوم إلا واحدا أصبح طريقا للأذن وطبلتها. وهنا استطاع الحيوان أن يعيش في الهواء على أن يعود إلى حافة الماء لكي يضع بيضه ويفقسه، ومن ثم كانت البرمائيات التي تعيش في الماء وعلى اليابسة، والورل هي الأولى على اليابسة وكانت تعيش إلى جوار المستنقعات وفي الأماكن الرطبة. وكانت الأشجار ذاتها برمائية؛ أي تعيش على اليابسة وفي الماء، وكانت غير مثمرة واضعة بذرتها في الماء.
هذا هو عصر الكاربون (الفحم)، عصر البرمائيات، موطنه المستنقعات والماء الضحل. أما التلال والمرتفعات فكانت لا تزال عارية لا حياة فيها. (8) المادة في الحياة
عند علماء الإنسان البدائي أن المادة في الحياة تتألف من عنصر واحد، في رأي بعضهم أنه الماء وعند آخرين أنه الهواء أو النار، ثم جاء علماء المصريين والصينيين منذ 1500ق.م فقدروا أن العناصر أربعة هي التراب والهواء والنار والماء. وجاء فيثاغورس في 600ق.م، فصاغ نظرية العناصر الأربعة صياغة علمية جديدة، ذاكرا أن لهذه العناصر صلة وثيقة بالحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف، وقفا آخرون قفو فيثاغورس مقابلين بين العناصر الأربعة وبين ما في الكون من الفصول الأربعة، وأركان الأرض الأربعة والرياح الأربع وأنهار الجنة الأربعة، والأرواح الأربعة والملائكة الحارسة الأربعة.
ولعلنا في غنى عن القول بأن هذا التقدير لم يصب شاكلة الصواب. فإن العناصر تبلغ نحو المائة. (8-1) توالد المادة
هذه الظاهرة المشهودة في الحياة ترجع إلى توالد المادة ذات العناصر العديدة، فمن اندماج بعضها في بعض ينشأ النبات والحيوان ويتكاثران، فتنبض الدنيا بالحركة وتعمر بالتوالد والتكاثر.
وفي أدنى أنواع الحيوان؛ أي «الأميبيا»، يحدث التكاثر والتوالد بانقسام الحيوان إلى قسمين ، ومن الحيوان ما يبدأ الجنين على الجسم الأصلي نتوءا مطرد النمو إلى أن يستوي حيوانا مستقلا. أما في الهيدرا أو أخطبوط الماء العذب فإن الجنين يكون متصلا بأمه إلى أن يستكمل نموه. أما أكثر الأنواع في النبات والحيوان، فيحدث التوالد والتكاثر فيها باندماج نواة الخلية المذكرة بنواة الخلية المؤنثة في خلية الزيجوت. وهناك التكاثر البكري في الحيوان والنبات، وهو أن يتم التوالد بنواة الخلية المؤنثة وحدها، وهي البيضة، كما في الحيوان المائي «اللفاف» الذي يعيش في المستنقعات. أما برغوث الماء فهناك أفراد مذكرة وأخرى مؤنثة، ومن هذه: المخصب ذو القشرة الصلبة وغير المخصب البكري. وتتلاقح حشرة المن في أوقات خاصة كالخريف. ومن التكاثر البكري بيض النحل، ذلك أن الملكة تجتمع بقرينها مرة واحدة في العمر فتودع الخلايا المنوية كيسا ينفتح في قناة يمر فيها البيض إلى الخارج بارتخاء العضلات وانقباضها. وفي نبات النوشيرنا، الطحلب الأخضر، تنمو كل من الخلية المذكرة والخلية المؤنثة، فيكونا فردا.
هذا ومن النبات ما يعيش على نبات آخر كالمزلتو الذي ينمو في فرنسا وإنجلترا متطفلا على شجر التفاح، إذ تتعمق ممصاته في أنسجته، ممتصة الماء والأملاح الذائبة فيه، ذلك أن النبات يتناول غذاءه إما من الأرض بامتصاص جذوره محاليل الأملاح، وإما من الجو بامتصاص الأجزاء الخضر (الكولوروفيل) من النبات غاز الكربونيك الذي يؤلف مع الماء المادة السكرية.
على أن من النبات ما يأكل الحيوان، مثل نبات الجرة في بلاد الملايو، وفي حديقة الزهرية بالقاهرة وحامول الماء في الواحات الخارجة المصرية، ففي بعض أوراق النبات هذه ما ينطوي انطواء يشبه الجرة إلى مسافة عشرة سنتيمترات، مفرزة سائلا متخمرا ورحيقا يجذب الحشرة إليه، فتنزلق إلى القاع، وهنا يبتلعها النبات.
الفصل الرابع
عصر الزواحف
أعقب عصر البرمائيات، عصر الفحم «الكاربون» جيل أو دورة من العصور الجافة المريرية، كما يؤخذ مما خلفته الأحافير القليلة من رواسب الأحجار البلاطية والرملية. فقد طغت على اليابسة برودة ثلجية أمدا طويلا، وكان من عواقبها زوال نبات المستنقعات الذي أسلفنا الكلام عليه، وابتداء كبس سطح الأرض وتعدينها، وكان من شأن هذا أن تألفت الرواسب الفحمية. ثم إن انقشاع البرودة الثلجية رويدا رويدا، أفضى إلى دفء ورطوبة أعانا على إنتاج سلالة جديدة من النبات والحيوان الفقري، الذي قبل أن يفقس بيضه، ينمو دعموصه (أنثى الضفدع) داخل البيضة نموا يعينه على التنفس توا عوضا عما كانت عليه حال دعموصه من الحاجة إلى البقاء في الماء؛ لكي يتنفس هواءه قبل أن يستطيع تنفس الهواء من غير وساطة الماء، وفي هذا العصر لم يبق للحيوان خيشوم. أما شقوق الخيشوم فقد لازمت الجنين الحيواني قبل خروجه إلى الحياة، هذا هو عصر الزواحف الذي أعد اليابسة للحياة الحيوانية والنباتية، تاركا لظهورها الظروف المواتية والفرص الملائمة. أما الأشجار البذرية؛ أي التي تنتج من البذور، فقد وسعها أن تنمو مستقلة؛ أي في غنى عن تلمس ماء المستنقع والبحيرة، وظهر نبات السرخس والنبات الصنوبري؛ أي الذي يحمل ثمارا مخروطية الشكل. أما الزهور والحشائش فلم توجد بعد، وظهرت الخنافس قبل النحل والفراش.
هذا وتقدر المدة التي تم خلالها تنوع القشرة الأرضية على الصورة، التي هيأت الحياة المشار إليها بمائتي ألف سنة، ويطلق على هذه المدة «الزمن الميزويكي» تمييزا لها عن الزمنين الآزويكي والبالازويكي، ومدتها نحو بليون سنة و400 ألف سنة، وكانا سابقين عليه، ويسمى «الكانوزيكي»؛ أي الزمن الجديد للحياة أو عصر الزواحف الذي انتهى منذ 80 ألف سنة. وقد بقي من عصر البرمائيات نسل قليل، ومن الزواحف أكثر منها كالثعابين والسلاحف البرية والبحرية «الترسة» والتماسيح الإفريقية والأمريكية والسحالي؛ أي أنواع الحيوان الذي لا غنى له عن الحرارة والدفء طول العام. ومن الزواحف المنقرضة ما هو أكبر حجما من خلفه، كالدناصير والقياطس والحيتان والديبلودوكاس كارنيجي، وهي سحالي هائلة طولها 84 قدما، ثم الجيجانتوسوراس وطوله مائة قدم، والتيراتوسوراس أكبر من ذلك وهو هائل جدا ومرعب جدا، وظهرت أيضا الطيور الفقرية كالبتيروداكتيل قافزة واثبة بين أشجار الغابة، ومن زواحف اليابسة ما عاد إلى البحر كالموموسور والبليسيوسور والأشتيوسور وأجسامها كبيرة وبدينة ذات مجاذيف، تستطيع السباحة والزحف في الماء الضحل، ورأسها تستند إلى عنق يشبه عنق الأفعى وأكبر من عنق الأوز العراقي، متغذية بالأسماك وبما تقتات به الطيور. وقصارى القول أن الحيوان البري كان أضخم مما نعرفه.
أما في البحر فلم تبلغ كائناته هذا النمو وقد قنعت بالتنوع، وقد انقرضت كلها ولم يبق من نظائرها سوى النوتيلوس في أمواه المنطقة الحارة، والسمك الذي خف قشره وزاد نعومة.
ومن الزواحف فصائل أعدت نفسها للهجرة والطيران هاربة من نظائرها المطاردة لها لاجئة إلى التلال والسواحل؛ أي إلى أمكنة أشد برودة من الغابات، متخذة ما يشبه الريش والأجنحة، متعلمة كيف تحتضن بيضها إلى أن يفقس بعد أن كانت - كالزواحف - لا تحتفظ ببيضها، تاركة إياه للشمس والطقس، مقتاة بالسمك الصغير، وكانت سيقانها الأمامية مقاذيف كطائر العلموت أو البطريق، وكالطائر الكيوي النيوزيلندي ذي الريش القليل جدا، الذي ظهر في الطيور وتبعه ظهور الأجنحة. وقد عرفنا نوعا مجنحا من الطيور ذا ذيل وأسنان من ذيول الزواحف وأسنانها. (1) الأحافير الحيوانية
عثر الدكتور لوج كوخ الأرضي الدنمركي في جرينلند على أحافير أسماك ستيجوسيفال التي تعيش في البر والبحر، وهو جد الضفادع ويوجد في بحار أفريقيا وأستراليا.
وقد كشفت في صخور قاع المضيق الكبير في ولاية آريزونا الأمريكية، أحافير السمكة الهلامية - المسماة فانوس البحر - التي تعيش في المحيط ويتألف جسمها من كتلة هلامية شفافة، إذا عصرت لم يبق منها شيء، ويرجع تاريخ هذه الصخور إلى مليون سنة على الأقل. أما السمكة فترجع إلى ألف مليون سنة.
وبين أحافير الأسماك المتحجرة في متحف جامعة كاليفورنيا الأمريكية، أسماك متحجرة عمرها لا يقل عن 120 مليون سنة، عثر عليها في بعض السواحل الأمريكية في طبقة من الأرض ترجع إلى عصر الطباشير «الكريستاس»، الذي يقدر عهده بين 55 مليون سنة و120 مليونا، وقد انقرضت خلاله أنواع من الحيوان والحشرات والزواحف الكبيرة كالديناصور وفي متحف جامعة هارفرد هيكل عظمي لحيوان الديناصور المنقرض وطوله 18 قدما، ووجد على مقربة من ورتميورغ الألمانية، وكان يأكل اللحوم منذ 160 مليون سنة. أما البلوشتيريوم (وحش بلوخستان)، فهو من نوع وحيد القرن انقرض مند 25 مليون سنة وكان وزنه عشرة أطنان وطوله 10 أمتار وارتفاعه 6. ومن الحيوان المنقرض «الهرمالدوتيم» الذي كان يعيش في أحد العصور الچيولوچية في أمريكا الجنوبية، وهو يشبه الثور بعض الشبه ولكنه قبيح الشكل.
الفصل الخامس
عصر اللبونات
كانت اللبونات؛ أي الحيوانات ذات الثدي، في عصر الزواحف الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق، الفصل الرابع، صغيرة جدا لا تلفت النظر، وسابقة في الظهور على الفصائل الأولى للطيور، وقد تكون المنافسة بين نظائرها قد دفعتها لإعداد أنفسها لمواجهة البرودة والاستقلال بالاستدفاء، فظهر فيها الشعر عوضا عن ريش الطير، وعاشت أجنتها داخل أجسامها إلى أن اكتمل نحوها عوضا عن استوائها داخل البيضة. وقد أصبح أكثرها الآن لبونا مكتملا؛ أي بأن تلد أبناءها حية حال خروجها من بطون أمهاتها. هذا ولأكثر اللبونات ثدي أو أكثر ترضع منه صغيراتها. وقد بقي اثنتان من اللبونات تفقسان بيضهما وترضعان صغيراتهما بأفراز من تحت جلودهما، وهما البلاتيياس والإيخدية الشوكية، التي تضع بيضا جلديا ثم تودعه كيسا تحت بطنها محتفظة بالدفء إلى أن تنفقس.
بقي عصر اللبونات - كما هو المظنون - 80 مليون سنة، متدهورا في مدته الأخيرة، فاستحال على أنواع حيوانه أن يعيش بعدئذ إلا ما وسعهما أن تعد نفسها للتقلبات الجمدية (الثلجية). •••
كان زمن الكاينوزويك الحيواني الأخير هو عهد النشاط البركاني والتقبب، فظهرت جبال الألب والهيملايا، ورسمت المعالم الأولية للقارات والمحيطات بما يشبه ما صارت إليه الآن. وقد انقضى منذ بدأ ذلك الزمن إلى الآن ما بين ثمانين مليون سنة وأربعين مليونا. وكان طقس الدنيا عبوسا، ثم أصبح ساخنا إلى الدرجة المعتدلة، غير أنه قد أعقب هذا دورات باردة؛ العصور الجليدية التي يبدو أننا بدأنا نخرج منها. وقصارى القول أننا لا ندري في الواقع هل نحن مقدمون على عصر حار أم على عصر جليدي آخر؛ إذ ليس في مكنة العلم ما ييسر لنا التنبؤ بما ستصير إليه شئون الأرض. •••
ولما أن ظهرت الأعشاب والكلأ والمراعي للمرة الأولى، ارتقت اللبونات بما أفادته من المراعي، وكذلك ظهرت الضواري آكلة لحوم الحيوان، الذي أصبح وثيق الرابطة بأفراد جنسه، أداة التفاهم بينهن النوح والصراخ، وأدمغتهن أوسع إدراكا من أسلافهن تبعا لفوارق المناخ والمرعى؛ فوحيد القرن، الخرتيت، يبلغ إدراكه أكثر من عشرة أمثال إدراك سلفه التيتانوتيريام. •••
ارتقت الحياة الاجتماعية عند الحيوان، فأصبح قطعانا وأسرابا أو قبائل يحذر بعضها بطش البعض الآخر، وتقلد صغارها كبارها، وتتبادل أفرادها الحب والعواطف، وتتشارك. مصلحة غريزتها، تدفعها إلى هذا أكثر مما تحملها عليه بيئتها. أما الزواحف والأسماك في هذه الحقبة فلئن عرفت الحياة الاجتماعية فإنها كانت أقل رقيا.
الفصل السادس
عصر القردة والإنسان الناقص
الرئيسيات هي أرقى اللبونات وتشمل القرد والنسناس والليمور - قرد مدغشقر - والميمون والبابون؛ أي القرد الأفريقي، ثم القرد الراقي الذكي كالغوريلا والشمبانزي، وكانت تعيش في الغابات، وقد بدأت أسلافها الأولى منذ أربعين مليون سنة، ولم تخلف لنا الرواسب، إلا قليلا منها، وقد وجدت الأسلاف البدائية لهذه اللبونات في الزمن الكاينوزويكي، الحيواني؛ أي منذ أربعين مليون سنة. وحين انتهى الصيف العالمي العظيم، ومدته ملايين السنين، تلاه صيفان عظيمان آخران؛ أي زمنان حاران وهما: صيف المستنقعات الفحمية وصيف عصر الزواحف، وبعد هذا انحرفت الكرة الأرضية نحو عصر جليدي وكان فرس البحر يتمرغ في أرض مخضرة خصيبة ريانة، وكان النمر أكبر حجما من نمر اليوم. أما نابه فكان كالسيف حدا. ثم أعقب هذا الزمن، عصر عبوس بارد، تلته عصور أشد منه، فانقرضت أنواع، وأعد فرس البحر والماموث ثم الحيوان الذي يعد ابن عم الجمل، أنفسها لهذا الطقس البارد بما كان يكسوها من الصوف. هذا والجبون والأورانج أوتان من القردة العليا التي تستخدم في المسارح. وهي ضخمة الدماغ قلما تمشي بأيديها. (1) عصور الجليد الأربعة
هذا ويقسم الأرضيون أطوار الجليد إلى أربعة عصور، يتخلل كلا منها فترة من الدفء والاعتدال. فأما عصر الجليد الأول فقد انقضى منذ 600 ألف سنة، في حين أن عصر الجليد الأخير بلغ أقصى مرارته وشدته منذ خمسين ألف سنة. وقد ظهر الإنسان الأول، الإنسان الناقص، في خلال ذلك الشتاء العالمي الطويل؛ أي العصر الجليدي. كما ظهرت معه وقبله قردة فكها وعظام ساقها قريبة الشبه بأمثالها في الإنسان. هذا ويدرس معهد تنيريف في جزر كناري طباع القردة قريبة الشبه بالإنسان الناقص.
لم يخلف ذلك الإنسان الناقص في أوروبا منذ مليون سنة، عظاما بل أدوات كالأحجار الصوانية التي شقت وشحذت لتصلح للطرق أو الحث أو الحرب، وأطلق على هذه الأدوات اسم «إيؤوليث؛ أي أحجار الفجر». (2) الإنسان القردي السائر
أما في جاوا فقد وجدت منذ أكثر من خمسين سنة في ترينيال، قطعة من جمجمة وبعض الأسنان والعظام لما يمكن أن يسمى «الإنسان القردي»؛ لأن وعاء دماغه أكبر مما يوجد لدى أي فرد، كما أنه يبدو أنه كان يستطيع السير منتصبا؛ ومن أجل هذا أطلق الأرضيون عليه اسم «بيتيكانتروباس إيريكتاس»؛ أي الإنسان القردي السائر. وكان كاشف «إنسان جاوا» هذا، الدكتور أوچين دونوا الهولندي الذي كشف بعدئذ عظام فخذ متحجرة يقول عنها «إيليوت سميث»: إنها دليل على صحة نظرية الحلقة المفقودة. (3) إنسان هايدلبرج
وكلما ابتعدنا عن ذلك العصر، وضحت لنا المعالم التي خلفها الإنسان الناقص؛ الإنسان القردي السائر أو المنتصب، فنعثر على أدوات أكبر عددا وأدل على المهارة، وخاصة منذ ربع مليون سنة وما بعده، فقد وجد في غور رملي مطمور في هايدلبرج عظام فك لشبيه بالإنسان من غير ذقن، أثقل وزنا من فك الإنسان الحقيقي وأضيق، الأمر الذي يدل على أن نطق ذلك الإنسان لم يكن واضحا.
وعند العلماء أنه كان كائنا ثقيل الوزن بل ماردا بشريا أو وحشا إنسانيا، ويسمى «إنسان هيدلبرج» وكان سمته يشير إلى أنه كان يناضل الوحوش في الفيافي والمجاهل. (4) إنسان الفجر
وهناك إنسان ناقص أو إنسان حيواني آخر يدعى «إيؤنثروباس»؛ أي «إنسان الفجر»؛ أي الإنسان الذي ظهر عند بزوغ فجر التاريخ، ذلك أنه قد وجد بيلتداون في ساسيكس، رواسب تدل على زمن بين مائة ألف سنة وبين مائة وخمسين ألفا. وعند أقلية العلماء أنه وجد قبل هذه المدة وقبل «إنسان هايدلبرج» غير أن إنسان الفجر يمتاز بكثرة أدواته وتنوعها كالمثقاب والمقشطة والسكين والرمح والسهم والبلطة. (5) الإنسان النيانديرتالي
منذ خمسين ألف سنة أو ستين ألفا، في عصر الجليد الرابع كان هناك إنسان خلف لنا جماجمه وعظامه وأدواته، وعرفنا أنه كان يستطيع أن يوقد النار وكان يسكن الكهوف ويلبس الجلود. أما فكه فقد كان ثقيلا وبارزا وأما جبهته فكانت منخفضة جدا، خطوط حاجب عينيه عظيمة جدا ورقبته لا تستطيع التحرك إلى الخلف، وإبهامه كانت إلى جانب أصابعه غير مواجهة إياها؛ أي على نقيض إبهامنا، وكان رأسه لا يتجه إلى فوق بل أماما وتحتا وعظام فكه من غير ذقن؛ أي مماثلة «لإنسان هايدلبرج»، وأسنان وجنتيه كانت أكثر تعقيدا من أسناننا فلم يكن لها أنيابنا الطويلة. أما جمجمته فتماثل جماجمنا، ولكن مخه كان أكبر من الخلف وأوطأ في مقدم الرأس. أما كفايته العقلية فتباين كفايتنا، وهو - في الجملة - لا يعد جدا لنا. وقد وجدت جماجم هذا الإنسان وعظامه في «نيانديرتال» في أوروبا؛ ولهذا فقد لقب «بالإنسان النيانديرتالي» و«النيانديرتالي».
وكان الطقس مختلفا عن طقسنا؛ أي أبرد، فقد كان الجليد يغطي شمال أوروبا إلى نهر التيمس وأواسط ألمانيا وروسيا، ولم يكن هناك قناة تفصل الأراضي البريطانية عن فرنسا، وكان البحر المتوسط والبحر الأحمر وديانا عظيمة ذات بحيرات، وكان هناك بحر داخلي يبدأ من البحر الأسود مجتازا جنوبي روسيا إلى آسيا الوسطى. وكان الطقس المعتدل لا وجود له في إسبانيا وفي أوروبا، وإنما كان يبدأ من شمال أفريقيا. وفي المدرجات الباردة وأوروبا الجنوبية كان نبات المنطقة المتجمدة قليلا متفرقا، وكان يتجمع أنواع حيوان صعب المراس كالماموث ووحيد القرن المكسوين بالصوف والثيران والإبل، وكان «النيانديرتالي» - إنسان نيانديرتال - يهيم على وجهه يأكل ما يحصل عليه من الحب والفاكهة والجذور؛ إذ إنه كان في الأصل نباتيا وإن كان يتناول قليلا من الصيد الصغير. ولم تكن أسلحته، في الجملة لتصلح للفتك بالوحوش، وإن كان يستخدم الرماح في الهجوم عليها في المعابر النهرية العصية، أو يفتح الحفر لكي تهوي إليها الضواري متتبعا قطعانها متغذيا بموتاها.
ويبدو أن «النيانديرتالي» غزير شعر الجسم، وأن نظراته كانت غير إنسانية وأن قامته لم تكن تامة الانتصاب، وأن مفاصل يده كان يستعين بها إلى جانب أقدامه حين يريد القيام ، وأنه كان يسير منفردا أو مع جماعته، ويبدو من تركيب فكه أنه لم يكن يستطيع النطق مثلنا. وقد عاش طويلا في أوروبا في خلال ألوف السنين. (6) إنسان شتاينهيمر
وقد وفق معهد التاريخ الطبيعي في «ورثمبورغ» في ألمانيا إلى العثور على بقايا عديدة من عصر ما قبل التاريخ. فقد وقع مدير المعهد الدكتور بركهيمر في ضواحي «ستوتجارت» الألمانية، على جمجمة يقدر عمرها بمائتي ألف سنة أو ثلاثمائة، أطلق عليها اسم «إنسان شتاينهيمر» وتشبه جمجمة إنسان نيانديرتال في بروز قاعدة الحاجبين وسعة المنخرين وضخامة الفك الأعلى، وتختلف الأولى عن الأخيرة في أن زاوية الوجه أدنى إلى زاوية وجه الإنسان الحاضر منها إلى الوجه النياندرتالي. كذلك كشف «بركهيمر» على مقربة من الجمجمة، بقايا فيل من أفيال أوروبا قبل نهاية العصر البليستوسيني الجليدي. وعند «بركهيمر» أن الجمجمتين لسلالتين من البشر من جد واحد لم يعرف بعد. (7) إنسان روديسيا
وبعد زمن بين الثلاثين ألفا والخمسة والثلاثين ألف سنة؛ أي بعد أن زاد الطقس دفئا، ظهرت كائنات بشرية أذكى وأعرف بالحياة وأقدر على النطق والتفاهم والتعاون، زاحفة من الجنوب أو الشرق إلى دنيا النيانديرتاليين، طاردة إياهم من كهوفهم أو مبددة لهم، متغذية بالطعام الذي كانوا يتناولونه. ومن المرجح أن تكون هذه الكائنات من دمنا وقرابتنا؛ أي أصولا للإنسان الحقيقي، فإن وعاء مخ أفرادها وإبهامها وعنقها تماثل ما لدينا من ذلك المماثلة كلها، فقد وجدت جماجم في «كروماجنون» و«جريمالدي» تدل على هذا، ثم إن قطعانا من الجياد أخذت تظهر في المدرجات حالة محل أيل فرنسا وإسبانيا، وأصبح الماموث نادرا في جنوب أوروبا عديم الوجود شمالا.
على أنه قد وجدت في صيف 1921 جمجمة، وإلى جانبها أجزاء من جمجمة أخرى في «بروكين هيل» في جنوب أفريقيا. وجاء الفحص دالا على أنه كان هناك إنسان آخر وسط بين «النيانديرتالي» وبين الإنسان الحقيقي. أما وعاء مخ الإنسان الآخر، فيدل على أن مخه كان عند مقدم الرأس أكبر من النيانديرتالي وأصغر عند الخلف مما عنده، والجمجمة منتصبة على العمود الفقري كما في الإنسان التام، وإن كان يبدو أن الوجه كان مماثلا لوجه القرد وأن خطوط حاجب العين غزيرة. وهناك خط بارز في وسط الجمجمة. وهذا هو الإنسان الذي أطلق عليه اسم «إنسان روديسيا».
وقد عثر الدكتور دارت أستاذ التشريح في جامعة ويتواتر ستراند في جوهانسبرغ على أدوات من عصر الحجر في روديسيا. وهذه البقايا تدل على أن سكانها كانوا يجمعون المنجنيز تحت إشراف المصريين الذين يرسلونه إلى مصر، وتستعمله المصريات في الزينة وتزجيج الحواجب. (8) إنسان بيكين والترنسفال وبلتدون وكينيا وفلسطين
أبانت الأحافير عن بقايا عظام وهياكل في جهات مختلفة: فوجد من هذه البقايا في بيكين ما يدل على وجود إنسان قديم أسماه العلماء أخيرا «إنسان بيكين»، وقد كان يعيش في مرتفعات الصين في بداية عصر الجليد الأكبر؛ لأن المرتفعات كانت خالية من الجليد، وكان هناك جماعات بشرية منتشرة في آسيا ومتفاوتة التطور.
وعند الدكتور (فيدنريخ) الألماني أن إنسان بيكين من أكلة لحوم البشر؛ لأنه وجدت بقاياه في كهف صيني مع بقايا 24 من الصغار.
وفي الهند بقايا عظام من عصر البليوسين. ولكن ليس معروفا هل هي للحيوان أو للإنسان.
وفي جاوه آثار تشير إلى أن الإنسان كان حيا قبل عصر البليستوسين، وقد سمي «إنسان جاوة».
أما إنسان (الترنسفال)، وهو المسمى باسم موطنه، فقد وجد الدكتور بروم مدير متحف الترنسفال بقاياه مطمورة في إحدى مغارات بريتوريا، فإذا الزاوية الوجهية للحلقة وبقايا الأسنان أقرب إلى الإنسان منها إلى القرد، وهذا الإنسان الترنسفالي كان في عصر الحجر الأولي.
هذا وقد وجدت في كل من بلتدون وكينيا وفلسطين بقايا عظام وهياكل بشرية، فأسميت على التوالي باسم «إنسان بلتدون» و«إنسان كينيا» و«إنسان فلسطين».
ولما كان التنقيب عن بقايا الإنسان الناقص والإنسان التام القديم لا يزال جاريا، كان من غير البعيد أن نعثر على أنواع أخرى للسلالات البشرية.
الفصل السابع
الإنسان الحقيقي الأول
وجدت الأمارات والآثار البعيدة عن الحياة البشرية التي تماثل حياتنا أو تتصل بها في أوروبا الغربية خاصة فرنسا وإسبانيا، من هذه الآثار عظام وأسلحة وخدوش على العظام والصخور وأجزاء عظامية منقورة ونقوش في الكهوف وعلى سطح الصخر منذ ثلاثين ألف سنة أو أكثر، وتعد إسبانيا أغنى البلاد مخلفات وبقايا بشرية.
غير أن التنقيب عن آثار الإنسان الحقيقي البدائي أو ما قد يسمى جدنا، لما يتم بعد، ولا تزال بعثات الجمعيات الأرضية - الچيولوچية - والجماعات الأثرية تعمل جاهدة في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وآسيا، بل في كل مكان، للعثور على الحلقات القديمة المتعاقبة في الحياة البشرية. ويبدو أن مضيق بهرنج كان أرضا تصل بين الدنيا القديمة والجديدة، وأن أفرادا من البشر في نهاية عصر الحجر القديم قد اجتازوا هذه الأرض إلى الدنيا الجديدة - أمريكا، وأن الإنسان الأوروبي يرجع إلى أصلين، أو أكثر، أحدهما طويل القامة كبير المخ، فقد وجدت جمجمة نسوية أكبر من جمجمة رجل اليوم، كما كان طول الهيكل العظمي للرجل أكثر من ستة أقدام؛ أي مماثلا لهنود أمريكا الشمالية، وكان أفراده يسمون كروماجناريين؛ لأن أصولهم وجدت في كروماجنون وهم همجيون لونهم يضرب إلى السمرة جاءوا من الشمال أو الشرق. أما ثاني الأصلين فقد وجدت بقايا أفراده في كهف الجريمالدي، وكانوا أقرب إلى الزنوج كأفراد قبائل البوشمان والهوتنتوت في أفريقيا الجنوبية، ويرجع موطنهم إلى منطقة خط الاستواء، لونهم ضارب إلى السواد.
عاش هؤلاء الهمجيون منذ أربعين ألف سنة، وكانوا يعرفون العقد والقلادة المصنوعة من الصدف المنقور، ويصنعون صورا لأنفسهم من العظام والحجر، ويخدشون رسوما حيوانية على الصخر وعلى الجدران الناعمة في الكهوف. أما أدواتهم فكانت أصغر وأشد إتقانا من أدوات النيانديرتاليين. وقد أودعت صنوف منوعة من أدوات الهمجيين المتاحف. وكانوا في الأصل يحترفون الصيد متعقبين الجواد المتوحش والمهر البدائي ذا اللحية الصغيرة في المرعى، وكانوا يعرفون البيزون، وهو حيوان بري أمريكي شبيه بالثور، والماموث الذي كانوا يصورونه ويقتلونه. وكان سلاحهم الرمح والأحجار المقذوفة. أما القوس فلم يعرفوه ومن المشكوك فيه أنهم ألفوا الحيوان. ولم يكن لديهم كلاب.
ومما خلفوه رسم لرأس جواد، ورسمان يشيران إلى جواد حول رأسه ما يشبه ربطة اللجام، ولكنهم لم يمتطوا صهوة الجواد، وربما استخدموه في الجر. وليس يبدو أنهم عرفوا حلب لبن الحيوان أو المباني؛ إذ كانوا يتخذون من الخيام الجلدية بيوتا ومن الطين صورا لا فخارا وكانوا عرايا إلا ما يضعونه من أثواب جلدية وفروية وكانوا لا يعرفون الزراعة ولا صنع السلال ولا نسيج الأقمشة، وقد عاشوا في المدارج المكشوفة في أوروبا مئات القرون. ولما أخذ الطقس يرطب ويعتدل ارتد الأيل ثم البيزون إلى الشمال والشرق، وحل الغزال الأحمر محل الجواد والبيزون، وتحولت المدارج إلى غابات، وتنوع صنع الأدوات وطرق استخدامها وشاع الصيد من البحيرات والأنهار. قال دي موتييه: «إن الإبرة المصنوعة من العظام في ذلك العصر أعلى مرتبة مما صنع بعدئذ، بل مما صنع في الأزمنة التاريخية، فإن سكان روما لم يصنعوا مثلها.»
ظهر بعدئذ؛ أي منذ 12 ألف سنة أو 15 ألفا، «الآزيليون» وهم عنصر جديد جاءوا إلى إسبانيا تاركين رسوما تصورهم على وجه الصخور، وهم ينسبون إلى «كهف ماس الأزيل»، ويبدو من هذه الصور أنهم كانوا يعرفون القوس، وكانوا يضعون غطاء جلديا على رءوسهم. ثم إن رسومهم أخذت تضؤل حجما فكان الإنسان يصور كالسمكة الصغيرة أو كالخط العمودي يتصل به خطان أفقيان آخران، مما قد يشير إلى فجر فكرة الكتابة. وهناك رسوم يبدون فيها كالصيادين، ورسوم يبدو فيه رجلان يبخران عش النحل. وكان هذا في العصر الباليوليتيكي؛ أي عصر الحجر الأول. ومنذ عشرة آلاف سنة أو أكثر قليلا، استطاع الإنسان أن يصقل أدواته الحجرية ويشحذها بعد أن كان قانعا بتشقيقها. كذلك عرف الزراعة في العصر النيوليتيكي؛ أي عصر الحجر الجديد، الذي سنتحدث عنه في «الفصل التاسع».
ومما يجدر بالذكر، أنه منذ قرن كان يعيش في تاسمانيا عنصر إنساني أحط من الناحيتين البدنية والعقلية من أقدم العناصر البشرية. ويبدو أن هذه الكائنات البشرية قد عزلتها التقلبات الطقسية عن العالم، فأدركها الانحطاط عوضا عن الارتقاء، وكان أفرادها يتغذون بالمحار والصيد الصغير، وكانوا جوالين لا سكنى لهم .
هذا وقد عثر العلماء والأمريكيون على فك إنسان وقواطع حيوانية منقرضة في طبقة من الأرض من عصر الجليد؛ أي في زمن بين 15 ألف سنة وثلاثين ألفا، وعند أحد العلماء الفرنسيين أن الإنسان في العصر الحجري كان يستعمل الخشب - إلى جانب الحجر - في صنع أدواته. •••
وقد وقفت البعثة الأثرية الجوية الإنجليزية فوق قمة جبل إفريست، أعلى جبال هيمالايا الهندية على أن هذه الجبال كانت في عصر الجليد في تطور، وعلى أن إنسان عصر الحجر كان يسكن في كهوفها، ووجدت سهامه وقواطعه الحجرية وعظام الحيوان المنقرض. (1) عناصر حجم الإنسان وتاريخ الإنسان وتفوقه
يتألف جسم الإنسان الذي وزنه 71 كليوجراما من 10 جالونات من الماء و25 رطلا من الكربون و7 أرطال من الكلس، و3 أرطال من الفسفور، وأوقية من ملح الطعام، ونصف أوقية من الحديد، وربع أوقية من السكر، وخمسة أرطال من النيتروچين، و14 رطلا من الأيدروچين والأوكسيچين الخالص من الماء، ثم قليل جدا من البوتاس والكبريت والمغنسيوم والفلورين واليود.
هذا هو الجانب المادي للإنسان. أما الجانب الآخر فهو العقل أو الروح أو النفس، وقد تباينت آراء العلماء في أنها شيء واحد أو أشياء مختلفة وفي وصف كل منهما. ويوصف العقل بأنه نشاط خلايا الدماغ ونتيجة حركاتها. وفي الدماغ، وهو شيء مادي في الرأس، مركز الذاكرة والحواس.
أما السطح الأعلى الخارجي لدماغ الإنسان، فيغطيه غشاء يعرف بالمادة السنجابية، سمكه بين عشر البوصة وربعها. أما غشاء دماغ الحيوان فواقع في باطن دماغه.
هذا ويبدو أن الشعر كان يكسو جسم الإنسان البدائي، وكان الشعر يغطي الفيل ووحيد القرن (الكركدن) اتقاء للبرد في عصر الجليد وعند القطب.
لخص «أناتول فرانس» تاريخ الإنسان في كلمات ثلاث: «إنه يولد، ويتعذب، ويموت.»
وافترض العالم الطبيعي «آرثر كومبتون» الحائز لجائزة نوبل - تيسيرا وتلخيصا لفهم تاريخ حياة البشر على الأرض - أن الإنسان عاش عليها عامين، وبعد أن تساءل كيف أمضاهما الإنسان، أجاب على هذا قائلا:
منذ بدء العام الأول حتى بدء الأسبوع الماضي مضى يتعلم كيف يصنع من الأغصان والأحجار معاول وأدوات. وفي الأسبوع الماضي تعلم كيف ينحت الأحجار ويجعل منها كهفا يأوي إليه. ثم في أول من أمس استطاع أن يبتكر رسوما وأشكالا تعبيرا عن آرائه ومشاعره.
وأمضى النصف الأول من أمس في اختراع الحروف الهجائية. أما النصف الثاني فقد أنفقه اليونانيون (الإغريق) في إنشاء فنونهم ووضع علومهم، وقد سقطت روما ليلة أمس. وفي الساعة الثامنة والربع من صباح اليوم وضع جاليليو نظرياته الفلكية، وفي الساعة العاشرة أعدت أول آلة بخارية. وفي الساعة الحادية عشرة نظمت قوانين الكهربائية والمغناطيسية.
وبعد نصف الساعة ولجت الكهرباء باب الصناعة فاستحدث التلغراف والتليفون، وفي الساعة الحادية عشرة والدقيقة الأربعين كشفت أشعة إكس. ومنذ خمس عشرة دقيقة طفقت السيارة تجري في الطريق، ومنذ خمس دقائق صعدت الطيارة إلى الفضاء. وفي الدقيقة الأخيرة اخترع الراديو وملأ صوته الآذان. والآن - وقد انتصف النهار - يجاهد العلم في سبيل توحيد البشرية المفككة، وجمع أطرافها المتنافرة.
وعند الأستاذ رينيه تنفيان العالم الفرنسي أن الأرض كان يسكنها منذ عشرين ألف سنة أو أكثر نوع من الإنسان المتفوق (السوبرمان)، وقد زال هذا الجيل من الإنسان على أثر نكبة، وكانت حضارته وعلومه الطبيعية والفلكية من أسمى طراز، ذلك أن ما خلفته لنا الآثار والأساطير قليل جدا مما كان للأقدمين. هذا إلى أن عصر الجهل الذي أعقب السوبرمان قد أضاع الأكثر، وخلط الباقي بالشعوذة والسحر واضطهد المفكرين.
الفصل الثامن
التطور والتدهور
(1) التطور
لعل مما يرتبط بموضوع «تاريخ ما قبل التاريخ»، تسلسل مراتب الحياة كما أوضحناه في عصر البرمائيات والزواحف والقردة والإنسان الناقص إلى الإنسان التام، وتقلب الحياة الأرضية من البرودة إلى الحرارة، هذا كله مندرج في «مذهب التطور». والتطور هو الانتقال من طور إلى طور؛ أي من حال إلى حال. وعند بعض علماء اللغة والصرف أنه لا يجوز اشتقاق «تطور» من «طور»، ونحن نخالفهم في هذا إذ ليس ما يمنع هذا الاشتقاق ولو كان غير سماعي. وكيفما كان الأمر فإن الأشياء إما أن تحدث فجأة، فيسمى حدوثها «ثورة» أو «انقلابا»، وإما أن تتوالد وتتكاثر وتتسلسل وتتدرج وتتغير إلى الزيادة والنمو وإلى الارتقاء والأحسن رويدا وتدريجا، فيسمى هذا «تطورا» وإما أن يكون الانتقال والتغيير إلى النقصان والضمور أو الزوال فيسمى «تقهقرا» أو «تدهورا».
وعند الأستاذ چيمس ساللي أن التطور هو التاريخ الطبيعي للكون، شاملا الكائنات العضوية بادية في الأساليب الطبيعية كعملية ميكانيكية. أما في المذهب الحديث فإن التطور يعني أن تدرج نظام الكون يبدو كنتيجة طبيعية للمادة الأولية وقوانينها، ذلك أن جميع مراتب الحياة على الأرض هي نتيجة طبيعية لعمليات طبيعية معينة مندرجة في التغيير التدريجي للأرض. ويعد تقدم البشر في التاريخ وقبل التاريخ النتيجة العليا والمعقدة جدا للتطور الطبيعي والعضوي، ومن هنا تدخلت نظرية التطور الحديثة في شئون الفلسفة والأرض والشمس والنظام الشمسي وتقدم العالم والعلوم الكيماوية والعضوية وغير العضوية وطبقات الأرض، وأصول السلالات البشرية والدراسات التاريخية، ذلك أن الناس كانوا منذ أبعد العصور معنيين بمنشأ الكون وظواهره ومواده وتفاعلاتها.
ومن العجب أن نظرية النشوء الهندية تماثل نظرية التطور، ذلك أن «يراهما» معدود أنه كائن خالد قائم بنفسه، يبين نفسه للعالم تدريجا بأشياء مادية من الأثير والماء والنار والأرض والعناصر، وهو يشمل روح العالم.
أما فلاسفة اليونان الطبيعيون الأقدمون من أمثال ثيلز وأنا كسيماندر وأنكسيمنز، فيذهبون إلى أن الأرض شيء طبيعي وتغييراتها طبيعية وإلى أنه ليس للقوة الإلهية دخل فيها، وأنها أشكال منوعة لمادة واحدة أصلية أو قل إنها قد نشأت شكلا مؤلفا من العناصر العديدة.
هذا وقد حاول الكثيرون معالجة هذا الموضوع في العصور اليونانية والمسيحية والقرون الوسطى، وممن عرض له من علماء الإسلام الفارابي وابن سينا، ولعل فلاسفة اليونان القديمة كانوا أول من عالج البحث في فلسفة التطور، فقد أشار إليه أو تحدث عنه أناكسيماندر وإمبدوكليس وزينوفينيس وأرسطو ولوكريتس. فقد ذهب زينوفينيس إلى أن ما رآه من بقايا الأحافير الحيوانية المتحجرة يدل على وجود حيوان قديم قد انقرض، الأمر الذي ينبغي أن يحمل على دراسة أصلها وحياتها عوضا عن النظريات والمنطقيات.
ثم جاء «لوكريتس» الفيلسوف الشاعر، فذهب إلى أن غريزة الافتراس عند الضواري هي التي أعدت لها أسباب البقاء في جميع الأجواء والأوساط، وأما الحيوان الأليف فقد أبقاه حاجة الإنسان إليه، وأن الأجناس تتعاقب ولا يبقى إلا أقواها. (1-1) فلسفة سقراط
وثمة أشياء تتصل بالتطور في فلسفة «سقراط» الذي ولد في سنة 470 قبل الميلاد، ونشأ على ما كان يشب عليه الأثينيون من تلقي الموسيقى وتعلم الألعاب الرياضية، ودرس على السفسطائيين متعلما التنجيم والهندسة والفلسفة واللهجات. غير أنه لما ضاق ذرعا بمذاهب السفسطائيين ونظرياتهم، آثر أن يدرس التصورات والتأملات والقضايا المنطقية التي تدور حول الوقائع بدلا من دراسة الوقائع ذاتها. وقد امتاز بمتابعته تحليل كل ما يقنع به هو الناس أن يقوله، وبالصبر وبشجاعته حين كان جنديا. وقد آثر أن لا يشتغل بالسياسة، آبيا أن يسوغ محاكمة بعض القواد وأن ينفذ الأمر الصادر باعتقال الأبرياء.
ويعتقد هذا الفيلسوف أنه تلقى رسالة من الله، وأنه يبحث عن رجل أكثر حكمة وأن غايته هي أن ينهض بمواطنيه. ولما حوكم، لما عزي إليه من إفساد الشبيبة والأدلاء بآراء دينية شاذة وبإغفال آلهة أثينا أبى أن يدافع عنه أحد، ومضى يخطب قضاته خطبة كانت مثالا للبساطة. فقد أوضح فيها حياته مبينا أن ما أصابه من الاضطهاد والمحاكمة إنما يرجع إلى الحقد السياسي. ولما صدر الحكم عليه بالموت طلب حكام أثينا إليه أن يقترح عقابا آخر بديلا من الموت، طبقا لما كانت تجري به العادة من سؤال المحكوم عليهم أن يقترحوا عقوبة أخرى، فأبى أن يقترح شيئا وانتهى الأمر بأن سجن أياما ثم شرب كأس السم ومات.
وعند «سقراط» أن الفضيلة هي المعرفة وأن الرذيلة هي الجهل، ومن ثم كانت الطيبة الصادقة هي التي تستند إلى المعرفة التامة بالطبيعة ومواهب الروح الإنسانية. وعلى هذا كان الرجل الشجاع هو الذي يعرف ما ينبغي وما لا ينبغي خشيته. (1-2) التطور في فلسفة أرسطو
ولد «أرسطو» في استاجيرا المقدونية في سنة 384ق.م وتوفي في سنة 322ق.م، وقد احترف الطب في مفتتح حياته العملية وله فيه كتاب يسمى «الصحة والمرض»، ثم التحق بأستاذه «أفلاطون » ولبث معه عشرين سنة في أثينا. غير أنه بينما كانت فلسفة «أفلاطون» تقوم على التصورات المستندة إلى الأفكار والتأملات؛ أعني على التفكير العقلي والمنطق، فإن فلسفة «أرسطو» يبدو أنها تقوم على المشاهدات والمحسوسات التي قوامها التجارب والمقارنات.
هذا وقد اختار «فيليب» ملك مقدونيا «أرسطو» مربيا لابنه «الإسكندر»، الذي كان يساعد أستاذه بالمال والرجال في جلب عجائب الحيوان والنبات لدراسة طبائعها. وقد استنتج أرسطو من دراستها أن ثم خطا وراثيا متصل الحلقات، فهو يصل بين (البوليب) ذلك الحيوان البحري الرقيق وبين الإنسان. ومن حكم (أرسطو) أن الفرق بين العالم والجاهل كالفرق بين الحي والميت، وأن الأمل حلم اليقظان، وأن لا فضيلة إلا في التوسط. وكان يقول: لنحفظ حب سقراط وأفلاطون، ولكن لنحب الحقيقة أكثر منهما.
هذا وقد شارك (أرسطو) في جميع العلوم والمعارف لعهده، ويعد واضع أساس علوم النفس والطبيعة والأعضاء، والممهد لنظرية التطور بكتابه (تاريخ الحيوان). ومن كتبه (أورجانون) في علم المنطق، و(علم الأخلاق) و(علم السياسة). وقد نقل الفيلسوف العربي (ابن رشد) المتوفى في سنة 595 هجرية فلسفة أرسطو الملقب بالمعلم الأول، إلى العالم وأوروبا. (1-3) أقوال أخرى للفلاسفة
من هؤلاء الفيلسوف المؤرخ ثاكسيديديس الأثيني الذي ولد في سنة 460ق.م من أسرة غنية في تراقيا. وكتب ثمانية كتب عن الحرب التي قامت بين أثينا واسبرطة طوال 27 سنة إلى سنة 44ق.م، وقد دون تاريخه في دقة ونزاهة وبعد تحر لمواقع المعارك وأشخاصها، وفي وصفه يتجلى مذهبه في الحياة الإنسانية وأشخاصها.
أما في عصر النهضة الأوروبية، فعند «برناردينو تبيسيو» أن الدنيا نتيجة المادة الهالكة والحرارة والبرودة. وعند جوردانو برونو أن الدنيا تخرج روحها بإخراج أشكال أكثر تماما، نتيجة المادة القابلة للتشكيل كالعجين.
وعند «سبينوزا» أن هناك درجات للأشياء تبعا لتعقد تركيبها، وأن الإنسان يفترق عن باقي الطبيعة في الدرجة لا في النوع.
وعند «إيكليس» أن الإنسان خرج من الكهف المظلم إلى النور
وعند الفيلسوف «ديكارت» في القرن السابع عشر، أن العقل الإنساني هو كل شيء، وكل قوة، وأن قوانين الطبيعة ثابتة، وأنه ليس هناك قوة سماوية تسيطر على الحياة الإنسانية، وأن الكشف عن القوانين الطبيعية هو غاية العلم. هذا وفي الجزء الثالث من كتاب «ديكارت» «فيلسوفيا برنشيبايا» أن الدنيا لم تخلق بطريقة ميكانيكية بل إنها كائن طبيعي.
وعند «فونتينيل» أن النهضة الغربية ليست إلا مسايرة للحضارتين اليونانية والرومانية.
وعند «فولتير» أن الإنسان هو الذي يتعلم ويفكر ويتحكم في سير الحياة ويمضي فيها قدما، وأن الحروب والديانات هي التي تعوقه عن التقدم. (1-4) كانت وهيچل
أما «إيمانويل كانت» الألماني الذي ولد في كنجزيرج في 22 أبريل عام 1724 من أسرة فقيرة، جعله فقرها يعول على نفسه في دراسة العلوم الطبيعية والحسابية والفلسفة إلى أن توفي في 12 أبريل 1804، بعد أن امتاز بالبحث الفلسفي العميق؛ فإن عنده أن ما يقع عليه الحس هو اتحاد عاملين: (1) إحساس مادي مستقل عن العقل. و(2) بعض أنواع المعرفة الدفينة في العقل ذاته وهو ما يسميه المقولات، وهذه سامية جدا بمعنى أنها لا تتلقى من التجارب، بل إن التجارب كلها تأتي منها. وعلى هذا فإننا لن نعلم العالم الحقيقي، فإن ما نعلمه عن العالم إنما يجيء إلينا بعد أن تصنعه المقولات وحين تصبح ظاهرة من الظواهر.
وعلينا أن ندرس عالم الأخلاق إلى دراستنا عالم العالم. علينا أن نطيع عقولنا لا حواسنا وأن تكون إرادتنا حرة، وأن نمضي في البحث من أجل المعرفة.
أما «چورچ ويلهيلم فريدريك هيچل» الألماني المولود في 27 أغسطس 1770 في شتوتجارت، المتوفى في 14 نوفمبر 1831، بعد أن امتاز بنظرياته وبحوثه في الفلسفة المثالية؛ فإن عنده أن طبيعة الكون تتألف من ثلاثة أجزاء: الشيء الثابت المطلق أو الحالة المؤكدة، ونقيضها، واتحاد الاثنين.
وبينما يرى «هيچل» أن الكون مستقل عن أي عقل، فإنه ليس بذي معنى إذا ما جردناه من جميع العقول، ومن ثم كانت الحقيقة عقلية أو روحية. وهو يعبر عنها بالفكرة، وعنده أن الفكرة الكونية مطلقة. وليس لشيء معنى ما إلا إذا قوبل بنقيضه، فالليل والنهار يؤلفان وحدة.
وللكون أجزاؤه الثلاثة: المنطق، وهو علم الأفكار الخالصة؛ وفلسفة الطبيعة، وهي تقدم العالم الحقيقي؛ وفلسفة الروح أو العقل، الذي هو باتحاد الاثنين يؤلف تقدم العالم المثالي كما يصوره علم الأخلاق والدين والفن. ومن ثم كان المطلق ينظر إليه كفكرة خالصة. ثم تمضي من هذه المرتبة إلى نقيضها ثم تنتهي إلى اتحاد الأصل والنقيض. (1-5) مذهب التطور على يد داروين وأنصاره
ولد شارلس روبرت داروين في 12 فبراير سنة 1809 ومات في 19 أبريل سنة 1882، ودفن في مدافن عظماء بريطانيا في وستمنستر آبي في العاصمة الإنجليزية. كان أبوه روبرت داروين طبيبا وعالما طبيعيا. وقد تلقى شارلس دراسته في أدنبره وكامبردچ، وكان يراد توجيهه إلى الدراسة الدينية، غير أنه آثر دراسة العلوم الطبيعية منذ كان يدرس في كامبردچ، وقد وفق في سنة 1831 إلى الالتحاق بعمل وثيق الصلة بهذه العلوم في السفينة «بيچل»، فأتيح له أن يزور بعض جزر المحيط الأطلسي وبعض نواحي أمريكا الجنوبية.
وفي يوليو 1837 مضى جديا في دراسة تقدم الأنواع، وفي 1838 عين سكرتيرا للجمعية الچيولوچية البريطانية، وفي 1839 بنى بابنة خاله «إماويدجود»، وفي 1841 اعتزل منصب السكرتير. وفي 1842 أقام في بلدة «داون» في إقليم كينت الإنجليزي، وبقي فيها إلى أن رحل عن الدنيا مذكورا بنظرياته في التطور وتقدم الأنواع واختيار الأصلح.
وعند «داروين» أن الأنواع الكثيرة للمخلوقات الحية لم تكن من نتائج أعمال نشوء خاص، وهو ما كان المذهب الشائع المأخوذ به يومئذ، بل إنها على نقيض هذا، قد جاءت من أنواع خاصة مضت قدما مطردة السير متابعة الحياة استنادا إلى ما احتفظت به الطبيعة لها من أوساط ملائمة، وعناصر طيعة لها ومعينة إياها على التقدم والنهوض والازدهار والتلون والتنوع، على حين أن كل انحراف إلى اتجاه غير صالح لهذه الأنواع والأصول لا بد أن يفضي إلى فنائها، فالأصلح للحياة والبقاء هو الذي يبقى؛ ومن ثم جاءت نظرية بقاء الأصلح.
وقد أطلق «داروين» على هذا المعنى اسم «الانتخاب الطبيعي». وفي 24 نوفمبر 1859 طبع داروين كتابه في «أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي، أو حفظ الشعوب الممتازة في كفاحها من أجل الحياة والبقاء»، وقد تناول في الفصول الثلاثة الأخيرة من هذا الكتاب بحث قضية التطور. وفي 1868 أخرج بحثه عن تباين أنواع الحيوان والنبات تحت التدجين، موضحا تجاربه عن المادة وما يستند إليه في دعم كتابه سالف الذكر، ومنشئا نظرية تخلق الجنين بصفات والديه والتكوين التناسلي العام، ذاكرا أن كل خلية في الجسم ممثلة في خلايا الجرثومة أو النطفة الملقحة، ومن ثم تؤدي مهمتها في التوالد وإخراج صورة أخرى مطابقة للأصل.
وفي 1871 أخرج كتابه عن انحدار الإنسان والانتخاب فيما يتصل بالجنس، متحدثا عن الأصول والسلالات التي ينتمي إليها الإنسان وبعض أنواع القردة، من غير أن يقرر في جزم أن الإنسان متسلسل من القرد، فقد كان حسبه أن يبين ما هناك من التشابه بين شبيهين للإنسان، وأن يوضح ما سبق أن تحدث عنه في 1858 في نظرية الانتخاب الجنسي. هذا وقد مضى «داروين» يعمل في حديقة داره في «داون» مجربا ومدونا ما أسفرت عنه التجارب من النتائج وخاصة فيما يتصل بالنبات. وقد كان همه من تجاربه أن يوضح الحقائق كما تبدو له على الصورة التي يشهدها، معنيا بإقامة الدليل في غيرما تعصب، غير حافل بأن يدرس سر الحياة نفسها.
وقد خلف خمسة من الذكور بينهم ثلاثة من العلماء الباحثين الممتازين.
ولقد أحدثت نظريات داروين وبحوثه ثورة علمية واستثارت حربا قلمية، فرمى الرجل بالإلحاد ومكايدة العقيدة الدينية. ولئن كانت هذه الحملة قد خفت حدتها في القرن الحالي، فإنه لا يزال لداروين خصوم من العلماء ورجال الدين، ولا يزال للنظريات الداروينية نظريات أخرى تناقضها، بل لقد بلغت الحملة عليها حدا جعل ولاية تينيسي في الولايات المتحدة الأمريكية تحرم تدريسها في المدارس وإخراج أستاذها منها، ولكن المحكمة العليا الأمريكية قضت بأن هذا القرار باطل وغير دستوري، على أن حسب الرجل أنه أعد الأفكار لشيء جديد جدير بالتمحيص.
خلاصة النظرية الداروينية
عند داروين والداروينيين أن القوى الفعالة في تطور الأحياء هي: (1)
إخلاف الأحياء لنسل كثير؛ أي إن الكثير من الحيوان والنبات، لا يتسنى له من الغذاء والمكان ما يكفل له بلوغ مدى الحياة. (2)
هذا يفضي إلى تنازع البقاء، وتنازع البقاء يفضي إلى: (أ)
زوال الضعيف وبقاء الأقوى. (ب)
وفي الوقت ذاته تظهر صفات جديدة تساعد أصحابها على الفوز في معترك الحياة، فيبقى صاحب الصفة، صفة التباين الجديدة، كما تبقى الصفة مورثة نفسها للأجيال التالية.
ألفريد والاس
كان «ألفريد راسيل والاس» من علماء التاريخ الطبيعي المعاصرين لداروين، فقد ولد والاس في 8 يناير سنة 1823 وقام برحلات إلى منطقة الأمازون.
كذلك وفق إلى الحصول على مجموعات قيمة من الحشرات في أرخبيل الملايو، وهناك درس حياة الحيوان والنبات، كما أنه رسم الخط الفاصل المعروف باسم «خط والاس»، الذي يفصل بين الشرق وبين الجهات الأسترالية. وفي بورنيو دون مقاله المشهور عن القانون الذي يبين نوعا جديدا، صائغا نظرية داروين في بقاء الأصلح. ولما بعث والاس إلى صديقه داروين بنسخة من هذا المقال، تبين فيها أنها نص للنظرية، وتلا داروين هذا النص مع توضيح له أمام جمعية لينيان في أول يوليو سنة 1858، وقد آثر والاس أن يتعاون مع داروين في دراسة نظرية التطور، فأخرج في سنة 1889 كتابا عنوانه «الداروينية» متحدثا عن هذه النظرية، وقد مات في سنة 1913.
توماس هاكسلي
وجاء «توماس هنري هاكسلي»، وهو بريطاني أيضا كداروين وزميله والاس، فأيد نظرية التطور وأصل الأنواع، غير قانع بما تقوله من أن التطور عملية من عمليات التقدم الطبيعي ليس غير، بل إن هناك قفزات مفاجئة قد مضت بهذا التطور حثيثا. وقد مهد بحثه هذا إلى نظرية النشوء الفجائي.
وقد ولد هاكسلي في 4 مايو 1825 في أيلنج، واعتمد على نفسه في التعلم وتوفي في 29 يونيو 1895 بعد أن أخرج الكثير من المقالات والبحوث في علم وظائف الأعضاء، مبينا أنه ليس هناك تدرج من الأسفل إلى الأعلى، بل إن هناك تطورا تاما أو ناقصا لكل نوع، ومما ساعده على دراساته التحاقه بخدمة البحرية في منصب الجراح، وفي سفينة للمساحة، ثم اشتغاله بتدريس العلوم الچيولوچية والطبيعية والعضوية والمورفولوچيا؛ أي علم هيئة الأجسام الحية وتركيبها.
وعند «لوك» أن الدنيا نتيجة عمل إنشائي، ذلك أن المادة محدودة ومخلوقة وهي - إلى هذا - عاجزة عن الحركة المنتجة ولو قيل إنها خالدة.
وعند «هيوم» في كتابه «محادثة عن التاريخ الطبيعي»، وعند العلماء الإنجليز في القرن الثامن عشر أن الدنيا تشبه تكوين الحيوان أو النبات. وعلى هذا فإنها قد وجدت بالتوليد لا بالخلق.
وقد عالج هذا الموضوع علماء فرنسا وألمانيا ك: شوبنهاور، وكانت الذي تحدثنا عنه قبلا، ثم شيلينج، وبوفون، وهارفي، وكومت، وهكسلي، وسانلي.
التحولات الفجائية ومراحل ما قبل التاريخ
وعند «لوتسي» الهولندي، أستاذ علم التناسل في كلية العلوم في جامعة فؤاد الأول المصرية سنة 1931، أن التحولات الفجائية هي نتيجة التنغيل فتظهر الصفات الكامنة.
هذا وقد قام الدكتور مورجون الأمريكي وزملاؤه وتلاميذه، الذين اشتهر بينهم «مولار» الأستاذ في جامعة تكساس الأمريكية بإنشاء المعامل والمستنبتات لتربية ذباب الفاكهة الكثير البيض، مستحدثين تحولات فجائية في هذا الذباب بتوجيه الأشعة السينية - إكس - إلى الخلايا التناسلية في دور خاص من أدوار انقسامها، فكثر عدد التحولات الفجائية.
لئن كانت «تينيسي» إحدى ولايات جمهورية الولايات المتحدة قد حرمت تدريس نظرية التطور الداروينية، وجاءت المحكمة العليا الأمريكية فقضت ببطلان هذا القرار، وأن هناك ما يعزز هذه النظرية التي نادى بها داروين وباشوفن ومورجان على صورة علمية، فعند «چورچون» أن ما قبل التاريخ أقسام ثلاثة: أولها عصر الهمجية. وثانيها البربرية. وثالثها المدنية. وأن لكل عصر مراحل ثلاثا: (1) المرحلة السفلى. و(2) الوسطى. و(3) العليا، وأن ارتقاء الإنسان في إنتاج وسائل التغذية والتحكم في وسائط الحياة، هو ما يميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية.
ففي عصر الهمجية، وهو الأول، كانت المرحلة الأولى للحياة الإنسانية هي مرحلة الطفولة؛ إذ كان الإنسان لا يزال يعيش حيثما ظهر. أعني في الغابات الحارة وشبهها، معتصما بالأشجار خشية الضواري ولحاجته إلى اتخاذ فاكهتها وبندقها وجذورها طعاما له. وبدأ يخرج أصواتا هي أصول الكلمات الناطقة ومبادئ اللغة.
وفي المرحلة الثانية؛ أي الوسطى، آثر الإنسان أن يمشي على الأرض وعلى الشواطئ، فعرف السمك وعرف النار التي يشوي عليها السمك، ووسعه أن يسير مع مجاري الأنهار منتقلا من مكان إلى آخر، مستخدما النار إلى شواء السمك، في طهي الجذور والخبز في التراب الساخن أو أفران الأرض متخذا من الحجارة أدوات غير مهذبة، وهي أدوات العصر الحجري الأول «البالايوليتيك»، ومبتدعا السلاحين الأولين: الحربة والنبوت، وبهما عرف القنص والصيد وتذوقه.
وأما المرحلة الأخيرة، العليا: فقد ابتدع الإنسان فيها القوس والسهم والوتر بعد تجارب عقلية وصعاب استغرقت الألوف من السنين، وأصبح الصيد أهم وسائل الإنسان إلى الطعام اليومي، وشرع الإنسان في سكنى القرى ومراقبة الطعام وإعداد الأوعية الخشبية، ونسج لحاء الأشجار باليد وعمل السلال من قصب الغاب واللحاء، وتحديد الأدوات الحجرية، فإن النار والفأس الحجري كانا من أدوات الحفر، كما كانت أخشاب الغابات صالحة لبناء الدور.
أما عصر البربرية، وهو العصر الثاني: فتبدأ مرحلته الأولى منذ عرف الإنسان الطين واتخذه غطاء للخشب والأوعية وقاية لها من النار، ثم أدرك أن النار تجعل الطين ذاته يصلح كأوعية. ومن هنا عرف الفخار وفي هذه المرحلة أخذ الناس يتباينون أقواما تبعا لموارد الأرض الطبيعية، كما شرعوا يدجنون الحيوان ويعرفون النبات في الدنيا القديمة: عرف الحيوان المستأنس والحبوب الزراعية حين كانت أمريكا لا تعرف غير حيوان اللاما والقمح.
وفي المرحلة الثانية، الوسطى: أخذ الشرق يدجن أنواع الحيوان، أما الغرب فقد أخذ يزرع الحبوب ويرويها، ويستعمل الحجارة والطوب المجفف في الشمس في البناء، بينما كان هنود شرقي المسيسيبي لا يزالون في مرحلة البربرية السفلى زارعين مساحات صغيرة من القمح والبطيخ ونبات الحدائق، مقيمين في دور خشبية وحقول مسورة، وكان سكان الشمال الغربي الأمريكي وعلى نهر كولومبيا خاصة في مرحلة الهمجية، وكان هنود البويبلو في المكسيك الجديدة والمكسيكيون وسكان أمريكا الوسطى والبيروفيون في مرحلة البربرية الوسطى، وكان عندهم من الحيوان الأليف اللاما والديك الرومي وبعض الطيور، وبعض المعادن عدا الحديد.
وقد اتسمت مرحلة البربرية الوسطى في الشرق بتدجين الحيوان اللبون ومكتنز اللحم، في حين أن زراعة النبات تأخرت طويلا، وأن استئناس أنواع الحيوان وتحسين نوعه واقتنائه قطعانا، هو - كما يبدو - الذي فصل الآريين والساميين عن الأقوام البربرية، وأن أسماء الحيوان مشتركة بين لغات الأوروبيين ولغات الآريين والساميين، في حين ليس ثمة اشتراك في أسماء صنوف النبات.
وقد أدى اقتناء القطعان إلى الحياة البدوية كما بدت عند الساميين في سهول الدجلة والفرات، وعند الآريين في سهول الهند والدون والدنيير، كما أن تدجين الحيوان بدأ عند ضفاف الأنهر القريبة من مراعي الماشية، والتغذية باللحم واللبن ساعدت الآريين والساميين على الارتقاء، يدل على هذا أن هنود البويبلو الذين سلف ذكرهم، كانوا يأكلون النبات، وكانت دماغهم أصغر من دماغ خلفائهم في المرحلة السفلى البربرية حين أكلوا لحم الحيوان والسمك.
وفي المرحلة العليا: بدأ صهر الحديد واخترعت حروف الكتابة، التي استخدمت في التدوين والرسائل كما حدث في عهد أبطال الإغريق والقبائل الإيطالية التي تقدمت تأسيس روما، كما عرف المحراث الحديدي، وكشفت الغابات واستصلحت للزراعة وللرعي في مساحات كبيرة، وابتدع الفأس والشفرة الحديديتان، فزاد عدد السكان.
وقد وضعت أشعار إلياذة هوميروس في هذه المرحلة العليا البربرية، ففيها ورد ذكر الأدوات الحديدية المهذبة والمنفاخ وطاحونة اليد والعجلة، وتجهيز الزيت والخمر والعربة والسفن والمدن المسورة والقلاع.
أما في العصر الثالث، عصر المدنية؛ أي الحضارة التي عرفت الأسر المالكة، فقد توسع الإنسان في الزراعة وإجادتها، كما حذق الصناعة وبرز في الإنتاج العقلي بروزا مطرد التقدم منذ بدأت الحضارة إلى اليوم.
طبائع الحياة الثلاث
وعند الفيلسوف العصري المجدد «برچسون» في كتابه «التطور الخالق» أن الحياة ثلاثة فروع: أولها فرع النبات وطبيعته الخمود، وهو لا وعي له ولا حركة ومن ثم لا دراية ولا تردد عنه؛ وثانيها فرع الحيوان الدنيء وأبسطه الحشرة وأرقاه النمل والنحل، وطبيعتها الغريزة، وهي قليلة التردد، ومن ثم كان لها وعي ولكنه ضعيف جدا؛ أما ثالثها فهو نوع الحيوان العالي وأسمى مراتبه الإنسان وطبيعته العقل، ومن ثم كان له وعي وتردد.
ولما كانت الحياة تشتعب هذه الأنواع الثلاثة، كان في الإنسان، وهو كائن حي، هذه الطبائع الثلاث: الخمود، والغريزة، والعقل. وكانت الحياة ترمي - وهي تسير متخطية المادة والعوائق - إلى تحقيق غاية معينة.
وعند «ماكوستون» أستاذ البيولوچيا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة أنه لما بدأ الناس يظنون، على أثر دراستهم للآثار المتحجرة، أن في نشوء أنواع النبات فعلا تطوريا وتدريجيا؛ قالوا: إنها نشأت بفعل التطور من أحياء بسيطة ذات خلية واحدة. وهذا ما يعرف عند طائفة كبيرة من الناس «بنظرية التطور» الآن. ولكنه في عرف السواد من علماء الأحياء «حقيقة التطور»، وهم لا يحسبونها «نظرية» فقط؛ لأن الأدلة التي تؤيدها كثيرة مستمدة من الچيولوچيا «علم طبقات الأرض» والمورفولوچيا «علم شكل الأحياء»، وعلم تفرق النبات والحيوان وعلم الأجنة، ومن التجارب العلمية في استحداث أصناف جديدة من أنواع النبات والحيوان الداجن.
نمو الجنين يؤيد النظرية الداروينية
ومما اتخذ دليلا على مذهب التطور أنه حين تستقر الخلية المذكرة اللاقحة في الرحم، تنقسم نصفين، وكل منهما نصفين، وهلم جرا، إلى أن تتألف مجموعة من الخلايا تتخصص في الجنين إلى خلايا الدم وألياف العضل ونسيج العظام، وفي أثناء الانقسام والتخصص تتخلف خلايا صغيرة تحتفظ بمهمة التناسل، وإبقاء مادة الوراثة أو النواة الجرثومية في شكل خيوط يبلغ عددها في النواة الجرثومية للإنسان 48، ينتقل نصفها من الوالدين إلى المولود، وهذا النصف قد يكون هو الذي ينتقل في حمل آخر أو يكون نصفا آخر، وقد يكون حاملا لأكثر الصفات العقلية والشكلية والبدنية لأحد الوالدين أو كليهما أو لأقلهما. ومن هنا يكون التفاوت بين المولود وبين والديه وبين إخوته كبيرا أو صغيرا والمشابهة بينه وبينهم كثيرة أو قليلة، وهذا خليق بأن يفسر لنا انتقال المواهب والنقائص والأمراض لا بين الوالدين وولدهم وحسب، بل بين الأجداد والأحفاد، وتوارث أسباب طول العمر أو قصره أو اعتداله في الأسر، ووجود المماثلة التامة بين توءمين من جنس واحد كذكرين أو أنثيين متى كانا ناشئين عن انتصاف خلية واحدة.
هذا وليس في وسع العلم إلى الآن أن يتحكم في تغليب الصفات الممتازة على غيرها في المادة الجرثومية عند تخلقها، مع أن التهجين قد نجح في الحيوان والنبات.
على أن النواة الجرثومية قد يطرأ عليها تحول مفاجئ ويجعلها تنقل إلى الجنين صفات أخرى غير صفات والديه أو بعضها. هذا ويقال إن مشابهة الولد لأبيه ترجع إلى أن الأم أقوى من الأب. أما مشابهته لأمه فترجع إلى نقيض هذا أي إلى أن الأب أقوى من الأم. والقوة هنا إما أن تكون بدنية أو عقلية أو هما معا.
وتقول «مارجريت شباجلبرت» في كتابها «قصة جنين»: «إن حياة الإنسان تبدأ من «نطفة مذكرة دقيقة - تبلغ من التناهي في الصغر أن لو جمعت كل النطاف اللازمة لإنتاج الجيل المقبل بأمريكا الشمالية لوسعها رأس دبوس - هذه النطفة تصطدم في رحم المرأة ببويضة كاملة النمو، فينشأ من الإخصاب - أي امتزاج النطفة بالبويضة - شخص جديد. وفي الشهر الأول من حمل الجنين، عوضا من أن تنشئ المضغة، العضو على الطراز الذي يستعمله الرجل دفعة واحدة. تنشئه على النمط الذي يوجد في حيوان أدنى كثيرا من الإنسان كالسمك مثلا، ثم تهمل هذا العضو وتنشئ عضوا آخر كالذي يستعمله حيوان أرقى كالضفدع ثم تعود فتهمله، ومن ثم فلعلها تنشئ عضوها البشري من أطلال هذه الأعضاء السابقة جميعا. ويعلل العلماء هذا التطور العجيب الشائع في نماء كل مراتب الحيوان العليا بأنه تكرار سريع لتاريخ التطور العضوي الطويل. وفي الشهر الثاني تخضع الجوارح لسلسلة مماثلة من التطورات؛ إذ تستطيل براعمها ويتفلطح الطرف المطلق لكل منها، حتى يصبح في مثل صفحة المجداف، ومن هذه الصفحات تتكون راحات الأيدي وأمشاط الأقدام.» •••
ومن آيات التطور أن جواد اليوم ذا الحافر الواحد يرجع أصله إلى جواد ذي أصابع خمس.
التطور والشئون الاجتماعية
عند بعض المشتغلين بالشئون الاجتماعية أن نظرية التطور تصلح علاجا لبعض أمراض المجتمع وعيوب التكوين الإنساني. ذلك بأن تعمد الحكومات والجماعات الإصلاحية إلى منع الذين أصيبوا، عن طريق الوراثة بالأمراض والإجرام، عن التناسل، وذلك بحقنهم بمواد خاصة ثم إلى إيجاد طراز الإنسان الممتاز بدنا وعقلا «السوبرمان»، وإلى التقريب بين الطبقات. (2) التدهور
رأينا فيما تقدم كيف نشأت نظرية «التطور»، ذاكرين في بداية عرضها أنه قد يكون انتقال الأشياء وتغييرها إلى النقصان والضمور أو الزوال، فيسمى هذا الانتقال «تقهقرا» أو «تدهورا»، عوضا من أن يكون إلى الزيادة والنمو والارتقاء، وإلى الأحسن كما هو المشاهد في «التطور» الاصطلاحي الفني.
وقد أشار الفيلسوف اليوناني القديم المعروف «أفلاطون » إلى شيء من هذا التدهور كما سيجيء بعد. (2-1) فلسفة أفلاطون
ولد أفلاطون في سنة 427ق.م في جزيرة أچيفا وتوفي في سنة 347ق.م، كان التلميذ الأول لسقراط وعنه أخذ الفلسفة، وقد زار أفلاطون إيطاليا ومصر وصقلية وأقام في أثينا.
وعنده أن الفلسفة معرفة العموميات والإلمام بالضروريات، وأنها منقسمة أقساما: (1) جدلية، و(2) طبيعية، و(3) أخلاقية. وأن للعقل ثلاث خصائص: الإحساس، والإدراك، والفكر. وأن الناس ثلاثة أقسام: المشرعون أو الفلاسفة الذين خلقوا للسيادة، والمحاربون للحراسة، والصناع للطاعة، أما العبيد فماشية الدولة. وأن الأفكار هي أصول الأشياء وهي عالم مستقل متصل بنا من الله مباشرة، وهي قوالب الأشياء أو نماذجها، والرجل الفاضل هو الذي يعرف هذه القوالب وروح الإنسان خالدة ومتجددة الميلاد، وهي كامنة في الجسم الذي هو بمثابة سجن لها، ويحاول أفلاطون في «جمهوريته» أن يصف كيف يتعلم الحكام في الدولة المثالية التي ينادي بها ويبين أن الفلاسفة هم الذين ينبغي أن يكونوا ملوكها.
وعند أفلاطون أن الله بعد أن خلق الدنيا سيرها مقدرا لها الفناء بعد أن تعمر 72 ألف سنة، ومن ثم لازمت جرثومة الفساد الإنسان عند نشوئه، هذا وتنعم الدنيا في النصف الأول من عمرها بالمستوى العظيم. أما في النصف الثاني فتهبط إلى هوة الفساد؛ لأن الله يتخلى عن رعاية الدنيا. ثم إنه بعدئذ يعيد إليها الحياة جديدة ويذهب «أفلاطون» إلى أن العصر الحاضر هو عصر التدهور، وأن العصر الذهبي الذي كان متسما بالبساطة قد مضى، خاصة بعد أن فقدت أثينا حريتها.
وعند الرواقيين والأبيقوريين في اليونان أن هذا العصر يبعث على التطير، وعند الرومان أن التاريخ يتداوله الصعود والهبوط مئات المرات.
وعند «باتيسون» أنه لئن صح أن هناك أصلا للأنواع وانتخابا طبيعيا بينها، فإن كثيرا من الفروض والنظريات التي يقوم عليها المذهب الدارويني واهي القاعدة.
وذهب «مندل» القس النمسوي المعاصر لداروين - بعد تجاربه في حديقة الدير بين سنتي 1856 و1872 - إلى أنه إذا وجدت الصفتان المختلفتان في النباتين المتزاوجين، فإن الصفة السائدة هي التي تسيطر على نبات الجيل الأول ولا يستطاع التفريق بين وحداتها التي سيكون إنتاجها صريحا وبين التي ستعيد ظهور الصفتين في إنتاجها.
وعند «سانت أوغسطين» في العصور الوسطى أن العالم قد أشرف على النهاية، وأن التقدم الإنساني مستحيل منذ عصى آدم ربه مورثا دم سلالته الإثم والخطيئة.
وعند «بيكون» أن الجماعة البشرية قد شاخت ومن ثم فهي ستهبط إلى أن تفنى.
وعند «دي فريز» النباتي الهولندي أن أصل الأنواع يرجع إلى الطفرة؛ أي إلى تغييرات فجائية. (3) رأي المؤلف
أوردنا فيما تقدم آراء الفلاسفة القدماء والعصريين في نظرية «التطور»، ثم في نقيضها «التدهور»، وعندنا أن الفريقين قد غاليا في آرائهما، ذلك أن نشوء الحياة ونموها أو ضمورها من المسائل التي أعيت المفكرين، فإذا كان بعضهم، خاصة في نظرية التطور، قد وفق فيما أراد أن يقرره بعد القيام ببعض التجاريب فليس هذا التوفيق يناهض دليلا على تعميم النظرية في كل شيء حتى في الشئون الاجتماعية.
وجملة ما يسعنا أن نقوله: هو أن في حياة الكون أشياء، قد ظهرت فجأة كثوران العواصف والبراكين والزلازل مهما نحاول تعليل حدوثها.
وثم أشياء لا تتكون ولا تنضج إلا بعد تدرجها في سلم الارتقاء كالجنين والعلوم والمستحدثات. كذلك هناك أشياء تنقص وتضعف وتتقهقر وتنمحي من الحياة محوا، كحالة الإنسان حين يمرض أو حين يبلغ الشيخوخة إلى أن يموت، وكحالة الضواري المنقرضة واشتداد البرودة في إحدى البقاع.
وعلى هذا نستطيع أن نقرر أن الحياة مزيج من الثورة والتطور والتدهور، وأنه قد يكون الإنسان البدائي، الذي لم نعرف عنه شيئا ما أو عرفنا عنه شيئا كثيرا، أعظم حضارة من خلفه. أو قد يكون ما نعده الآن أرقى مما مضى ليس تطورا إلى الأرقى، بل هو خروج على الحياة الطبيعية، قد يفضي إلى نهاية غير سارة إذ إننا نقيس الأشياء بعقولنا لا بحقيقة الأشياء، هذه الحقيقة التي أكثرها لا يزال مجهولا.
الفصل التاسع
العصور الچيولوچية وعصور المصنوعات المعدنية
رأينا في (الفصل الثالث: الحياة على الكرة الأرضية) أن الحياة على الأرض قد تقلبت في مراحل كثيرة، وأنه كان هناك عصر لم تكن فيه حياة ما على الأرض وهو «العصر الآزويكي» كما يؤخذ من الصخور والبقايا التي خلفها، وأن عصر البليزويك الأدنى قد ظهرت فيه أمارات الحياة كقشر المحار والقواقع والدنيئيات والديدان البحرية، وأن الأرض قد استهدفت لصنوف من الطقس خاصة عصور الجليد، وأنه قد تبع هذا ظهور البرمائيات فالزواحف «الفصل الرابع»، فاللبونات «الفصل الخامس»، فالقردة والإنسان الناقص «الفصل السادس»، فالإنسان التام «الفصل السابع».
هذا وقد تتابعت على الأرض أزمنة أو عصور چيولوچية. (1) الچيولوچيا: علم طبقات الأرض «چيولوچيا» يونانية: «چو» أرض و«لوچيا» علم، وعلى هذا كانت الچيولوچيا علم البحث عن التاريخ الطبيعي للأرض. فهو يتتبع التقدم التركيبي للأرض منذ ابتدائها متمشيا مع عصورها إلى الآن. كذلك يبين حالة تطور مظاهر سطح الأرض وكيف انفصلت بعض القارات عن بعض، وبرزت الجبال وانفتحت الوديان وعرفت رءوس الصخور والمهاوي التي بينها. والچيولوچيا - إلى هذا - توضح حالة النبات والحيوان وسلالاتهما الدائبة التطور. وهناك الچيولوچيا التنجيمية والفلكية التي تتحقق ظواهرها بالمجهر والمرقب الطيفي وبالتحليل الكيمائي فيما يتصل بحالة الأجسام الأخرى السماوية. وهناك الچيولوچيا الكيمائية والنهرية والحيوانية. ولكن الصخور هي في الواقع موضوع الچيولوچيا: تكوينها وتغييراتها.
ومما يقدره الأرضيون أن أفريقيا كانت متصلة برا بأوروبا وفرنسا بإنجلترا وآسيا بأمريكا شمالا. وأن حوادث وأسبابا وتقلبات خطيرة قد أحدثت هذا الانفصال.
هذا والطبقات التي تألفت بالتبريد التدريجي ليس تنضيدها أفقيا في حين أن الصخور التي جاء بها الماء المالح أو العذب كانت أقرب إلى الأفقية. وليس في الأولى بقايا الحيوان والنبات. ومن أمثلة هذه الطبقات الصخرية الجرانيت وحجر السماق «البوفير». أما الثانية فهي الرواسب وهي التي وجد فيها بقايا الحيوان والنبات.
وإلى هذين النوعين - الصخور المنضدة المبردة والرواسب - يوجد نوع ثالث هو الحجر الجيري بأنواعه الثلاثة: (1) المائي العذبي، و(2) الماروني القوقعي، و(3) السليسي. أما النوع الرابع فهو الصخور المبعثرة والرمل والأحجار الرملية والأرض الخصبة والطمي. وهذا النوع الرابع قد ظهر في الزمن الرابع. إذ إن لكل نوع من الأنواع الأربعة زمنه أو عصره.
وجملة القول أن مراتب الطبقات الأرضية من الأسفل إلى الأعلى كما يأتي: (1) الأراضي الأصلية المؤلفة من الصخور النارية المبردة تدريجا، ومنها الصخور الحبوبية والميكا والطلق؛ وهي في الزمن أو العصر الحجري الأول. و(2) الرواسب، وفيها البقايا الحيوانية والفحم الحجري والحجر الجيري السكري وحجر الرمل الأحمر القديم والقوقعي والصغير، والطفل الأخضر والمارد والحجر الرملي الأخضر والطباشير الأبيض - وهي في الزمن أو العصر الثاني. و(3) الحجر الجيري المكون من الماء العذب والحجر الجيري المارني القوقعي والحجر الجيري السلسي وهو في الزمن أو العصر الثالث. و(4) الطبقة الأرضية الظاهرة التي نعيش عليها الآن.
وعند الچيولوچي أن العناصر المتجمعة لديه قد تألفت على صورة منسقة، القديمة منها في القاع، والجديدة في القمة، يضاف إليها - حين يدرسها - بقايا النبات والحيوان في الصخور، وبقايا البحور والأخاديد ومنثورات البراكين البائدة وعظام الحيوان والقواقع والقشور والنوى، وما يوجد داخل الأشجار والقشور والفحم وحشرات الغابة وآثار الطيور والزواحف والديدان عند الشواطئ؛ إذ بدراستها يعرف عصرها وتغييراتها الجغرافية.
هذا وقد نشأت الجبال من ارتفاع في قشرة الأرض على أثر الغازات الملتهبة وبرودة الجزء المرتفع. أما التربة الزراعية فقد نشأت عن تحلل الصخور بتأثير الماء والهواء وتفاعل العناصر، فوجد الرمل والطفل والسماد الناشئ من تحلل المواد العضوية بإيجاد الآزوت والكربون والأملاح. (1-1) العصر الطباشيري
يقدر علماء الچيولوچيا أن العصر المعروف بالعصر الكريستاسي أو الطباشيري، انتهى منذ مدة تختلف من خمسة وخمسين مليون سنة إلى مائة وعشرين مليون سنة. وقد شهد هذا العصر انقراض الحيوانات والزحافات الهائلة التي كانت تسود الكرة الأرضية، وفي مقدمتها الحيوان المعروف بالديناصور. ولكن علماء الچيولوچيا لا يعرفون شيئا عن الحشرات والهوام في ذلك العصر السحيق. وقد وفق المعهد الشمسوني - هو من أعظم المعاهد العلمية - إلى اقتناء بقتين حجريتين من بق ذلك العصر. (2) عصور المصنوعات المعدنية
عند المؤرخين والچيولوچيين، علماء طبقات الأرض، أن الإنسان في مجتمعه البدائي، كان يستعمل الأدوات الصالحة لمعيشته مما كان يعرفه، وأنه لا بد أن يكون الحجر هو أول المعادن والمواد التي عرفها؛ لأن الحجر بارز على الأرض، فالأدوات المصنوعة من الحجر عرف زمنها باسم «عصر الحجر». وبعدئذ عرف الإنسان النحاس فالبرنز «عصر البرنز»، ولما عرف الحديد استخدمه الإنسان في صنع أدواته فسمي هذا «عصر الحديد». أما عصر الحجر فهو العصر الأول للصناعة؛ إذ كان الإنسان يتخذ من الحجر أدواته يصنعها ساذجة، والحجر هو قطعة منفصلة أو شظية من الصخر فهي تشمل ما على الأرض والطرقات من الجزئيات والحصى في البحر وقاع النهر والشاطئ، وفيما يستعمل في مواد البناء وهي على الأخص تدل على ما يتخذ من الجبال لنحت ما يلزم للقبور والطواحين في شكل خاص وحجم خاص.
أما الأحجار الثمينة فهي تدل على المعادن التي لها بريق ولمعان ولون أو ندرة ومن خواصها الصلابة. فهي تقوم تبعا لاستخدامها في الحلي. وكذلك تطلق على النوى كنوى البلح والمشمش.
وإذا اختير الحجر للبناء وجب أن يكون صالحا للعلو عليه ولمواجهة الطقس المحلي، وكذلك من ناحية اللون ومقدار ما يوجد منه في المحاجر وثمنه. وقد يصعب الحصول على نوع معين.
ولما كان لكل حجر رطوبته، وجب انتظار جفافه منها ومن أنواعه: الجرانيت المنضد، وحجر البلاط، والكلس. (2-1) عصر الحجر الباليوليتيكي «القديم»
يقسم الأرضيون عصر الحجر ثلاثة أقسام: أولها «عصر الحجر الباليوليتيكي»، وهو أطول من الثاني؛ أي عصر الحجر الأول أو القديم، حين كان الإنسان يشترك مع الماموث ودب الكهف ووحيد القرن ذي الشعر الصوفي وغيره في سكنى أوروبا. وكانت أدوات هذا العصر مصنوعة بالحك خشنة غير مصقولة وضخمة لا فن فيها، والسلاح شحفة من الحجر، تستدق من الطرف ولم يخلف عصر الحجر الأول هذا آثارا للكلب والخروف والفرس والدين. أما في عصر الحجر الأول المتوسط فإن الأدوات والآلات كانت تصنع بالضغط عوضا عن الحك، والأسلحة عفناء. ومن الأدوات القوس والنشاب وآلات تثقيف العيدان والرماح، والرمح، والحربة، والمسطرين، والإبرة العاجية، والفرو، والجلد والرسم، والصور، ومخلدات الميت.
هذا وفي فرنسا وشمال إيطاليا قليل من بقايا إنسان عصر الحجر القديم؛ لأن العظام لم توجد إلا في الكهوف والمخابئ الصخرية؛ إذ إن الدفن لم يكن معروفا. وقد وجد «بوشيه دي برتيه» في سنة 1841، أول أداة حجرية أولية عند أحد السواحل الرملية وفي منشكور، وقد ظهرت كشوف أخرى بعدئذ.
وقد قسم الأرضيون عصر الحجر الأول أقساما تبعا لما عثروا عليه من بقايا الماموث والدب والأيل. (2-2) عصر الحجر النيوليتيكي
كان لورد «أفيبوري» أول من أسماه بهذا الاسم «عصر الحجر الجديد»، فقد أطلق منذ يومئذ على المدة التي كانت فيها الأدوات المصنوعة من الحجر مصقولة ودقيقة على نقيض صناعة الأدوات في المدة الأولى من عصر الحجر أو «عصر الحجر الباليوليتيكي»، عصر الحجر الأول. وقد عرف «عصر الحجر النيوليتيكي»؛ أي الجديد حين كشفت المدافن القديمة، وأغوار البحيرات السويسرية وبعض أراضي الدنمرك والمغارات التي وجدت بها العظام. هذا ولم يوجد شيء من المعادن سوى الذهب، الذي يبدو أنه كان يستعمل في الحلي أحيانا. ومن ظواهر عصر الحجر الجديد معرفة الزراعة، والفخار والنسيج وتأليف الحيوان، ودفن الموتى في مدافن. وقد قسم الأرضيون هذا العصر أقساما غير قليلة.
هذا ويرجح أن الزمن النيوليتيكي - الحجري الأخير - بدأ بعد عصر الجليد؛ أي منذ 15 ألف سنة، وانتهى منذ 8 آلاف. أما عصر البرنز فقد بدأ منذ انتهاء عصر الحجر الأخير إلى ثلاثة آلاف سنة حين بدأ الحديد. ومن أدوات هذا العصر، زوارق الصيد والأكواخ والفخار والمساكن الخشبية في البحيرات. ومن حيوانه الكلب المستأنس. (2-3) عصر البرنز
هو عصر الصناعة الثاني، هو العصر الذي أعقب عصر الحجر سالف الذكر إذ أخذ الإنسان يستخدم البرنز في صنع أدواته.
والبرنز مؤلف من خليط من النحاس والصفيح في حين أن الحديد يمكن تخليصه من الخام حالا بمطرقة لشكله. وكان الأجدر أن يعرف قبل البرنز، ولكن الآثار تدل على أن عصر البرنز قد سبق عصر الحديد.
هذا وفي أول عصر البرنز لم تكن السيوف والأسلحة والدروع معروفة، فلم يعرف إلا المحور والسكين والحربة.
وكان عصر البرنز أقصر زمنا من عصر الحجر الجديد أو الأخير وأكثر منه ثقافة، أما وجود الأدوات مدفونة مع جثة الميت في عصري الحجر والبرنز، فليس معناه أن الميت سيبعث حيا وسيستعمل هذه الأدوات، ولكن قد يكون معناه كراهة أن يستعملها الحي.
هذا ويقال إن النحاس قد سبق البرنز، فقد وجدت حوالي البحر المتوسط وفي أوروبا الوسطى وأرلنده أدوات من النحاس فقط. أما البرنز فيتألف من جزء من عشرة من الصفيح وتسعة من النحاس.
ويوجد في الصين وكورنوال، مادتا النحاس والصفيح معا.
ومع أنه لا يوجد الصفيح في مصر وأرض الجزيرة فقد وجدت مصنوعات فيهما قبل 3000 و4000 قبل الميلاد.
ولا بد أن خلط النحاس بالصفيح كان في جملة جهات. وليس معروفا من أين جاء إلى مصر.
وعند «و. جولاند» في بحوثه المقدمة إلى جمعية الآنتيكوراي في لندن في 1899 أن النحاس الخام كان حصى أو صخرا كبيرا سائبا في قاع المجري، حين كان الإنسان في عصر الحجر ينقب عن الحجارة. أما الصفيح فقد كان في قاع النهر. ثم إن مادتي النحاس والصفيح قد صهرتا معا بين حجرين قبل أن يعرف الإنسان الأفران، التي بدأت ثقبا في الأرض يلهبه الهواء إلى أن اخترع المنفاخ فاستخدم في إشعال النار. (2-4) عصر الحديد
هو العصر الثالث الذي عرف فيه الإنسان الحديد وطفق يستخدمه في صنع الأسلحة والأدوات والعدد. على أن هذه العصور الثلاثة، «الحجر والبرنز والحديد»، لم تكن دائما وفي كل الأزمنة والأماكن متسلسلة على هذا النسق.
جزر الباسفيك الجنوبي وفي شمال أمريكا وجنوبها وداخل أفريقيا، بلاد تنقلت من الحجر إلى الحديد دون أن تجوز عصر البرنز. وفي أوروبا ظهر حديد في أواخر عصر ما قبل التاريخ وأوائله.
أما في مصر وكلدة وآشور والصين فقد ظهر فيها الحديد متأخرا؛ أي في 400ق.م.
وقد وجد «چاستون ماسبيرو» بعض قطع من الحديد في خلف أهرام أبو صير (الأسرة السادسة)؛ أي 3000ق.م، كذلك ذكر الحديد في نص بيبي الأول في 3400ق.م، واستعمل الحديد في أوروبا الشمالية قبل غزو قيصر.
وفي شمال روسيا وسيبريا عرف الحديد في 800ب.م. وفي جنوب أوروبا عرف الحديد قبل شمالها؛ أي إنه جاء من أفريقيا، يؤيد هذا أنه وجد في الهرم الأكبر الحديد، فقد وجد قليل منه في الآثار المصرية، وكان يعد غير طاهر منسوبا إلى «سيث» روح الشر الحاكم على صحراء أفريقيا الوسطى في رأي المصريين القدماء!
هذا وقد عرف الحديد منذ 5000 سنة على الأقل في الصين. ثم في مصر منذ 4000 سنة. ثم اليونان منذ 2700 سنة.
أما تأخر علم الإنسان بمعدن الحديد مع أنه في الأرض منذ ملايين السنين يرجع إلى لونه وهو خام؛ إذ هو أسود كالحجر الأسود، لا يسترعي النظر على نقيض النحاس؛ كذلك لأن القطع الحديدية خشنة وصغيرة، هذا ولا يلين الحديد الغفل ولا يتطرق حين يدق طويلا ومكررا على النار.
وقد كشف خنجر من الفولاذ في مقبرة توت عنخ آمون.
أما أنواع الحديد فمنها: الخام والغفل والمشغول والمطروق والمصهور والصلب. والحديد الغفل قسمان: (1) حديد فوسفاتي، و(2) غير فوسفاتي، تقل فيه كمية الفسفور عن 3٪، ومن أهم أنواعه الهيماتيت، الذي يكثر في إسبانيا والبحيرات العليا الأمريكية، ثم في كمبرلند وشمال لنكشير في البلاد الإنجليزية التي تعول عليه في صناعتها. ويقال إنه وجد في حضرموت شيء منه.
وقال «چنيزيز»: إن «طوبال كين» وهو السادس بعد آدم هو الذي كشف الحديد، وإن الآشوريين كان لديهم سكاكين ومناشير، وإنها لا بد أن تكون مصنوعة من الحديد الشديد الصلابة، كذلك وجدت أداة حديدية في الأهرام القديم في كفرون 3500ق.م، وعرف تعدين الحديد في عصر تحتمس الثالث 1500ق.م.
الحديد وصناعته في مصر
يقول الدكتور حسن صادق باشا وزير المالية الأسبق: إن الحديد كعنصر مستقل غير متحد بعناصر أخرى قليل الوجود في الطبيعة. وما يوجد منه خالصا إما قطع صغيرة منتشرة في بعض الصخور البركانية، وإما من النيازك أو الشهب التي تهبط سطح الأرض من السماء. وأما مركبات الحديد، ولا سيما أكاسيده، فهي كثيرة الانتشار في الصخور المكونة للأرض.
ولما كان الإنسان في عصوره الأولى غير عالم بسر استنباط المعادن واستخلاصها من خاماتها، فكان عليه أن يعتمد في صناعة آلاته للصيد وللدفاع عن نفسه على ما يتفق له من مواد صلبة تصلح لصنع هذه الآلات. فكان أول ما لجأ إليه الأحجار كالصوان وغيره، ومكث دهورا طويلة لا يعرف سوى الآلات الحجرية، ثم عرف النحاس، ثم سرعان ما وفق إلى العثور على سر صناعة البرنز، وهو خليط من النحاس والقصدير، فكان توفيقه هذا خطوة واسعة نحو تقدم مختلف الصناعات؛ فارتقى درجات عديدة في سلم المدنية.
أما حضارة المصريين القدماء فهي، بحق، مدنية برنزية أو في القول الأصح مدنية نحاسية؛ إذ انفرد المصريون دون غيرهم من الأمم بالوقوف على سر سقاية النحاس وتقسيته بطريقة تجعله من الصلابة، بحيث يصلح لصنع كافة الأدوات والآلات التي تتطلب متانة وصلابة خاصة.
أما الحديد فلندرة وجوده خالصا في الطبيعة لم يتجه الإنسان القديم إلى استعماله، ومع انتشار خاماته فإن استنباطه منها لم يكن بالسهولة التي للنحاس. هذا إلى أن تهذيبه بعد ذلك غير مستطاع إلا إذا حول إلى فولاذ، وطرق وهو في حرارة الاحمرار، مما كان يتطلب من الإنسان القديم مجهودا لم يكن له قبل به، فتأخر استعمال الحديد عن النحاس آلافا من السنين.
وقد يتعذر علينا أن نقرر على وجه التحقيق الزمن الذي بدأ فيه الإنسان استعمال الحديد، ولا العصر الذي وقف فيه على سر استنباطه من خاماته والشواهد من آثار مصر القديمة غامضة غموضا كبيرا في هذه الناحية.
ومن أقدم ما عثر عليه من قطع الحديد بعض حبيبات من (الخرز) في حفائر جرزة بمديرية الجيزة التي ترجع إلى ما قبل تاريخ الأسرات المصرية الأولى، وقد أثبت تحليلها الكيمائي أنها من حديد النيازك لاحتوائها نسبة مرتفعة من النيكل.
يلي ذلك قطع من آلات حديدية وجدت في آثار بعض الأسرات القديمة على أن صحة انتسابها لما وجدت فيها من آثار محل تشكك أغلب علماء الآثار؛ ولهذا نرى أن نضرب عنها صفحا. وقد وجدت بين الآثار التي كان يحتويها قبر توت عنخ آمون بعض آلات حديدية، منها: خنجر، ومسند مصغر للرأس، وعين ضد الحسد مصنوعة في سوار من ذهب، وأسلحة صغيرة دقيقة ذات أيد خشبية يبدو أن قيمتها كانت دينية؛ إذ لا يعقل أنها كانت ذات فائدة عملية تذكر. ولما كان حديد هذه الآلات المختلفة لما يحلل، فلا يمكن البت في هل صنعت من حديد النيازك أو من حديد مستخلص من خامات أرضية، والغالب أنها كانت مستوردة من الخارج.
ومنذ نهاية الأسرة الثامنة عشرة، التي كان توت عنخ آمون من أواخر ملوكها، زادت الأشياء المصنوعة من الحديد بين آثار المصريين القدماء، حتى إذا وصلنا إلى الأسرة السادسة والعشرين، حوالي سنة 600 قبل الميلاد، شاع استعمال الحديد شيوع النحاس والبرنز، ولبث هذا حتى إذا جاء عام 255 قبل الميلاد كان الحديد قد أصبح بالكثرة التي سمحت باستعماله في أعمال المحاجر.
وإذ نعلم أن ملوك الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة كانوا قد قاموا بغزوات موفقة إلى الشام وغرب آسيا، فلا عجب أن يكونوا قد مهدوا الطريق لتسرب الحديد إلى مصر من مواطنه في تلك البلاد. وفي ذلك ما يشير إلى أن استعمال الحديد قد بدأ في تلك البلاد قبل أن يستعمله المصريون.
أما عملية استخلاص الحديد من خاماته فقد أثبت العالم الأثري الأستاذ فلندرز بيتري أن في نوقراتس بشمال الدلتا الغربي، كانت هذه الصناعة قائمة حوالي القرن السادس قبل الميلاد، ويغلب على الظن أن الخام الذي كان يستعمل لذلك مما استورد من وراء البحار. على أنه بعد أن دخلت مصر في حكم الرومان، وكانوا يميزون خامات الحديد ويعلمون سر استنباط الحديد منها، فالدلائل متوافرة على أنهم كانوا قد استغلوا بعض خامات الحديد بالصحراء الشرقية لصناعة ذلك المعدن. على أنها صناعة أهملت بعد ذلك إلى وقتنا هذا.
خامات الحديد في مصر
تكثر خامات الحديد في الصحارى المصرية وعلى حالات مختلفة، وسنأتي على ملخص لأهم هذه الخامات: (1) «في شبه جزيرة سينا» يوجد أوكسيد الحديد مختلطا بأكاسيد المنجنيز في مساحة واسعة، تبلغ نحو 200 كيلومتر مربع على مسافة 20 كيلومترا من شاطئ خليج السويس، وعلى مسافة 120 كيلومترا جنوبي مدينة السويس. والمنطقة التي يوجد بها هذا الخام هي هضبة تعلو عن سطح البحر بنحو 600 متر، تقطعها أودية عميقة وعرة المرتقى، وصخورها من الحجر الرملي تتخللها طبقة من الحجر الجيري، وفي أسفل هذه الطبقة الجيرية الخام الحديدي المنجنيزي. والخام في بعض أجزائه مجموعة من أكاسيد المنجنيز الخالصة، وفي البعض الآخر أكاسيد الحديد، وفي غالبية المنطقة هو خليط من الاثنين معا.
هذه الخامات تستغل الآن على نطاق واسع في هذه المنطقة حول نقطة أم بجعة؛ إذ إن فيها خام المنجنيز. وفي الواقع فإن الشركة القائمة بهذا الاستغلال تقصر استغلالها على الأنواع التي تحتوي نسبة مرتفعة من المنجنيز، تاركة وراءها في الوقت الحاضر خامات الحديد. وقد وصلت الشركة مناجمها بخط من السلك المعلق على أبراج من الحديد عبر هذه المنطقة الوعرة إلى سفح الجبال، ومنها بخط سكة حديدية إلى ميناء أبي زنيمة، حيث المرفأ الذي تصدر منه إلى الخارج. وإذا اقتصر النظر حتى الآن على إعداد هذه الخامات لمعدن المجنيز، فإنها، كما قدمنا، مصدر محتمل لخام الحديد في المستقبل.
ثم إن الدكتور هيوم المستشار الچيولوچي للحكومة المصرية، قد أشار إلى وجود عروق من المرو في بعض الجبال القائمة في جنوب شبه جزيرة سينا محتوية خام الحديد. وقد حللت بعض نماذج منه فظهر أن بها نسبة تختلف من 96 في المائة إلى 59 في المائة من أوكسيد الحديد، على أنه لا يمكن إعداد تلك المنطقة مصدرا لخام الحديد إلا بعد أن تبحث بحثا مستفيضا؛ للتعرف على مقدار ما تحتويه منه ومتوسط ما بها من معدن الحديد نفسه. (2) «الصحراء الغربية» توجد أكاسيد الحديد والمغرة الحمراء والصفراء في أغلب الواحات الواقعة بصحراء لوبيا، وقد تكون أغناها جميعا الواحة البحرية. فهناك رواسب من خام أوكسيد الحديد الأصفر (الليمونيت) والأحمر مختلطة بأحجار رملية تدل أوصافها وأوضاعها الچيولوچية على أنها رسبت في قاع بحيرة، كانت تمتد فوق تلك المنطقة في أحد العصور الچيولوچية الحديثة، وقد حللت منها بعض النماذج، فظهر أن الخام الأصفر يحتوي 84 في المائة من أوكسيد الحديد؛ أي نحو 58,8٪ من معدن الحديد، بينما الأحمر يحتوي 58,7 في المائة من أوكسيد الحديد؛ أي 41,07 في المائة من المعدن نفسه.
وقد قدر الدكتور هيوم مجموع ما بالواحة البحرية من الرواسب الحديدية بنحو 9 ملايين متر مكعب. على أن المسألة في حاجة إلى بحث أدق للوقوف على حقيقة امتداد هذه الرواسب ومتوسط ما بها من حديد. وعلى الجملة فإن مثل هذه المنطقة لا يمكن عدها - في الوقت الحاضر - من المناطق التي لها قيمة اقتصادية كبيرة؛ إذ تعوزها طرق المواصلات إلى البلاد المعمورة، وإنشاء مثل هذه الطرق؛ مما يكلف نفقات كبيرة قد لا تتناسب مع قيمة هذه الخامات، وإذا لم تكن صالحة للاستغلال على أساس صناعة الحديد نفسها، فقد يجد القائمون بصناعة الألوان والأصباغ في بعض الأكاسيد الحمراء والصفراء في تلك الواحة موردا لبعض حاجتهم. وقد يكون في مستطاعهم في هذه الحالة تحمل تكاليف النقل بالسيارات؛ إذ المقادير قليلة وسعر الأصباغ أعلى كثيرا من سعر الحديد، كذلك توجد في الواحتين الخارجة والداخلة رواسب من أكاسيد الحديد والمغرة ذات ألوان ساطعة يقدرها صانعو الأصباغ، وقد أقبلوا للحصول عليها إقبالا كبيرا في السنين الأخيرة.
ويفسر وجودها في تلك الواحات على أساس أنها رسبت في المياه الأرتوازية التي تنفجر من عيون في مختلف نواحيها. ولما كانت هذه المياه الأرتوازية تخترق في صعودها من باطن الأرض إلى سطحها طبقات من الحجر الرملي الذي يحتوي أكاسيد الحديد، فإنها تحملها معها وترسيها على السطح نقية نظيفة دقيقة الحبيبات جدا. وقد علمت من بعض المشتغلين بهذه الصناعة أن هذه الأكاسيد هي من الجودة بحيث لا يستعملونها وحدها إلا نادرا، والأغلب أن تضاف إلى أصناف أقل جودة منها لتحسين نوعها. (3)
في «الصحراء الشرقية» بين شواطئ البحر الأحمر ووادي النيل، هنا توجد خامات الحديد في نقط عديدة وعلى صور مختلفة بقدر اختلاف الأشكال الچيولوچية في تلك الصحراء الواسعة. وسنقتصر على الإشارة إلى بعض الجهات التي يوجد بها الحديد بشيء من الإيجاز: (1)
عند السفح الشرقي لجبل الجلالة البحرية، حيث يوجد خام الحديد متخللا الطبقات الحجرية الرملية في الوضع الچيولوچي ذاته، الذي توجد فيه خامات الحديد والمنجنيز في المنطقة المقابلة لها من شبه جزيرة سينا.
على أن هذه الخامات لم تحظ حتى الآن بأي عناية من البحث؛ إذ إن ما قد ظهر منها لا يغري بهذا البحث. هذا إلى أن التحليل الكيمائي الجديد أظهر أنها تحتوي 33 في المائة من أوكسيد الحديد؛ أي نحو 23 في المائة من معدن. (2) «وادي العرب» على مسافة 60 كيلومترا من شاطئ خليج السويس، توجد عروق من المرو تحتوي معدن أوكسيد الحديد على صورة قشور رقيقة لامعة غنية بمعدن الحديد. وقد أظهر التحليل الكيمائي أنها تحتوي نحو 78 في المائة من الأوكسيد؛ وهي لذلك منطقة خليقة بالبحث للوقوف على مقدار صلاحيتها للاستغلال. (3) «وادي أبو غصون» على مقربة من بئر رنجة القريبة من شاطئ البحر الأحمر على مسافة 200 كيلومتر جنوب ميناء القصير. على جانب هذا الوادي توجد بعض الجبال التي تحتوي مقدارا كبيرا من الخام المعدني، أظهر تحليل نموذج منه أن به 55,8 في المائة من أوكسيد الحديد، ونظرا إلى قرب هذه المنطقة من شاطئ البحر، والارتفاع الكبير في أسعار خام الحديد في الوقت الحاضر؛ فقد تنال هذه المنطقة بعض العناية من البحث في وقت قريب.
الحديد في أسوان
وقد تكون هذه المنطقة أهمها جميعا لأسباب ثلاثة: (1) لاتساع مساحتها. و(2) لأنها تستغل الآن بعض الاستغلال لصناعة الأصباغ. و(3) لاشتداد الاهتمام بتوليد القوى الكهربائية من مساقط الماء بخزان أسوان.
ومع أن الدكتور هيوم كان قد أشار عام 1909 إلى وجود أكاسيد الحديد في الأحجار الرملية قرب أسوان، إلا أن فضل اكتشاف هذه المنطقة الكبرى وإقامة البرهان العملي على إمكان الاستفادة من خام الحديد بها من صناعة الأصباغ يرجع إلى جهود المهندس المصري «لبيب نسيم». وقد حفظت له الحكومة حق البحث في المنطقة منذ عام 1921 حماية لصناعة الأصباغ، التي كان قد بدأها، والتي بلغت شأنا لا يستهان به، وإن كانت في حاجة كبيرة إلى التشجيع.
هذه المنطقة الواسعة تمتد من حافة الصحراء شرق أسوان إلى خمسين كيلومترا في الصحراء الشرقية، بعرض متوسطه 20 كيلومترا من الشمال للجنوب. وقد قامت مصلحة المناجم والمحاجر عام 1932 حين قام لبيب نسيم وبعض الممولين الآخرين، بفحص هذه المنطقة للتعرف على مقدار ما بها من خام الحديد وتقرير صلاحيته لمختلف الأغراض الصناعية. وسألخص هنا النتائج التي انتهت إليها هذه الأبحاث المختلفة: (1)
تقدر المساحة التي بها الخامات بما يقرب من 500 كيلومتر مربع. (2)
المنطقة تتألف من هضبة يترواح منسوبها ما بين 150 مترا و350 مترا فوق منسوب البحر، مع ملاحظة أن منسوب وادي النيل عند أسوان حوالي 200 متر، وهي على الجملة منبسطة السطوح عدا الوديان التي يبلغ متوسط عمقها حوالي 20 مترا من سطح الهضبة. (3)
يقطع المنطقة من الشرق إلى الغرب واديان كبيران هما: وادي أبي صبيرة في الشمال، ووادي أبو عجاج في الجنوب، ولهما روافد عديدة تمتد شمالا وجنوبا، مما يجعل من الميسور إيجاد طرق للمواصلات بين مختلف أجزائها. (4)
يوجد خام الحديد في عدة طبقات رقيقة يختلف سمكها في مختلف النواحي من بضعة سنتيمترات إلى متر ومترين تقريبا في بعض الأحيان، وهي طبقات تتخلل طبقات الحجر الرملي الأفقية الوضع تقريبا. (5)
وتختلف طبقات الخام من حيث نوعها؛ فبينما بعضها مؤلف من حجر رملي مشبع بأوكسيد الحديد، فالبعض الآخر وهو الأهم مكون من حبيبات كروية من أوكسيد الحديد الأحمر متماسكة بعضها مع بعض بمسحوق من المعدن نفسه، هذه الطبقات المكونة من حبيبات أوكسيد الحديد هي التي تهمنا في هذا البحث لكبر نسبة أوكسيد الحديد بها. أما الطبقات الرملية فإن نسبة ما بها من الأوكسيد ضعيفة إلى الحد الذي يخرجها من حسابنا في الوقت الحاضر. (6)
أما التحليل الكيمائي لهذه الطبقات المحببة فيختلف اختلافا كبيرا من مكان لآخر بين 54 في المائة من الأوكسيد؛ أي 40 في المائة من معدن الحديد نفسه، إلى 88 في المائة من الأوكسيد؛ أي 60 في المائة تقريبا من معدن الحديد نفسه. ويمكننا أن نعد الخام في المتوسط على أساس أنه يحتوي 75 في المائة من الأوكسيد، وهي نسبة تجعله في مستوى الكثير من الخامات الحديدية المستعملة في صناعة الحديد في شمال فرنسا وفي بعض أجزاء الولايات المتحدة. وقد أجريت تحليلات كيمائية كاملة شملت عددا كبيرا من النماذج.
والذي يهمنا من هذه التحليلات: (1) ارتفاع نسبة الحديد المعدن نفسه، و(2) انخفاض نسبة السليكون ، و(3) ارتفاع نسبة الفسفور قليلا، و(4) انعدام الكبريت.
وجميعها صفات ملائمة إلى حد ما عدا نسبة الفسفور التي تتعارض مع استعمال الوسائل لاستنباط الحديد نفسه، ولو أن هناك وسائل أخرى لا يضيرها وجود الفسفور. (7)
أما مقدار الخام فهو من المسائل التي لا يمكن تقريرها نهائيا؛ إذ إن البحوث العملية التي أجريت لا يمكن الاعتماد عليها في إعطاء رقم دقيق. وقد قدرها بعضهم تقديرا تقريبيا كما يأتي:
84
مليون طن من الخام الظاهر المؤكد الوجود
260
مليون طن من الخام المحتمل الوجود تبعا لتقديرات علمية صحيحة
344
مليون طن
وهذا عدا ما يرجى وجوده بعد تقدم البحث العملي والاستغلال. ولا أريد أن أقرر قبول هذه الأرقام أو رفضها، ولكني على كل حال أوافق على أن المقدار كبير جدا، وهو بالقدر الذي يحتمل قيام أي عملية استغلالية لمدة طويلة جدا. وأن نجاح مثل هذه العملية أو الفشل فيها لا يكون سببها جهل مقدار الخام. (8)
إن وجود مقدار كبير من الخام على السطح أو قريبا من السطح، يجعل الاستغلال في أول الأمر ميسورا وعند الاضطرار إلى الحفر في باطن الأرض، فإن انتظام الطبقات ووضعها الأفقي، ووجود طبقات من الصخور المتماسكة فوق طبقة المعدن، كل ذلك مما يجعل عملية التعدين نفسها عملية يسيرة إذا قيست بما يقابله مهندسو المناجم عادة من الصعوبات من جراء ميول الطبقات أو العروق المعدنية. كذلك يساعد جفاف المنطقة وعدم الخشية من وجود ماء داخل المناجم على تيسير عملية الاستغلال. (9)
أما النقل من المنطقة إلى وادي النيل، فيقتضي مد خط سكة حديدية أو سلك معلق وهي على كل من العمليات العادية في مثل هذه الحالات، ومتوسط المسافة من وسط المنطقة إلى النيل هو 20 كيلومترا تقريبا. والآن وقد قدرنا مساحة المنطقة ومقدار ما بها من خام الحديد، وأوضحنا نوع هذا الخام وقررنا سهولة استغلاله ونقله، فما الذي يمكن أن نستفيده من هذا الخام؟ إن من الميسور: (استغلال الخام في صناعة الحديد والصلب) وهذه هي الوسيلة التي إذا تحققت وكان تحقيقها متفقا مع القواعد الاقتصادية السليمة، كان لنا في هذه الخامات مصدرا جديدا من مصادر الثروة الأهلية، وكفانا مئونة استيراد الحديد والفولاذ لصناعاتنا الحالية، وأفضى إلى قيام صناعات جديدة، ودفع عنا غائلة المجاعة في هذه المواد في أوقات الحرب.
وربما كان من واجبي أن آني على موجز عن كيفية تحضير الحديد والفولاذ، قبل أن نخوض في مسألة احتمال قيام هذه الصناعة في مصر، وتقرير الأسس التي يجب أن تقوم عليها.
فاستنباط الحديد من خاماته يقتضي تسخين هذه الخامات إلى درجة مرتفعة من الحرارة لاختزان الأوكسيد، وترك المعدن المنصهر فيصب في قوالب تعرف بماسيح الحديد الظهر، وهو في هذه الحالة يكون مختلطا بعناصر غريبة كالكربون والسيليس والمنجنيز والفسفور وغيرها، مما تجعله قليل المقاومة سهل القصم غير قابل للطرق، وهو ما يستعمل للحديد الظهر المعروف في السباكة. أما تحويل هذه المادة إلى الصلب أو الفولاذ، فيقتضي إعادة وضعه في أفران خاصة للتخلص من الكربون وتكوين الصلب.
ولهذه العمليات وسائل تختلف تبعا لاختلاف أنواع الخامات ولا محل لذكرها الآن.
هذه العمليات تحتاج إلى وقود إما الفحم الحجري وإما الفحم الكوك، وإما الفحم البلدي (فحم الحطب)، وإما إلى الغازات البترولية أو الطبيعية.
ولما كانت بلادنا تعوزها هذه المواد جميعا فلا الفحم الحجري معروف، كما أنه ليست لنا مصانع تنتج الفحم الكربون، وليست لدينا غابات تمكننا من صناعة فحم الحطب. كما أن مناطق البترول حيث الغازات قد تكون متوافرة، بعيدة جدا عن مواطن خام الحديد. فقيامنا على صنع الحديد والفولاذ محليا على أساس استعمال أي نوع من أنواع الوقود معناه استيراد هذا الوقود من الخارج، ونقل الخام من أسوان إلى نقطة متوسطة كالقاهرة مثلا؛ مما يجعل نفقات الصناعة تزيد على ما يمكننا أن نستورد به الحديد والفولاذ في الأوقات العادية.
وقد قام بدرس هذه المسألة الخبير الكيمائي لوزارة التجارة والصناعة، ولم يتردد في أن يقرر أن الإقدام على مثل هذه الصناعة على هذا الأساس مصيره الحبوط المحقق. كما أن الدكتور عباس محبوب - الكيمائي بمصلحة السكة الحديد - قدر تكاليف إنتاج الطن من الحديد الزهر الذي يصنع في وقت السلم بالقاهرة بنحو 383 قرشا، بينما يستورد عادة بأقل من ذلك. على أنني أخشى أن يظهر التمحيص الدقيق أن الفرق على كل حال لا يشجع على الإقدام على صناعة الحديد في مصر على أساس استيراد الفحم من الخارج، ولا سيما أنه ليس في مصر نفسها من الفنيين أو العمال من يفهم صناعة الحديد، مما يتحتم معه استقدام المهندسين والفنيين بل بعض رؤساء العمال وبعض العمال أنفسهم. وكل ذلك مما يزيد في نفقات الإنتاج. (صناعة الحديد والصلب بالكهرباء) على أن هناك بارقة أمل في الأفق، ذلك ما نراه في زيادة الاهتمام بمشروع هو في نظرنا من أكبر المشروعات الحيوية الصناعية في هذه البلاد؛ ألا وهو توليد الكهرباء من مساقط الماء في خزان أسوان. والكهرباء قد أصبحت من الوسائل التي تستعمل في صناعة الحديد والفولاذ.
ولئن كان استعمال الكهرباء في استنباط الحديد من خاماته، وصناعة الصلب من تماسيح الحديد لم تبدأ إلا في السنين الأخيرة، إلا أنه خطا خطوات واسعة. فأعدت لذلك أفران كهربائية مختلفة تعالج مختلف أصناف الخامات. وقد أصبح الفولاذ الناتج بالطرق الكهربائية يعادل أجود أنواع الصلب التي تصنع بالوسائل الأخرى. وقد قام البرهان على أنه حيث يكون توليد الكهرباء رخيصا، فإن تكاليف إنتاج الفولاذ بالكهرباء تكون أقل كثيرا من تكاليف إنتاجه على أساس استعمال الوقود، وهذا مع الاحتفاظ بجودة الصنف.
فالمنجنيز والكروم والتنجستن والمولبيدينوم والنيكل، وجميعها من المعادن التي تخلط بالحديد في صناعة أنواع من الصلب، بعضها يمتاز بصلابته والبعض يمتاز بعدم قابليته للصدأ وهلم جرا. هذه المعادن جميعا في مصر وبعضها في حالة الاستغلال، فإذا وجد أن صناعة الصلب نفسها ممكنة في أسوان فإن الاستعانة بهذه المعادن قد تكفينا مئونة استيراد الأنواع الخاصة من الصلب.
الفصل العاشر
قصص آدم وحواء وجنة عدن والطوفان ونوح
لما كانت الكتب السماوية والقصص القديمة قد ذكرت قصة خلق آدم وزوجه حواء، وجنة عدن، وقصة الطوفان وسفينة نوح، رأينا أن نذكر هنا شيئا عنها، لما لهذا من الصلة بنشوء الكون والحياة الإنسانية والحيوانية على الأرض، وهو موضوع «تاريخ ما قبل التاريخ». (1) آدم وحواء
جاء في «التوراة» ما خلاصته أن الله خلق «آدم» من التراب - وآدم في العبرية معناه التراب - ثم نفخ في أنفه نفسا حية، وخلق معه «حواء» لتكون معينا له، بأن أوقع عليه سباتا فنام، فلما استيقظ وجد إلى جانبه «حواء»، فعاش معها في سعادة وهناء في جنة، فيها الثمار والأزهار ولم يحرم الله عليه وعلى زوجته إلا شجرة واحدة، هي شجرة معرفة الخير والشر، غير أن التحريم قد أثار شهوة الزوجين، وتمثل الشيطان «لحواء» في صورة حية، وأغراها بأكل ثمرة من تلك الشجرة فأصغت إلى كلامه، وأكلت من الثمرة وأعطتها إلى رجلها أيضا فأكل معها، فأثار هذا غضب الله عليهما فطردهما من الجنة ولعن الأرض بسببهما.
هذا ولما عثر المنقبون من رجال البعثة الأمريكية الأثرية، التي يرأسها الدكتور سبينرر في أطلال مدينة «تيب حورا» على قطعة من الفخار منقوش عليها الصورة رجل وامرأة أحنى الحزن ظهريهما، ووراءهما أفعى أكبر من كل منهما حاولت الانقضاض عليهما، فاندفعا - هلعين - للخروج، ذهبوا إلى أن هذه الصورة مثل قصة آدم وحواء؛ ذلك لأن فحص هذا الأثر أبان أن نحاتها كان حيا حوالي 370 قبل الميلاد، أو قبل أن تورد التوراة قصتي الخليقة وآدم وحواء بألفي سنة.
ثم إن البعثة قد عثرت على مدينة «تيب حورا» حين كانت تنقب عن طلال مدينة أور الكلدانيين، والمظنون أنها مسقط رأس إبراهيم الخليل. (2) جنة عدن
وجاء في (سفر التكوين، الإصحاح 8:2) «أن الله غرس جنة في عدن شرقا ووضع فيها آدم ... وكان نهر يخرج من عدن ليسقى الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة أنهر: أولها نهر فيشون المحيط بأرض الحويلة، حيث الذهب والمقل وحجر الجزع؛ وثانيها نهر جيحون المحيط بأرض كوش؛ وثالثها حداقل الذي يجري شمال آشور؛ ورابعها نهر الفرات.»
وعند بعض المفسرين أن «فيشون» نهر الهند، ومن ثم كانت جنة عدن في الهند، وعند آخرين أن جيحون هو النيل، وأن هذه الجنة في مصر ، غير أن الكثرة أن «عدنا» كانت فيما بين النهرين. (2-1) في القرآن الكريم
وجاء في سورة الأعراف:
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون . (3) الطوفان
هو فيضان عظيم أو انخفاض وغوران في الأرض أو ذهاب السماء والأرض أو السماء فقط، بحيث عم البلاء والفوضى، هكذا قال المؤرخون الأوروبيون، وثم قصص عديدة عن الفيضان في الأساطير البابلية والهندية والأمريكية القديمة. وقد يكون فيما تضمنته غلو وتزيد. ففي القصص القديمة لسكان أمريكا الشمالية الأقدمين أن الفيضان هو نشوء آخر للأرض في الهندستان وكنعان وبابل.
كذلك وردت قصة الطوفان بين البابليين، وفيها اسم «أوت نابشتيم» بدلا من نوح.
وفي القصة الهندية الواردة في «ساتا باتا براهما» أنه بينما كان «مانو» الرجل الأول ابن إله الشمس فيفسفات يستحم وجد سمكة صغيرة، سأله أن يترفق بها مقابل نجاته في الفيضان الآتي، فأنزلها مانو بعد أن كبرت إلى البحر، واستطاعت أن تنبئه عن موعد الفيضان؛ لكي يتأهب لمواجهته، وأن ينشئ سفينة. فركبها وساعدته السمكة على وثق السفينة بقمة الجبل الشمالي (يظن أنه الهملايا)، وطلبت منه أن يربطها بشجرة وبعد أن غيض الماء نزل من القمة وشاهد امرأة أسمت نفسها ابنته إيدأ إلهة الخصوبة، ولم يرد في القصة أن الباعث على الفيضان هي المعصية.
وهناك القصة الإسرائيلية والقصة البابلية عن الفيضان.
على أن ما يجدر ذكره أنه ليس هناك قصص عن الفيضان إلى 2100ق.م مع أن الفيضان لا بد أن يكون قد ورد ذكره في لوحة أقدم من هذا التاريخ. (3-1) في القرآن الكريم
وجاء في سورة هود:
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين * وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين * ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين * قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم * تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين .
هذا وجاء ذكر الطوفان وقالوا إنه بمعنى الماء الطائف الذي يغشى الأماكن والحروث من مطر أو سيل أو الجدري أو الموتان أو الطاعون. في سورة الأعراف:
فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين . (3-2) نوح القرن العشرين
ومن طريف ما نذكره أنه في سنة 1938 «أعد ويليام جريتوود» من أوليمبيا الأمريكية سفينة وضع بها مختلف أنواع الحيوان تشبها بنوح، مطلقا على نفسه اسم نوح، وعلى طوفان الأرض طوفان القرن العشرين!
الفصل الحادي عشر
الدين والتأليه
(1) الدين
الدين هو الطاعة والانقياد. وفي الجملة هو اسم لجميع ما يعبد به الله، ومثله الديانة وجمع الدين أديان وجمع الديانة ديانات. ودان الإنسان بالإسلام اتخذه دينا والدينونة القضاء. والديان هو القاضي والمجازي، وهي صفة من صفات الله تعالى. أما اللفظ الأوروبي المقابل للدين فله معان كثيرة وفقا للأصل المشتق عنه، فمن معانيه بحث موضوع ما، أو رابطة، أو تفكير حول عبادة الآلهة، أو التزام (مديونية) على الإنسان نحو إله غير منظور؛ أي إن الإنسان مدين للإله بالطاعة.
هذا وقد درس رجال الفقه الإسلامي استنادا إلى ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ما يتضمنه الدين والعبادة من المعاني. أما الأوروبيون وبعض الشرقيين فقد درسوا أشكال العقائد والعبادات عند القبائل والأمم والجماعات الدينية دراسة علمية، عالجوا فيها أصل فكرة الدين والتأليه مقابلين - كما فعل هيوم والبيروني - بين المذاهب اليونانية واليهودية والمسيحية والإسلامية والمنشوكوية والصوفية، وفلسفات الهند وآلهتها والزورادشتانية والبراهمية وما إلى ذلك؛ إما لكي يحصوا عدد الأديان والمذاهب، وإما لكي يردوا جميع الأديان أو بعضها إلى أصل واحد ومبادئ مشتركة، وإما لكي يدرسوا دينا معينا.
وعند «دافيد هيوم» في كتابه «التاريخ الطبيعي للدين» في 1737 أن تقدم الفكرة الطبيعية للدين في المجتمع الإنساني، ترجع إلى البداية الغامضة لعبادة الآلهة مرتقية إلى العقائد الواضحة المحدودة؛ أي إن الفكرة قد تطورت تطور كل شيء آخر في هذا العالم. وعند چ . چ. فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» أن التدين مقتبس من عصر السحر، وأن الدين هو التوفيق بين القوى التي تعلو على الإنسان، تلك القوى التي يعتقد الإنسان أنها توجه الطبيعة والحياة الإنسانية وتحكمها.
وعند «هربرت سبنسر» في كتابه «مبادئ الاجتماع» أن أصل العبادة كلها الرجل الميت. وعند الدكتور جيفونز في كتابه «مقدمة لتاريخ الدين في 1896» أن الدين الأولي يرجع إلى «التيتو تيميزم» عبادة الحيوان. وعند «تايلور» في كتابه «الثقافة الأولية» أن الاعتقاد في الكائنات مسألة روحية. وعند الدكتور روبرتسون في كتابه «محاضرات عن ديانة الساميين» أن الطقوس الدينية مسألة أولية. أما العقائد والأساطير فمسألة ثانوية، وعند «هويت» في كتابه «القبائل الوطنية في أستراليا الجنوبية الشرقية» أن هذه القبائل تذهب إلى أن القوانين والطقوس الدينية، قد بدأها كائن أعلى مثل «نوراند بيري»، الذين عمل كل شيء على الأرض أو «نوريلي» الذي خلق البلاد بأنهارها وأشجارها وحيوانها.
وعلى الجملة يذهب علماء أوروبا إلى أن «الإله» هو الذاتية التي تتخذ للعبادة، ومن ثم تنطبق على الكائنات التي هي أسمى من الإنسان، والتي تصور في القصص السماوية والأساطير بأنها ذات سلطان على الطبيعة والإنسان ومشخصة في دائرة خاصة من النشاط أو في مادة مرئية أو صنم. فالكائن الأسمى، على وجه عام، هو خالق الكون أو من كان محلا لعقيدة أو عبادة دينية.
ويقول دوركيم في كتابه: «صور أولية للحياة الدينية»: إن الحفلات والأعياد والمجتمعات التي كان الإنسان البدائي يشهدها كانت تبعث في نفسه شعورا بالنشاط والقوة واللذة، ومن ثم يغمره الأمل والزهو، فيحسب نفسه أعلى مرتبة من الأفراد الآخرين. ولما لم يكن عقل ذلك الإنسان قد نضج وأوتي الرجاحة بعد، فقد اعتقد أن هناك قوة فوق طبيعيته تسيطر عليها وتعلو بها عن محيطه.
وهناك جماعات بدائية لم تدرك الفكرة الإلهية على صورة واضحة، فتعددت آلهتها ووظيفة كل إله منها، وشملت الأشباح وجثث الموتى وأنواع الحيوان وما في السماء وما على الأرض، بل شملت - إلى المرئيات والحسيات - المعنويات، منتهية من هذا كله إلى أن هناك قوة أو قوى مجهولة أو سلطات لا حد لها تتحكم في حياة البشر.
ويذهب الفيلسوف الفرنسي «رينان» في كتابه: التاريخ العام للغات السامية ومقاله في الجريدة الآسيوية وكتاب أصل اللغة، إلى أن الجنس في مجموعه ينبغي أن يحكم عليه وفاقا للنتيجة النهائية التي وصل إليها على غرار الشئون الإنسانية، وأن الصبغة العامة للجنس ينبغي أن توضع تبعا لصبغة الشعوب الممثلة لهذا الجنس تمام التمثيل، وأن الجنس السامي هو الواضع لمبدأ التوحيد الإلهي والمبشر به كنتيجة لاستعداد جنسي خاص، وأن الأمة اليهودية التي تمثل الجنس السامي لم تنتقل من التعدد إلى التوحيد على أثر تفكير طويل في الإلهيات أو تطور عقلي بطيء انتهى إلى تصور أصدق مما سبقه للسبب الأعلى، وأن من هذا الاستعداد الخاص للجنس السامي جاءت غريزة التوحيد الذي جعل هذا الجنس ينعم بنهج خاص من المناهج الدينية، التي تستند إلى فكرة وجود سلطة عليا مطلقة مركزة في ذات واحدة هي التي خلقت السماء والأرض. وأن هذه الفكرة جاءت إلهاما فطريا كالإلهام الذي أفضى إلى خلق الكلام.
على أن «رينان» لا يذهب إلى أن مبدأ التوحيد كان عقيدة الساميين جميعا، بل عقيدة الطبقة العالية في أول الأمر، بل أفراد منها، شأن كل العقائد في بداية الأمر. ثم إن «رينان» يذهب إلى أن سمات الساميين الوثنيين لا يستطاع تفسيرها إلا إذا قلنا إنه كانت لهم غريزة فطرية عن الألوهية تناقض تصور الآريين لها، ومن هنا كان الذي يميز الجنس السامي هو نقاء عقيدته من التعقيدات مع الإحساس المطلق بالوحدة، ذلك أن الوحدة والبساطة هما ميزتاه، ومن ثم فهو جنس غير كامل بسبب بساطته، على أن هذه البساطة قد ساعدته على تبسيط التفكير الإنساني والحيلولة دون التعدد والتعقيد الذي كان ديدن الآريين. (1-1) رأي المؤلف
هذا ما ينادي به «رينان» وعندنا أن التوحيد، كسائر المعتقدات والآراء لا يمكن أن يكون قد جاء دفعة واحدة استجابة للغريزة الفطرية في الجنس السامي وحده، بل إن التوحيد قد جاز مراحل شتى في الحياة البشرية، وأن الكثير من الأحداث والعوامل قد أدى إليه. ذلك أن العرب غير اليهود وهم من الجنس السامي لم يعرفوا التوحيد قبل الإسلام، وأن الآريين، وهم من البشر وإن افترقوا عن الساميين في النشأة وأحداث الحياة ومطالبها، لم يكن هناك ما يدعو إلى أن لا تنبت عندهم هذه الغريزة؛ غريزة التوحيد. (2) التأليه
عند الفلاسفة المتأخرين أن التأليه يرجع إلى ثلاثة مصادر: أولها التأليه الأولي أو الاجتماعي، ومبعثه القصص المتوارثة بين عامة الناس والتربية والعادة، أعني أن المميز الفاصل لهذا التأليه هو أنه يؤخذ بالتواتر لا عن الروية وإمعان النظر. وثانيها التفلسف، أعني التأليه الناشئ عن العقل الإنساني الذي هو منحة سماوية؛ فتأليه الذوات والأشياء يجيء ثمرة للتفكير والمنطق، وعند أصحاب هذه النظرية أن الإله هو مبدأ كل وجود وتعقل، وأساس كل معرفة يقينية. أما ثالثها الإشراق، فهي حالة روحية نفسانية نورانية شخصية يشعر بها الفرد شعورا داخليا مستقلا عن غيره، فيحس أن هناك إلها قد خلقه وألهمه ووجهه، دون أن يكون مأتى هذا الشعور محاكاة للجمهور كما في التأليه الاجتماعي أو منطقا كما في التفلسف. (2-1) الإلهام والوحي
هناك لحظات يغيب فيها بعض الناس عما بين ظهرانيهم، وبعدئذ تتفجر قرائحهم عن أروع الحكم والشعر وصنوف الإنتاج الفكري والابتكار الفني والصناعي، أو تغمرهم موجة روحية تنتهي بهم إلى أن يعتقدوا أنهم أصحاب رسالة ما في الحياة، وأن عليهم أن يؤدوا هذه الرسالة إلى قومهم أو إلى العالم كله، مهما تكن الشقة بعيدة والعقبات غير مشجعة.
وعند علماء الاجتماع أن أصل الديانات يرجع إلى تقديس الحيوان وعبادته (تيتو تيميزم)، أو تعظيم الأشجار. على أن علماء آخرين يذهبون إلى أن تأليه الحيوان أو الجماد إنما جاء على أنه رمز للإله المعنوي أو الآلهة أو القوى غير المنظورة السامية على الطبيعة. (2-2) عبادة الشمس
عبادة الشمس قديمة جدا، وقد انتشرت بين الأمم الزراعية خاصة؛ لأثرها العظيم هذا في الزراعة. وكان البابليون يعبدون الشمس المؤلهة في شخص إله يدعى شمش، وقد وجدت صورته على لوحة حمورابي. وكان المصريون يعبدونها في شخص الإله رع. وقد حاول أخناتون الفرعون المصري أن يقصر عبادة المصريين عليه فلم يفلح. وكان سكان اليمن والهنود والفرس والمكسيكيون يعبدون الشمس. ويقال إن عبادتها قد نشأت في مصر وانتشرت في العالم . (2-3) ديانة الهندوس
بعد أن تم للآريين الرعاة، الذين هجروا مواطنهم الأول حوالي بحر قزوين، غزو سهول البنچاب الهندية وأسموا أنفسهم الهندوس متغلبين على «الداسيين» السكان الأصليين؛ تجمع الكتاب المقدس الهندوسي المسمى «الفيدا»، وعند الهندوس أنه وحي من الله إلى الزعماء والأنبياء، وأن الكهنة هم حفظته وسدنته.
ثم ظهرت حركة دينية إصلاحية في الهند أثمرت تعاليم «الفادانتا» التي جاءت على أساس «الفيدا» روحا لا مبنى، و«البوذية» التي تنكر «الفادنتا»، أما «بوذا» فمعناه العالم الذي حصل على «البوذي» وبالسنسكريتية العلم الكامل، ظهر بين القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، وأساس تعاليمه أن الألم من لوازم الوجود، وأن الشهوات هي التي أعادت الإنسان إلى حياته الأرضية الحاضرة، وأن الخلاص من الشهوات هو الوسيلة إلى عدم العودة إلى الدنيا بعد الموت، وأنه يجب أن يبعد الإنسان عن العقبات المانعة من خلاصه.
ثم ظهر كتاب «بيورانا» في القرن السادس للميلاد فكان الكتاب المقدس الهندوسي الممتلئ بالأساطير والقصص، ففيه أن «براهما» هو الإله الخالق، و«فيشنو» الإله الحافظ، و«شيفا» الإله المهلك، أو أن الله تجسد ثلاث مرات. مرة في كل إله من الآلهة الثلاثة، وأكثر الهندوس يدينون بالديانة البرهمية.
وعند الهندوس أن الأرواح تتناسخ؛ أي لا تموت ولا تفنى، بل تنتقل من بدن إلى بدن، وتتطور من الأرذل إلى الأفضل حتى تبلغ كمالها وتتحد بالله، وأن الآلهة تحل بالكون على نقيض اليونانيين الذين يؤمنون بأن الإنسان يحل بالآلهة وبالطبيعة، وبأنه محور الوجود. (2-4) الكونفوشية والطاوية والأرواح المؤلهة
ولد الفيلسوف الصيني «كونغ فونشو» التي حرفت من الصينية إلى «كونفوشيوس» في 551ق.م في تسو الصينية، ومات في 479ق.م ومذهبه أقرب إلى الأخلاق منه إلى الفلسفة والدين؛ إذ ليس فيه شيء عن الإله والأرواح والآخرة، وإنما يتحدث عن السلام والنظام واحترام الآباء. ومع هذا فقد عد بعض المؤرخين المذهب الكونفوشي ديانة ما.
قال «كونفوشيوس»: «علقت المعرفة في الخامسة عشرة من عمري، وهام بها قلبي في الثلاثين، وانكشف لي سرها في الأربعين، وتعلمت الشريعة في الخمسين. ولما بلغت الستين صرت أفقه لما أسمع. وفي السبعين تسلطت على عواطفي وأخضعتها لسلطان العدل.»
وقال أيضا: «الفقر لا يستلزم التعس، والغنى بلا فضيلة ظل زائل. لا تحزن لجهل الناس بك، ولكن احزن لجهلك بهم. لا تعاملوا الناس بغير ما تريدون أن يعاملوكم به.»
أما مذهب الطاوية فينسب إلى لاوتسي الصيني أو إلى إمبراطور الصين في 150م. وأساس الطاوية أن أصل الكون قوة غير واعية لا شخصية لها.
وعند أهل شاطئ الذهب أنه إذا مات أحدهم أحاطوا بجثته، وأخذوا يسألونه عن سبب موته وقد يوبخونه؛ لأنه غادر أصدقاءه وأهله يبكونه، ثم يتضرعون إلى روحه أن تحرسهم وتحميهم من الشر، وكانوا إلى أمد غير بعيد، إذا مات أحد رؤسائهم، ذبحوا بعضا من خدمه ونسائه وأصدقائه ليدفنوا معه؛ زعما منهم أنه يحتاج إلى من يعوله في غربته. قال برتن: «ومن عادات سكان نهر كالابار القديم أنهم إذا فرغوا من جنازة ميتهم بنوا له بيتا صغيرا على ضفة النهر يجعلون فيه كل أمتعته الثمينة وفراشا ينام عليه الروح وبعض أنواع الأطعمة على مائدة.»
ويقدس الفانطيون البحيرات والأنهار وقد يعبدونها. وبعضهم يعد الأفاعي وحيوانات أخرى رسلا بين الناس والأرواح أو أنها تتقمص الأرواح، والبعض يعبدون التمساح والبعض الآخر يحتفظون بالذباب في وعاء لأنه مقدس.
أما أفراد قبيلتي البولوم والتيماني فيحملون مريضهم إلى قرية، غير التي مرض فيها فرارا من الساحر الذي يزعمون أنه سبب له ذلك المرض برقيه، كي لا يبقى لسحره سلطان عليه، فإذا لم تتحسن صحة المريض بذلك الانتقال أسكنوه كوخا في بعض الغابات وكتموا أمره عن كل إنسان، ولا يخفى ما في هذا الانتقال من الفائدة في شفاء الأمراض؛ لأنه يماثل تبديل الهواء عندنا. ويبدو أن مرضاهم كثيرا ما كانت تشفى به وهم يحسبون شفاءها من السحر والوهم.
ومن عادات قبائل الأشانتي في شاطئ الذهب أنهم إذا عزموا على حرب صنعوا خليطا من قلوب أعدائهم ودمائهم، وبعض أنواع العشب المقدس وأطعموا رجالهم من ذلك الخليط، ومن لم يأكل منه خافوا عليه أن يذهب فريسة في أيدي أرواح أعدائهم المقتولين. •••
يمتاز أفراد الشلوك إحدى قبائل السودان بلغة وعادات وأخلاق خاصة بهم، وهم يقيمون على الشاطئ الغربي للنيل الأبيض بين بلدة تسمى «الروه» على 180 ميلا من أم درمان نحو الجنوب، وبلدة «لونقوا» على 20 ميلا من مصب بحر الغزال من النيل المذكور. وهذا كله على الضفة الغربية للنيل. أما على الشرقية فتنتهي بلاد الدنكة في فشودة، ومنها إلى «كوتام» على نهر سوباط على 20 ميلا من مصبه، وسكانها من الشلوك، وأكثر بلاد الشلك عمران القسم الجنوبي منها.
وهم يعتقدون بإله يسمونه «كوي يكاغو» أو «الجوك» وهو المتسلط على الكون كله، ولا مقر له ولكنه يقبض الأرواح، وله ابن اسمه «لوكاما» يقيم في الماء. وعندهم بيت اسمه «كجور» ويزعمون أنه اسم رجل من الأولياء سكن الأرض في قديم الزمان، فلما مات سكنت روحه الماء، فبنوا له بيتا قدسوه وأسموه باسمه، وأقاموا فيه السدنة والخدمة من المشايخ والعجائز رجالا ونساء، فإذا اختلفوا في أمر استخاروه كما كانت العرب في جاهليتهم يستخيرون هبل، وإذا قتل أحدهم ولم يعرفوا قاتله اجتمع شيوخهم ورؤساؤهم وذهبوا إلى ذلك البيت ومعهم بقرة أو ثور ويرتلون ترتيلة خاصة بذلك، فيخرج خادم الكجور ويستقبلهم واقفا حتى ينتهي نشيدهم، فيعرضون إليه ما جاءوا من أجله، فيدخل الخادم إلى البيت ويجلس داخله، ويضع البخور المختص بالكجور في قارورة معدة لذلك. ويعزم ويرتل فيناجيه صوت من داخل البيت يعتقدون أنه ملاك من الملائكة، فيسأله الخادم: من قتل فلانا؟ فيصف لهم شخص المقتول ثم يصف القاتل، فيقتلون الثور أو البقرة التي جاءوا بها بحرابهم، وينهضون للأخذ بالثأر أو طلب الفدية. وما الفدية عندهم إلا الاستيلاء على كل ما يملكه القاتل من الماشية أو غيرها.
وإذا انقطع المطر عنهم أخذوا ثورا وجلسوا خارج ذلك وجثوا على ركبهم وهم مطرقون وأكفهم على الأرض أمام ركبهم، ثم يرفعونها ويضعونها على الركب، ثم يعيدونها إلى الأرض ويكررون ذلك ثلاث مرات، ثم يمسحون بها وجوههم، ثم تطلب خادمة الكجور من الجوك - وهو الإله عندهم كما تقدم - أن يطردهم ويسقي أرضهم، وبعد التوسل والدعاء يذبحون الثور ويأكلون لحمه هناك، ويرجعون إلى منازلهم وتمطرهم السماء ماء يروي أرضهم. (2-5) ديانة قدماء المصريين
قال «ماسبيرو» العالم الأثري الفرنسي في كتابه «تاريخ الشعوب الشرقية القديمة» كما قال آخرون: «إن قدماء المصريين كانوا يعبدون إلها واحدا، حاكما في السماوات والأرض، رب كل شيء. أب الآباء وأم الأمهات بصيرا موجودا بنفسه حيا لا يحتويه شيء، لا يفنى ولا يغيب. لم يخلق ولم يتجزأ ولا تراه العيون، يوجد في كل مكان، وليس له شبيه ولا حد.»
غير أن قدماء المصريين قد أخذوا بعدئذ يرمزون للإله بمعبودات مادية، وبعدئذ أصبح المتأخرون منهم يعبدون هذه الرموز، فعبدوا الشمس والقمر والحيوان والنيل، جاعلين لكل منها إلها، كما تعددت الآلهة تبعا للأقاليم وللمدن والأسر، كذلك كانوا يعبدون العجل أبيس ممثلا للإله «فتاح» و«نبرات» إله الحبوب.
وعند «چوستاف لوبون» المؤرخ الاجتماعي الفرنسي في كتابه «الحضارة المصرية»: «إن مصر لم تكن تعرف هذا الإيمان الوجداني في أي عصر من عصور تاريخها، فإن الإنسان يستطيع أن يقلب «كتاب الموتى»، وجميع أوراق البردي دون أن يعثر على شيء يمكن أن يدله على وجود الإيمان الحقيقي بإله واحد. وقد عرفت مصر الوحدة السياسية، ولكنها لم تعرف بتاتا إلها وطنيا واحدا.» بل إن «مارييت» نفسه في الطبعة الجديدة لكتابه قد قال: «إن الآثار تدلنا على أنه كان لكل من الرهبان منذ العائلة الأولى آلهته الخاصة، وهي ثلاث فرق: آلهة الموتى، وآلهة العناصر، والآلهة الشمسية.» وقد يكون هناك أحرار مفكرون في العهد الأوسط يعتقدون أن هناك إلها واحدا، ولكن عبادتهم كانت سرية لا يعرفها العامة.
وترجع المعتقدات الدينية في مصر إلى عصور مختلفة، وهي قد بدأت من عبادة الموتى وقد تبع هذا تأليه الملوك الموتى، كما في عصر بناة الأهرام، وقد أضيفت إلى عبادة الموتى، عبادة الشمس والنيل والقوى الطبيعية، فإله الشمس رع القوي المتلألئ نهارا، وأوزريس الإله الذي يحيي النيل في الظلام وفي الموت الذي هو بمثابة المساء.
وعند هيرودوت أن المصريين كانوا أكثر الناس تدينا، وكانت للديانة عندهم كالهنود والشرقيين، دخل في أعمالهم العامة والخاصة، فلا نهاية لعدد الكائنات والأشياء المقدسة. وصبغة الآلهة المصرية محلية، فكان «أوزريس» في أبيدويس و«فتاح» في ممفيس، و«آمون» في طيبة، و«هوروس» في إدفو، و«هاتور» في دندرة. وكان للآلهة مراتب بعضها فوق بعض، كما أن بعض الآلهة قد يتفانى في البعض الآخر فتكون إلها واحدا. وكان أكبرهما «مصر» الحياة الآجلة أسوة بالهند، التي كانت الحياة الأرضية عندها ممرا وفترة حقيرة في أمد غير محدود ليس غير. أما رمز الشر الحقيقي المتجسم الكامل في مصر، فكان «أباب»؛ أي الثعبان الذي تدوسه الآلهة.
هذا وحوالي عام 2000ق.م حين عظم شأن طيبة وأصبحت عاصمة الديار، اشتد أزر «آمون» إلهها المحلي وأصبحت له سطوة وخطر، فوقف المصريون إزاء ذلك أمام معضلة كبيرة، وتساءلوا: لمن من الآلهة تكون السيادة السياسية؟ «ألرع» وهو الإله العتيد ذو المجد التالد والتاريخ الحافل أم «لآمون» وهو - على حداثة شهرته - رب طيبة عاصمة الملك وإله الفراعنة الحاكمين؟ ولكنهم لم يكلفوا عقولهم عناء كبيرا، وبإضافة صغيرة بين الاسمين حلت المشكلة فصار الإله الأعظم هو «آمون-رع» يجمع بين مزايا هذا وذاك، مع ما هناك بينهما من تناقض.
وكذلك حين تباينت لديهم العقائد من الموت ومصير الأموات - فكان لكل عقيدة مصدر يغاير المصادر الأخرى وتاريخ يختلف عن تواريخ غيرها، وكفوا أنفسهم مئونة التفكير العميق في اختلاف هذه المصادر والتواريخ، وفي أيها أحق بالتصديق واكتفوا بأن قبلوا هذه العقائد جميعها، وآمنوا بها غير عابئين بما بينها من تنافر واضح.
ولكن أقدم هذه العقائد المختلفة - كما أوضحنا - هي العقيدة في حياة جسدية بحت تلبس الجسم وهو في قبره. وإليها وحدها يرجع الفضل في وجود هذه الكنوز العظيمة ومن بينها كنز «توت-عنخ آمون».
أما أسطورة «أوزريس» فخلاصتها هي أن أوزريس «وهو أحد الآلهة التسعة العظام مؤسسي العالم» كان ملكا عادلا لرعيته، ولكن أخاه «ست» كان يبغضه فتحين الفرص وقتله ثم ألقاه في اليم. غير أن «إيزيس» زوجة «أوزريس» المخلصة استطاعت بتعاويذها أن تعيد الحياة إلى جثة زوجها وساعدها أحد الآلهة فحنطه. ومن ثم صار «أوزريس» إله الأموات وقاضيهم، وأصبح في نظر الشعب المصري المثل الأعلى لكل من يموت، حتى إنهم عدوا كل ميت «أوزريسا»، وأصبحت المومياوات توضع في توابيت منحوته على هية أوزريس. أما الغرب المقدس «أمنتت» فهو مأوى أوزريس، وكان المصريون يدفنون موتاهم دائما في جهة الغرب؛ لأنهم لاحظوا أن الشمس تحتجب في المغرب، ومن هنا صار الغرب لديهم مقدسا. (2-6) ديانة اليهود إلى الكتاب المقدس
كان العبريون «اليهود» ينطقون بالآرامية القريبة من العربية إلى أن عبروا الصحراء والأردن ونزلوا فلسطين، فتكلموا الكلدانية المختلطة فسميت العبرية وذلك حوالي 1400ق.م، وكانت ديانتهم مشوشة إلى أن ظهرت التوراة.
أما الكتاب المقدس فيشمل العهد القديم «التوراة» والعهد الجديد «الإنجيل». والتوراة، في معناها الضيق، تطلق على الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم الذي ينسب إلى النبي «موسى»، وهي: سفر التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية. أما «التلمود» فهو مجموع التعاليم الأدبية والدينية في سنة 400 في جزأين: تلمود أوروشليم، وتلمود بابل. غير أن اليهود القرائيين ينكرون «التلمود»، وقد جمع فيما بين القرنين الميلاديين الرابع والسادس، وينقسم قسمين: «مشنا» وهي أحكام شرعية مقاسة على «التوراة»؛ و«جمارا». (2-7) ديانة الإيرانيين
كان الفرس «الإيرانيون» القدماء يعبدون الأوثان إلى أن ظهر في تاريخ يتأرجح بين القرن العاشر والخامس ق.م بينهم «زورادشت»، وعندهم أنه قد عرج إلى السماء وتلقى عن أهورامزدا «الله» الكتاب المقدس «الأفستا». وعند بعض مفسريه أنه يقول بأن رب الكون واحد لا شريك له، وإن يكن في الكون خير وشر يتنافسان. (2-8) ديانة اليونانيين
أوردت الأساطير اليونانية القديمة أسماء آلهة أقيمت لها التماثيل وسكنت جبل أولمبوس، ومن هذه الآلهة «أبولو» إله الشمس، و«فينوس» إله الجمال، و«چوبتر» إله المشتري، و«وزيوس» الخالد إله النهار والضوء وسيد النظام ورب الأرباب وزوجه «هيرا»، و«بلوتو» إله جهنم، «وميركاري» إله عطارد، و«هفيستوس» إله الحدادين، و«أفروديت» إلهة الجمال، و«آثينا» إلهة الحكمة، و«بوزيدون» إله البحر، و«تيميس» إلهة الشريعة، و«أبنوميا» إلهة الحكم الصالح، وإلهات «اليارك»: الأعمار الثلاثة، و«هادويس» سيد العالم الآخر، و«ديانا» إلهة الصيد.
وآلهة اليونان تماثل الإنسان فهي تتزوج وتغضب وتفرح، وهي ذات علاقة وثيقة بالإنسان والطبيعة، ويتوزع بينها العمل والاختصاص! (2-9) الدين والفلسفة
وعند «سعيد زايد» خريج كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول في القاهرة أن هناك صلة متينة بين الدين والفلسفة، وأنه إذا كان الدين في أول أمره يعتمد على مخاطبة القلب قبل العقل، إلا أن المتدينين لا يلبثون أن يواجهوا مشكلات لاهوتية لا تحل إلا بنور العقل، والسبيل إلى ذلك الفلسفة، فبعد أن استقرت الدعوة الإلهية واستتبت الأمور واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، ودخلت أمم كثيرة متمدينة تحت لواء الإسلام، اتسع الوقت للمناقشة والجدل، وواجه المسلمون أقواما درسوا الفلسفة والمنطق، لا يكفيهم في الإقناع أن يقال لهم: قال الله تعالى كذا، أو قال الرسول
صلى الله عليه وسلم
كيت، لا سيما والله تعالى ورسوله يدعونهم إلى تحكيم العقل فيما يدعون إليه. إزاء هذه الحالة لم ير المسلمون بدا من الإقبال على دراسة الفلسفة والمنطق، ومن أن يطلبوا حكم العقل في أمور الدين، فنشأت فلسفة إسلامية ترمي إلى التوفيق بين العقل والنقل، واصطنع منهج التأويل.
ففي مسألة الوحدة نجد ابن سينا، الذي عني بهذه المسألة عناية واضحة تبدو للمتأمل في مؤلفاته العديدة، ولا سيما في مباحثه الميتافيزيقية - أي المتصلة بما بعد الطبيعة - في واجب الوجود الذي لا يحتاج في وجوده إلى غير ذاته، فهو علة ذاته وعلة كل الممكنات الأخرى؛ نجد المعلم الثالث «ابن سينا» يحاول من ناحيته أن يثبت بالدليل النقلي ما قد أثبته عن طريق الاستدلال العقلي من وحدانية واجب الوجود، غير أنه لا يتيسر له ذلك توا دون الالتجاء إلى تأويل بعض النصوص القرآنية، التي وردت فيها آيات تدلل على أن الله واحد، ولا أظن أن المجال يتيح لنا عرض صور مختلفة لما لجأ إليه ابن سينا من التأويل في كل ما ورد من الآيات فيما يختص بالوحدانية، وإنما يكفي أن نشير إلى تأويلاته في تفسير سورة الإخلاص، متخذين هذا التأويل أنموذجا يوقفنا على مدى ما ذهب إليه المعلم الثالث في تفسيره وتأويله.
قل هو الله أحد
يعود بنا ابن سينا في تفسيره لهذه الآية إلى فلسفته الميتافيزيقية، فيقول: «الهو المطلق هو الذي لا تكون هويته موقوفة على غيره»، أو بمعنى آخر هو أن وجوده متوقف على ماهيته وذاته، على نقيض الممكن الذي يتوقف وجوده على غيره، وإذا كان وجود «الهو» المطلق متوقفا على ذاته، كان واجب الوجود؛ لأن وجوده هو عين الذات؛ إذ إن اقتران «الهو» بالله يكشف عن أن المقصود «بالهو» هو الهوية الإلهية.
وهذا بحق لازم من لوازم تعريف الألوهية بالوحدانية، لكمال بساطتها وغاية وحدتها. ويعلق ابن سينا على ذكر اللوازم القريبة «للهو هو» بأن ذلك تعريف حقيقي؛ لأن التعريف الحقيقي هو الذي يذكر فيه اللازم القريب للشيء الذي يقتضيه الشيء لذاته، لا لغيره؛ لأنه إذا ذكر فيه اللازم البعيد لا نستطيع أن نقرر أن هذا اللازم معلول للشيء حقيقة، بل كل ما نستطيع أن نقرره أنه قد يكون معلولا لمعلوله. ثم يتطرق ابن سينا في تفسيره إلى أن يفرض سؤالا قد يمكن أن يوجه إليه، وهو أن ماهيته تعالى، إذا كان لا يمكن لغيره معرفتها إلا بوساطة صفات السلوب والإضافات، فلم لم يذكر ذلك واقتصر على ذكر اللوازم؟ ويجيب على هذا السؤال بأن الله بوصفه عاقلا ومعقولا، واحد ليس له مقومات، بل إنه وحدة مجردة، وبساطة محضة لا كثرة فيه، ولا اثنينية هناك أصلا، وعقله لذاته، ولا يعقل من ذاته إلا الهوية المحضة المجردة عن الكثرة؛ ولذا عرفها بلوازمها القريبة، وتأكيده بأنه واحد مبالغة في الوحدة، لعدم وجود التشكك في أنه واحد من جميع الوجوه، وأنه منزه عن الكثرة، سواء أكانت كثرة معنوية كالأجناس والفصول، أم كثرة مقومات كالمادة والصورة والأعراض.
ثم إن ابن سينا في تفسيره «الصمد» يقرر أن لهذه الكلمة تفسيرين: أولهما الذي لا جوف له، وثانيهما السيد. ثم يؤول التفسير الأول بأن الصمد صفة سلوب تنفي الماهية؛ لأن كل ما له ماهية له جوف وباطن، وما لا بطن له وهو موجود لا اعتبار لذاته إلا بالوجود، والذي لا اعتبار له إلا بالوجود يكون غير قابل للعدم، فالشيء من حيث هو موجود، يكون غير قابل للعدم، فالصمد يكون بهذا المعنى واجب الوجود من جميع الوجوه.
أما التفسير الثاني لكلمة «الصمد» بوصفه سيدا فيؤولها ابن سينا على أن المقصود أنه سيد للكل؛ أي مبدأ الوجود وعليه الأولى ...
ويؤول ابن سينا قوله:
لم يلد ولم يولد
بأنه هو وحده، وأنه وإن كان مصدرا للوجود فإنه لا يفيض بوجوده مثله، حتى يكون له ولد، ولما كان وجوده من ذاته بهويته لم يكن صادرا هو عن غير ذاته. وإذا كان الأمر كذلك؛ أي إذا كان واجب الوجود ماهيته هويته، لا يتولد عن غيره ولا يتولد عنه شبيه له لم يكن هناك في الوجود ما يكافئه ويساويه في قوة الوجود؛ ولذلك قال تعالى:
ولم يكن له كفوا أحد .
ثم يستخلص من هذه السورة أن الله بعدم ذكره المقومات في تعريفه
الله أحد
وذكر اللوازم، قد دل على أنه في ذاته بسيط ليس له ما يقومه، واحد ليس له شريك في هذه الوحدانية. ثم إنه بإرداف الواحدية بالألوهية، قد رتب الأحدية على الإلهية ولم يرتب الإلهية على الأحدية؛ لأن الألوهية هي افتقار الكل به على الإلهية إليه. ومن كانت هذه صفاته كان واحدا مطلقا.
ويذهب إسماعيل مظهر في كتاب «ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء» إلى أنه قد تصدى للنظر في الدين فحول من مفكري القرن الماضي، لو اطلعت على التعاريف التي وضعوها للدين لأيقنت بأن الدين لا يزال كما عهدناه في الإنسان الأول، ظاهرة مرتكزة على الاعتقاد، ظاهرة تطورت الفكرة فيها بتطور عقلية الإنسان، فبلغت حدا عرفنا عنده أن الدين عقيدة تتلخص في أمرين اثنين، لو جمع بينهما الفرد كملت ذاتيته بصفته فردا صالحا من جماعة تضرب في أصول الارتقاء بسهم بعيد.
الأمر الأول:
الاعتقاد بوجود قوة مدبرة حكيمة عاقلة سرمدية، لا تدرك حقيقتها العقول البشرية إلا بقدر ما تستطيع أن تبلغ من إدارك لقوة تدبر عالما، وقف الفكر أمامه معترفا بالعجز.
الأمر الثاني:
أن الدين شريعة أدبية، صلة الفرد بها حاجة للمجموع تؤدي به إلى أبعد غاية من الارتقاء المدني.
وإليك كلمات استجمعها العلامة «بنيامين كيد» لعديد من كبار المفكرين من معاصريه، ومن تقدمهم في عصور المدنية، نأتي عليها لنظهر الباحث الخبير على آخر حالات تشكلت فيها العقلية الفردية في إدراكها لحقيقة الدين: (1)
الدين معرفة الله والتشبه به «سنيك». (2)
ينحصر الدين في اعتقادنا بأن كل واجباتنا أوامر إلهية «كانت». (3)
إن الدين شرع أدبي ممسوس بالانفعال «ماتيو أونولد». (4)
الدين عبادة الإنسانية «كونت». (5)
إن العاطفة الدينية يكونها الانفعال الهادئ مقرونا بالخوف وحساسية الخضوع للعظمة «إسكندر بابن». (6)
إن دين الإنسانية هو المعبر عن أقصى حالة عقلية يعلل بها الكون، هو المعنى المجمل، بل محصل ما يبلغ إليه إدراك الإنسان، من معرفته لحقيقة الأشياء «إدوارد كايرد». (7)
إن الدين حد المعرفة الذي تدركه النفس المحدودة المتحيرة، من ماهيتها كنفس مطلقة غير متناهية «هيچل». (8)
الدين إجلال المثل الأعلى من الأخلاق، ومحبة العمل على تحقيقه في الحياة «هكسلي». (9)
إن ماهية الدين هي توجيه الانفعالات والرغبات بقوة وصدق عزيمة نحو تحقيق مثل أعلى نقنع بأنه أقصى الجود والخير، وأنه فوق كل الرغبات النفسية التي تسوقنا إليها الأنانية «ميل». (10)
إن الدين هو الشيء الذي يعتقد الإنسان في صحته اعتقادا عمليا. هو الشيء الذي يحسه الإنسان بقلبه، ويأخذه على أنه حقيقة واقعة فيما هو كائن من علاقاته المتعددة بهذا الكون المتعمق في الغموض، الأصيل في الاستغلاق، وفيما يتصل بواجباته في هذه الدنيا، ونهاية هذه الحياة «كارليل». (11)
إن الدين في أول درجاته، وإبان حالاته، هو ما يمكن أن نصفه بأنه عادة مقرونة بشغف دائم «صاحب كتاب الدين الطبيعي». (12)
إن الدين اعتقاد في إله باق قديم؛ أي إرادة قدسية وعقل قدسي يدبران الكون، في حين أن علاقتهما بالنوع البشري أدبية «دكتور مارتينو». (2-10) نشأة الأديان الكبرى
يقدر عدد سكان العالم بنحو ألفي مليون. أما قبل التاريخ فالعدد غير معروف، ويدين بالمسيحية 34٪ من سكان العالم موزعين على مذاهبها هكذا: 16,2 في المائة من الكاثوليك، 10,7٪ من البروتستنتية، 7,1٪ من الأرثوذكس، أما «الكونفوشيوسية» فيدين بها 18,2٪، و«الإسلام» 13,4٪، و«الهندوكية» 12,8٪، و«البوذية» 8,4٪، و«اليهودية» 1٪، والباقون إما أنهم يعبدون الحيوان، وإما موزعون بين مذاهب شتى يتعذر حصرها. أول الأديان الكبرى: البوذية، فالهندوكية، فالكونفوشيوسية، وكلها من القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، فاليهودية، فالمسيحية، فالإسلام.
وقد نشأ الدين الإسلامي في شبه جزيرة العرب، أما المسيحية فقد نشأت بين بيت المقدس وروما. والكونفوشيوسية نشأت في الصين، والبوذية نشأت في الهند. وكذلك نشأت في بادية الشام الديانة اليهودية التي يقرب عدد المتدينين بها من عشرين مليون نسمة.
ويمكن أن يقال إن أكثر الديانات الكبرى نشأت في بيئة صحراوية تتيح للإنسان أن يتأمل الطبيعة الكبرى، ومن أجل هذا كان الشرق مهد الحضارات القديمة، والأديان مظهر من مظاهر الرقي الاجتماعي. ومن هنا سبق الشرق الغرب في ظهور الأديان كما سبقه إلى نور الحضارة والعمران.
هذا وقد عبر المسلمون إفريقية واستوطنوا الأندلس، ولم يكن ثمة ما يمنع أن ينفذ الدين الإسلامي إلى صميم أوروبا غير أنهم انهزموا في معركتي تور وبواتيه، فأقام المسيحيون حاجزا من جبال البرانس حال دون بلوغ الإسلام إلى وسط أوروبا وشمالها. ثم إنه لما سارت جيوش العثمانيين غربا حتى أخضعت دول البلقان، ووقفت على أبواب فينا واتجهت شمالا إلى بولندا وروسيا كان من المرجح أن يشمل الإسلام جميع تلك البقاع الفسيحة جيلا بعد جيل، ولكن العثمانيين لم يوفقوا في حروبهم دائما بل لحقهم الضعف والتفكك. ولو انتصر الأندلسيون على شارل مارتل ووفق العثمانيون في فتوحهم لدانت شعوب أوروبا بالإسلام؛ إذ ليس في أصوله وتعاليمه ما يجعله خاصا بشعب دون شعب.
الدين في القرآن الكريم
وقد آثرنا - إتماما للفائدة - أن نورد هنا بعض الآيات القرآنية في هذا الموضوع:
جاء في سورة آل عمران:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
وجاء في آل عمران أيضا:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
وجاء في سورة المائدة:
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون .
وجاء في سورة الأنعام:
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير .
وجاء في هذه السورة أيضا:
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين . (2-11) شعوب لا دين لها
هناك شعوب لا دين لها، فقد ذكر الفيلسوف هربرت سبنسر في الكتاب الرابع «أصول علم الاجتماع» أنه «توجد أدلة على أن الناس، الذين فصلوا عن عالم الأفكار المكتسبة مذ طفولتهم لسبب من الأسباب خلوا من كل فكرة دينية، فقد ذكر الدكتور كيتو - الذي كان أصم - في مؤلفه «الحواس المفقودة» صفحة 200 شهادة سيدة أمريكية ولدت صماء بكماء، ولم تعلم بالطرق الصناعية الخاصة إلا بعد وصولها إلى سن الرشد. قالت - أو قل كتبت بطريقتها إنه لم يخطر على بالها البتة ولا على بال أحد من الصم الكم الذين كانوا معها في دار واحدة أنه لا بد للعالم من خالق».
ثم يقول سبنسر: «فهذا كله يدل على أنه ليس بالشعوب المتمدينة ميل غريزي إلى الدين.» ولدينا براهين تؤيد صحة هذا الاستنتاج، وتثبت أن فكرة الدين مفقودة أصلا بين كثير من الشعوب المتوحشة. فقد قدم السر چون لوبوك أمثلة على شعوب عديدة من هذا القبيل في كتابيه «العصور السابقة للتاريخ» و«أصول المدنية».
وروى المستر هارستون في مجلة «فور تنيتلي ريفيو»، بالمجلد التاسع عشر، أنهم كانوا يعلمون رجلا من قبيلة الودي وهو في السجن، فاتضح أن ليس لديه أي إلمام عن الخالق ولا عن الروح ولا عن عالم آخر.
وقال القس صموئيل سمث الذي عاش 28 سنة مع أناس صم بكم يصف أحدهم «أنه ليس له أي إلمام بالخلود، وأنه لم يعثر على واحد من الصم البكم ممن لم يتعلموا عنده أية فكرة عن قوة عليا خلقت العالم وتدبره».
وذكر شون فورت في مؤلفه «أواسط أفريقيا» ما نصه: ليس للبنجرس أدنى فكرة عن الخلود وهم يجهلون كل معتقد ديني. وأما الزولو، وهم على شيء من الذكاء، فإنهم برهان واضح على دعوانا هذه وإليك الحديث، الذي دار بين الرحالة «جاردبز» وأحدهم الذي يدعى تباي.
جاردبز :
هل لك إلمام بالسلطة التي خلقت العالم؟ أنت ترى الشمس تشرق ثم تغرب والأشجار تنبت وتنمو، فهل تعلم من يدبر كل هذا؟
تباي (بعد أن سكت برهة) :
إننا نرى كل هذه الأمور ولا نعلم من أين أتت، ونعتقد أنها أتت من تلقاء نفسها. (راجع كتاب رحلة في بلاد الزولو بأفريقيا للرحالة جاردبز ص72).
ويؤيد ما تقدم أيضا الحديث الذي دار بين السر صموئيل بيكر، وبين رئيس قبيلة من قبائل اللاتوك يدعى كومورو، وإليك نصه:
السر صموئيل بيكر :
هل لكم أي اعتقاد في وجود آخر بعد الموت؟
كومورو :
وجود آخر! وكيف ذلك؟ هل يمكن الميت أن يخرج من قبره إلا إذا نبش القبر وأخرج منه؟!
بيكر :
هل تظن أن الإنسان مثل الحيوان يموت ثم يندثر أمره؟
كومورو :
لا شك في هذا، فإن الثور أقوى من الإنسان، ولكنه يموت مع أن عظامه أطول وأقوى من عظام الرجل التي تكسر بسهولة؛ لأنه ضعيف.
بيكر :
أليس الإنسان أذكى من الثور؟ أليس له عقل يدبر أعماله؟
كومورو :
توجد ثيران أذكى من بعض الرجال، فإن الرجال يزرعون الأرض كي يحصلوا على قوتهم. أما الثور والحيوانات المتوحشة فإنها تحصل على قوتها من غير زرع.
بيكر :
ألا تدري أنه يوجد فيك شيء آخر خلاف الجسم؟ ألا تحلم؟ ألا تذهب إلى مسافات طويلة في أثناء نومك وجسمك لا ينتقل من مكانه؟ فكيف تعلل ذلك؟
كومورو
باسما :
كيف تعلل أنت ذلك؟ إن هذا الأمر يحصل لي كل ليلة ولكني أجهل أسبابه.
بيكر :
أليس لديك أية فكرة عن الأرواح التي هي أقوى من الإنسان والحيوان؟ أليس لك أقل خوف من عواقب الشر، ودع عنك الخوف من العوامل الطبيعية؟
كومورو :
إني أخشى الفيلة وحيوانات أخرى حين أسير ليلا في الغابات ولكني لا أخاف شيئا آخر.
بيكر :
وعلى هذا فأنت لا تعتقد في شيء لا في أرواح الخير ولا في أرواح الشر، وتظن أن كل شيء فيك من جسم وعقل يندثر بموتك. وأنك مثل بقية الحيوانات لا فرق بينك وبينها.
كومورو :
طبعا.
بيكر :
ولكن انظر إلى حبة القمح كيف تعفن بعد أن تبذرها في الأرض، ولكن لا تلبث قليلا حتى تنبت وتنمو منها سنبلة تأتي بحبات كثيرة، فإذا كانت حبة القمح تحيا بعد موتها فمن باب أولى الإنسان الذي هو أعظم المخلوقات.
كومورو :
لقد أدركت قصدك جيدا، ولكن الحبة الأصلية تنعدم بعد الموت فهي تعفن كما يموت الإنسان وينقضي أمرها. أما السنبلة التي تنبت منها فليست الحبة الأصلية بل ثمرتها ونتيجتها. وهكذا حال الإنسان فإني أموت ثم أعفن وينقضي أمري، ولكن نسلي ينمو مثل ثمرة الحبة. وقد لا يأتي الإنسان بنسل كما تفنى الحبة ولا تأتي بثمر. فبعد الموت ينعدم الإنسان كما تنعدم الحبة.
وقال العلامة فيانا دي ليما الدكتور في العلوم الطبيعية والعضو بالمجمع العلمي الفرنسوي في كتابه «الإنسان حسب مذهب التطور» صحيفة 174 وما بعدها ما يأتي:
ليست الفكرة الدينية من طبيعة النوع الإنساني، وليست هي صفة أصلية فيه تميزه عن سائر الأحياء وما هي إلا حالة مر عليها في أحد أطوار ارتقائه. وعلى كل حال فهي ليست لازمة له وليست عامة بين جميع الشعوب؛ إذ توجد شعوب متأخرة لم تصل في أطوار ارتقائها إلى طور الأفكار الدينية. وتوجد فئات كثيرة بين الشعوب المتمدينة فاقت هذا الطور ويزداد عددها كل يوم، وتوجد شعوب أخرى خطت نحو المدنية خطوات تذكر ولم تمر مطلقا بهذا الطور؛ طور التدين والأفكار الدينية. وهذه الشعوب التي لا يدين أفرادها بدين ما يوجد منها في أفريقيا وآسيا وأمريكا وأوستراليا. وذلك بشهادة الرحالين تومبسون، وفان دير كامب، والقس موفات، والرحالة الشهير لفنجستون، والسر صموئيل بيكر «المتقدم ذكره» والدكتور مونات، ودالتون وليختنشتين، وقد ذكر كل من مورتز فجنر في رسائله الثلاث والسر چون لوبوك في كتابيه «أصول المدنية» و«العصور السابقة للتاريخ» - المتقدم ذكرهما - عددا كبيرا من الشعوب التي ليست لها أية عقيدة دينية.
روى ليفنجستون الرحالة الكبير في مجلة «الجمعية الأنثروبولوچية الفرنسوية» أن عبادة الأصنام وكل نزعة دينية معدومة بين قبيلة بتشياتا وكثير من قبائل أفريقيا الوسطى. وقد أيد كل من كازاليس والمبشر موفات قول ليفنجستون هذا. فقد قال موفات في كتابه «عشرون سنة في أفريقيا الجنوبية» ما يأتي: «طالما سعيت جهدي في كشف شيء من الأفكار أو الاعتقادات الدينية عند السكان لأتدخل بينهم، فلم أفلح؛ لأنه ليست لديهم أية فكرة من هذا القبيل.»
وقال القس برون مثل هذا القول عن قبيلة الماكولو ببلاد الكفر بأواسط أفريقيا.
وروى المبشر لنجستون هذه الرواية أيضا عن قبيلة ميونجو في أفريقيا.
وروى الأب سلفادور مثل هذه الرواية أيضا عن قبيلة أرافيرس وكثير غيرها من قبائل أوستراليا.
وقال هذا القول أيضا الرحالة ماكليهو مكلي عن سكان جزيرة سلمون، وعن قبائل البابواس التي تعيش على سواحل غينيا الجديدة وعن قبائل خليج بافان.
ولم يعثر المبشر بيسجرت على أي أثر للاعتقاد بالله أو الأصنام أو الخلود أو أي معتقد آخر عند كثير من قبائل كاليفورنيا القديمة. وكذلك الحال عند سكان كاليدونيا الأصليين وقبائل الباشا چوني والفوچيان.
وروى السر چون إيمرسون عن قبائل الفيدا بجزيرة سيلان أنه ليس لهم إلمام بأية عقيدة دينية من أي نوع، وكانوا يسألون السر چون إيمرسون: «أين هذا الأله؟ وعلى أية شجرة أو على أية صخرة يعيش؟» وكذلك حال كثير من زنوج شبه جزيرة ملقا.
وروى السر ميسنجر بردلي مثل هذا عن قبيلة من قبائل أوستراليا والرحالة ديتبورن عن قبائل البوشيمان والإسكيميين، وعن قبائل ليساوخاسياس التي تعيش في شمال الهند.
وفي كتاب «المادة والقوة» للعلامة بختر الألماني صحيفة 251 من الترجمة الفرنسوية ما يأتي:
أثبت كثير من العلماء والسائحين والتجار والمرسلين والمبشرين أنه توجد شعوب عديدة ليس بها أدنى نزعة دينية. وطالما سمعت وقرأت أن الدين أو التدين هو الصفة المميزة للنوع الإنساني، وهو الحد الفاصل بينه وبين بقية الحيوانات. فلا تخلو الحال من أحد أمرين: إما أن القائلين بهذا القول على خطأ، وإما أنه يوجد عدد كبير من الناس لا شيء يميزهم من الحيوانات.
وقال العلامة بروكا الشهير: «لا ريب عندي في أنه توجد شعوب كثيرة من النوع الإنساني خالية من كل معتقد وعبادة ومن كل فكرة دينية.»
وهنا استشهد بختر بما قال السر چون لوبوك وداروين وغيرهما عن وجود قبائل كثيرة لا تعتقد أي دين مما أشرنا إليه ثم قال:
وأبلغ من هذا كله أن جميع أتباع كونفوشيوس لا دين لهم مطلقا، فهم لا يعتقدون في إله ولا يؤمنون بخلود الروح. وليس ما يسمونه بدين كونفوشيوس سوى مذهب فلسفي عمراني أخلاقي نشره صاحبه وهو فيلسوف صيني قديم، فاتبعته الطبقة المتعلمة في الصين وكثرة سكان اليابان.
وإليك ملخص مذهب كونفوشيوس نقلا عن كتاب «الأطلال» للعلامة فولني صفحة 139:
الحقيقة هي أن كل ما في الوجود وهم وخيال وظواهر باطلة، وليس التقمص الروحي إلا رمزا إلى التقمص الجسمي المادي الحقيقي؛ لأن مادة الجسم - مثلها مثل المواد التي في الكون - لا تفنى بعد الموت، بل تتحلل وتنتشر في الأرض والهواء وتدخل في تراكيب أخرى. وما الروح إلا القوة الحيوية التي تنتج من خواص مواد الجسم وتأثير أعضائه بعضها في البعض مما يجعله يتحرك ويحيا. أما القول بأن هذه القوة الناتجة من تأثير الأعضاء وخواص المادة الملازمة لها، والتي تولد منها وتنمو معها تبقى - أي تلك القوة - بعد موت الجسم لهو قول خيالي وهمي خلقه تصورنا المخدوع، وما الله إلا مجموع القوى الطبيعية غير المنظورة المنتشرة في جميع أجزاء الكون، والتي تحركه أو مجموع النواميس الطبيعية التي تديره.
ولما كانت هذه النواميس الطبيعية في غاية الدقة، وأغلبها خفي على الإنسان برزت للناس كلغز لا يمكن حله، فقالوا: بوجوب الإيمان بها بغير إدراكها وزعموا أنها فوق العقل البشري. ... «إن الحكمة هي معرفة النواميس الطبيعية، وإن الفضيلة تقوم في اتباعها والشر والرذيلة في جهلها وعدم السير وراءها.» انتهى كلام فولني عن مذهب كونفوشيوس الذي يسمونه دينا.
هذا ويقول «ناصيف المنقبادي»: إن هناك شعوبا لم تعرف عقيدة ما، وإن من الشعوب التي لا تدين بدين ما بعض قبائل العرب القديمة، فقد جاء في كتاب «مصادر الإسلام» ما نصه: والعرب الجاهلية أصناف، فصنف أنكر الخالق والبعث وقال بالطبع المحيي والدهر المفني، يؤيد هذا ما ذكره القرآن عنهم في سورة الجاثية:
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر . (2-12) عبادة الكواكب
عند «السيد عبد الرزاق الحسيني» من بغداد أن مظاهر الطبيعة وعجائب الكون قد وجهت نظر الإنسان منذ نشأته إلى إكبارها وتعظيمها، فأكبر العاصفة وارتعدت فرائصه للقوى الطبيعية، ورأى في كل تلك المظاهر قوة مدركة وحياة خاصة فاستصغر قواه بجانبها، ووجدها جديرة بالتعظيم والتقديس. ومن هنا نشأت فكرة العبادة لمظاهر الكون واستمر البشر يؤله ما يخاف منه وما تجهل كنهه، أو يرى فيه شيئا غريبا حتى تطورت فكرة الدين بتطور البشر، وأصبحت المظاهر الطبيعية تنضوي قواها تحت قوى محصورة في قوة واحدة، فبعد أن كانت الريح العاصف والشمس المهجرة والنار المتأججة، آلهة تعبد وأربابا تطلب منها المساعدة والمعونة، أصبحت تلك القوى، متمثلة في عدد من الكواكب السيارة وفي قوة تمثلها تلك الكواكب، وتطورت هذه الفكرة فأصبح عدد الكواكب يتضاءل حتى لم يبق إلا إله واحد، وأصبح الخلاف في صفاته بعد أن كان في شركائه وأقرانه.
ولكن على الرغم من هذه التطورات التي طرأت على العقيدة البشرية، فإن جذور تلك الاعتقادات ما تزال باقية وما يزال قسم من البشر يحتفظ بأصول العقائد الأولى وبصفات التفكير القديم، قبل عصر الحضارات ومن هؤلاء الصابئة.
جاء في القرآن الكريم في سورة البقرة:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ، الآية، وقد ذهب المفسرون في تفسير كلمة «الصابئة» مذاهب شتى لا نرى داعيا للبحث فيها، غير أننا نقول إن الصابئة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية الشريفة قد انقرضوا، فأصبح من المتعذر علينا بيان معتقدهم بالتفصيل.
وذكر أصحاب كتب الملل والنحل نوعا من الصابئة دعوهم «الصابئة الحرانية»، فظن البعض أن هؤلاء القوم من الصابئة الأقدمين، وهذا وهم وضلال، فقد ذكر ابن النديم في الصفحة ال 320 من فهرسته «طبعة أوروبا» أن المأمون اجتاز في أواخر أيامه ديار مصر يريد غزو بلاد الروم فتلقاه الناس يدعون. وكان بينهم جماعة من الحرانية، وكان زيهم إذ ذاك لبس الأقبية وإرسال اللحى، فأنكر المأمون ذلك عليهم وسألهم هل هم من المسلمين أو اليهود أو النصارى، فأجابوه بالسلب، فسألهم هل لهم كتاب أو نبي، فأجابوه سلبا، فأراد قتلهم مشيرا إلى أنهم أصحاب الرأس في أيام والده الرشيد، فأجابوه بأنهم يدفعون الجزية، فقال لهم: أنتم كفرة ملاحدة والجزية تؤخذ ممن خالف الإسلام من أهل الأديان الذين ذكرهم الله في كتابه المجيد. وطلب إليهم أن ينتحلوا الإسلام دينا لهم أو دينا آخر من الأديان التي جاء ذكرها في القرآن، وأمهلهم إلى عودته من غزو الروم. ويقول ابن النديم إن الحرانيين خافوا على حياتهم، فأسلم بعضهم وقص البعض الآخر شعره وصاروا في ولولة واضطراب، وجاءوا شيخا من شيوخ حران يطلبون نجوة لهم وقدموا إليه النذور والدراهم، فقال لهم: إذا عاد المأمون من رحلته وسألكم عن دينكم فقولوا له: نحن الصابئة، والصابئة اسم لدين ذكره الله في كتابه.
ويزيد ابن النديم على ما تقدم قائلا: إن المأمون مات في سفره «218ه/833م»، ولكن المسلمين عقبوا خطته حتى جعلوا الحراني يتظاهر بالإسلام. فإذا تزوج وولدت له امرأته ذكرا جعله مسلما، وإن جاءت إليه أنثى جعلها حرانية أو صابئة بالمعنى الذي أراده الشيخ الحراني لخلاصهم؛ وخلاصة قول ابن النديم أنه لم يكن في حران يوم اجتاز المأمون ديار مضر لغزو الروم صابئة، وليست للحرانيين الذين خرجوا لاستقباله فجرى ما جرى لهم؛ أية صلة بالصابئة، وهذا هو المراد عندنا .
وقد ذكر المسيو هنري بونيون في كتابه تحت عنوان «الفرقة الدستائية»، وهي المندائية التي اشتهر بها الصابئة الحاليون ما مضمونه: إن صاحب هذه الفرقة كان متسولا، وقد جاء من بلاد ما بين الزابين - يريد الزاب الأكبر والزاب الأصغر، وهما من أنهار العراق المعروفة - إلى ميسان - يريد جنوبي العراق - وكان مسيحيا اسمه «دبدا» واسم أمه «أم كشطا»، ثم توطن ضفاف نهر القاردن في جنوبي البصرة الحالية، وأسس ديانة جديدة مأخوذا معظمها من المارقيونيين والمانويين والكنتيين وغيرها من الفرق الصابئية القديمة، ثم توسعت هذه الطائفة على مر السنين وسموا بالصابئة؛ أي المغتسلة؛ لأن جميع طقوسهم الدينية لا تتم إلا بالارتماس في الماء الجاري. ا.ه.
تعتقد الصابئة أن المخلوق الأول لله كان روحانيا يدعى «هيي قدمايا»؛ أي الحي القديم، وأن الله خلقه وخلق معه عوالم كثيرة مملوءة بالنفوس المقدسة. ثم خلق الحي الثاني أو المخلوق الثاني وهو «هيي تنيائي»، وخلق معه كذلك عوامل مقدسة لا تحصى، ثم خلق المخلوق الثالث وهو «هيي تليثائي»، وخلق معه ما خلق مع سابقيه، وأن هذه النفوس تنقسم قسمين: «أنزي»؛ أي عوام، و«ملكي»؛ أي ملوك. ثم خلق عوالم سبعة تدعى «آلمي دهشوخا»؛ أي عوالم الظلام، وهي تستمد نورها من الشمس، وسكانها عوام وملوك أيضا، وأرضنا من جملتها.
أما هيئة الأرض فيرونها بشكل مربع وأنها ثابتة غير متحركة، وهي مقامة على هواءين: أحدهما خارجي والآخر داخلي، وتحت الأرض ماء انبسطت عليه، وأما السماء فيعتقدون أنها مكونة من سبع طبقات وأن الشمس تقع في الطبقة الرابعة والقمر في السابعة. ويرون أن الأرض والسماء مركبتان من مادتين هما: النار والماء، وكذلك الكائنات الحية فهي كلها مركبة من هذين العنصرين. ويعتقدون أن الله بعد أن أتم خلق الأرض ، أنزلت الملائكة من عالم الأنوار الذي يسمونه «آبي دنهورو» بذورا للأشجار، وفتحت طريقا للهواء ولماء الحياة، وفتحت طريقا آخر للنور تستمد منه الشمس أشعتها لتنير بقية الكواكب بالواسطة.
يسمي الصابئة آدم «كوره قدمايه»، ويقولون إن الله أرسل جبرائيل ويسمونه «إبتاهيل» إلى الأرض ؛ ليخلق آدم على صورته فخلقه على صورته من التراب، وخلق من ضلعه الأيسر حواء، ثم أنزل الروح في جسمي آدم وزوجته، وعلم الملائكة آدم كل ما في الأرض، ثم أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس، ويسمونه «هادبيشة» قائلا: خلقتني من نار وخلقته من تراب فكيف أسجد له؟ فطرده الله من الجنة ولعنه.
وضع الصابئة للعالم تاريخا قدره 5873095 سنة أسندوه إلى أساطير.
وفي فكرة الخير والشر ترى الصابئة وتعتقد أن الخير والشر موجودان من قبل الإنسان، ويحدثان بفعله وأن إرادة الإنسان الجزئية، واختياره المطلق هو الذي يجعله مسئولا أمام الله، وهم يرون فوق ذلك أن الله بين للإنسان طريق الخير وطريق الشر، فله الحرية المطلقة في إتيان ما شاء ونبذ ما يشاء من دون معارض يعارضه.
تعتقد الصابئة أن الموت انتقال لا اندثار، فالروح بعد أن تخرج من الجسد، لا تفنى ولا تنعدم، إنما تنتقل من عالم لآخر حتى تصل إلى عالم الأنوار. وتعتقد أيضا بأن الروح لا تطهر إذا لم تخرج من بدن طاهر، ولهذا وجب غسل الميت وتكفينه ساعة احتضاره، لتخرج الروح من جسده وهو طاهر، فإذا مات الميت نجس وحرم مسه. ومن مات فجأة؛ أي بلا غسل وتكفين، عد كافرا. والبكاء والعويل محرمان على الميت فإن كل دمعة تذرفها العين على الفقيد تكون نهرا كبيرا في طريقه يعجزه عن قطعه.
فإذا مات الميت استقبل روحه ملكان من نقلة الأرواح فيحاسبانه على عمله في دنياه، فإن كان الميت حسنا فإن روحه تذهب إلى عالم الأنوار رأسا، وإن كان سيئا تبقى الروح في العذاب حتى تطهر.
أما صلاة الصابئة فهي وضع أولي للصلاة ثلاث مرات وقوفا وركوعا وجلوسا في غير سجود وأذكار، ولا يصومون وإنما لا يأكلون اللحم 36 يوما، ولهم عادات في الزواج والجنازة والذبح. ولكهنتهم في ذلك نفوذ مطلق. (2-13) رأي المؤلف
أوردنا فيما تقدم الكثير من آراء العلماء والفلاسفة في «الدين والتأليه»؛ لكي يقف القارئ على أصل هذه الفكرة التي رافقت الإنسان قبل عصر التاريخ والحضارات وبعدهما إلى اليوم.
وعندنا أن الإنسان البدائي قبل أن يعرف شيئا اسمه «الدين» أو «الإله» كان يخشى القوة، سواء كانت ممثلة في رجل قوي مسيطر، أو زعيم نافذ الكلمة، أو رب أسرة محترم المقام مهيب الطلعة؛ أم في حيوان أو وحش؛ أم في شيء في الطبيعة كالشمس والقمر والنجوم والماء، أم في شبح أو حلم. ومن هذه الخشية نشأ الاحترام والإجلال والتهيب فالحب فالتقديس.
كان الإنسان الأول دائب النظر إلى السماء، مأخوذا بحرارة الشمس وكسوفها وضوء القمر وخسوفه والنجوم ونورها، وبالعواصف والسحب والصواعق والبرق والأمطار والبرد - بفتح الراء.
وعندنا أن الإنسان البدائي كان يعبد ما يعبد ويقدس ما يقدس تبعا للأحداث العارضة، وأنه كان ينتقل من عبادة إلى أخرى في سرعة كلما كان الملقن أو الحدث قويا، أو كلما حط عصاه في بلد جديد ذي عبادة أخرى.
وكلما ارتقت الحياة الاجتماعية أحس الأقوياء المسيطرون والمفكرون بحاجة هذا المجتمع إلى رابطة روحية، كما أحس المجتمع ذاته بحاجة إلى هذه الرابطة. ومن هنا كان المجال متسعا لنشر الدين والتفنن في مذاهبه، فتعددت الأديان والآلهة وتطورت إلى أن ظهرت الديانات الكبرى في الحضارات القديمة
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم
قرآن كريم.
الفصل الثاني عشر
السحر والشعوذة
(1) السحر
لما كان السحر من أقدم ما عرفه الإنسان البدائي، إنسان ما قبل التاريخ، فقد رأينا أن نعقد له هذا الفصل. هذا والسحر يطلق عامة على قوة الإتيان بالعجائب وممارستها باستخدام عوامل فوق الطبيعة مفروض وجودها عند من يمارسون السحر. وتدور حول السحر نظريات، منها نوعان: النظرية الشخصية، والنظرية الموضوعية. فأما الشخصية فهي المراسم التي يضعها ممارسو السحر له بما يتفق معه، ومن هنا كانت المراسم التي لا تنصبغ بصبغة دينية، تعد سحرا. أما النظرية الموضوعية فتعد السحر مستقلا عن الدين؛ ولهذا كان للسحر خواصه وأصله النفساني، وكان طريقا إلى علم همجي يعتمد على قوانين تخيلية مفروض أنها تعمل على منع سير النظام المستند إلى قوانين الطبيعة .
وعند «إ. ب. تايلور» أن مميزات السحر هو عدم صحتها؛ إذ إنها خليط مشوش من المعتقدات والممارسات التي يؤلف اتحادها كل ما ليس له في الطبيعة سبب ونتيجة. ومن أنواع السحر، العنصر الروحي وهو ينتظم الكائنات الروحية وأشباح الموتى والشياطين والآلات. أما العنصر غير الروحي فإنه يعتمد على القوى المتصورة واتصالاتها في الطبيعة؛ أي إنها منطق غير تام فهي اتخاذ فكرة غير صحيحة على أنها صحيحة. ومن أمثلتها أن الهندي الأمريكي، إذا ما رسم صورة غزال وصوب إليه سهما أو طلقا، توقع أن يقتل غزالا حقيقيا في اليوم التالي.
ومن قبيل هذا سحر المحاكاة، وهو أن يعمل الساحر عملا يشبه العمل المقصود فإذا أراد استنزال المطر ملأ إناء من الماء ووقف على ربوة وصبه معتقدا أن السماء ستفعل فعله. وإذا أراد أن يقتل خصما له، رسم صورته على ورق أو مثلها في طين ثم يتلفها معتقدا أن ما يحدث للصورة أو التمثال يحدث للشخص نفسه.
أما سحر العدوى فهو أن يأخذ الساحر أو يعهد إلى أحد أن يحضر له شيئا من لباس الشخص المطلوب أذاه فيتلف هذا الشيء فتنتقل عدوى التلف من هذا الشيء إلى الشخص نفسه. وكان المصريون يؤمنون بسحر المحاكاة، فقد وجدت بعثة ألمانية، 290 شقفة من الفخار عليها أسماء أعداء مصر في الخارج والداخل ممن كانوا يحاربون الحكومة أو يخرجون عليها. وعند البعثة أن المقصود من كتابة هذه الأسماء على الفخار هو كسر الفخار وتحطيمه؛ حتى يحدث للأعداء ما يحدث للفخار؛ وهو أن ينهزموا وينكسروا. أما سحر العدوى فإن العامة تمارسه للآن في مصر في الرقية، فإنهم إذا رقوا أحدا من مرض يعتقدون أن العين هي أصله، يأخذون «أثرا» من لباس صاحب العين، ويحرقونه ويرقون به المصاب فيشفى على زعمهم.
وعند «الأثري المصري محرم كمال، أمين المتحف المصري» أن «ما ندعوه الآن بالسحر قد ورثناه عن المصريين القدماء. فقد اشتهرت مصر في قديم الزمان بالسحر، وإلى الآن لا تعدم قرية من قرانا ساحرا تضفي عليه خيراتها وتضع فيه ثقتها، ويستمتع فيها بالنفوذ والثقة اللذين كان ينعم بهما سحرة العصور القديمة».
كان المصري القديم يلجأ إلى الساحر إذا أراد التخلص من عدوه، وتخبرنا النصوص بأن الساحر كان يعذب هذا الشخص بما يطلقه عليه من أحلام مزعجة وأشباح مرعبة وأصوات مستغربة، بل إن الساحر كان يسلط عليه الأمراض فتنهك قواه وتهد بدنه. وكان الساحر قادرا على أن يجعل النساء يتركن أزواجهن ويتعلقن بأذيال من يريده هو من رجال وإن كانوا موضع كرههن من قبل. وكان الساحر يطلب في مثل هذه الأحوال؛ لكي ينجح عمله أن يؤتى له بقليل من دم الشخص المطلوب أو قلامة من أظافره، أو خصلة من شعره أو قطعة قماش من ثياب يكون قد لبسها؛ فإذا حصل على ما طلب، صنع تمثالا من الشمع بشكل الشخص المطلوب (العمل له)، ووضع في التمثال أو استعمل في صنعه الأشياء التي أخذها، فإذا تم له ذلك ألبس التمثال ملابس كالتي يرتديها الشخص نفسه حتى يشبهه تمام المشابهة، ثم يجري عليه طائفة من الأعمال السحرية، فكان إذ دق مسمارا في التمثال أصيب الشخص بمرض، وإذا قرب التمثال من النار أصابت الشخص حمى خبيثة، وإذا طعن التمثال بسكين قتل الشخص أو جرح. ويظل الساحر يزاول أعماله حتى يقضي على الشخص الذي يريده! وقد ورد في النصوص أن هذا النوع من السحر قد استعمل ضد الملك رمسيس الثالث، ولكنه اكتشف الأمر وقبض على هؤلاء السحرة، وصادر ما وجده لديهم من تماثيل الشمع التي صنعت بشكله، كما أوردته ورقة «هاريس» البردية السحرية وورقة «تورين» البردية القضائية. أفليس هذا النوع من السحر، وعمل التماثيل من الشمع أو الطين، ووخزها بالإبر والدبابيس هو الذي يستعمله الدجالون في القرى والأقاليم الآن؟
وكل ما لدينا من غرام بالتمائم والتعاويذ والأحجبة كحجاب الحب والكره والحفظ، وآلاف التمائم التي تعلق في رقاب الأطفال حتى تطول أعمارهم، كل هذه إن هي إلا عادات ورثناها عن أجدادنا القدماء الذين كانوا لا يسيرون خطوة إلا والتمائم ترافقهم وتحميهم، وزيارة واحدة للمتحف المصري تطلعكم على آلاف التمائم التي استعملها المصريون القدماء.
ويقرب من هذا اعتقاد العامة اعتقادا جازما بالعين وقوة أثرها. فإذا جلست إلى رجل منهم حدثك كيف أن هناك فئة من الناس لا تكاد ترى شيئا تعجب به حتى يحصل له حادث ما، ومن هنا نشأت فكرة تعليق الصحون على مداخل المنازل أو قرون الأغنام أو عروسة القمح على الأبواب. كذا طائفة من التمائم نراها معلقة على العربات وسيارات الأغنياء والمثقفين بشكل خرز أو قلائد توضع دفعا للعين، فهذه الخرافة ورثناها أيضا عن مصر القديمة، فقد وجد في مكتبة معبد الإله حوروس في إدفو كتاب مملوء بالرقى والتعاويذ لطرد العين الشريرة. كما أن هناك أنشودة معروفة للإله تحوت يرجع تاريخها إلى الدولة الحديثة، وقد ورد فيها ما يأتي: «أيها الإله تحوت! إذا كنت تحميني لم تبق بي حاجة إلى الخوف من العين.»
ويعتقد العامة المصريون الأحياء أن هناك ساعات من النهار بل أياما معينة لا يحسن بالمرء أن يأتي فيها عملا؛ لأنها منحوسة، فهذا الاعتقاد في الأيام سعدها ونحسها قديم أيضا؛ إذ كان المصريون القدماء يعتقدون أن الأيام تكون سعيدة أو منحوسة طبقا لما وقع فيها من حوادث سعيدة أو كريهة في أساطيرهم الدينية، فاليوم الأول من أمشير الذي رفعت فيه السماء، وكذا اليوم السابع والعشرون من هاتور الذي عقد فيه صلح بين الإلهين حوروس وسيت وتراضيا فيه على اقتسام العالم، كانا يومين كلهما سعد وبركة. أما اليوم الرابع عشر من طوبة الذي بكت فيه إيزيس ونفتيس على أوزريس فقد كان يوما منحوسا. وكان هذا الاعتقاد من القوة في العصر الفرعوني، بحيث إن كثيرا من الأعمال كالبدء في سفر بعيد أو عقد صفقة تجارية أو ما إليها كان يؤجل من أجل هذه الأسباب، وما زلنا الآن بعد مضي خمسة آلاف سنة تؤجل أشياء لهذا السبب عينه.
وقد اعتدنا في ليلة شم النسيم أن نعلق البصل فوق الأماكن التي ننام فيها أو نضعه تحت الوسادة، وفي الصباح نكسر البصل ونشمه. وفي بعض القرى يعلقون هذا البصل على باب المنزل. فهذه العادة مصرية قديمة؛ إذ كان الناس في عيد الإله «سكر» إله الموتى في مدينة منفيس يدورون حول جدران هذه المدينة، وقد علقوا البصل حول رقابهم، كما كانوا يعلقون البصل حول أعناقهم في الليلة التي تسبق هذا الاحتفال.
وعند «چ. چ. فريزر» أن السحر يقوم على قانون العطف؛ أي على فرض أن أشياء تعمل على نقيضها على مبعدة خلال عروة سرية بسبب وجود التشابه بين شيء وآخر، أو أنهما كانا في وقت ما متصلين أو أن أحدهما كان جزءا من الآخر، وأن السحر نظام قد نشأ في الجماعة ورافق وجودها؛ أي إنه لا ينشأ مع الفرد الواحد؛ إذ إنه لن يعرف السحر في مكان غير مأهول.
أما الطلاسم وهي إحدى فروع السحر، فإن القول بأن حلها يؤدي إلى فتح الكنوز فقد يكون هذا صحيحا؛ لأن هناك رموزا أفضى تفسيرها إلى معرفة أماكن ومناجم معدنية، قبل ما عرف عن مواطن الآثار القديمة وكنوزها ومناجم الذهب والمعادن النفيسة. أما غير هذا فهو احتيال على العقول.
وقد ورد السحر في التوراة حين ذكرت السحرة والنبي موسى، كما ورد في أكثر من آية في القرآن خاصة في قصة موسى، وقد نقل كتاب الفلاحة القبطية إلى العربية من الكلدانية في الدولة العباسية، ووضعت مصاحف الكواكب السبعة وكتاب طمطم الهندي في صورة الدرج والكواكب، وقد ألف «جابر بن حيان» كتبا في السحر والكيميا، وألف مسلمة بن أحمد المجريطي في الأندلس كتاب «غاية الحكيم» وهو خلاصة كتب ابن حيان.
وعند «ر. ر. ماريت» أن الدين والسحر شكلان لظاهرة اجتماعية غير منظورة، وأن الإنسان الأول كان يخضع لنظام يعالج ما هو فوق الطبيعة. وفي هذا النظام عناصر كل من السحر والدين ، اللذين كانا شيئا واحدا ثم افترقا فأصبح الدين هو الأعلى وهو المقر به وهو الأكثر حرمة. غير أنه ما بين ما هو سحر خالص ودين خالص، توجد عناصر غير متميزة.
ويروي «دييري» أن سكان أستراليا الوسطى يجتمعون في حفلة يفتحون خلالها فتحة يقيمون عليها بناء يسع كبار الرجال. أما النساء فإنهن ينظرن إليهم ثم ينسحبن قليلا نحو 500 ياردة. وهنا يتقدم السحرة ويدمون اثنين من الرجال، فيلقيان بأيديهما في الهواء ويأخذ الرجال الآخرون دمهما. أما الدم فرمز للمطر. (2) الشعوذة
وقد جاء في أحد أعداد مجلة «الهلال» أن الشعوذة في اللغة خفة اليد، وأخذ (بضم ففتح) كالسحر يرى معها الشيء في رأي العين بغير ما عليه أصله. والفرق بين الشعوذة والسحر أن الأخير هو عمل شيء فيه مناقضة لنواميس الطبيعة وخروج على قيودها. والمراد منه في الغالب إخراج الباطل في صورة الحق. وفي بعض كتب اللغة أن السحر هو ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان. على أن العلم ينكر السحر؛ لأنه يقوم على مخالفة نواميس الكون، فإذا كانت هذه المخالفة وهمية أو من قبيل الخداع البصري فهي الشعوذة والخفة.
وبينما يعتمد الساحر على قوة غير منظورة، فإن المشعوذ يعتمد على الخداع وخفة اليد.
والأرجح أن السحر وجد قبل الشعوذة وأنه تحول إليها بمرور الزمن، وأثر السحر ظاهر بين جميع الشعوب الهمجية خاصة قبل عصر التاريخ. فلا تجد قبيلة من القبائل المغرقة في الهمجية وإلا ولها ساحر تحترمه وتنقاد له. بل لقد كان الساحر أو العراف قديما زعيم القبيلة وسيدها المطلق، وهذا ما جعل زعماء القبائل يلجئون إلى الخداع والمخاتلة لضمان زعامتهم على قومهم، ومع قدم الزمن أدرك الناس أن مخالفة نواميس الطبيعة غير ممكنة، فالشمس لا بد أن تشرق في النهار، والنار لا بد أن تحرق ما يلقى فيها، والحديد لا بد أن يغرق في الماء، والسم لا بد أن يقتل من يتناوله. فإذا حدث ما يناقض جميع ذلك فهو شعوذة لا شك فيها.
ولإيضاح ذلك نقول على سبيل التمثيل: إنه لما ذهب كولمبوس إلى أمريكا في القرن الخامس عشر، توغل بعض رجاله بين قبائل الهنود الحمر، فهجم عليهم هؤلاء ليفتكوا بهم، وكان البعض يعلمون أن الشمس ستكسف ذلك اليوم، فتهددوا الهنود إن هم مسوهم بسوء بأن يطلبوا من «معبودهم» الشمس أن يغضب عليهم! ... وما هي إلا دقائق حتى بدأت الشمس تكسف، فذعر الهنود واستولى عليهم الهلع وخيل إليهم أن أولئك البيض آلهة، فأطلقوا سراحهم واستغفروهم وقدموا لهم هدايا وتحفا كثيرة. ولا يزال بعض هنود أمريكا إلى هذا اليوم يتناولون قصة الآلهة الذين زاروا بلادهم من أحقاب كثيرة وكسفوا الشمس!
فما أتاه أولئك البيض لم يكن سحرا إذ لم يكن فيه خروج على نواميس الطبيعة. ومع ذلك عده الهنود سحرا، ولعله أقرب إلى الشعوذة منه إلى أي شيء آخر؛ إذ ليس في الشعوذة ما هو مناقض لطبائع الأشياء. إلا أن المشعوذ يستغل معرفته لتلك الطبائع ويستعين بخفة يده ومهارته على خداع الناس.
ومما يدل على ما كان لساحر والمشعوذ كليهما من مقام عند الأقدمين (ولم يكن هؤلاء يفرقون بينهما) أن ملوكهم كانوا يحيطون أنفسهم بالسحرة والعرافين، ففي التوراة أنه لما صنع موسى معجزة أمام فرعون استدعى هذا سحرته وعرافيه، وطلب منهم أن يفعلوا مثل ما فعل موسى. وفي التاريخ أن الإسكندر ذا القرنين كان إذا أراد الخروج إلى الحرب استشار السحرة والعرافين. وكذلك كان يفعل الروم والرومان والفرس وغيرهم. ومن أمثلة هذا أن كهان معبد دلفي ببلاد الروم قديما كانوا يشيرون على الملوك وقادة الجيوش، الذين يستشيرونهم بأشياء لا يمكن أن يؤاخذوا عليها مهما جاءت به الحوادث. قيل إن أحد أقيال الروم استشارهم مرة في محاربة الفرس فقالوا له: «إنك ستخرب مملكة عظيمة»، فلما حاربهم انتصروا عليه. وكان تأويل نبوءة الكهان سهلا، فإنهم لم يعينوا الغالب والمغلوب، فكانت النبوءة تحتمل الوجهين.
وقد كان فراعنة مصر يقربون إليهم السحرة والمشعوذين؛ لينبئوهم بالغيب وليفسروا لهم الرؤى والأحلام وليقرءوا لهم الأفلاك ويطلعوهم على المستقبل. وكذلك كان يفعل ملوك بابل وآشور والفرس والروم والرومان. بل لقد بقيت تلك البدعة متمكنة من النفوس حتى الآن. وما عهدنا بشعوذة راسبوتين ببعيد فقد استطاع ذلك الدجال التغرير بعقل قيصرة روسيا وإيهامها أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء؛ لأن له صلة بالعالم غير المنظور. هذا ولا يزال في أوروبا كثيرون حتى من العلماء ممن ينخدعون بالدجل والشعوذة.
ومن أشد دواعي الأسف أن بعض الخبيرين بأسرار الاستهواء؛ أي التنويم المغناطيسي، يستغلون معرفتهم به للتغرير بالناس ولتمويه الحقائق بطلاء الباطل والشعوذة.
ولقد كانت الشعوذة ولا تزال مرتبطة بالتطبيب والتنجيم ارتباطا وثيقا. فكان الطبيب في أطوار الاجتماع الأول مشعوذا يستعين بقليل من الخبرة وبكثير من الدجل والخداع. فكان إذا دعي لعيادة مريض عمد إلى وصف بعض الأعشاب والمواد وإلى استطلاع النجوم والأفلاك وتنبأ بما سيكون من أمر العليل؛ ولهذا كان لشخص الطبيب عند الأقدمين حرمة كبيرة، وكان الناس ينظرون إليه كما ينظرون إلى شخص مقدس يجب الخضوع له في كل شيء، وكان الطبيب أو المشعوذ يرث مهنته عن أبيه ويورثها له. ومن هنا نشأت طائفة الكهان أو العرافين الذين لم يكونوا في الحقيقة سوى دجالين مشعوذين، صحيح أنهم كانوا في أقدم عصور الاجتماع يؤمنون عن إخلاص بما لهم من قوى خارقة قد ورثوها عن غيرهم، ولكنهم أدركوا مع قدم الزمن أن دعواهم قائمة على الكذب والدجل، وأنهم مجردون من كل قوة خارقة للطبيعة. ويقول علماء النفس: إن أولئك المشعوذين كان لهم في عدة مواقف فضل على قومهم بما كانوا يوقدونه فيهم من نار الحماسة، وما ينفخونه من روح الشجاعة والإقدام. وتفصيل ذلك أن قادة الجيوش الأقدمين كانوا إذا خرجوا للحرب والقتال يستشيرون السحرة والكهان كما تقدم القول، ويذيعون ما يقوله هؤلاء بين الجنود؛ ليشجعوهم ويستثيروا حماستهم.
وفي التوراة أن شاول ملك اليهود استشار روح صموئيل النبي فيما سيئول إليه أمره من محاربة الفلسطينيين فأنبئ بأنه سينكسر وبأن جيشه سيهلك، ومع ذلك لم يعبأ فكانت آخرته وبالا عليه، وليس هذا مجال البحث في كيفية استشارة روح صموئيل، وإنما نقول إنها تمت على يد عرافة مشعوذة. وكان هو نفسه - أي شاول - قد قطع دابر العرافين والمشعوذين في مملكته. ولعله أول ملك في التاريخ حرم العرافة والسحر والشعوذة، فقد كانت هذه المهنة كثيرة الشيوع، بل كانت من مستلزمات الاجتماع في العصور الغابرة ، وكان النساء الرومانيات كثيرات الشغف بالالتجاء إلى المشعوذين لاستطلاع حظوظهن. ولسنا نعلم جيلا من الناس لم تلجأ نساؤه إلى الدجالين والمشعوذين لاستطلاع أنباء الغيب والكشف عن المستقبل، فإن مثل ذلك الاستطلاع في خلق المرأة منذ أقدم أزمنة التاريخ.
ولنرجع إلى الشعوذة المحضة منذ أقدم الأزمنة، فنرى أنها كانت شائعة عند قدماء المصريين وكانوا يخلطونها بالسحر. وفي سفر الخروج من التوراة أن سحرة مصر (ويراد بهم المشعوذون) تمكنوا من تقليد الآيات التي صنعها موسى أمام فرعون لحمله على إطلاق سراح الإسرائيليين. ومن ضروب الشعوذة التي كانوا يمارسونها أنهم كانوا يحرقون البخور في غرفة مظلمة، فتنعقد في الجو سحب كثيفة من الدخان تظهر عليها صور مختلفة فتدهش الناظرين، وكانت تلك الصور أو المرئيات تنعكس عن مرايا معدنية مقعرة مستورة عن الأنظار.
ومن أعمالهم أيضا أنهم كانوا يرسمون صور الآلهة على جدران الأقباء أو الدهاليز المظلمة المقامة تحت الأرض، وما هي إلا لحظة حتى تلتهب تلك الصور كأنها بقوة سحرية. والمعروف أن تلك الصور كانت من مواد قابلة للالتهاب، فإذا مست النار جزءا منها سرت في سائر الأجزاء وأحدث التهابها دهشة عظيمة!
وهناك ضروب أخرى من الشعوذة كان يمارسها قدماء المصريين. وعنهم أخذ اليونان حتى قيل إن كهنة دلفي وأفسس وغيرهم تلقوا السحر والشعوذة عن المصريين. ومن عادة الرومان أنهم ما كانوا يقيمون وليمة إلا وللشعوذة منها نصيب كبير.
ولم يتفق العلماء حتى الآن على تعليل الشعوذة التي كان يقوم بها كهان دلفي ببلاد اليونان. فقد كان الملوك وقادة الجيوش يقصدونهم إذا عزموا على القيام بغزوة أو حرب، ويستطلعون ما هو مقدر لهم في صحف الغيب كما قدمنا. فإذا ألقوا على أولئك الكهان سؤالا سمعوا أصواتا لا يعلمون من أين هي ردا على سؤالهم. ومن المحتمل أن الكهان كانوا يحسنون إخراج الأصوات من بطونهم؛ وهو ما يعرف اليوم «بالفتيرولوكويسم».
وإذا عدنا إلى العصور المتوسطة رأينا أن الشعوذة كانت منتشرة فيها انتشارا عظيما. فقد أشار تشوسر الشاعر الإنجليزي إلى مرئيات غريبة كانت تظهر في بعض الاحتفالات وتمثل مواقع قتال ومشاهد صيد وحوادث مختلفة. وذكر السر چون مندفيل أنه شاهد مثل ذلك في قصر أحد أقيال الشرق. وروى «تشليني» في أواسط القرن السادس عشر أنه رأى صورا ورسوما مدهشة بارزة على ستار في الظلام في بناء الكولوسيوم بمدينة روما. والأرجح أن جميع هذه المناظر كانت مما يعرف اليوم بالفانوس السحري. وقد كان البعض يعتقدون أن الفانوس السحري من مخترعات القرن السابع عشر.
ومما يجدر بالذكر أن الفيلسوف ديكارت الذي نبغ في النصف الأول من القرن السابع عشر صنع تمثالا شبيها بالإنسان الميكانيكي، الذي شاع صنعه اليوم في أمريكا والذي يسمى «روبوت» أو «أوتومات»، وكان ينطق بكلمات وعبارات تدهش السامعين. قيل إن ديكارت كان مسافرا ذات يوم في سفينة ومعه هذا التمثال، فلما رآه ربان السفينة تشاءم منه وقذفه إلى البحر وفي أواخر القرن السابع عشر عرض رجل إنجليزي يسمى توماس إبرسون في قصر تشارلس الثاني تمثال رجل يتكلم ويجيب على أسئلة السائلين. وتعليل ذلك أن التمثال كان دقيق الصنع جدا، وكان مجوفا يختفي في داخله رجل ذكي الفؤاد يتكلم عدة ألسنة ويخرج من جوفه أصواتا غريبة كأنها آتية من بعد. ولم تنكشف جلية هذا الاختراع إلا بعد مرور الزمن.
ومن ضروب الشعوذة أن أحدهم قد يدفن نفسه حيا ويظل مدفونا أياما في مكان لا يتطرق إليه النور أو الهواء أو الغذاء حسب الظاهر. ومع ذلك ينتفض بعد أيام من قبره كأنه ينفض عنه غبار الموت.
ومن أعمال مشعوذي الهند أيضا أنهم يمشون حفاة على النار جيئة وذهابا ولا تحترق أقدامهم. ولعل هذا من قبيل الخداع البصري أو لعله يستند إلى الاستهواء؛ أي التنويم المغناطيسي. وأغرب منه ما يفعله بعض دراويش الهند حين يلقي حبلا في الهواء فينتصب الحبل في الجو فيتسلقه الدرويش كأنه يصعد في الجو، ويظل صاعدا صاعدا إلى أن يختفي عن الأنظار. وما هي إلا لحظة حتى يظهر بين الجمهور بغتة. أو قد يتسلق الحبل الممدود في الجو ومعه ولده وبيده سكين، ومتى وصل إلى ارتفاع كبير عمد إلى الولد فذبحه وألقى رأسه بعيدا وظل الدم يسيل غزيرا، فيهيج الجمهور ويريد الفتك بذلك الدرويش، الذي يختفي في الجو فجأة، ومتى هدأت ثائرة القوم ظهر بينهم ومعه الولد المذبوح!
وقد حاول الكثيرون أن يعرفوا سر هذه الشعوذة فلم يوفقوا إلى ذلك. وحاول بعضهم رشوة بعض دراويش الهند بمبالغ كبيرة؛ ليكشفوا لهم سر تلك الظاهرة فلم يفوزوا بطائل. وعند بعض علماء النفس أن التعليل الوحيد لتلك الظاهرة هو التنويم المغناطيسي؛ أي إن المشعوذ يستهوي الجمهور وينومه تنويما مغناطيسيا ويوهمه أنه يرى ذلك المنظر الغريب.
ومن هذا القبيل ما عرضه منذ سنة تماما رجل هندي من البراهمة في إنجلترا، فإنه كان يثب أمام جمهور النظارة في الهواء ويجلس القرفصاء وهو غير معلق بشيء أو مستند إلى شيء، وكان يظل كذلك مدة وهو مكتوف اليدين، وقد تبين بعد ذلك أنه كان في الحقيقة يجلس على أسلاك حديدية غير منظورة.
ويقول الكاتب: لعل أغرب أنواع الشعوذة في الوقت الحاضر ما يشبه أعمال دراويش الهند من قطع رأس الإنسان أو نثر بعض أعضاء جسمه، ثم إعادة الرأس المقطوع أو الأعضاء المبتورة إلى أماكنها. وليس من السهل شرح هذه الحيلة في مثل هذه العجالة، وإنما نقول: إنها تستلزم استعدادا خاصا وأدوات وآلات خاصة. (3) الخرافة
كان الإنسان البدائي يخاف كل شيء، يحدث له ضررا أو هلاكا كالسيول والأمطار الجارفة والضواري، وأخذ يتوسل لدفع شرها ويتوهم أنها تمثل ذوانا أو قل إنها أشخاص يجوز أن تقدم لها القرابين وأن يلتمس منها كف الأذى، ومن هنا نشأت العبادة والتدين؛ أي إنها انبعثت من رهبة الطبيعة وما فيها وتطورت إلى شعور بالارتياح والشكر حين ينجاب غضب الطبيعة وينتهي أذاها.
وليس ببعيد أن تكون هذه الأحداث موضوع رواية يتناقلها الناس جيلا بعد جيل محشوة بالمبالغات والأوهام، مما يتصوره عقل البدائي الساذج وبما يشهده في حلقات جماعته في دعائهم وشكرهم، وأن يكون من أثر هذا وضع الأناشيد والقصص والأشعار والموسيقى الهمجية الساذجة.
هذا ويسود المرويات الروح المنفصلة؛ أي استقلال الروح، وهي مركز الحياة عن الجسم كما هو المشاهد في القصص الخرافية القديمة، فهي في الواقع متضمنة علوم القدماء وخيالهم وأدبهم وفنهم. (4) الطب والسحر
السامي متفائل بطبعه، راغب في الحياة آخذ بأسبابها، رافض فكرة الفناء معتقد في الحياة الأخرى وفي الثواب والعقاب، فهو - لهذا - ساع لجعل الحياة سعيدة، ومعني بالصحة وسلامة البدن إلى حد عد هذا عقيدة دينية تطالبه بالطاعة لها. أما ما يحول دون ممارستها فعنده أن ذلك يرجع إلى الأرواح الشريرة، وكان عنده أن السحر وسيلة للعلاج.
وعند صاحب اللسان أن الطب هو السحر، الذي قال فيه ابن الأسلت:
ألا من مبلغ حسان عني
أسحر كان طبك أم جنون (5) رأي المؤلف
لقد أوردنا فيما تقدم آراء العلماء في السحر. وعندنا أن السحر يقوم على عنصرين: أولهما ما ينزل بأعصاب الإنسان البدائي والإنسان المتحضر نفسه من ضعف وفتور حيال قوارع الزمان وأحداثه. ولما كان في كل إنسان، مهما تكن منزلته من التحضر والعلم والرقي، ناحية من السذاجة؛ سذاجة الطفولة التي من أثرها التصديق أو الإيمان ببعض الأقوال، خاصة إذا ما ألقيت إليه على الصورة التي تستهوي النفس وتخلب اللب، وخاصة إذا ما وقع هذا حين ينزل به المكروه، ويعز العلاج ويتلمس المنكوب النجاة؛ كانت النفس الإنسانية متأهبة لتلقي ما يشعرها بقوة الشفاء من ناحية علوية أو خفية غير منظورة بعد أن باء العلاج المادي بالفشل، بل كانت هذه النفس متعطشة لهذا التلويح أو التلميح بالقوة المشار إليها «قوة السحر»، أوليس الإنسان هدفا لألوان الخداع والغش والغبن والاحتيال، حتى إذا لم يزعم المحتال لنفسه قوة سحرية؟
أما ثاني العنصرين فإنه يقوم على قوة شخصية الخاتل أو الساحر: زعامته في بني قومه، نفوذه الأدبي، ذلك أن نظراته نفاذة وأقواله مؤثرة في نفوسهم، سواء أكانت موجهة عن قصد التأثير والخداع أم عن غير تعمد ذلك. ومن أجل هذا اختلط على الإنسان البدائي ما تنطوي عليه زعامة الزعيم وعلم العالم وسحر الساحر ونسك الناسك وقداسة القديس بل ألوهية الإله، فقد كان هذا الإنسان يتصور هذه القوى متجمعة في إنسان أو جماد ما. وصحيح أن إنسان عصرنا الحاضر قد أصبح يفرق بين هذه القوى ويعرف الكثير عن مصادرها، غير أن النفس البشرية لا تزال تنتظر، إذ تمتحنها المحن، إلى قوة روحية خفية تنقذها من الخطر، وقد توفق النفس إلى هذه القوة الروحية الصالحة، وقد تخدع بسحر الساحر وتقع في أحبولة المخادع.
بل إننا نكاد نذهب إلى أبعد من هذا، فنقول إنه قد يكون من مصلحة المنكوب اليائس من العلاج الطبيعي أو المادي، أن تقوى روحه المعنوية بشيء من الاستهواء والمخادعة، فلقد طابت نفوس يائسة على أثر زيارتها لضريح ولي واستماعها لدعاء جاهل، أو أقوال قارئ كف أو «عزائم» أو كاتب «تمائم» أو فاتح «رمل أو فنجان» أو المنوم مغناطيسيا أو بعد حفلة «زار».
الفصل الثالث عشر
العقل والعلم والتعليم
المفترض أنه كان للإنسان البدائي منذ 40 ألف أو أكثر، عقل يفكر، والمظنون أن تفكيره كان ساذجا همجيا يماثل تفكير الطفل ونظرته إلى ما حوله، كما يشبه تفكير أفراد الأقوام الهمجية الذين لا يزالون إلى اليوم يعيشون على الفطرة في أفريقيا وآسيا وأستراليا وأمريكا، وكما يبدو مما خلفه لنا الأقدميون من الآثار والخرافات، ثم مما يفكر فيه ويتناقله الجهلاء في الأمم المتحضرة الآن. وليس ببعيد أن البدائيين كانوا جماعات صغيرة متناثرة، وأن أفراد الأسرة كانوا يخشون أباهم ويحترمون أمهم، وأن الأبوين كانا يغاران على أولادهما، وأن الأم كانت، إلى هذا، المستشار الطبيعي والحامي لهم، وأن الحياة الاجتماعية واجهت المرحلة التي كان فيها الآباء حريصين على استبقاء الأبناء في رعايتهم المتواصلة، في حين أن الأبناء كانوا يجاهدون للتخلص من هذه السيادة وللاستمتاع بشيء من الحرية والاستقلال مع ما كان يساورهم من الخوف من المخاطر وسيئات الوحدة. ولقد أبان عالم السلالات البشرية البريطاني «ز. ز. أتكينسون» في كتابه «القانون البدائي»، كيف أن الكثير من قواعد قانون الهمجيين كقبيلة «الطابو» يدل على إدراك عقلي لحاجات الحياة القبيلية المتطورة.
وعند بعض الباحثين أن الخوف الشديد من الأبوين نهارا كان يتراءى للصغار في أحلامهم ليلا، بل كان يلازمهم بعد موتهما؛ إذ كانوا يعتقدون أنهما لم يموتا بل إنهما قد انتقلا إلى أبدية كبيرة السلطان، ومن هنا نشأ الاعتقاد في الأرواح والآلهة وتجسدهم في الأفراد، وفي أن الحيوان مماثل للإنسان روحا وتجسدا، وأن من الحيوان الصديق والعدو والإله، وأن للأشجار والنجوم والأنهار والبحار ما للإنسان والحيوان من الاحترام والتقديس، وحق الطاعة والعبادة والخوف والروح وعاطفة الحب والبغضاء. ولقد كان خيال الإنسان البدائي ينسج حول هذا كله من الأساطير والحكايات ما يتناقله الأبناء عن أمهم، بل إن أطفالنا اليوم لا يفتئون يخترعون القصص الغريبة حول الدمى والحيوان الأليف. وكان الإنسان البدائي، على نقيض «النيانديرتالي» الأبكم، يعرف بضعة الأسماء والكلمات ينطق بها في صورة ساذجة، ويكملها بالأصوات والإشارات. ولم يكن للبدائي علم يقوم على القاعدة المنطقية من استخلاص النتيجة من المقدمة. وكان أهم ما يشغله ويقلق باله أن لا يجد الوفير من الطعام وأن يصاب بالأمراض الفتاكة؛ فعند هذا يستصرخ البدائي إنسانا أو حيوانا أو جمادا؛ لكي يجود عليه بالطعام ويرفع عنه المقت والبلاء، كما أن البدائي كان يعتقد في المئات والألوف من وسائل الشعوذة والسحر والتفاؤل والتشاؤم، مما كان من أثره أن نشأت طبقة من المسنين في الجماعة، ينهضون بعبء رجل الدين وتفسير الأحلام والدعاء والصلاة والطب. ومن هنا استأثر هؤلاء بذلك العلم الساذج الهمجي الذي كان أصلا للعلم الحديث. (1) عقل الحيوان
عند بعض العلماء، ولا سيما أنصار مذهب التطور، أن للحيوان أو لبعض أنواعه عقلا يفكر بعض التفكير، وأن القوى العقلية الحيوانية تختلف عن القوى العقلية الإنسانية في الكم لا في الكيف والنوع. أما علماء المنطق فيغلب أنهم إما أن يعدوا العقل الحيواني يختلف عن العقل الإنساني في النوع لا في المقدار، وإما أنهم يذهبون إلى أنه ليس للحيوان عقل ما، وأن كل ما يبدو من الحيوان من معرفة ليس مرجعه ذكاء أو عقل، وإنما مرجعه الغريزة والتكرار الآلي.
هذا ويدرس علماء النفس والعقل الباطن من المدرسة الحديثة أمثال فرود وبونج ومكدوجال وبودوين، الأحلام والخواطر والجنون كما يدرسون العقل الإنساني والأساطير ومنشأ اللغات والأديان.
وعندهم أن العقل الإنساني قد جاز مراحل ثلاث، أولها مرحلة العقل الحيواني؛ ذلك أن الإنسان في بداية ظهوره على الأرض منذ ملايين السنين كان تفكيره مشربا بعقل الحيوان، فإذا أسلم الإنسان قياده لخواطره فهناك ينساب هذا العقل فيخيل له الأكلة الشهية أو المرأة الجميلة؛ لأن هاتين الشهوتين هما محور الحياة عنده، فتفكير المراهق يتجه إلى المرأة. وهذا يتسق مع ما نراه من إلحاح هذه الشهوة على الحيوان حين تتقاتل الذكور وتموت من أجلها. وإنما تخف هذه الشهوة حين يخرج الإنسان من طور المراهقة إلى الشباب وإلى الكهولة؛ وذلك لأن الإنسان منذ تكونه جنينا إلى أن يحمل إلى القبر يمثل في نفسه تلك الأطوار، التي مرت بالأحياء قاطبة من بدء ظهورها في العالم إلى الآن. فهو في باطن أمه حيوان رابض غائب الذهن أخرس منطرح كالسمك ثم لا هم له بعد أن يولد إلا الطعام. وهذا هو الشأن في تطور أنواع الحيوان كلها، فإنها قضت فترة طويلة وهي لا تعرف الحب، بل لا يزال بين الأسماك ما يلقي الذكر بذره في الماء كما يطرح النخل لقاحه للريح. ثم يظهر الحب والأسرة فيخرج الصبي من الشغف بالحلوى، والنهم للطعام إلى إحساس الحب للجنس الآخر.
ولكن إلحاح هذه الشهوة الجنسية يخف بالتقدم في السن. وكما أن الشاب خرج من طور الطفولة من حيث الطعام فلا يجعل للنهم من السلطة عليه مقدار ما للصحة، كذلك الكهل يخرج من غرام الشباب وإلحاح الغريزة الجنسية إلى تسليط العقل الحديث ومراعاة المصلحة العائلية.
هذا وقد أمضى الإنسان نصف مليون سنة على هذه الأرض بعد الحالة الحيوانية خلال ملايين السنين إلى المرحلة الثانية؛ أي الهمجية، فكان أبكم أو شبيها بالأبكم لا يحمل من الآلات إلا أجفاها، يعيش منعزلا لا يعرف الاجتماع، حظه من الثقافة قد لا يزيد على حظ طفل عمره ثلاث سنوات، يقتل خصمه من أجل جذر من اللفت، ويأكل العصفور أو الصرصور، ويقتل زوجته إذا رآها آثرت نفسها عليه في ثمرة فجة أو بضعة من لحم، ويخشى الظلام والوحوش وينتفض من تهافت ورقة جافة أو من رؤية ثعبان أو قنفذ.
فالخوف هو طابع الإنسان الهمجي، وهو ما ورثه الإنسان الحاضر عنه. والغيظ أو الحقد كلاهما يعمل في النفس عمل الخمر فتستيقظ كفاياتنا القديمة وتكبت كفاياتنا الجديدة. وقد تمر بنا ساعات نستذكر أو نردد فيها إهانة لحقتنا من أحد الناس، فنرى يدنا تنقبض ونحن لا ندري ثم يجري خيالنا بالعصا الغليظة ننزل بها على أم رأسه ضربا وخبطا، ونحن نصحب هذا الضرب باللعنات الدسمة ونشعر عندئذ بالراحة. والواقع أننا نستريح؛ لأننا نرضى بهذا الخيال، هذا الجد الهمجي القديم الذي يضمره كل منا في نفسه، والذي نكبته أحيانا في يقظتنا فيتغفل عقلنا الواعي ويبدو خواطر لذيذة أو أحلاما نرى فيها هذا الخصم مقهورا أو مقتولا. وقد مضى على هذا الإنسان نحو 7000 سنة، وهو يعيش مجتمعا له ثقافة الزراعة ولكنه لما يمح هذا العقل الهمجي القديم.
وبعد العقل الهمجي ظهر تحضر الإنسان بتعلم الصيد والاجتماع ثم بالزراعة وهذه هي المرحلة الثالثة للعقل. وفي هذه المدة تثقف الإنسان بأشياء عديدة فعرف اللغة والكتابة والبناء والمحرمات في الزواج والملكية وعرف الحرب والصناعة والطهي والخبز، ثم نشأت له أديان ونبتت عليها آداب من شعر وقصص وأساطير. هذا هو عقل الحضارة القديمة، عقل الأدب.
وإذا قلت عقل الأدب فإنما أقصد به عقل الخواطر، فإن الأدب يختلف من العلم بأنه يجري مع الخواطر؛ لأنه عند التحليل لا يعدو أن يكون خيالات العقل الباطن تجري في غيرما تكلف أو عناء في قصيدة أو في قصة. ومن هنا كانت الكتب القديمة هي كتب آداب من أشعار وأساطير وليست كتب علوم؛ لأن «هوميروس» صاحب الإلياذة يسبق على الدوام «أرخميدس» صاحب المخترعات والآلات. وهذه قاعدة تجري على إطلاقها عند جميع الأمم. وماذا نعرف نحن عن العربية الجاهلية سوى الأشعار، وماذا نقرأ من مؤلفات المصريين القدماء سوى قصصهم وأساطيرهم. فالأدب هو موضوع كتب الحضارات القديمة؛ لأنه ثمرة الخواطر غير المقيدة التي لا يقفها نقد أو تعوقها مراجعة أو يعتورها تحقيق.
والعقل الأدبي يسبق العقل العلمي. وتجارب الفرد هي صورة مصغرة لتجارب الأمة. ولكن كما أن الكهل يعدو طور الغرام الملح الذي يغمر نفس الشاب، ويشرع ينظر إلى الحب نظر المصلحة العائلية، كذلك العقل العلمي الذي هو عقل الثقافة الحديثة قد شرع يتغلب على العقل الأدبي.
تابع العقل الأدبي العلمي تطوره ونضجه خلال الحضارات القديمة إلى الحضارات الحديثة، فأصبح عقل الثقافة الحديثة هو العقل الجديد؛ عقل العلم والاختراع والكشف، وخرج من الأدب إلى المجادلات اللفظية التي نرى بذرتها في أرسطوطاليس، والتي تجدها في كتب الغزالي وابن رشد وكتب اللاهوتيين من الأوروبيين. وهذا التحقيق في الألفاظ والتعارف إنما كان رياضة ابتدائية للتحقيق في الحقائق ذاتها.
فالعقل العلمي هو أحد العقول المضمرة في النفس الإنسانية، وهو لذلك أقلها نباتا لم تضرب له عروق ولم تتسق له فروع في أنفسنا. ومن أجل هذا توقظ الحوادث في نفوسنا، عقولنا البائدة أو الخفية الباطنة، مستعيدين غرائزنا الحيوانية والهمجية. وحسبنا من الشواهد على هذا ما يبدو من المخمورين والهاذين والغاضبين والمجرمين والمتضاربين والمتقاتلين، والجائعين من أمارات الحيوانية وضروب الهمجية. (2) العلم والأدب
العلم - في المعنى الواسع - مرادف للمعرفة والتعلم والتلقي. ومن هنا يستطاع إطلاق «العلم» على أي شيء يوصف ويعرف، بتشديد الراء، وعلى الإبانة عن أي فرع يقصد إليه. أما في الإطلاق الاصطلاحي العام، فإن المعنى يكون أكثر تقييدا بأن نميز العلم عن فروع المعرفة تمييزا دقيقا، فيمكن تعريفه بأنه المعرفة المنظمة للظواهر الطبيعية والصلات التي بينها، فهو لفظ موجز للعلم الطبيعي.
هذا وبينما العلم مادته العمل والأثر، ونطاقه دراسة القضايا العامة؛ فإن الفن مادته الفكر والنظر.
فمادة العلم إذن هي الطبيعة أو المادة وقوانينها الثانية المطردة النسق العامة الصبغة المجردة من النوازع الذاتية، وهذا يتطلب تعاون العقول جميعا لإعداد القواعد العامة الثابتة.
أما مادة الأدب: فالطبيعة الإنسانية والخيال العقلي.
هذا وقد شرعت الشعوب القديمة تتحسس «العلم» بما كان يبدو من تتبعها للأحداث الطبيعية وتحديقها في ظواهر الطبيعة، ومن أمثلة هذه: حركة الأجسام السماوية، واتخاذ الأدوات الساذجة الخشنة التي كانت تعاون الإنسان على مضاعفة السهر على سلامته وراحته. ولا بد أن يكون العلم البيولوچي قد بدأ أيضا عن طريق تتبع حياة النبات والحيوان النافعة للإنسان والجراحة والطب الاختياري والتدجيل. ثم إن الإنسان، حين ارتقى مستواه، قد وسعه أن يحيط بالمعرفة المنظمة مبتدئا بإدارة الأسئلة حول معنى الظواهر وأسبابها، وبإدراك ما بينها من العلاقات.
ويبدو أن الإنسان قد خال أن ما كان يشهده من التغييرات والأحداث، إنما كان من أثر تدخل كائن غير منظور مثل عجلة إله الشمس التي حسبها مسوقة في السماء يوما بعد يوم، كما حسب أن السحب فيها بقر يدر اللبن فينزل من السماء إلى الأرض مغذيا تربتها بالخصوبة! صحيح أن هذه الأساطير صبيانية، لكنها تنم، ولا ريب، عن التقدم نحو الشعور بحاجة الإنسان إلى توضيح ما يرى. إنها فروض هيأت إلى تعرف الجمال والإلهام الشعري والفني، قائمة بمهمة أولية وخطيرة في التمهيد إلى بحث أوفى، مكسبة معرفة مفيدة وعظيمة في التحليل المنطقي قبل أن تتأيد هذه الإيضاحات الأولية. هذا وثم نظريات صحيحة قد لا ينتفع بها في عصر الهمجية، كنظرية «نيوتن» في الثقل، في حين أن النظريات الباطلة كان ينتفع بها يومئذ، وأن النظريات الصحيحة مجدية في عصر الحضارة.
ولعل ظواهر السماء كانت أول ما استرعى نظر الإنسان الأول؛ ولذا كان علم الفلك على رأس العلوم الإنسانية. فقد برهنت آثار ما قبل التاريخ على أن الإنسان البدائي كان يعرف شيئا من الملاحظة التنجيمية، وعلى أن الكلدانيين قد عرفوا شيئا من قوانين الكسوف والخسوف.
وعن آسيا أخذ اليونانيون الأفكار الأولى للعلم، وفي فلسفة ثيلز ميليتاس (580ق.م) وفلاسفة اليونان، يتبين المثل الأول في تقدم النظرة المثيولوچية للطبيعة، ثم جاء أناكسمينز فأيد دوران السماء حول النجم القطبي، ذاكرا أن القبة التي فوقنا نصف دائرة كاملة، وكانت الأساطير تصور الأرض محرومة من قاعدة تمتد إلى الأعماق؛ أي لا عمق لها، وأنها تركت حرة لتكون كأسطوانة سطحت عند مركز الكرة الكستيلية. هذا ويبدو أن أناكسمينز قد عرف أيضا مذهب تناسق الطبيعة القاضي بأن جميع التغييرات المادية لا بد أن يكون لها سبب حقيقي.
بعد هذا جاء الفيثاغوريون فبسطوا هذه النظريات: فعندهم أن الأرض ذاتها قد تكون دائرة تدور حول نقطة مركزية ثابتة كحجر في طرف خيط، وأن الجزء غير المسكون من الأرض هو النقطة الثابتة. أما الجزء المسكون فهو يواجه الأجزاء المختلفة للسماء. وقد وضعوا في النقطة المركزية الثابتة نارا عامة كنار المذبح تستخدم كمركز لدوران الأرض العابدة. ثم إنه في القرن الرابع قبل الميلاد لم يأت الكشف الجغرافي بما ينبئ عن أية علامة على هذه النار المركزية، بل إن فكرة وجود النار قد ماتت وحل محلها نظرية دوران الأرض حول محورها. وكان عند «أريستارخوس في 280ق.م» أن الشمس أكبر من الأرض، وأنه لا بد أن تكون الأولى دائرة حول الثانية، غير أن أكثر معاصري «أريستارخوس» لم يحفلوا بنظريته، فلبثت الأرض قرونا مركز النشوء.
هذا وفي الوقت الذي ولد فيه علم الفلك، ظهرت مسألة المادة. ذلك أن الفلاسفة الطبيعيين الأبونيين كانوا يتتبعون سير التغييرات من الأرض والمادة إلى تركيب جهاز النبات وأجسام الحيوان. ومن هذا التتبع نشأت نظرية أن المادة لا تفنى. (2-1) الإحصاء وتعداد النفوس
يفسر «معجم ليتراي» لفظة إحصاء بعلم غايته إظهار مساحة البلاد وعدد سكانها ومواردها الزراعية. هذا ويبدو أن باو إمبراطور الصين أمر في سنة 2238 قبل المسيح بإحصاء رعاياه وتقدير مقتنياتهم. أما موسى فقد أحصى الشعب العبراني على ما هو مبين في سفر العدد بالتوراة؛ وذلك قبل المسيح بسبعة عشر قرنا، وأحصي الشعب الفرنسوي سنة 1328. وكان نابليون الكبير شديد العناية بالإحصاء، ففي سنة 1801 أمر بإحصاء الشعب الفرنسوي . ومنذ ذلك الحين اتسعت دائرة الإحصاء، فأول إحصاء قضائي حدث سنة 1825، وأول إحصاء تجاري وصناعي تم في سنة 1834، أما أول إحصاء في السكك الحديدية فقد كان في سنة 1846.
هناك نظريتان عن تعداد النفوس والإحصاء، أولهما أن الإنسان البدائي لا يمكن أن يكون قد عرف ذلك. أما النظرية الثانية فلا تجعل معرفته بالتعداد والإحصاء أمرا مستحيلا. يبدو هذا كما ذكرته التوراة من أن داود أحصى شعبه. وكان الغرض من الإحصاء تعداد الرجال للحرب وتقدير الجباية. وكان الرومانيون، لما طبعوا عليه من النظام، مغرمين بالإحصاء؛ فقد ذكر الإحصاء وتعداد نفوس في عهد أوغسطس إمبراطور الدولة.
أما في القرون الوسطى فكان الإحصاء من أجل تقدير الرجال والمال للأغراض الحربية. أما الإحصاء الحديث فيبتدئ من سنة 1749 حين أحصت السويد سكانها إحصاء لا يختلف عن الإحصاءات التي تجريها الحكومات الآن من حيث المبدأ. وفي سنة 1753 حاولت الحكومات الإنجليزية أن تجري إحصاء فرفض البرلمان؛ لأن الأعضاء شعروا أن الغاية من هذا الإحصاء هو معرفة الزوايا التي تختبئ فيها الثروات بغية فرض ضرائب عليها؛ وذلك لأن في ورقة الإحصاء أسئلة خاصة عن مقدار الدخل وماهية الصناعة وما إلى ذلك. أما الإحصاء العام الآن في جميع البلاد المتدينة فهو يؤخذ مرة كل 10 سنوات أو مرة كل 5 سنوات. ويذكر فيه هل الشخص متزوج أم أعزب، أبله أم عاقل، أعمى أم مبصر، وكذلك قيمة دخله وصناعته وما إلى ذلك.
ونحن في غنى عن بيان ما للتعداد والإحصاء من الفوائد والضرورات. (2-2) علم الطب والصيدلة
ليس من اليسير تقصي فكرة العلاج والطب واتخاذ الأدوية، وإن كانت الأمراض قد صاحبت الإنسان منذ ظهر على الأرض. غير أننا سنذكرها شيئا عن الطب القديم.
النصوص القديمة للطب
تقسم أعضاء الجسم، فنذكر أمراض الرأس ودواءها، وأمراض الصدغين فالأذن فالعين فالصدر، كما نذكر الحمى الباطنية والسعال والبلغم وضيق التنفس وضيق الصدر والأمراض الجنسية والتناسلية والنسوية والأعصاب والعضلات والطفح الجلدي الدموي، والعلاج بالعمليات والرياضيات والتدليك والبخور والحمام الساخن، والأعشاب ومستخرج الأشجار كالتين والكمثرى والثوم والبصل والسمسم والورد والمر ، وأنواع الحيوان والطيور والمعادن النحاسية والبرنزية.
أما مناجاة القدماء لإله الطب فكانت تجري في الصيغة التالية:
أيا رب الحكمة وإله المعرفة والجد الأكبر للأطباء وسيد البحار والأمواه والجاعل من الماء كل شيء حي.
هذا وقد قدس الثعبان قديما؛ لأن جلده ثوب يجدد شبابه وحياته فهو خالد لن يموت!
ثم إنه قد وجدت في مكتبة آشور بانييال ملك آشور في القرن الثالث عشر قبل الميلاد نقوش بابلية قديمة تصف الأمراض والعقاقير، فهناك عمود به الدواء والثاني الداء والثالث استعمال الدواء. (2-3) الأدوية
يقال إن هناك وصفا لدواء يستنشق للشفاء من الزكام على لوح من الحجر تاريخه 3700 قبل الميلاد. (3) التربية والتعليم
كان العلم وقفا على القلة المحدودة من أبناء القبيلة أو الأمة. ومن هنا كانت فكرة التعليم والتدريس ساذجة جاءت مقترنة بالرغبة في أن يطيع المرءوسون والعبيد السادة بعبادة الآلهة والانتظام في الجندية وحضور حلقات الرقص والأناشيد في الأسواق والحفلات. وقد بدأت المدارس في غيرما تنظيم لساعات الدراسة أو تخصيص أمكنة لها، وظهرت مع ظهور الفلاسفة الذين كان يحلو لهم التحدث إلى الأطفال والصغار.
هذا وفي بعض الأساطير والرسوم الأثرية في مصر وآشور وأورشليم «القدس» والصين، ما يدل على أن نشأة التدريس ونظم التربية خاصة العسكرية قد ظهرت قبل عصر التاريخ في صورة أولية غامضة وساذجة.
الفصل الرابع عشر
المثيولوچيا: الأساطير والأدب
المثيولوچيا علم يبحث عن الموتى وقصص الكون والآلهة والأبطال، وهو أيضا اسم لهذه القصص. فمثيولوچية الآلهة هي مجموع القصص اليونانية عن المقدسات والآلهة. وعلم المثيولوچيا هي المحاولات العديدة لتفسير المرويات القديمة. فقد أحس الناس قبل عصر التاريخ بحاجتهم إلى استيضاح المرويات وتوضيحها، أما في عصر التاريخ فهناك قصص اليونان والآريين الهنود، فيها المعقول وغيره.
يقول «هور»: إن الناس جميعا يحنون إلى الآلهة.
وعند «أرسطو» أن الأساطير من بنات أفكار المشرعين لتحريض الكثيرين ولاستخدامها في تأييد القانون. تراجع: «مثيولوچية الخرافات كما يوضحها التاريخ» تأليف: آبيه بانييه الذي يقول إنها تاريخ. هذا وقد كان البحث في المثيولوچيا يدور قديما حول الناحية الطبيعية والأخلاقية والدينية والتاريخية. فعند «ثياچينز» أن الفلسفة الطبيعية هي في مرويات هومر. ثم إن «ماكس ميلار» قد بحث المثيولوچيا من الناحية اللغوية في كتابه «مقالات مختارة ومحاضرات عن اللغة»، وعنده أن الكلت والزند واللاتين واليونان والألمان يرجعون إلى أصل واحد.
لقد كان الهمجي يرى الأشياء فيحاول تفسيرها فيروي قصة يتناولها آخرون وعند الهمجيين أن كل شيء قابل للتشخيص. (1) القصص اليونانية
أشهرها «الإلياذة والأوديسي» وقد اختلف المؤرخون في حقيقة شخصية «هوميروس» الذي يعزى إليه تأليف ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسي»، فعند بعضهم أنه شاعر عظيم فقير سليب البصر في آخر أيامه، وأنه ولد حوالي سنة 850ق.م، وأن أباه يدعى «ميون»، وعند آخرين «ف. ا. وولف» الألماني وآخرين أن الملحمتين لم تكونا قصيدتين طويلتين، وإنما كانتا أناشيد وأغاني قصيرة، وأنه إذا فرض جدلا أنه «هوميروس» شخصية حقيقية، فيكون كل جهده فيهما أنه جمع أشتاتهما ونظمهما قصيدتين كبيرتين، كما أن «الأوديسي» تختلف عن «الإلياذة» أسلوبا وقوة معنى.
أما «الإلياذة» فملخصها كما يأتي: «تروادة» مدينة في آسيا الصغرى، ومملكتها تمتد من جنوبها إلى الدردنيل، وكان ملكها «يريام» له ابن يدعي «باريس»، حدث أنه زار «اسبرطة» حين كان ملكها «منيلوس» غائبا، وقد استطاع «باريس» أن يغري «هيلانة» الجميلة قرينة «منيلوس» بالهرب معه إلى «تروادة». فأثارت هذه الخيانة أبطال اليونان، الذين حاصروا «تروادة»، واشتهر بينهم «أجامنون» شقيق «منيلوس» و«أوريس» حاكم أيتاكا، و«أخيلي» و«باتروكليس»، وكانت تساعدهم «هبرا» زوجة «زوس» وابنته «أثينا» إلهة الحكمة. أما الترواديون، فكان على رأسهم القائد هكتور تساعدهم «أفروديت» ملكة الجمال. وبعد أن لبثت الحرب أعواما عشرة، وعجز اليونانيون عن فتح «تروادة» اقترح «أوديسي» عليهم أن يصنعوا جوادا ضخما كبيرا من الخشب، اختبأ في جوفه «أودوسيس» وبعض زملائه المسلحين. ثم تظاهر اليونانيون بالانسحاب، فأسرع الترواديون ليدخلوا إلى مدينتهم هذا الجواد العجيب، الذي سرعان ما خرج الأبطال من جوفه حين جن الليل فقتلوا الحراس وفتحوا أبواب تروادة ودمروها وأحرقوها وأعادوا «هيلانة»، وعاد الأبطال إلى أوطانهم عدا «يوليسير».
أما «الأوديسي» فهي تتحدث عما لقيه «يوليسير» في رحلته ومغامراته من الأهوال بعد حرب «تروادة»، وذلك حين كانت زوجته «بنلوب» وابنه «تلماكس» يترقبان عودته مع صحبه إلى وطنه «أثاكا».
ومن قصص اليونان «أتلانتا»، و«تيساس واريادن»، و«أورفياس» و«برسيوس» و«هرقل» و«أروس» و«كيوبد وسيكة» و«فيتون». (2) القصص المصرية والشرقية
أقدمها في مصر «كتاب الموتى» في عصر بناة الأهرام ونسخته في «متحف لندن»، وهو مشتمل على دعوات للآلهة ورثاء وقصة أوزريس وإيزيس.
وهناك قصص مصرية قديمة في أوراق البردي وعلى جدران المعابد تصور الحياة القديمة والعواطف والعبادات.
وثمة قصص هندية على رأسها ملحمة ضخمة عن «الفيدا»، الكتاب المقدس عند الهندوس الذين يعتقدون أنه وحي من الله إلى رجال الأمة وأنبيائه، وعن «ماهابهاراتا» التي تتحدث عن وقائع حرب قامت بين قبيلتي «البانجالا والبهاراتا».
وفي فارس «إيران» ظهر «الأفيستا»، الكتاب المقدس المشتمل على قصص وحكم عجيبة.
الفصل الخامس عشر
اللغة والكتابة والطباعة
(1) اللغة
اللغة هي مجموع الألفاظ التي تنطق بها أمة من الأمم وتشيع بين أفرادها، الذين يستخدمون هذه الكلمات أداة للتعبير عن أخبارهم، وتبادل الأفكار بينهم أو قل إن اللغة هي قوة التعبير عن مشافهة.
هذا وتطلق اللغة على النطق والتكلم والقوة الناطقة كما تطلق على الألفاظ، التي يعبر بها المتكلم عما يخالج نفسه من المعاني الآتية إليه من الإحساس والشعور وقوى التفكير؛ ولهذا تعرف بأنها العمل العقلي المتكرر دائما لإبراز الفكر الإنساني في أصوات منظمة وألفاظ مؤتلفة.
ويرجع هذا الإطلاق إلى «الأنثروبولوچيا»؛ أي علم الإنسان، أو على الأخص إلى دائرة من العلوم الطبيعية «الفيزيولوچيا»، ثم إلى علم النفس الذي هو بحث من بحوث علم اللغات «الفيلولوچيا» وهو الجانب المادي؛ لأنه مجموعات الألفاظ التي تختلف تبعا لاختلاف الأجناس البشرية والأمم والشعوب. وهي إما ألفاظ كانت مستعملة قديما، أو ما زالت في دور الاستعمال كاللغات الحالية.
وعند الكتب المقدسة أنها هبة إلهية وصلت من الرب إلى الإنسان، وثمة مذهب آخر يقول إنها ترجع إلى نشأة طبيعية هي التدرج الفكري المرتبط بطبيعة الإنسان، وتكوين أعضاء النطق فيه من حنجرة وحلق وخيشوم ولسان وأسنان وشفتين، مع ما للقوى الفكرية من أثر في تحريك تلك الأعضاء.
تتحرك هذه الأعضاء المستعدة للحركة عند الإنسان. وبفعل الحركة يدفع أصواتا ساذجة من فمه كأصوات الطفل قبل النطق. وهذه الأصوات الساذجة تساعدها الإشارة باليد والإيماء بالرأس والدلالة بالكتف ؛ أي إن الإشارة بالحركات المتنوعة قد نشأت بتنوع الدواعي والأغراض، وكانت الأصوات تتدرج في النمو والوضوح بتدرج الإحساس والشعور.
ثم بلغت اللغة مرحلة تكوين المقاطع بمحاكاة الطبيعة بما يسمعه الإنسان من الأصوات كحفيف الأشجار وخرير الماء. ثم جاءت مرحلة تركيب المقاطع فتكونت الكلمات. وظهرت ألفاظ قليلة العدد، زادت تدريجيا. ثم نشأت لها ضوابط باسم القوانين أو القواعد اللغوية، كما ظهرت لها فنون وتوقيع من نثر ونظم. •••
هل هناك لغة واحدة تفرعت عنها سائر اللغات؟
يرى الباحثون أن الجواب على هذا يرجع إلى تاريخ نشأة الإنسان على الأرض، فإن كانت نشأته في بقعة واحدة كما يرى المذهب الديني، كانت هناك لغة واحدة تفرعت إلى لهجات كثيرة في أعقاب أبناء نوح، بعد تبلبل الألسنة في حادث بناء بابل وبرجها الكبير وفاقا لرواية التوراة. أما إذا كان الإنسان قد نشأ في جهات كثيرة، وهو ما يذهب إليه علم الحياة «البيولوچيا» وأصول الأحياء، فإنه لا توجد له لغة واحدة أولى، بل نشأت له من أول الأمر لغات كثيرة متعددة بتعدد الجهات والجماعات. (1-1) أقسام اللغات
قسم العلماء اللغات الإنسانية عدة مجاميع، اشتركت كل مجموعة منها في خصائص لفظية، وصلات تكوينية في اللفظ والتركيب والأسلوب والقواعد.
أما أقدم اللغات التي وصلت إلينا متمتعة بالقواعد الدقيقة والتنسيق اللفظي والجمال الفني، فهي اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية» والسنسكريتية والإيرانية القديمة والبابلية. (1-2) علم اللغات «الفيلولوچيا» معناها بالعربية علم اللغات والكلمة مؤلفة من «فيلوس»، ومعناها محب أو صديق أو مؤثر و«لوجوس» معناها كلمة أو كلام أو فن. أما «الفيلولوچ» فهو مؤثر الكلمة الباحث فيها. وعلى هذا كان علم اللغة، هو العلم الباحث عن جميع النواحي العقلية الإنسانية لدى كل أمة من الأمم المعنية بدراسة اللغات . ومن أجل هذا كان هناك «الفيلولوچيا» المصرية أو الهندية أو العبرية أو الكلاسيكية؛ أي العالية الرتبة أو المحتذاة التي كان لها بعد عصر النهضة أربعة أدوار: الدور الطلياني من منتصف القرن الرابع عشر إلى منتصف القرن السادس عشر؛ والثاني الفرنسي إلى أواخر القرن السابع عشر ؛ والثالث الإنجليزي الهولندي إلى آخر القرن الثامن عشر؛ والرابع الألماني. (1-3) مجاميع اللغات
هذا وقد قسم المستشرقون اللغات مجاميع، تشتمل كل مجموعة منها على طائفة من اللغات، التي بين بعضها والبعض الآخر قرابة أو مشابهة في الألفاظ والتراكيب والقواعد والتفكير، على أن يكون هذا التقسيم تابعا إلى تقسيم النوع الإنساني إلى أجناس بشرية.
وكان أول تقسيم للأجناس البشرية هو تقسيم التوراة التي أرجعت النوع الإنساني، على تعدد قبائله، إلى الأشخاص الثلاثة وهم: سام وحام ويافث. وهناك تقسيمات طبيعية أخرى ترجع في تكوينها إلى طبيعة الإنسان من حيث الألوان والمشخصات الفطرية والأماكن والأوساط. وكيفما كان الأمر، فإنه توجد جماعة متحدة في النشأة والمكان واللون كونت جنسا بشريا عظيما اتصلت شعوبه اتصالا وثيقا، وارتبطت بكل الروابط الطبيعية والاجتماعية التي تجعلها حقيقة جنسا بشريا ممتازا على مبدأ أي تقسيم. ويعرف هذا الجنس في رواية التوراة بالجنس السامي. كذلك الجنس الحامي قد أخذ وضعا مثل الوضع المتقدم للجنس السامي. ومعنى هذا أن الجنسين قد بقيت لهما التسمية والوحدة الجنسية حتى إن بعض المراجع عدهما جنسا واحدا يعرف بالجنس السامي والحامي، لما وجد من الامتزاج بين أمم هذين الجنسين في اللغات وتطور الجماعات.
أما الجنس اليافثي فهو ليس معروفا إلا في تقسيم التوراة؛ أي في التقسيم الديني. أما في النظر الطبيعي فإنه يسمى الجنس الآري أو الهندوجرماني.
كذلك أضاف النظر الطبيعي إلى الأجناس الثلاثة أجناسا أخرى كثيرة كالهندية الصينية، والملايوبو لونيزية، والأدرويدية، والأورالتائية، والأسترالية والأمريكية والباتورية واللغات المنعزلة.
المجموعة السامية
القسم الشرقي ولغاته: البابلية والآشورية والكلدانية الآرامية. والقسم الغربي: الكنعانية والأخلامية والفينيقية والبوتية والآرامية والعبرية، والسريانية، والتذموية، والموأبية، والأمورية.
والقسم الجنوبي (الفرع العربي ولهجاته): العربية القديمة أو الآرامية والقحطانية والحميرية والمعينية والسبئية والعدنانية المصرية، أو القرشية الفصحى.
أما لهجات الفرع الحبشي فهي: الحبشية أو الأثيوبية والجعزية والتيجرية والتجرينائية والأمحارية والهررية.
المجموعة الحامية (القسم الشمالي): اللهجات البربرية في شمال أفريقيا والليبية. القسم المصري القديم: الهيروغليفية أو المقدسة الهيراطيقية والديموطيقية والقبطية. والجنوبي الأثيوبي فروعه: اللهجات الغلية والصومالية والباجية والقلاشية والدنطالية والأجاوية والساهوية والبلينية.
وبعد أن تفرعت عن الأثيوبية الحبشية الحامية اللهجات الحامية المتقدمة، امتزجت بالعربية السامية، وهي اللهجة السبئية، امتزاجا جعل عناصرها الحامية تتلاشى أمام العناصر العربية السامية، فأصبحت الحبشية من اللغات السامية، هذا واللغة مكتسبة أصولها من محاكاة الأصوات الخارجية، وما يخرجه الإنسان من الأصوات اختيارا أو اضطرارا.
وكانت اللغة أصواتا حيوانية ثم تطورت. فاللغة البدائية أو الهمجية قليلة الكلمات لا تزيد على 300 كلمة، ولغة المتحضرين واسعة، ففي الإنجليزية ربع مليون كلمة. (1-4) ألف باء
ألف باء مأخوذة من اليونانية وهي تعني سلسلة من الرموز المتعارف عليها دالة على صوت مفرد أو أصوات متجمعة.
ولقد كان الفينيقيون يستعملون الهجائية في القرن التاسع ق.م في طلاقة تدل على أنهم قد عرفوها قبل ذلك. ويقال إن الهجائية الفينيقية مأخوذة من الهجائية الهيراطيقية المصرية للمشابهة القائمة بين رموزهما. (1-5) لغة الإشارات
واللغة ليست مقصورة على النطق باللسان، بل إن من اللغة: الإشارة باليد والإيماء بالرأس وهز الكتف، وغض البصر والتحديق بالعين والابتسام بالشفة، والوضع الذي يكون عليه الجسم اعتدالا أو ميلا. وقد اتخذت الأبواق والأعلام وطريقة تحريكها والموسيقى والإشارات، لغة في الجيش و«الشفرة» في المخاطبات الدبلوماسية.
هذا واللغات الحية تختلف عن اللغات السابقة كاللغة السريانية عن الكلدانية القديمة، والإيطالية عن اللاتينية، والقبطية عن المصرية القديمة والسريانية والكلدانية القديمة أو الآشورية لغة واحدة، واليونانية الحديثة واليونانية القديمة لغة واحدة. أما من حيث حيوية اللغة، فعندنا أنها لا تعد حية إلا متى كانت خاضعة للنواميس المتسلطة على الأحياء وأهمها النمو والدثور. فاللغة لا تنمو إلا إذا كانت شائعة على ألسنة العامة. (1-6) هل اللغة هي ميزة الإنسان؟
عرف المنطقيون الإنسان تعاريف مختلفة، فقالوا إنه «حيوان ضاحك»، فلما وجدوا بعض أنواع القردة تضحك عدلوا عن هذا التعريف، وقالوا إنه «حيوان اجتماعي»، فلما وجدوا بعض أنواع الحيوان كالكراكي وغيرها تجتمع مئات وألوفا في أماكن معلومة في أزمنة معينة، كأنما تعقد مؤتمرا أو مجمعا سياسيا أو ندوة علمية قالوا إنه «هو حيوان منتصب القامة»، فلما وجدوا بعض القردة تنتصب مثل انتصابه، قالوا إنه - الإنسان - «حيوان صانع»، ولما رأوا بين أنواع الحيوان ما يستطيع أن يقوم بصناعات يعجز عنها، قالوا إنه «حيوان كاتب»، ولما اعترض عليها بأن الكتابة ليست صفة لازمة للإنسان قالوا إذن هو «حيوان ناطق». أما المنطق فلا يراد به مجرد التكلم أو التفاهم إذ قد يكون بين بعض أنواع الحيوان لغة يتفاهم بها أفراده. ولعل نباح الكلب ومواء الهر وخوار الثور وصهيل الفرس، ونهيق الحمار وتغريد الطيور ونقيق الضفدع؛ لغات يتفاهم بها أفراد كل نوع منها فيما بينها؛ إذ لا يشترط في اللغة أن تكون أصواتها مقطعية.
على أن أصوات الإنسان إذن امتازت بتقطعها، ففي بعض أنواع الحيوان خصائص صوتية يقصر عنها الإنسان كأصوات بعض الطيور والهوام، فامتياز أصوات الإنسان بالمقاطع لا يجعلها منفردة، ولا يمنع وقوع التفاهم بين سائر أنواع الحيوان.
فالنطق الذي ميزنا به الإنسان هو غير اللفظ. وربما صح تعريفه بأنه القوى الخاصة بالمتكلمين، أو هو القوى المنطقية التي يدركون بها الأحكام المنطقية كالقياس والبرهان وما جرى مجرى ذلك. على أننا لا نستطيع الجزم بأن الحيوان الأعجم خلو من هذه القوى أو بعضها أو ما يقاربها ويشاكلها. (1-7) رأي في اللغة
عند «الدكتور أحمد زكي بك المدير العام لمصلحة الكيمياء» أن اللغات ليست بالشيء الذي يولد مع الإنسان كأنفه ولونه وسلامة هضمه أو فساده، بل هي من إرث المجتمع، يتعلمه المولود في نشأته كما يتعلم أمور الحياة الأخرى، بديهي أنك لو أخذت طفلا مصريا فأودعته بيئة فرنسية لشب، وهو لا يستطيع أن ينطق الصاد والظاء والعين ثم يكون أخنف النطق، ولو أخذت طفلا فرنسيا فأودعته بيئة مصرية لنطق بكل ذلك كل منطقه من فمه دون أنفه. ولو أخذت طفلا مدنيا وأودعته بيئة قرود لشب يصيت كما تصيت القرود. فاللغة من كسب الفرد في الجماعة، وهي في الجماعات من كسب الأجيال. ويرى العلماء أن الناس جاء عليهم دور في أدوار التطور الأولي لم تكن اللغات المنطوقة فيهم بالشيء المذكور.
وقد فحص بعض العلماء جماجم رجال عثروا عليها في حفائر في الأرض لعصور ما قبل التاريخ؛ رجاء أن يجدوا فيها الدليل على أن أهل تلك العصور لم يكونوا يستطيعون الكلام المنطوق، ومهما يكن من أمر هؤلاء وما حصلوا عليها من نتائج، فإن اتجاههم هذا نذكره لتوكيد المعنى الذي نريده من أن اللغة الإنسانية المنطوقة شيء مصنوع من ميراث الدهر، يجري عليها ما يجري على المواريث من قلة وكثرة، وضيق واتساع. وقد تتعاون الظروف، أو في مكنة الفكر أن يتصور ظروفا تنعدم فيها لغات الكلم، أو تتضاءل حتى تكون كالعدم، دون أن تؤثر على مطالب الحياة الأولى من طعام وشراب، ومن إنسان يمتد به الوجود ويتسلسل. وبين سكان هذه الأرض آدميون يعيشون في مجتمع لا تزيد أفراده على المئات يتكلمون لغات لا يفهمها مجاوروهم من أهل المجتمعات الصغيرة الأخرى. ولكن أي لغات هذه؟ لا شك أنها لغات كأبسط ما تكون اللغات، ضيقة كضيق حاجات هذه المجتمعات من أمور العيش.
إن لفظة اللغة تنصب أكثر انصبابها على لغة الكلام، وهي لغة قد امتاز بها الإنسان وحده، مازه بها رئة مرنة وعضلات حلق مختلفة متسقة، وأحبال صوت فيه متقاصرة متطاولة، ثم شفة ولسان تتآلف جميعا على إخراج أنواع من أصوات كثيرة لا يكاد الحصر يحصيها. وحسبك من تعددها أن اللغة الواحدة بها ما يقرب من ثلاثين حرفا يحرك كل منها ثلاث حركات أو أكثر، عدا ما يستطيع الفرد أن يحدثه في نغماتها من رفع وخفض على درجات شتى، وترقيق وتغليظ على درجات شتى كذلك، ثم ما يستطيعه من تأليف بينها وصناعة ما نسميه بالكلمات وهي في لغة البشر ألوف مؤلفة.
فلغة الكلام لغة أصوات راقية معقدة، آلتها حناجر راقية معقدة لحيوان راق معقد. حسها الأذن، فهي لغة آذان.
وإلى جانب هذه اللغة توجد لغة أخرى تعتمد على الحركات والإشارات، وهي تحس بالعين؛ ولهذا نسميها لغة العيون. والإنسان في أدنى دركات الترقي تقل لغته الأذنية؛ أي لغة الكلام، وتكثر لغته العينية؛ أي لغة الحركات والإشارات، حتى قيل إن في القبائل الإنسانية قبائل لا تستطيع أن تتفاهم في الظلام.
على أن الإنسان في أرقى مدنيته وأرفع ثقافته، لم يتخلص بعد من لغة العين؛ راقب رجلا يتحدث، لا سيما حديثا حارا مفعما بالمشاعر، تجد يده لا تفتأ مرفوعة مخفوضة مبسوطة مقبوضة، ترسم في الهواء المستقيمات والمنحنيات وما يخطر على بالك من أشكال وما لا يخطر، وانظر لها تندق على المنضدة اندقاقا، وانظر إلى عضلات وجهه كيف تنبسط وكيف تنقبض، وإلى عينه وحاجبه كيف يضيقان ويتسعان. ومن الناس من لا يكفيه التفاهم بالأيدي فيستعين بالأرجل توكيدا للكلم المسموع.
وقد تتعطل لغة الكلام أصلا عند الإنسان، وتحل مكانها لغة الإشارة؛ لغة العين. تسأل المريض: كيف حالك؟ فيقطب من وجهه ويمد في شفتيه، فتعلم أنه سيئ الحال. وينظر الرجل إلى المرأة نظرة الطلب، فترد عليه بنظرة هي الرفض، واللسان لم يتحرك. والمجرمون في بعض الأمم الحية لهم لغات كلها إشارية عينية، تعددت ألفاظها وكثرت معانيها حتى صارت ترقم وتدون. ولبعض قبائل الهند الغربية لغات بالإشارة أكثر اعتمادهم عليها. والجيوش تتفاهم من بعيد بالرايات يحركونها حركات مختلفات، وبالمرايا يعكسون عليها ضوء الشمس أشكالا. وكل هذه لغات عينية مدروسة، ولغة الخرس لغة أشكال فهي لغة عين. واللغة الهيروغليفية لغة أشكال فهي لغة عين. بل كل ما كتب في الكتب وحبر في الأوراق، إنما هو لغة عين برغم اتصاله الوثيق باللغة المرقومة.
ولا يظنن أحد أن لغة العين هي دائما دون لغة الأذن قيمة أو أقل منها في الأداء، فالصورة الزيتية البديعة يرسمها لك الرسام فتحمل إليك من المعاني ما لا تحمله الكلمات. والنظرة الحبيبة تبعث بها إليك النفس الحبيبة فتعجز عن كامل وصفها عباقرة الشعراء. والنكتة على المسرح تسمعها من المذياع فلا تقع من نفسك موقعها وأنت حاضر المسرح. وكثيرا ما تسمع الضحكات العالية تنطلق في الحاضرين فلا تفهم لها من على الأثير معنى؛ لأنها نكتة إشارة انتقلت إليهم بواسطة العين دونك.
هذا في الإنسان. أما الحيوان فلا شك أن للحيوانات لغة كالإنسان هي لغة أذنية وعينية معا، ولكنها لغة بسيطة بمقدار بساطة تركيب هذه الحيوانات، أو على مقدار بساطة حاجات هذه الحيوانات في الوجود، أو على مقدار ما تجنح إليه هذه الحيوانات من اجتماع. فمن الحيوان ما يعيش عيشة انفراد وانعزال لا يعرف السرب والثول والقطيع، فهذا لا لغة له، أو لا تكاد تكون له لغة، ومنها ما يعيش أسرابا أثوالا قطعانا، فهذا له لغة؛ لغة أصوات ولغة حركات، وكلما اتخذت هذه الأسراب والأثوال شكل المجتمعات، وكان فيها من التعاون نصيب وافر كالذي يكون في المجتمعات، زادت لغة أفرادها تصنفا واتساعا. ومن هذه الحيوانات النحل والنمل والزنابير. (1-8) الغناء واللغة
يبدو أن الغناء من أول ما عرفه الإنسان قبل عصر التاريخ. وأنه كان لغته الأولى، فقد كان ذلك الإنسان يغني أكثر مما يتكلم، وقد حفظت العصور القديمة الأولى الأغاني التي تضمنت تاريخ الشعوب القديمة، بل إن هذا لا يزال شأن القبائل الهمجية إلى اليوم. وإن الأغنية لتماثل مواء القط ونباح الكلب وتغريد الطير. (1-9) ألفاظ الحيوان في اللغة
للحمام هديل وهدير، وله كذلك سجع ونوح وحنين، ويقال قاقت الدجاجة قوقأة وزقا الديك زقوا، أما صوت الغراب فنعيق ونعيب، وصوت العصفور زرزرة، وصوت الصقر صفير، وصوت النسر نقيض، فيقال انقض النسر أو البازي. (1-10) لغات العالم
تقسم لغات العالم قسمين عظيمين: راقية، وغير راقية. وهذه الأخيرة تشمل أدنى اللغات وفيها اللغات الزنجية، وهي التي يتفاهم بها سكان جنوب أفريقيا، والأمريكية التي كان يتفاهم بها هنود أمريكا، واللغات الصينية وغيرها من اللغات المؤلفة من مقطع واحد ولا فرق فيها بين الاسم والفعل والحرف.
أما الآن فتقسم اللغة ثلاث طوائف كبيرة وهي: السامية، والآرية، والطورانية. أما الطورانية: فتشتمل على اللغات المنغولية والتنقاسية والأوغرانية، وتسمى أيضا لغات غير متصرفة؛ أي إن ألفاظها غير قابلة للتصريف، وإنما يحصل فيها الاشتقاق بإضافة زوائد على أصل مادة الفعل، وأرقى لغات هذه الطائفة اللغة التركية. أما الطائفة الآرية فتشتمل على لغات أوروبا والهند وفارس وكردستان، وتسمى أيضا اللغات اليافثية؛ لأن أغلب المتكلمين بها من نسل يافث، وهي تقسم قسمين عظيمين: جنوبية، وشمالية. فالجنوبية لغات جنوب آسيا، وهي السنسكريتية، وفروعها: الهندية والفارسية والأفغانية والكردية والبخارية والأرمنية والأوستية.
والشمالية: تشمل لغات أوروبا، وتقسم إلى خمسة أقسام:
جزائر بريطانيا أو إنجلترا. (2) الإيطالية وفيها اللاتينية وفروعها، وهي لغات فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال. (3) اليونانية، ومنها اليوناني القديم والحديث. (4) الوندية، ومنها لغات روسيا وبلغاريا وبوهيميا. (5) التيوتونية، ومنها لغات إنجلترا وچرمانيا وهولاندا والدنمرك وأيسلاندا. (1-11) قاموس للغة الحيوان
حاول «چورچ شويدنزكي» الألماني الذي وضع منذ سنوات كتاب «هل تستطيع محادثة الشمبانزي؟» أن يبين فيه أن لغة الإنسان قد نشأت وتطورت من أصوات الحيوان، مستدلا على ذلك بأننا نعبر عن بعض الأشياء بالأصوات التي تعبر بها بعض الحيوانات العليا. فالقرد مثلا، حين يغضب أو يثور، يصدر هذه الألفاظ «تس تس تس»، وهي الأصوات ذاتها التي يصدرها الإنسان بلسانه تعبيرا عن غضبه أو دهشته أو امتعاضه.
كذلك حاول «جارنر»، من علماء الحيوان في أمريكا، أن يبين ما بين صوت القرد وحديث الإنسان من صلة وتشابه، فانسل بين غابات أمريكا الوسطى، حيث أمضى بين قرودها المختلفة شهورا؛ ليسجل أصواتها على أقراص الجراموفون. وقد تبين أن للقردة لغة تتألف من ألفاظ وأصوات مختلفة، يعبر كل منها عن معنى معين، فإذا غضب وثار لفظ هذه اللفظة «في في»، وإذا ضحك وابتهج أصدر هذا الصوت «ها ها»، واللفظة الأولى تشبه زفرة الإنسان ساعة ضيقه وتذمره، والصوت الثاني يشبه قهقهته حين مرحه وطربه. وقد استطاع «جارنر» أن يجمع طائفة كبيرة من ألفاظ القردة وأصواتها، وأن يؤلف منها «قاموسا».
ثم ذهب «جارنر» إلى حديقة الحيوان بمدينة لوس أنجليس وأدار أحد أقراص الجراموفون التي سجلت عليها ألفاظ الغضب وأصواته، فإذا بالقردة تثور في أقفاصها صاخبة هائجة، وتزمجر حانقة مغيظة، فلما أدار قرصا سجلت عليه ألفاظ المرح وأصوات الغبطة، هدأت القرود واستكانت ثم تولتها نشوة من الفرح والطرب، فقامت تلهو وتقفز وترقص. واستطاعت قردة الحديقة أن تفهم سائر الأقراص التي سجلت عليها أصوات الحب، والخوف والتهديد، والتحذير. وكشف «جارنر» أن هناك ألفاظا مشتركة بين بعض أنواع القردة ولا سيما الجيبون، وبعض القبائل البدائية التي تسكن الغابات. فمن ذلك لفظة «هيو» ومعناها النمر في لغة الجيبون ولغة قبائل الغابات في أمريكا الوسطى، بل إن بعض هذه الجماعات الفطرية ليست لها لغة تتألف من ألفاظ كجميع لغات البشر، بل تتفاهم بأصوات مختلفة كهذه التي يتفاهم بها الحيوان. (1-12) لغة النحل وحواسها العجيبة
أثبت «فرتش» الأستاذ بجامعة ميونيخ والنحال العالمي، أن النحل يميز البرتقالي والأصفر والأخضر والبنفسجي، ولكنه لا يميز اللون الأحمر بل يميز الأشعة التي فوق البنفسجي، وهي الأشعة التي يعجز الإنسان عن رؤيتها ولا يتبينها إلا باللوح الفوتوغرافي، وأثبت أن حس الشم فيه دقيق جدا وبه يميز أنواع الزهر بعضها عن بعض، وأن حس الذوق فيه قوي فيميز الحلو عن المر عن الحامض عن المالح، ولكن ما نحسبه حلوا قد لا يكون كذلك في نظره، فالسكرين والدولسين وهما من أنواع السكر المركب لا طعم لهما في ذوقه.
ثم درس لغة النحل. والذي حمله على ذلك التجربة الآتية: وضع قليلا من الحلوى على لوح ووضع اللوح على مائدة في الهواء الطلق، وجعل يراقبه حتى وصلت إليه نحلة وعرفت ما عليه، فلم ينقض وقت طويل حتى كثر النحل على اللوح، وجميعه آت من القفير التي جاءت منه النحلة الأولى، فقال في نفسه: كيف استطاعت النحلة الأولى أن تنبئ سائر النحل في القفير بما اكتشف؟ ثم عمد «فون فرتش» إلى رقم النحل في قفير ما؛كل نحلة رقما خاصا، ثم جعل يراقب ما يقع، فعرف أن النحلة التي تجد اللوح الذي عليه الغذاء تبدأ تأخذ منه ما تقدر عليه وتعود إلى القفير فتفرغ ما في جعبتها، ثم تجعل ترقص رقصا خاصا والنحل من حواليها مأخوذ برقصها يقترب منها ويلمسها بلوامسه، وما تنتهي من رقصها حتى يخرج النحل إلى موقع اللوح الذي عليه الغذاء، وعندما يجده يأخذ منه ما يستطيع ويعود إلى القفير فيفرغ ما في جعبته منه، ثم يرقص فيكثر إقبال النحل على مورد الغذاء .
وقد أثبت «فون فرتش» بالمراقبة الدقيقة أن بين كثرة النحل حول مورد الغذاء والرقص صلة مؤكدة، ثم خطر له أن يبحث كيف يعرف النحل موقع الغذاء من مجرد الرقص؛ لأنه شاهد أن النحل الذي يذهب إليه يذهب مستقلا لا تابعا للنحلة التي اكتشفته، فوجد أنه إذا كان مورد الغذاء جرة أو لوحا أو أي مصدر للغذاء غير مألوف في حياة النحل فقد يطول الوقت قبلما يكتشفه النحل، فكان الرقص يدله دلالة عامة على موقع المورد دون أن يستطيع التحديد، وقد كان مورد الغذاء في إحدى هذه التجارب جرة من الشراب السكري على بعد كيلومتر من القفير يحول بينه وبين القفير تلال وحدائق.
أما إذا كان مصدر الغذاء طبيعيا مألوفا؛ أي زهرة من الأزهار، فإن النحل بعد أن يشاهد الرقص يسير إليها توا، صادفا عن غيرها من الأزهار، وقد نجح في تطبيق تجربته هذه على جميع الأزهار إلا الأزهار التي لا رائحة لها.
وتفسير ذلك أن النحل يشم رائحة الزهرة العالقة بجسم النحلة الأولى عندما يلمسها بلوامسها وهي ترقص. (2) الكتابة
بدأت الكتابة صورا للإنسان والحيوان وما إليه، ثم اختزلت فكان يرمز بخط عمودي صغير تخترقه شرطة أو شرطتان، ثم صارت كتابة تصويرية مكثفة مألوفة، ولما كانت الكتابة السومرية تدون بالعصا على الطين، سرعان ما اختلفت أوضاع الصور الكتابية عما تمثله من الأشياء، ودعيت بالكتابة المسمارية.
أما الكتابة المصرية القديمة فقد بقيت المماثلة بين الشيء وصورته الكتابية قائمة؛ لأن المصريين كانوا يدونون الكتابة على الجدران، والقطع المستطيلة من قصة البردي، وهو أول نوع للورق.
ثم إن الكتابة سارت خطوة أخرى حين أصبحت الصورة لا تمثل الشيء المصور ذاته بل شيئا يماثله، أما اللغة السومرية فقد أصبحت تتألف من مقاطع مركبة، حين أريد منها التعبير عن الأفكار التي لا تستطيع الصور الدلالة عليها توا.
هذا وقد خطت اللغتان المصرية والسومرية هذه الخطوات مفيدتين من اتصالهما بأمم أخرى عاونت على اختراع الأحرف الهجائية، بعد أن نهلت من فيضهما، وعلى هذا كانت الحروف الهجائية الصحيحة في العالم ثمرة امتزاج الكتابة السومرية بالكتابة الهيروغليفية، أما في الصين فإن الكتابة التصويرية لم تتطور إلى الأحرف الهجائية.
وليس بعجيب أن يفضي اختراع الحروف الهجائية إلى تقدم الحياة الاجتماعية، وأن يكون من آثاره تدوين الاتفاقات وتسجيل القوانين والأوامر وصيرورة الدول أوسع رقعة وثقافة ويقظة، وأن تنقل أوامر الملك والقسيس وأختامهما إلى غير المكان الذي يقيمان فيه.
وكان السومريون يعنون بصنع الأختام ويتأنقون في زخرفتها، وكان الأشراف والتجار يبصمون بها على الوثائق المحفورة على الطين، فتبقى على الزمن لا تمسها يد العفاء، وفي بابل كانت الكتابة المسمارية هي كتابة سكان بابل؛ لأن حروفها تشبه المسامير شكلا. (3) الطباعة
كان الناس في بيروه القديمة في «أمريكا الجنوبية» يعبرون عما يقصدون في رسائلهم بعقد العقد في الحبال، وتلوينها بألوان ذات معان خاصة، ولا يزال بعض العامة في مصر يعقدون عقدة في المنديل إذا كانوا يخشون النسيان، وبعض الخبازين يحزون العصا حزوزا بمقدار الرغفان، أما السقاءون فيرسمون على باب المنزل خطوطا عريضة كل خط رمز للواحد.
كانت الصور في بداية الصناعة تدل على الفكرة، ثم أخذت تتطور حتى صارت تدل على الصوت المنطوق.
وأخذ التقدم يطرد إلى أن اخترع بعضهم حروفا تدل على الحركة في الكلمة، إذ أمكن بنحو 30 علامة أن تبين أصوات أية لفظة إنسانية، وهذه العلامات هي الحروف الهجائية، والأرجح أن الفينيقيين هم أول من استعمل هذه الحروف؛ لأنهم كانوا أمة تجارية يحتاجون إلى ضبط حسابهم.
وكان الناس يكتبون على مواد عديدة، فكان الآشوريون يكتبون على قوالب من الآجر، وكانت المنشورات الحكومية تكتب على الحجر أو البرنز، وقد استعمل للكتابة أيضا عظم اللوح من البقر والغنم والإبل، وكذلك استعمل الخشب المصقول، وبعض الصفائح المغطاة بالشمع وجلود الحيوان بعد تجفيفها وتلوينها وكانت تسمى رقوقا.
وكانت مصر في ذلك الوقت تستعمل البردي، وهو نبات قد زال الآن من مصر، ولكنه ينبت في بعض أنحاء السودان، وكان اليابانيون والصينيون يصنعون ورقا جيدا قبل الميلاد المسيحي، وكانوا يصنعونه من الخرق والكتان والقطن ولحاء بعض الأشجار، وكانت الكتب تصنع صنعا، فكان الكتاب قطعة ورق مستطيلة تلف حول أسطوانة وتكتب على وجه واحد فقط، وفي القرون الوسطى حدث بعض التطور؛ إذ صارت الكتب تؤلف من أوراق مربعة مكتوبة على الوجهين، وكانت تلصق معا وتوضع بين دفتين من الخشب أو الرق أو المعدن، وكان كثيرا ما يدعم الناس دفتي الكتاب بقضبان من الفولاذ، فكانت الكتب لذلك ثقيلة كبيرة الخطر على من يتناولها، فقد حدث أن سقط كتاب على بترارك الشاعر فأذاه أذى كبيرا في ساقه، وكان الناس يعتقدون أنهم يحمون الكتب بهذه الطريقة من اللصوص، وقد ثبت في سنة 1515 أن مكتبة البندقية التي كان أسسها الكردينال بيساربون قد فقد منها نحو 400 كتاب؛ أي نصف مجموع ما فيها؛ وذلك لأن المستعيرين لم يردوا ما استعاروه، ولما أراد لويس الحادي عشر أن يستعير من كلية الطب في باريس كتابا عربيا في الطب، رفض أمين المكتبة أن يسلم الكتاب إلا بعد أن أخذ كأسا من الفضة رهنا عليه، وبعد أن يحصل على ضمان رجال حاشيته في رد الكتاب.
ثم إن أدوات الكتابة قد تحسنت بعدئذ فكانوا يكتبون بريش الأوز ثم استعملوا الفرشاة ثم القصب ثم الحديد، وصار الحبر الأسود يستعمل دون غيره وخصص الحبر الأحمر لكتابة العناوين، وكان كاتب العنوان إخصائيا في صناعته لا ينتمي إلى طبقة النساخ الذين يكتبون صفحات الكتاب، ثم هبطت أسعار الورق وعمم استعماله بين الناس، فقد جاء الورق من قلب آسيا، فحمله العرب الذين كانوا وسيلة الاتصال بين الشرق والغرب إلى أوروبا، وقد انتشر بعد الحروب الصليبية في الأقطار المحيطة بالبحر المتوسط، وكانت الأندلس أحد مراكز صناعة الورق، وأقدم أنواع الورق هو الآن في الإسكوريال في إسبانيا، وفي سنة 1221 أمر الإمبراطور فريدريك الثاني موظفيه ألا يكتبوا القوانين على الورق، وإنما يكتبونها على الرقوق، وفي القرن الرابع عشر انتشرت معامل الورق في فرنسا، وقد كان الورق يصنع باليد إلا حيث كان يمكن إدارة المصنع بالماء المنحدر، وكان نسخ الكتاب الواحد يحتاج إلى عدد كبير من النساخ، وقد نسخ كتاب عن الرسوم الإكليريكية فاحتاج نسخه إلى 21 شهرا، فلو حسبنا ما نحتاج إليه من الوقت؛ لكي ننسخ 3000 كتاب مثله لبلغ 5250 سنة؛ ولهذا السبب كان اقتناء الكتب يعد من ضروب الترف ولا يقدر عليه إلا كبار الكهنة والأشراف.
وكان الذي أدى في النهاية إلى اختراع الطباعة الحديثة، كثير من المخترعات التقت معا في نقطة واحدة، فاختراع الطباعة لم يحدث دفعة واحدة، وإنما جاء خاتمة لمخترعات كثيرة جعلت وجوده في حيز الممكنات، وكان أول ذلك انتشار صناعة الورق ثم الطبع بحفر الخشب، فقد كانت لفظة «الطباعة» معروفة في هولندا قبل ظهور الطباعة الحديثة؛ وذلك لأنهم كانوا يطبعون الصور على ورق اللعب، عن أصل من المعدن أو الخشب، قد حفرت فيه الصورة بارزة، وكانت الصور الكبيرة تطبع على هذا النحو ويطبع معها بيتان أو ثلاثة من الشعر، وكان هذا الفن معروفا في كوريا قبل المسيح، وشاع استعماله في النصف الأول من القرن الخامس عشر في أوروبا.
ومما ساعد على اختراع الطباعة فصل الحروف، فإن الحروف كانت تكتب قبلا متصلة، ولكن بعضهم اهتدى إلى طريقة فصلها وصار يصنعها من الخشب أو المعدن، ثم كانت تصف وتضغط بما يشبه المضاغط التي كانت تستعمل في عصر العنب أو الزيتون، وقد كان الرومان يعرفون الحروف المنفصلة ويعلمونها أولادهم، ثم كان القدماء يعرفون الختم ويطبعونه على الشمع فتظهر الصورة والرمز أو الاسم.
على أنه لما ظهرت الطباعة قابلها الناس في غضب وحماسة، أما فئة النساخين فقد تلقتها في سخط ولعنة؛ لأن وجود المطابع كان يقضي على مورد رزقهم، أما سائر طبقات الناس فقد رحبوا بها وعدوها رأس الفنون والعلوم؛ ولذلك كانت المطبعة في بداية ظهورها هدفا للعواطف المتناقضة والآراء المتباينة؛ ذلك أن للطباعة أثرا مهما في الماضي والحاضر والمستقبل؛ إذ هي قبل كل شيء وسيلة حفظ أفكار الأجيال الماضية، فقد حاول الناس منذ الأزمان القديمة أن يخاطبوا أرواح الموتى.
ومن المعارضين للطباعة النساخون الذين ظنوا أنها تقضي على مادة رزقهم؛ لأن الطبع قام مقام النسخ، هذا وقد كان الطباعون في أول عهدهم ينسبون إلى السحر؛ وذلك لأن النسخ المطبوعة تخرج في سرعة هائلة من المطابع مما يدل على أن يد الشيطان هي التي تفعل ذلك، وكان الاضطهاد يشتد أحيانا حتى كان الطباعون يفرون خوفا، كذلك كان رجال الدين يقاومون هذه البدعة الجديدة؛ لأن الإنسان أحد رجلين: إما أنه ناقل ناسخ وإما أنه مبتدع مجرب. ورجل الدين بحكم وظيفته، يؤثر خطة السلف وسنة القدماء على ابتداع البدع، وكانت الطباعة في نظره بدعة، أما القسم الثالث من المعارضين فكان مؤلفا من الملوك والساسة، فإنهم وجدوا في الطباعة النور الذي يكشف عن ظلمهم وظلامهم، فوضعوا لها قيودا وقواعد وعقوبات، بلغت أحيانا الحكم بالقتل، ومما هو ذو مغزى أن والي فرچينيا في الولايات المتحدة كتب في سنة 1660، حين كان ذلك القطر العظيم لا يزال تابعا لإنجلترا، يقول لملك الإنجليز إنه يشكر الله لأنه ليس في ولايته مدارس حرة ولا مطابع، وصرح برجائه بأنهما لن توجدا قبل 300 سنة؛ لأن انتشار العلوم لم ينفع الناس إلا في نشر الإلحاد والثورة. (3-1) أدوات الكتابة
استعملت الأحجار والجلود والأخشاب والفخار والخزف وورق البردي والكاغد ونوع من الورق الشبيه بالورق الحديث للكتابة عليها، واستخدمت أقلام حجرية وأعواد من القصب، للكتابة بها، كذلك استخدم النقش والحفر ومداد مسحوق الخشب المحروق لإيضاح المكتوب.
أما أدوات الكتابة عند العرب فهي الرق - الجلد، والأقمشة خاصة النسيج المصري المسمى «القباطي»، وعليه كتبت المعلقات السبع وعلقت على أستار الكعبة، وألواح العظام وقطع الخشب والخزف والفخار، وعرفوا ورق البردي بعد فتح مصر، وعرفوا ورق الكاغد في الدولة العباسية ونقلوه عن الصين، وأنشئوا معامل للورق في دمشق وبغداد والأندلس ومنها إلى أوروبا، أما المداد فمن مسحوق الفحم - الخشب المحروق - أو الهباب مدوفا بالصمغ أو بالمادة اللزجة، والأقلام من الصلد ينقشون بها الأحجار وألواح العظام ثم من القصب.
الفصل السادس عشر
الفلسفة
يبدو أن الفلسفة كانت من المعاني التي استرعت نظر الإنسان البدائي مختلطة بالمعرفة إجمالا، ذلك أنه كان دائب النظر إلى الطبيعة؛ إلى السماء والأرض والماء ، راغبا في الوقوف على سر ما يشهد وتعليل حقيقة ما يحس.
وليس ببعيد ولا بعجيب أن يكون رئيس الجماعة أو زعيم القبيلة أو رب الأسرة هو ذاته الكاهن والعالم والطبيب والفيلسوف والعراف والساحر وقائد الجند والشرطة، بل الملك. وكلما اقتربنا من عصر التاريخ، وضح التخصص في هذه الأعمال، وأصبح لكل منها أشخاص ينهضون بأعبائها.
وقد اختلف استعمال لفظ «الفلسفة» - ومعناها حب الحكمة - تبعا للبلاد والعصور والعلماء، فقد انتقلت فكرة «الفلسفة» نفسها في اليونان من فكرة المعرفة والثقافة العامة؛ أي من أن الفيلسوف هو من يعرف أي شيء أو كل شيء إلى علم معين، فعند «هيرودوت وثيكيديس» أن فكرة الفلسفة تتبع المعرفة، أما في كتابات «أفلاطون» فهناك فرق بين الرجل الحكيم ومحب الحكمة، وعند «أفلاطون» أن الفيلسوف هو من يدرك أساس الأشياء وحقيقتها على نقيض من لا يعنى إلا بالظواهر ومظاهر الحس، فالفلاسفة عند أفلاطون هم من يستطيعون إدراك الأبدي والثابت، ومن يحبون كل شيء له وجود حقيقي.
وقد ذكر «أرسطو»، رجل دائرة المعارف التاريخية القديمة، حدود النظم الفلسفية، وكان «أرسطو» هو منشئ علوم المنطق والأخلاق والذوق والجمال.
الفلسفة هي معرفة أسرار الكون العام وإدراك نواميس التغيير المستمر فيه، وفهم أصل نشأته ونهاية مصيره، أو قل هي معرفة الظواهر الطبيعية المختلفة وأسباب نشأتها، وتحولها من كون إلى فساد ومن فساد إلى كون، والوقوف على ما وراء تلك الظواهر من الأزل إلى الأبد، وشرط هذه المعرفة إنما هو التحرير الفكري من التقاليد القديمة، والاقتداء بالعادات الموروثة والاعتماد على قوانين الديانات القائمة، بحيث يكون هذا المجهود الفلسفي الحكيم راجعا للعقل البشري الحر الطليق، كما أدركه سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وكانت وإسبنسر.
على أن الفلسفة قد تدرجت في معان وإطلاقات كثيرة في حدود التعريف المتقدم، وكان هذا التدرج في معانيها وإطلاقاتها المختلفة تابعا للتدرج في الموضوعات الرئيسية التي اشتغلت بها، ولانتقالها بعنايتها الكبرى من موضوع إلى موضوع إلى أن وصلت أخيرا، وبعد استقلال العلوم عنها، إلى دائرة بعينها من التفكير، هي دائرة التفكير فيما أنتجته العلوم الطبيعة حسب مهمة كل واحد منها في حدود موضوعه وبطريقته الخاصة به في البحث، بأن تأخذ الفلسفة تلك المجهودات العلمية العامة، وتجمعها وتؤلف منها - مجتمعة - معرفة عامة، تبحث بها في حدود ما وراء الطبيعة بحثا يصور للعقل فهم اللانهائية والديمومة من الأزل وما فيه إلى الأبد وما سيصير إليه، وما بينهما من تعاقب في عالم الحدوث، وتغيير مستمر في ظواهره بحكم الكون والفساد أو الوجود والعدم، وفي تلك الدائرة الخاصة والنقطة العويصة، وبتلك الطريقة المذكورة تبحث الفلسفة بحثها الفني الاصطلاحي، تاركة الحكمة الأدبية الاجتماعية تأخذ طريقها محدودة في الأدب العام، وفي فنها العلمي المعروف بعلم الأخلاق، بعد أن كانت في هذا الفن فرعا من فروع الفلسفة «أو الحكمة الفنية الاصطلاحية». وباستقلال العلوم عنها استقل أيضا علم الأخلاق أو الحكمة الاجتماعية بما فيها من مأثور الآداب.
نشأت الفلسفة في اليونان في القرن السابع قبل الميلاد، ولئن كانت الأمم الشرقية القديمة قد أنتجت مجهودا حكيما فنيا يذكر في تاريخ الفلسفة، إلا أن هذا المجهود قد ارتبط عند مجموع هاتيك الأمم بالدين ولم ينفصل عن دائرته وحدوده. واليونان، وإن كانوا قد اتصوا بهذا المجهود الفلسفي القديم ووقفوا عليه، وعلى الأخص ما هو مأثور من ذلك عن قدماء المصريين، غير أنهم ما بنوا تفكيرهم الفلسفي على هذا المجهود الأول المكتنف بسياج الدين، بل أهملوا هذا السياج إهمالا تاما، ومنحوا العقل البشري حريته الكاملة، وابتدءوا يفكرون تفكيرهم الفلسفي بفكر حر طليق من أي تقليد أو عادة أو أي تأثير للدين، ومن أجل هذا كانت الفلسفة بنت الفكر اليوناني الحر، وهديته التي لا تقوم مطلقا إلى الإنسانية. غير أن وميض الفلسفة قد ظهر عند «لأوتسه» الفيلسوف الصيني الكبير، وكان هذا الوميض عند لأوتسه المذكور أظهر وأوضح من وميضها، بل إنها ابتدأت به عند «تاليس» الملطي اليوناني المعروف بأبي الفلسفة الأول.
صارت الحكمة الهندية بعد اجتياز الدور الأرسطوري الذي نشأت عنه، وبعد وصولها إلى دور مذاهب البراهمة الفلسفية التصوفية، حكمة دينية لا تقل عن مثيلتها ، الحكمة الفلسفية الدينية التي ابتدأت عند اليونان قبيل المسيح، واستمرت نحو ثمانية عشر قرنا إلى عهد الفلسفة الحديثة.
وعن الفلسفة الدينية الهندية تفرعت عدة مدارس ومذاهب فلسفية أخرى أساسها الفكر الحر والعقل الطليق، المذهب المادي الجاحد الذي كان من أثر العقل الحر والفكر الطليق، على أن حرية الفكر الباحث عند الهنود - وهي سهلة في دوائر الجحود - لم تقف عند هذا الحد، بل انتقلت إلى ما هو في دوائر الإيمان الديني، واستبعدت منه النظر فيما وراء الطبيعة، وكونت لها نظاما اجتماعيا أو دينا حرا يعتمد على الفضيلة لا على وحي أو رغبة له مثل الدين البوذي.
لهذا كانت الفلسفة اليونانية مشتركة مع الحكمة الهندية مع مذهب لأوتسه الصيني في التفكير الطليق.
والفلسفة اليونانية - إلى هذا - تنفرد عن الفلسفة الهندية في أنها، وهي تتفهم في الوجود في ظواهره وأسراره، تعمد إلى وضع القواعد الثابتة والنظريات المبرهنة والأحكام المسلمة كأساس راسخ للبحث الكلي في المسائل العامة والنتائج الشاملة، فتكونت بهذه الطريقة الفلسفة الحرة اليونانية ومعها مبادئ علمية ما كانت معروفة من قبل، بل وضعها العقل اليوناني وضعا، ولقد نمت هذه المبادئ العلمية شيئا فشيئا حتى صارت علوما مدونة ومبوبة، لكل واحد منها اسمه الخاص به، واستقلاله المنفرد به في موضوعه ومسائله وطريقة البحث فيه، وللمعلم الأول يرجع الفضل الكبير في ذلك، هذا ولا جدال في أن الفلسفة اليونانية - وهي ينبوع فياض قد اتصلت به كل الأمم المفكرة واغترفت منه - كانت الحلقة الأولى في التاريخ الفلسفي، التي نشأت عنها كل علاقاته المحكمة الاتصال.
ثم إن جميع العلوم الإنسانية على اتساعها الآن يرجع، في أصل نشأتها، إلى البذور العلمية الفلسفية الأولى التي نشأت في حجر الفلسفة اليونانية، هذا وما يزال الذوق الأدبي الحاكم في الناس حتى الآن، يستمد روحه الأقوى من الذوق الأدبي اليوناني الذي انبعثت عنه الفلسفة اليونانية. (1) فلسفة سقراط
عند الفلاسفة المتأخرين أمثال تسلر وبترو أن سقراط يعد المؤسس الحقيقي لعلم الأخلاق، الذي مهد له من سبقه من الشعراء والحكماء والفلاسفة بعبارات قوية وتعبيرات دقيقة استمدوها من تجاريبهم في الحياة، وفي سبيل الرد على اعتراضات السفسطائيين وإعداد العقائد والتقاليد، اضطر سقراط إلى تكوين علم غايته إرضاء مطالب العقل والعقائد القديمة وموضوع هذا العلم «تحديد الماهيات»، أو قل إنه تكوين آراء عامة تحصل من الاستقراء وذلك بانتقاله من الجزئيات إلى الطبائع العامة أو الماهيات الكلية التي يعدها سقراط موضوع العلم، والمعاني العملية والمسائل الإنسانية فكان في أفعاله وفي حياته الأخلاقية هو موضوع تفكيره، يقول إكسانوفون: إن سقراط كان يرمي إلى تحديد ماهية جميع الموجودات. لقد عرف سقراط العدالة بأنها قوانين ثابتة، والتقوى بأنها تقديم ما للآلهة من الاحترام إليها، غير أن هذا التعريف لا يحمل طابعا علميا. لقد كانت المحاورات المعروفة بالسقراطية هي التي تؤرخ شباب أفلاطون، وتمتاز بخلوها من أي أثر لنظرية المثل، فهي تبين أن الفيلسوف يناقش في دقة بعض التعاريف، ولكنه لا يخرج منها بنتيجة مطلقا، فإن لاشيز يفرض بعض التعاريف عن الشجاعة، ولكنه يرفضها كلها. وهذا ما نراه كذلك في هيبياس الأصغر في بعض التعاريف الخاصة بالجمال.
وفي الجملة كانت جميع هذه المحاولات نقدية وحسب، بل إن بروتاغوراس يترك كذلك بعض المسائل معلقة، بل إن في تيتاوس - حيث يتجاوز أفلاطون آراء أستاذه - نرى النتيجة سالبة دائما، هذا ولم يذكر أرسطو أمثلة لتعاريف وضعها سقراط، مع أنه يذكر أن سقراط حاول أن يضع تعاريف عامة إلا أنه لا يذكر هل وفق سقراط في ذلك أم لم يوفق. وعلى الخصوص لم يظهر لنا كيف وفق في ذلك، ويبدو من كل هذا أنه إذا كان سقراط قد أدرك ما يجب أن يكون عليه العلم، إلا أنه لم يوفق في تحقيق الفكرة التي وضعها له، فحدد موضوع العلم تحديدا تاما ولم يستطع تحديد مضمونه، ويبدو أن سقراط نفسه كان يشعر بعدم قدرته على تحقيق العلم كما كان يدركه؛ إذ إنه بحث عن السبب الذي دعا كاهنه دلف إلى القول بأنه أعلم الناس، فأدرك أنه أكثر من غيره علما، غير أنه ظهر أسمى وأقدر منهم جميعا في أنه لا يدعي علم ما يجهله، وكثيرا ما كان يردد سقراط أن أحسن ما يعلمه هو أنه لا يعلم شيئا، ويذكر في تيتاوس في كلماته الخاصة بأنه غير كفء لتوليد أية معرفة (تيتاوس 1597)، وطبقا للتعريف المشهور للتوليد المذكور في هذه المحاورة يبين منهج سقراط من بحث أفكار غيره؛ أي التعاريف التي يذكرونها، لا أن يضع هو أفكارا وتعاريف. ويقول سقراط إن كل ما يعمله هو إيقاع غيره في الشك والتناقض، وفي المحاورات المختلفة يرفض أن يضع هو نفسه أي مذهب، واكتفى بنقد مذاهب سواه، وكان يرفض دائما الخضوع إلى مراحل السؤال التي كان هو نفسه يخضع لها محدثيه. ويقول أرسطو: إن سقراط كان يسأل ولكنه لم يكن يجيب. (2) السفسطائيون
كلمة يونانية الأصل ومعناها حكيم أو مفكر، ولكن الناس يطلقونها على من يكابر ويغالط في نقاشه، وفي اليونان (450-400ق.م) ظهر جماعة من الفلاسفة أطلق عليهم اسم السفسطائيين؛ أي الحكماء، وكانت مهمتهم أن ينبثوا في أرجاء اليونان ليعلموا الشبان الحكمة، وينبهوهم إلى الحرية، وقد أداهم البحث في تعليم الشبان وتثقيفهم إلى البحث في أصول الأخلاق، وقواعد الدين، فجاءوا فيها بآراء جديدة تركت أثرا ظاهرا في تاريخ الفلسفة، وثار عليهم لهذا كثير من الفلاسفة، منهم أفلاطون الذي انتقد آراءهم انتقادا شديدا.
وكان خصومهم يتهمونهم بالتلاعب بالألفاظ، فيلبسون الباطل ثوب الحق (3) الفلاسفة
نذكر هنا أسماء الفلاسفة الذين عرفهم التاريخ؛ لأنهم كانوا على رأس من بحثوا الحياة الأولى، موردين تاريخ أعمارهم: (3-1) قبل الميلاد
لوسببيوس (450)، أنا كساغوراس (500-428)، السفسطائيون (500-450)، بارمنيدس (530-465)، هيرقليطس (550-475)، ديموقريطس (460-360)، أمبيروفليس (490-430)، سقراط (469-399)، زينو الألباني (450)، أريستبوس (435-356)، أفلاطون (437-347)، أنتيثينيس (440-370) ديوچينس (412-323)، أرسطوطاليس (384-322)، أبيقورس (342-270)، زينون الكلبي (330-264)، لوكريتوس (95-45). (3-2) اللاهوت المسيحي بعد الميلاد
أبيكنانوس (50-125)، مرقس أوريليوس (121-180)، توما الأكويني (225-274)، فرنسيس باكن (1561-1621)، برونو (1549-1600)، دي كارت (1565-1650)، هوبس (1588-1679)، لوك (1632-1704)، سينيوزا (1622-1677)، ليبنتز (1626-1716)، فولتير (1694-1778)، باركلي (1685-1752)، كنديلاك (1745-1780)، هيوم (1711-1776)، كانت (1725-1804)، كندورسي (1745-1794)، فخت (1762-1814)، شيلنغ (1775-1854)، أوغست كونت (1798-1850)، هيچل (1770-1830)، شوبنهور (1788-1860)، چون ستورات ميل (1806-1875)، أرنست رينان (1822-1894)، سبنسر (1806-1873)، نيتشه (1844-1900)، سنتايانا (1863)، راسيل (1872)، ديوي (1859)، وليم چيمس (1842-1912)، أويكن (1846-1926)، كروس (1866)، برغسن (1859).
الفصل السابع عشر
الصناعة
عرف إنسان عصر ما قبل التاريخ الصناعة الساذجة كما أوضحنا هذا في بعض الفصول السابقة؛ ومن أجل هذا رأينا أن نتحدث هنا عن نشأة بعض الصناعات، وتطورها إلى العصور التاريخية. (1) النار
يبدو أن الإنسان عرف النار اتفاقا، ذلك أن النار تشتعل في الغابات إذا ما اشتد الجفاف، واحتكت بعض الغصون ببعضها الآخر، وكذلك إذا سقط حجر على حجر سقوطا قويا، اندفعت شرارة، ومن هنا يبدو أن الإنسان البدائي قد عرف النار، إما عن طريق سكناه إلى جوار الغابات مستخدما حريقها الذي أشرنا إليه، وإما عن ضرب حجر بحجر ووضع خرقة مشيطة جافة بين الحجرين، تتقد على أثر انقداح الشرارة.
أما عيدان الكبريت فقد عرفت للمرة الأولى في سنة 1827 في إنجلترا. (2) دفن الموتى
يبدو أن الإنسان البدائي لم يكن يعرف الدفن أو يمارسه، فكان الميت يترك حيث مات فتفترسه الوحوش أو يبلى لحمه ويبقى عظمه، بل قد يكون الإنسان الأول غير مستطيع التمييز بين الحي والميت، فشخصية الميت كانت لا تزال حية حتى بعد موته، وعلة ذلك أنه كان يراه في الأحلام فيحسب أنه يأتيه في نومه ويعاكسه، فإذا كان عدوا شديد البطش وحدث أنه مات فإن موته لا يخيم هذه العداوة؛ لأن هذا العدو يخطر له في النوم ويفزعه بأحلام مرعبة تملأ حياته نكدا ونغاصة.
لهذا ابتدأ الدفن بتقييد الميت وإلقاء الأحجار الكثيرة عليه حتى لا ينهض في الليل ويقلق الناس وهم نيام؛ إذ إن الغرض من الدفن هو منع الميت من النهوض، فكان أسلافنا يربطون يديه وساقيه، ثم يحفرون له حفرة ويهيلون عليه ويضعون فوقها الأحجار.
ثم نشأ بين الناس الاعتقاد بوجود روح في الجسم، وأن الإنسان يعيش في عالم آخر بعد الموت فنشأ من ذلك فكرتان: الأولى أن الروح تحتاج إلى جسم وطعام وشراب ولباس وأدوات دفاع وزينة، فكانت الأمم التي تعرف أن الجسم يبلى كالمصريين تحنطه، وتلفه في عناية كبيرة وتضع معه الطعام والشراب وكتاب الموتى حتى يقرأه عند الحساب ولا يخطئ، وقد انتشرت هذه العادة من مصر إلى أقاصي آسيا وأمريكا وأفريقيا.
أما الأمم الأقل ثقافة من المصريين فكان عندها الدفن أبسط، ولا يزال بعض الهمجيين يمارسون طرقا بسيطة في الدفن: فالبوشمان يدفنون الرجل ويضعون عليه حربة، ويضع المازاي مع الميت قرعة مملوءة لبنا، وبعض الهنود يضعون للآن مع فقيدهم كعكة، ويضعون في بورما آنية الطبخ، أما في الأرض الخضراء فيدفنون مع الرجل كلبا من الكلاب التي تجر المزالق، وفي الكونغو يدفنون مع الرئيس إذا مات عددا من عبيده مع بعض النقود، وفي فيجي يدفنون معه بعض زوجاته.
أما الفكرة الثانية فقد جاءت من أنه لما كانت الروح لا تحس وهي القوة العاقلة المدبرة للجسم لم يعد ثم حاجة إلى هذا الجسم؛ لأن العالم الآخر ليس عالم أجسام بل عالم أرواح خلو من المادة، انتشرت بينهم عادة إحراق الجسم، وامتد انتشارها إلى أوروبا حيث عرفها الإغريق واليونان والرومان والروس. والهنود الذين كانوا يحرقون زوجة الرجل المتوفى حتى تشارك روحها روحه في العالم الثاني، بل كانوا يحرقون بعض أدواته التي كان يستخدمها في حياته اعتقادا بأنه يحتاج إلى أرواحها لا إلى أجسامها ومادتها، وقد أبطلت الحكومة الإنجليزية عادة إحراق الزوجة، ولكن الهند وبعض الأمم التي حولها التي أثرت فيهم الثقافة الهندية، لا تزال تمارس عادة إحراق الميت، بل فشا في أوروبا شيء يشبه التحنيط المصري، أما العادات الجنازية فقلما تغير أمة عادتها في حمل الجنازة أو دفن الميت، هذا ولما دخلت المسيحية أوروبا وعاد الاعتقاد ببعث الموتى أبطلت عادة إحراق الجسم وكانت قبلا فاشية في أوروبا؛ لأن المنطق الديني كان يقضي بأن الإنسان سيبعث في جسمه فيجب إذن العناية به. كما نرى في «الكاتاكومب»، وهي المغاور التي تحت الأديار والكنائس، إذ يترك الموتى وقوفا بثيابهم إلى الحيطان وبعضهم يعلق بالسقف، على أن الكثيرين يؤثرون الآن إحراق الموتى لأسباب صحية، وفي معظم عواصم أوروبا محرقات وفي الصحف الأوروبية إعلانات من شركات الإحراق تغري بها الناس على إحراق موتاهم؛ لأنه أرخص من الدفن. (3) بناء الدور والأسوار
لم يكن للإنسان موطن معين أو سكن، بل كان يهيم على وجهه في الفيافي وبين الغابات، ثم اتخذ من ظلال الأشجار مستظلا ينام تحته، ثم عرف سكنى الكهوف والأكواخ من أغصان الأشجار، ثم البيوت من الحجر والطين والبوص والخشب.
أما بناء الأسوار حول المنازل والبلاد، فعندنا أنه يرجع إلى ما قبل التاريخ المدون، ذلك أن الغريزة الإنسانية كانت تدعو الإنسان الأول إلى الحرص على ما يملكه من المتاع التافه والحيوان، وإلى الخوف من أعدائه، الذين ينبغي - على ما نفترض - أنهم كانوا أكثر من أصدقائه؛ إذ إن الحالة البدائية كانت حربا مستعرة بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين الحيوان والشياطين والأشباح، بل إنه لا يبعد أن تكون الأسوار قد اتخذت، على الأيام، تقية وتعويذة ليس غير.
ومن الأسوار التي طالما تحدث عنها الجغرافيون والرحالة والمؤرخون سور الصين العظيم، المعدود إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة، فعند أكثرهم أن السور قد أقيم للحيلولة دون غارات سكان شمال الصين، وعند عامة الصينيين أنه قد أنشئ لوقاية بلادهم من الأرواح الشريرة، وعند قلة من الجغرافيين أن سور الصين لم يقم من أجل الدفاع ضد المغيرين أو الأرواح الشريرة، بل إن عادة الصينيين في القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد خاصة، قد جرت ببناء الأسوار لتعيين الحدود ومنع الأهلين من تخطيها إلى غيرها، حين كانت بعض أقاليم الصين منفصلا عن بعضها الآخر، إلى أن وحد الإمبراطور «هوانج تي» البلاد الصينية وأحاطها بالسور العظيم. (4) المرآة
كان الناس قبلا يرون ظلالهم في الماء ولا يزال هذا شأن الهمج من البشر، ثم صنعت المرايا من البرنز المصقول، وفي القرن الرابع قبل الميلاد صنعت من الفضة، وكان العرب يعرفونها باسم «الوذيلة»، هذا وقد صنعت المرايا من الزجاج لأول مرة في البندقية في سنة 1300، وكان الزجاج يوضع قبلا على الفضة لصيانتها حتى لا تنخدش، ثم وضع الزئبق وراء الزجاج بعد ذلك.
هذا ولم يكن الإنسان قبل ستة آلاف سنة يعرف المرايا، وإنما كانت المرأة تنظر صورتها في الماء فتصلح من شأنها بقدر ما ترى من صفحة الماء، ثم عرفت المعادن بعد ذلك؛ النحاس ثم البرنز، فكانت المرايا تصنع منهما، ثم عرفت الفضة فصارت تصنع المرايا منها، وفي العربية لفظة الوذيلة وهي المرآة الفضية، أما مرايا الزجاج فحديثة ولم تعرف إلا بعد كشف الزئبق وطريقة دهن الزجاج به، وقد كان الرومانيون أول من صنعوا الزجاج على صورة تفترق عن صناعة المصريين. (5) الحذاء
يبدو أن الإنسان البدائي كان حافي القدمين مما جعل جلد أخمصيهما غليظا متينا، ثم اضطر إلى أن يتخذ لأقدامه ما يقيها حر الرمال ووعورة الطريق، فاتخذ قطعة من الجلد أو الخشب شدها إلى أخمصي قدميه، ثم جعل يتفنن في صنعها. هذا وقد كان حذاء المصريين القدماء نعالا تشد إلى القدم بسير قصير يمتد مما بين الإبهام والسبابة إلى أعلى القدم، وسير آخر مشدود من طرفيه بجانبي النعال عند أسفل العقب فيمر بأعلى ظهر القدم، فيشد به السير الأول، أما مادة النعال فكانت على الغالب من الجلد، ولكنهم كانوا يحيكونها أحيانا من سعف النخل، أو ألياف القنب أو البردي.
أما أحذية الآشوريين فكانت تختلف عن الأحذية المصرية، فإن نعالها كانت تصنع من الخشب والجلد، وقلما صنعوها من النسيج. وبينما كانت الأحذية المصرية تستطيل من الأمام ثم تنعكف إلى فوق الإبهام، لم تكن الأحذية الآشورية تتجاوز رأس الإبهام من الأسفل، وهي تخالف المصرية بأنها تشد إلى القدم بسيور منحرفة تكسو العقب.
أما أحذية اليونان والرومان فتمتاز بأنها من الجلد غالبا، وأن نعالها تشد بسيور تلف على ظهر القدم والعقب، وتتجاوزهما إلى أعلى الكاحل وأحيانا إلى منتصف الساق.
أما الأمم الأخرى كالفينيقيين والإسرائيليين، فكانت أحذيتهم ترجع إلى بعض هذه الأشكال، وكان العرب لا يلبسون غالبا النعال لتصلب بطون أقدامهم فتقوى على تحمل حر الرمال، ولكنهم إذا ساروا في الجبال الوعرة شدوا إلى أقدامهم نعالا من جلد الغنم. (6) المشروبات المخمرة والمسكرة
يبدو أن الإنسان البدائي قد عرف - اتفاقا - التخمير والمشروبات والأغذية والأعشاب المخمرة، وهي التي يحدث تناولها ارتخاء أو تخديرا وانتعاشا وانتشاء، وأن المخمورين والسكيرين كانوا من جماعات الإنسان القديم.
وعند أحد علماء الكيمياء الألمان أن المصريين القدماء كانوا ماهرين في صناعة الجعة (البيرة)، فقد فحص هذا العالم جرة مصرية قديمة بوساطة الميكرسكوب، فوجد لاصقا بجدارها من الداخل آثارا من النشاء ومن الخميرة التي لا تزال تستعمل في صناعة البيرة إلى هذا اليوم، أما الماء الذي كان المصريون يستعملونه فكان من ماء النيل لا من ماء الآبار، بدليل أن آثار أعشاب نيلية وجدت لاصقة بجدران الجرة من الداخل. (7) الصابون
يرجح أن الأقدمين استعملوا رماد الخشب والأعشاب لتنظيف أجسامهم، وفي تاريخ بليني أنهم صنعوه من شحم الماعز بإذابته، ومزجه برماد شجر الزان مع الملح. (8) النقود
كان الإنسان البدائي في غنى عن استخدام النقود؛ إذ كان يعمد إلى القوة والسلب في أخذ ما يحتاجه، ثم عرف مبادلة السلعة بالسعة والمقايضة بين الحاصلات والمعادن الخام، هذا وأول من استعمل النقود المعدنية هم أهالي ليديا بآسيا الصغرى، وأول قطعة سكت كانت في سنة 716ق.م، أما عملة الذهب فالمعروف أن أول من أمر بسكها هو قارون (كروسوس) ملك ليديا في سنة 550ق.م، أما الورق فقد بدأ التجار استعماله صكا في الصين وبعض الحضارات القديمة، ثم اتخذ منذ القرن التاسع عشر نقدا يقابل العملة المعدنية، ويحل محلها إلى أن أصبحت له الغلبة في هذا القرن.
هذا وقد كانت الماشية أداة التعامل، ثم اتخذت المعادن أداة للتبادل؛ لما فيها من الثقل والصلابة على هيئة سبائك بأشكال مختلفة، كحلي وأدوات أخرى، وكانت توزن عند كل عملية مقايضة، ثم استنبطوا قطعا معدنية منتظمة محدودة الوزن، ثم تعمد القدماء عند تحديد وزن القطع المعدنية أن يجعلوها ذات قيم صغيرة لتسد حاجة التبادل اليومي، وكانت الصفقات الكبيرة يدفع ثمنها إما بعدد كبير من هذه القطع الصغيرة القيمة من ثلاثة معادن: الذهب والفضة والنحاس ، وإما بسبائك من هذه المعادن على هيئة قضبان ثقيلة الوزن توزن بالمين، والتالنت (هي وحدة الموازين الكبيرة. التالنت = 60 مينا).
وقد قال أرسطو: «لقد تخلصنا به نهائيا من مضايقات الوزن المستمر.» فقد وضع الختم الرسمي للدولة على هذه القطع المعدنية الموزونة، وهذا هو أساس كل نقد حتى أحسن أنواع النقود الذي تطابق قيمته الاسمية القيمة المعدنية تماما، وكان للحكومة الحق في أن تفرض للنقود قوة التعامل، وأن ترغم الناس في كل مكان تحت سلطتها على قبولها، ولم يتحقق استنباط النقود المختومة الرسمية إلا في القرن الثامن وأوائل السابع ق.م، وكل المصادر التاريخية والأثرية تنسب شرف هذا الاختراع إلى الليديين واليونانيين، ثم انتشر عنهما إلى الأمم الأخرى مع انتشار الحضارة اليونانية، وتدل النقوش والمصادر على وجود القطع المعدنية ذات الوزن المحدد من أقدم العصور، ولكن لم نر أثرا للنقود قبل هذا التاريخ.
أما أول عملة فكانت سبيكة بسيطة تحمل نقشا بمثابة ختم رسمي، على أنه وجدت قبل ذلك بعض قطع تحمل أختاما خاصة شخصية كضمان لقيمة المعدن، منها واحدة عليها غزال كتب حوله باليونانية «أنا علامة فانوس» كما في الصين الآن، وكان لكل بلد رمز خاص به، وكان في أول الأمر محفورا في القطعة، ثم صار بارزا على سطحها، وارتقى فنيا حتى صار موضع تنافس المتفننين البارزين في ذلك الوقت، وقد كان الآسيويون يحفرون الرمز على الحجر، ثم يصبون العملة عليه فيظهر على القطعة رمزا بارزا، وقد قلدهم اليونان ثم تناولوه بالتحسين حتى وصل إلى درجة رائعة من الفن.
قال «بولكس» المؤرخ: إن أول من ضرب النقود «فيدون» ملك أرجوس اليوناني أو الليديون، ففي النظرية اليونانية أن «فيدون» أول من ضرب العملة من الفضة في اليونان الأوروبية على شكل سلحفاة بحرية، يؤيد ذلك أنه وهب معبد هيريون بعض السبائك بدون أختام من الفضة على شكل مسلات كانت مستعملة قبله في اليونان، وقد وهبها الملك لذكرى اختراعه العملة، أما النظرية الآسيوية، فهي أن الليديين هم أول من ضربوا النقود من الذهب، ويؤيد ذلك المؤرخ «هيرودوت» إذ يقول: «الليديون على حد معرفتنا هم الأول بين الرجال الذين ضربوا العملة من الذهب والفضة.» وأيده المؤرخ «أجزنوفان»، واقتبس عنه «بولكس»، أما أول من ضرب الذهب «الكنروم وهو خليط من الذهب والفضة طبيعي» فهم الليديون، وأول من ضرب الفضة في اليونان هو «فيدون»، ولكن أيهما أسبق؟ فإذا عرفنا أن العملة في ليديا ضربت بعد انتهاء دولة مرمناو؛ أي في عهد «چيچة»، وأن تاريخ حكم «فيدون» ملك أرجوس غامض لا يعرف هل هو أول بعد حكم «چيچة»، كان لا بد من الاستشهاد بالآثار نفسها، وإذا درسنا أقدم القطع في المجموعتين الليدية واليونانية، وهما بالتأكيد أقدم ما ظهر من العملة وينتميان إلى النصف الأول من القرن السابع قبل الميلاد، وجدنا أن مظاهر الخشونة وعدم الإتقان تبدو واضحة على القطع اليونانية الفضية، وهي مستطيلة الشكل على هيئة سلحفاة بحرية، بينما النقود الذهبية الليدية مستديرة الشكل، وعلى ظهرها ثلاثة نقوش محفورة في نظام، وفي إحداها صورة ابن آوى، وهو رمز إله الليديين «بساريوس»، وليس على وجهها إلا بعض خطوط أدق نسبيا وأرقى ما تم من الوجهة الفنية، وليس ذلك دليلا على أن العملة اليونانية أقدم من الأخرى؛ إذ يرجع السبب إلى تقدم الليديين لأن الحضارة وارتفاع الفن في آسيا الصغرى سبقا بمراحل الحضارة اليونانية في أوروبا في ذلك الوقت، الواقع أن العملة الليدية تمثل الانتقال بين التبادل بالقطع المعدنية ذات الوزن المحدود بدون ختم رسمي، وبين النقود الحقيقية، فهي سبائك عليها ختم الدولة الرسمي، فاكتسبت بذلك ضمانا قانونيا لوزنها ونوع معدنها. (9) ركوب الماء والسفن
المظنون أن الإنسان عرف مراكب الماء من سفن وقوارب منذ ثلاثين ألف عام وأكثر، وإن لم تكن على الصورة التي وصل إليها صنعها الآن، وأن الإنسان كان يركب الماء جاذفا على الماء في كتلة من الخشب أو جلد منفوخ، وقد وجد في مصر وسومر القارب المشابه للسلة، وهذا النوع من القوارب لا يزال مستعملا في أيرلندا وويلز وألسكا وفي خليج بهرنج، ثم عرفت بعدئذ الكتلة الخشبية المجوفة، ثم تطور صنعها إلى الحالة التي تشبه ما هو قائم من أنواع السفن ذات المجاذيف فذات الشراع، وقد عرفت السفن الصالحة في البحر المتوسط والخليج الفارسي، ثم البحر الأحمر منذ 7000ق.م، وكان أكثرها للصيد وأقلها للتجارة والقرصنة، وقد بدأ سير السفن في الأمواه الداخلية حينما كان التيار المائي هادئا مدة طويلة، وقد ظل حجم السفن صغيرا، فلم تعرف السفن الكبيرة الضخمة حسنة البزة جيدة التركيب القادرة على مخر عباب المحيطات؛ إلا منذ 400 سنة، فقد كانت السفن الصغيرة قبل هذا تسير بالمجاذيف على مقربة من السواحل، وتسرع إلى الوقوف أو العودة إلى المرسى كلما لاح خطر الأمواج أو العواصف، وكانت الأمم السامية في مقدمة الشعوب استخداما للسفن، فأنشأت الثغور والمراسي البحرية في شرقي البحر المتوسط، وكان سكان صيدا وصور على رأس هذه الأمم ركوبا للبحر محترفين التجارة والغزو والقرصنة، وقد عرفوا باسم «الفينيقيين»، وقد وصلوا إلى إسبانيا طاردين الأيبريين سكان الباسك، وموفدين البعثات ماخرة عباب مضيق جبل طارق، منشئين المستعمرات في شمال أفريقيا، وخاصة قرطاجنة.
وثمة أقوام آخرون متصلون بالمصريين والباسكيين الإسبانيين والبربر كانوا يركبون الماء ويستخدمون القوارب والسفن الصغيرة، وكذلك نوع آخر من سكان الجزر اليونانية في بحر إيجه وآسيا الصغرى سبقوا الحضارة اليونانية، مثل «كنوسوس» في كريت، وهي أقدم ما كشفت عنه الآثار في تلك المنطقة، وهي تماثل الحضارة الفرعونية نشأة وتاريخا، و«كنوسوس» هذه هي قصر للملك أكثر منها مدينة، وقد بقيت غير محصنة إلى أن ظهر الفينيقيون وقراصنة اليونان النازلون من الشمال، وأصبحوا خطرا على البلاد الأخرى. (9-1) الملاحة في مصر
عرف المصريون الملاحة في النيل ثم البحر، ولقد اتخذ المصريون القدماء السفن في حروبهم فترى على جدران معبد مدينة «هابو» منظر معركة بحرية وقعت في عهد رمسيس الثالث، وكانت هذه السفن كبيرة الحجم، تتسع لكتيبة من الجند، وقد كان للمصريين في عهد الدولة الحديثة أسطول تجاري كبير يسير بعضه في نهر النيل، وبعضه في البحرين المتوسط والأحمر، وكانت سفن النيل تحمل الأثقال الكبيرة مثل أحجار الأهرام والمعابد، والمسلات والتماثيل، وعلى جدران معبد الدير البحري سفينة طولها 81 مترا، وعرضها 27 مترا، حملت عليها بعض المسلات من محاجر الجرانيت بأسوان إلى الكرنك حيث أقيمت، وكانت هذه السفن تسير من غير مجاذيف، تجرها سفن كثيرة يقدمها عظماء الدولة لفرعون، وكانت تسير في النيل كذلك سفن أخرى لنقل الغلال والماشية والأثقال الصغيرة، وقد سيرت الملكة حتشبسوت أسطولا تجاريا في البحر الأحمر، وأوفدته إلى بلاد «بونت»؛ ليأتي للإله آمون بأثمن حاصلات هذه البلاد ولا سيما أشجار البخور الذكي، وترى مناظر هذه البعثة التجارية منقوشة على جدران معبد الدير البحري. (10) المصريون والزجاج
يقال إن صناعة الزجاج الذي قوامه الرمل في مصر البعيدة، قد جاء اتفاقا منذ أربعة آلاف سنة، وقد مهر المصريون القدماء في تلوينه مخرجين أحد عشر لونا في المرحلة الأولى من كشفه، وعرفوا الفسيفساء، وخلف لنا الأقدمون مصنوعات زجاجية في أحد جانبي الغرفة الداخلية للأهرام المدرجة في منفيس، ورسوما تدل عليه في مقابر بني حسين في المنيا، وكان أقدم ما وصل إلينا كرة زجاجية مع بندقية أمنحتب الأول مودعتين متحف أكسفورد، وتمثال رأس الإله هاتور متحف لندن، وألوان من الزهريات والمكاحل والسمك والرءوس، وكان يصنع في طيبة في بداية الأمر في الفيوم فالإسكندرية، ثم انتقل إلى آشور وفينيقيا، ثم إلى روما، فقد أنشأ الإمبراطور نيرون مصنعا للزجاج عماله من المصريين. (11) الطيران
ليس ببعيد أو بمستغرب أو عسير أن يكون الإنسان البدائي قد فكر في الطيران، بل لعل هذا الإنسان مارس الطيران ممارسة غامضة الصورة أكثر مما احتفل له الإنسان المتحضر، ذلك أن الإنسان البدائي كان يعيش مع الحيوان والطيور، وحين كانت الوحوش تطارده، كان يلجأ إلى الأشجار العالية معتصما بها أو متنقلا بينها، ومن المحتمل أنه كان يتخذ جذوعها أذرعة يطير بها قليلا، على مثال شيء من الطيران الشراعي الملائم لتفكير ذلك الإنسان وحاجته. (11-1) فكرة الطيران في مصر السابقة
لقد وجدت بعض النقوش القديمة التي تدل على أن الفراعنة عرفوا سر الهواء وتركيبه واستفادوا من ذلك؛ فقد روى «هيرودوت»، المؤرخ القديم الذي عاصر الفراعنة وسطر عن مدنيتهم الكثير، قصة سمعها من بعض زملائه المتقدمين، وقال إنه يشك في وقوعها؛ لأنها لم تثبت عنده قطعا، أما القصة فقد جاءت دليلا على أن الفراعنة فكروا في الطيران وبدءوا في تنفيذه، قال:
كنت في طريقي إلى بلدة طيبة حين سمعت من بعض شيوخ الفلاحين قصة من أغرب القصص، تدل على أن عقلنا البشري قد انجلت أمامه الحقائق وسهلت المصاعب. قال الشيخ: إنه بعد أن استولى الملك مينا على الوجه البحري وأصبح ملكا لمصر العليا والسفلي وضم التاجين، أراد أن يوطد ملكه بإكرام العلماء واستغلال عقولهم في ترسيخ أقدام حكمه الجديد، الذي زها عصره، وذهبت إليه وفود العلماء إلا عالما شهيرا اسمه «تاحتب» أبى واستكبر، وحاول الملك استمالته بالطرق كلها فلم يفلح، فأغضب ذلك الملك، فحكم عليه بالموت مرسلا من يحضره.
وتواتر إلى العالم ما اعتزم الملك فهرب إلى قمة جبل عال مستصحبا معه نسرا ضخما قويا فاتحا فاه، وربط نفسه إلى رجليه، ثم ألقى بنفسه معه من فوق الجبل، فبسط النسر جناحيه ماضيا في الفضاء.
وكان الرجل، إذا أراد الانخفاض جذب رأس النسر بيده إلى أسفل، وإذا رغب في الصعود دفعها إلى أعلى، وهكذا طار الرجل في الهواء فوق المدينة بين تهليل الناس وتكبيرهم، وخشي الملك أن يستفحل أمر ذلك العالم الجبار، فأرسل رسله في كل مكان باحثين عنه مادين أيديهم بالهدايا، ولكن ذهبت جهودهم أدراج الرياح.
فهذه القصة التي حرفها بعض الروائيين في قصة «السندباد البحري» تدلنا دلالة واضحة على مبلغ رقي الفراعنة العقلي والعملي، وأن «تاحتب» كان أول ضحايا فكرة الطيران، صحيح أن هيرودوت تشكك في صحة هذه الرواية، لكنها على كل حال تثبت وجود الفكرة عند علماء المصريين القدماء.
وقال الطيار «محمد محفوظ» في كتابه عن «الغزاة في عالم الطيران» إنه قد مضت سنون تطور فيها الفكر والعلم، حتى جاء عصر الأسرة الرابعة التي بنيت في عهد الأهرام، فذكر أن أحد الكهنة تسلق هرم خوفو بعد أن صنع لنفسه جناحين من قماش متين من التيل وطلاهما بطبقة من الشحم؛ ليمنع نفوذ الهواء خلالهما، ثم ألقى بنفسه في الهواء وأخذ يطير محركا جناحيه، ولكنه كان دائما يهبط إلى أسفل؛ إذ لم تكن لديه القوة اللازمة للارتفاع ... وبعد أن قاوم الهواء فترة يسيرة، انفصل عن جناحه فهوى إلى الأرض وفاضت روحه ، وكان بحق أول ضحايا الطيران الانفرادي، ويذكر بعض المؤرخين أن المهندسين الذين شيدوا الهرم الأكبر استنبطوا النوع الأول من المظلات الواقية، فقد صنعوا نوعا من القماش الخفيف في شكل أسطواني قريب الشبه بالبرميل، وكانوا إذا أرادوا طلب شيء من سفح الهرم نفخوا في هذه الآلة، وربطوا بها رسالة بما يطلبون، ثم يلقونها في مهب الريح، فإذا كانت غايتهم إلى أسفل مباشرة علقوا بها ثقلا، وإذا كانت بعيدة عنهم نوعا خففوا زنة الثقل، فإن كانت بعيدة جدا ألقوها دون ثقل ما، وهذه التجارب تدلنا على أنهم حاولوا الاستفادة من فكرة الطيران (الباراشوت)، ومن عجيب ما وصل إلينا أن قدماء المصريين عرفوا أيضا اتجاه الريح بوساطة جهاز يسمى دليل الريح، فقد كان عصر الأسرة الثانية عشرة عصرا ذهبيا سار الكشف فيه شوطا بعيدا عن طريق السفن البحرية، ولم يكن المصريون القدماء إلى يومئذ قد عرفوا القلع، فكان جل اعتمادهم على المجاذيف، ومما لا شك فيه أن الريح كانت تقاوم سيرهم وتوقف تقدمهم، بل كثيرا ما أوردتهم موارد التهلكة، وفي هذه العصر استنبط أحد العلماء كيسا من القماش الخفيف مفتوح الطرف، طوله يتراوح بين ذراعين وثلاثة، يعلقونه من طرفه في ناحية عالية بمؤخرة السفينة، وكثيرا ما ارتفع الكيس في شكل عمودي؛ لتعبئته بالريح القوية ولكنه لم يأت بالغرض المطلوب، وفطن أحدهم إلى أنه يجب ثقب الكيس؛ كي يمر منه الهواء وفق فكرتهم تماما، وكان هذا الجهاز من أهم عوامل تقدم البحرية الفرعونية، لكنه اندثر واستغني عنه حين استنبطوا القلوع.
وبعد، فنحن لا ننكر أن الغرب أخرج الطائرة إلى حيز الوجود، وأن الطيار «لاتام» كان أول من ركب متن الهواء في سنة 1910، وأن الإيطالي «فرنسسكودي لانا» هو الذي اخترع المظلة الواقية في سنة 1650، وأن الطيار الإنجليزي «هوكر» هو الذي استنبط جهاز الريح حوالي سنة 1919، لكن لا يجوز لنا أن نتناسى أنه منذ خمسة آلاف سنة فكر المصريون القدماء تفكيرا علميا عمليا صحيحا فيما جعله الغرب حقيقة واقعة في القرن الأخير.
هذا ومنذ عصر الفراعنة حتى قيام الإمبراطورية العربية تجدد البحث في فكرة الطيران، ولكن لم تصلنا دقائق عن تقدم هذا الفن الكبير. (11-2) العرب والطيران: عباس بن فرناس
قال المقري يصف الأندلسيين نقلا عن ابن غالب: «ومن حكاياتهم في الذكاء واستخراج العلوم واستنباطها أن أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك بها كتاب العروض للخليل، وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال، واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة، ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه، ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنبا، هذا وتوفي ابن فرناس في أوائل القرن العاشر.»
ومما يروى أيضا أن عباس بن فرناس لبس لباسا على هيئة الطائر، وله جناحان مثبت فيهما ريش طويل، فاستطاع بتحريكهما أن يرتفع عن الأرض فترة ما هوى بعدها على مقعده فقتل، وعلى هذا فلا يمكن أن نعده مؤسس الطيران؛ لأن محاولته لم تأت بنتيجة ما؛ لأنه لا صلة بين فكرته والفكرة التي قامت عليها الطيارة الحديثة.
أما من يرجع إليهم الفضل في تأسيس الطيران، ففي مقدمتهم الأخوان الفرنسيان «أورفيل رايط» و«ولبر رايط» فقد صنعا طائرة - ما زالت موجودة في أحد متاحف لندن - من القصب الهندي وكسواها بقماش أشرعة السفن، وطار بها أحدهما لأول مرة يوم 17 ديسمبر سنة 1903، وارتفع بها 852 قدما، وبقي في الجو 59 ثانية؛ أي أقل من دقيقة، وكانت قوتها 10 أحصنة، وفي خلفها مروحتان ضعيفتان، وليس بها مكان يتسع لجلوس الطيار، فكان ينبطح على جناحها.
وهذه أول طائرة يحركها «موتور»، أما البالونات فقد عرفت قبل ذلك، وكانت تملأ بالأيدروچين الذي تقل كثافته عن كثافة الهواء فترتفع، وقد شهدت القاهرة بالونات تحلق فوقها منذ 140 عاما، أطارها نابليون في أثناء حملته على مصر إرهابا لأهلها. (12) زينة الإنسان البدائي
يبدو أن الإنسان الأول كان يزين جسمه بالحلي قبل أن يكسوه بالملابس، على نحو ما يفعل الهمجيون الآن؛ وذلك لأن الإنسان أطوع لعامل غروره وكبريائه منه لعامل حاجته، أضف إلى هذا أن الإنسان الأول، لما كان له من الشعر الوفير لم يكن في حاجة إلى اللباس، وإنما نشأ هذا من الزينة على توالي الزمن، على أن بعض الهمجيين الآن لا يعرف من اللباس إلا الوزرة التي تستر عورته، أو قد لا يعرفها أحيانا، ولكنه مع ذلك يعرف كيف يزين رأسه بريش الطيور، وكيف يعلق قلائد الصدف والودع حول عنقه، وكيف يحز الحزوز المختلفة حول جسمه، ومنهم أيضا من يعرف الوشم، والحز والوشم كلاهما من ضروب التحلي، وفي إنجلترا تعيش طائفة من الصيادين ببيع الصدف، وهي تصيده للتجار، وهؤلاء يقايضون به زنوج أفريقيا في الغرب على سلعهم المختلفة.
على أن أقدم ما يعرف من الحلي وجد في مصر، فقد كان من عادة المصريين أن يضعوا مع الميت بعض أدواته أو أمثلة مختصرة منها إذا ضنوا بالأصل أن يوضع في القبر، وكانت الحلي المصرية بين أصناف الحلي القديمة، وقد كانت هذه الحلي رمزية في معناها مما يدل على أن القصد لم يكن التحلي ليس غير، وإنما كانت هناك غاية سحرية أخرى كوقاية الجسم مما يضمره عدو أو مرض تجلبه الآلهة، فكانت الأقراط والقلائد والأساور تصنع على جلود الثعابين أو صقور لها وجه إنسان أو غيره، وكان الذهب يستعمل لهذه الغاية، ولم يكن يتحلى به سوى فئة قليلة جدا من الناس، وكان المصريون يستعملون الزجاج الطبيعي الذي كان يتكون من انهيار بعض الأحجار وتبلورها في باطن الأرض، وكانوا يتزينون بقطع صغيرة منه كما نتزين الآن بالجواهر، وقد أبدى المصريون براعة عجيبة في صنع الحلي مع قلة وسائل الصناعة يومئذ في ذلك الوقت؛ إذ لم يكونوا يعرفون الحديد وقد عرفوا النحاس قبيل المسيح بمدة كبيرة، وكان الفينيقيون جوابين للآفاق بلغوا إنجلترا بسفنهم، وبعضهم يقول إنهم استعمروا جزءا منها.
الفصل الثامن عشر
الفن
الفن، لغة: النوع أو الحال أو الضرب من الشيء، والجمع أفنان وفنون. وافتنان الكلام اشتقاقه في فن بعد فن . والمفتن والمتفنن وذو الفنون والمفن «بكسر ففتح»، الذي يأتي بالعجائب وبضروب فن الكلام. والفنان «بالتشديد» الحمار الوحشي، وإطلاقها على الرجل المفن رجل الفن شائع في لغة الكتاب العصريين، مع أن العرب لم تقل ذلك.
وبينما الفن مادته الفكر والنظر، فإن العلم مادته العمل والأثر، وقد يكون للشيء الواحد علم وفن؛ فالموسيقى «علم» حين ندرس قضاياها العامة كتقسيم النغم، والموسيقى «فن» حين يتصرف المطرب في فنون النغم، والبلاغة «علم» حين تتحدث عن أحكام الفصل والوصل والإيجاز والإطناب وما إلى ذلك، والبلاغة «فن» حين يرسل الكاتب قلمه بالمقال البليغ.
هذا و«الفن» اصطلاحا لفظ مرن، في معناه الأوسع هو كل شيء ليس طبيعيا، بل من صنع الإنسان وهو، على هذا، يشمل المصنوعات والبلاغة والقصة، وكل ما هو نافع أو لذيذ، وما يجمع بين المنفعة واللذة كالميكانيكيات والآداب الرفيعة والهندسة المعمارية والحفر والنقش والزخرفة والرقص والموسيقى والشعر والغناء، أما الفن في معناه الضيق، فهو ما يصنعه أو ما يقوله الإنسان ثمرة للمواهب والكفاية المثلى من أجل المتعة النفسية في ذاتها؛ أي من غير أن يكون وسيلة إلى شيء ينتفع به في الحياة العملية.
وقد عرف الإنسان البدائي ساكن الكهوف الفن قبل عصر التاريخ، فلم يقتصر جهد سكان الكهوف في عصر الحجر، عند صنع الأدوات والأسلحة من الحجر ورءوس السكاكين والقوس من العظام، بل كانوا ينقشون على أيديها العظيمة أشكالا حيوانية كالماموث ووحيد القرن والإبل، ومن هنا نشأت فكرة محاكاة ما في الطبيعة بالنقش والحفر وما إليهما؛ استطابة للذة الفنية ونشدانا للمتعة النفسية.
والفن، على هذا، كل عمل أو مهارة منظمة ترمي إلى تتبع الكائنات النظامية، وإلى أهداف تعرف مقدما اتباعا لقواعد كل عمل واستخداما للمهارة ونتيجتها.
وعند «عبد المنعم أبو بكر» أن الفن كلمة يخص بها عادة أشياء مختلفة متباينة، فالتمثال قطعة فنية، والنقش قطعة فنية، والرسوم سواء ما كان منها بالزيت أو بالألوان الأخرى قطع فنية أيضا، ثم الموسيقى فن، والشعر فن، والنثر فن، وكذلك التلحين فن، والغناء فن؛ إذن فالفن هو كل ما يخرجه لنا ذوق الإنسان ليرضي به غريزة فيه لا يمكن أن نسميها إلا غريزة الفن، إذا صح هذا التعبير، ونحن إذا أنعمنا النظر في غرائز الحيوان والإنسان رأيناها متشابهة في الأصل، ذلك الأصل الذي يدفع بكل من الإنسان والحيوان إلى هدف واحد وهو البقاء، والمحافظة على ذلك بالأكل والشرب، ثم بالمدافعة عن النفس، ولكن الطبيعة اختصت الإنسان بغريزة أخرى هي «غريزة الجمال»، أو قل غريزة الذوق السليم؛ فالإنسان الذي يصنع مثلا إبريقا من الطين أو الحجر كي يملأه ماء للشرب، كان في بدء حياته الأولى (أقصد بذلك الإنسان الأول) يصنع إبريقا يصلح لاحتواء الماء، أما شكل هذا الإبريق الخارجي فيحتمه الغرض الذي من أجله صنع ثم الآلة التي صنع بها، ولكن سرعان ما تظهر الغريزة الأخرى، غريزة الذوق السليم، فتراه قد طلى هذا الإبريق بلون أحمر، أو أحرقه في النار حتى يكتسب ملاسة لامعة، أو رسم على سطحه الخارجي صورا مختلفة لا علاقة بينها وبين ما يحويه الإبريق.
وأول آثار للفن وصلت إلينا كانت من صنع إنسان عصر الفيضان (الطوفان)، الذي سكن قبل آلاف من السنين المناطق التي خلت من الثلوج، ذلك الإنسان الذي سكن الكهوف في جنوبي فرنسا وشمال إسبانيا، وترك لنا آثارا من الفن أحجم البعض عند أول وهلة أن ينسبه إليه، ترك لنا رسوما نقشها على صخور تلك الكهوف، دلت على مهارة عجيبة في الرسم، وبعد ذلك انتهت حضارة ذلك الإنسان الأول في أوروبا، وظهرت حضارات مختلفة في الشرق الأدنى وشمالي أفريقيا، هذا وفي عصور فجر التاريخ الغابرة حلت بشمالي أفريقيا عوامل طبيعية، جعلتها مغمورة بالثلوج، بينما كانت أوروبا منطقة أمطار غزيرة، وبعد حين انتقلت هذه العوامل الجوية إلى أوروبا فجعلتها مغطاة بالثلوج، بينما كان شمالي أفريقيا منطقة أمطار غزيرة، وهذا هو السبب الذي من أجله اختفت حضارة الإنسان الأول في أوروبا، وظهرت حضاراته في شمالي أفريقيا والشرق الأدنى، وكانت الآثار الأولى مشابهة الشبه كله لآثار ذلك الإنسان الأول الذي ظهر في أوروبا، ولكنا نجد بعد ذلك أن الشرق الأدنى تقدم في حضارته تقدما محسوسا، حتى إذا ما حل العصر الحجري الحديث رأينا أن الفن في الشرق الأدنى، وخاصة في مصر، قد انتحى ناحية أخرى.
والفن المصري بدأ في عصر فجر التاريخ يطبع بطابع يختلف مظهره عن فنون الأمم المجاورة، وهذا الطابع المصري الذي كونته البيئة المصرية، وعمل على تقدمه وتنميته العقل المصري والفكر المصري، احتفظ بمظهره الخارجي طوال التاريخ المصري؛ أي ما يقرب من أربعة آلاف سنة، ولكنا بعد الدرس والمقارنة سوف نجد أنه ليس من الصعب علينا أن نقسم هذا الفن إلى عصور مختلفة يمتاز كل منها بطابعه الخاص.
اعتقد المصري القديم في الحياة الثانية، واعتقد أيضا أنه عندما يحل الموت تفارق قرينته (روحه) جسده، على أن تعود بعد ذلك إلى هذا الجسد من حين لآخر؛ كي تحيا معه حياة تشابه من كل ناحية الحياة التي اعتاد صاحبها أن يحياها على الأرض؛ ولكي تحيا هذه (القرينة) في المقبرة يجب أن تجد ما كانت تأكله وتشربه وتتمتع به في حياتها الأولى، وليس هذا كل ما يساعدها على الحياة في المقبرة، بل يجب أن تجد جسدها في حالة جيدة لا تهدم فيه ولا انحلال، أما السبب في ذلك فهو أن الحضارة الحديثة والذوق الحديث والعقل الحديث قد تكونت على أسس الحضارة والذوق والعقل الإغريقي القديم، فنحن لا زلنا نفكر ونرى الأشياء كما فكر ورأى الأشياء الإغريقي القديم.
وعلى ذلك بينما نحن نفهم الفن اليوناني بالسليقة، فإننا نحتاج إلى دراسة لفهم الفن المصري، وإذا تمكنا من فهم الفن المصري، فإن إعجابنا به واستساغتنا له واحترامنا لفنانيه سوف يعادل - إذا لم يفق - إعجابنا واستساغتنا للفن اليوناني واحترامنا لفنانيه . (1) تمثال حامل الحرية
من الآثار اليونانية القديمة، تمثال حامل الحرية الذي يمثل الجسم الإنساني الرياضي القوي الكامل عند اليونانيين، طول قوامه 175 سنتيمترا، وطول دائرة عنقه 40,25 ودائرة صدره 114,75 وخصره 83,25 وكفله 90,5 وفخذه 56,15 ومخلخله 23، أما وزنه فمائة وتسعة وسبعون رطلا إنجليزيا. (2) فن التمثيل
من الفنون القديمة تمثيل الروايات، كان اليونان أول من مثل الحوادث وقلد وقائعها، وأول من فعل ذلك منهم صوازريون ودولون، فقد مثلا رواية في أثينا في سنة 562 قبل الميلاد، وجرى على ذلك من جاء بعدهما من اليونان والرومان، وهذا ما يسمونه فن التمثيل القديم، وكان مقصورا على بعض الألعاب أو تمثيل بعض الوقائع التاريخية أو شبهها المقتبسة من روايات هوميروس وغيره، أما فن التمثيل الحديث، فقد نشأ في أوائل التاريخ المسيحي، وكان في أول عهده محصورا في تمثيل الوقائع الدينية نقلا عن التوراة والإنجيل أو ما يترتب عليهما، وأقدم رواية مثلت على هذا النحو رواية غريغوري نازيانزن أحد رؤساء الكنيسة في سنة 364م مثل فيها «أسلام» المسيح، ومن هذا القبيل تمثيل واقعة الحسن والحسين في عاشوراء، ولتمثيل هذه الوقائع وقع عظيم في النفوس، ثم اتخذ التمثيل الحديث صبغات مختلفة لم يكن لها شأن يذكر، على أن هذا الفن لم يتخذ شكلا قانونيا إلا في القرون الأخيرة وأول من فعل ذلك تريسينو الإيطالي، فقد مثل رواية في رومية بحضور البابا ليون العاشر في سنة 1515م سماها صونوفيسيا، وفي أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر ظهر شكسبير في إنجلترا وموليير في فرنسا، فأحييا هذا الفن وجددا رونقه وألبساه حلة لا يزال خلفاؤهما ينسجون على منوالها إلى هذه الساعة. (3) الأدب: الشعر والنثر
كان إنسان ما قبل التاريخ يتسلق الأشجار وينتقل في الغابات بين الوحوش صائحا: «را. را. را. بو. بو. بو» أو مناديا: «ها. ها. ها. يا. يا. يا»؛ أي إن حديثه كان ألفاظا قصيرة التركيب ومتكررة، ذات نغم موسيقي ووزن شبيه بالأوزان الشعرية؛ لأنه كان إما مناديا أو مستغيثا أو متوجعا؛ أي معبرا عن شعور ما، كما كان يجتمع مع قومه في حلقات للرقص في حماسة للقتال المستمر، وهذا هو أساس الشعر لفظا ومعنى؛ إذ كان الشعر لفظا، هو الكلام الموزون المقفى، ومعنى، هو الإبانة عما يجيش في النفس من المعاني والخيال، ثم إن هذه النداءات والصيحات البدائية قد تطورت إلى الأوزان الشعرية التي تباينت تبعا للأزمان والأماكن والمهن واللغات.
ومن أجل هذا كان الشعر، عند بعض العلماء، أول مراتب الأدب، أما النثر فقد ظهر حين كثر السكان وتعددت أغراض الحياة وألفاظها، واحتاج الإنسان إلى التوسع في البيان، على أن أسبقية الشعر للنثر ليست أمرا مقطوعا به.
الفصل التاسع عشر
التنقيب عن الآثار
لما كان في مقدمة ما نستند إليه في الوقوف على حياة الإنسان في العصور التي سبقت التاريخ، هو تلك الآثار التي تخلفت عن هذا الإنسان وأدواته وطبيعة عصره، رأينا أن نتحدث هنا عن علم التنقيب عن الآثار، ذلك العلم الذي قعد قواعده وأصل أصوله، العالم البريطاني الأثري السير ويليام يتري الذي توفي في 1942، هذا ويستند التنقيب عن الآثار إلى ما نوضحه هنا: (1)
دراسة الكتب القديمة ولا سيما التاريخية؛ فقد توضح المناطق التي قامت فيها الدول والحضارات أو تشير إليها، ولا يزال كتاب هيرودوت عمدة الكتب، وكذلك الوقوف على اللغات القديمة وقراءة الرسوم؛ مما يعين على تحقيق هذه الغاية. (2)
ما يتناقله الرواة والسكان الحاليون؛ فقد يلتمس المنقب من أقوالهم وأساطيرهم شيئا يفيده. (3)
ما يشاهده المنقب العالم في رحلاته بين أيدي السكان السذج من أشياء لا يعرفون قيمتها، وإن كانوا قد يعرفون مصدرها في المدافن والمعابد؛ فقد يكون بيد الساذج جمجمة بشرية أو إناء خزفي أو قطعة نقود أو قرط أو عظام. (4)
ما ينتهي علمه إلى العلماء حين تحفر الترع أو تهدم الدور القديمة؛ فقد تبدو صناديق وأكفان وأوان وأدوات. (5)
ما يكشف عنه علم طبقات الأرض (الچيولوچيا) من صخور وأحافير. (6)
ما يكشف عنه علم الطب والعلوم الزراعية والهندسية وغيرها من أسرار حياة الإنسان القديم. (7)
الجهة الغربية من موقع المدينة المطمورة أو موطن آثار الحضارة البائدة؛ إذ إنه يكاد يكون من المحقق وجود مقابرها، خاصة متى كان العشب الذي ينمو فوقها أشد خضرة من العشب الذي ينمو في مكان آخر. (8)
جس طبقة الأرض أو الطرق عليها حين يظن المنقب أن هذه المنطقة أثرية. (9)
ساعد الطيران المنقبين في كشف المواقع الأثرية، التي عجزوا عن الوصول إليها بوسائل النقل الأخرى. (10)
الاستدلال على المواقع من أشياء صغيرة، إذا استقرأها المنقب، وسعه أن ينقب في الموقع الصحيح، وذلك كأن يتبين أن مطالع الجدران الأثرية رقيقة؛ إذ إن هذا يدل على أنها جدران لدار مؤلفة من طبقة واحدة، أما الجدران الغليظة فإنها تشير إلى أن المنزل كان طبقتين أو أكثر، وكأن يستدل من قياس قاعدة أحد الأعمدة على طول ارتفاع المبنى، وقد استطاع العلماء رسم بناء معبد بعد قياس قاعدة العمود وبقايا أحد جدرانه، وقد رسم قصر الملك أخناتون استنادا إلى هذه الطريقة.
ومما تجلوه بقايا الأطلال وبقايا المقابر ورسومها، بيان مرتبة الحضارة القديمة وحالة السكان من فقر ورغادة وحروب وكوارث ومجاعات، فقد أبانت الحفائر في بلاد الإسكيمو عن حضارة راقية بائدة.
ويستدل من التراب الأرجواني على أن في موقعه إناء فضيا، وقد عمد المنقبون في منطقة أور الكلدانية إلى صب جبس في حفرتين غائرتين، وبعد أن تم جفافه ظهر أنموذج قيثارة يرجح أنها صنعت في 3200ق.م، كما أنه كان على الأرض آثار خطوط ضئيلة هي آثار أوتار القيثارة.
ومما يعين المنقبين والعلماء الباحثين ما خلفه الأقدمون من الأدوات والأواني العديدة إلى جوار الجثث المدفونة، إما من باب إجلال الميت وتقديسه بدفن ما كان لديه معه لكي لا يستخدمها غيره؛ وإما لأن القوم كانوا يذهبون إلى أن الميت سيعيش في مقبرته وسينتفع بما أودع المقبرة من الزاد والأدوات.
وقد تقدم علم الآثار تقدما كبيرا، ورصدت له الحكومات والجمعيات العلمية والأغنياء الأموال الكبيرة، وقد استهوى هذا العلم الألوف من الناس، كذلك مرن على التنقيب الألوف، ومنهم العمال المصريون، فقد رأيناهم - وأكثرهم من «قفط» في قنا - يعرفون بالمران أين توجد الآثار وما نوعها، مرشدين للعلماء المنقبين ذاتهم .
هذا وقد وفق الدكتور كانديلا، الأستاذ بجامعة بروكلين الأمريكية - كما جاء في العدد 23 من مجلة كرونيك ديچيبت ص41 سنة 1937 - إلى استخراج بقايا الدماء القديمة داخل عظام 130 موميا مصرية تاريخها 3300، مودعة متحف بروكلين، وإلى الوقوف على فصيلة الدم في عظام مصريات تاريخهن 1500ق.م؛ أي في الأسرة الثامنة عشرة، ثم إلى أن هنود أمريكا وسكان الباسك في شمال إسبانيا والكلت من الفصيلة الدموية الثانية من الفصائل الأربع التي ينقسم إليها دم الإنسان، أما سكان الهند وقبائل الأمازون في أمريكا الجنوبية فمن الفصيلة الثالثة.
هذا ولما كان قد ثبت أن المادتين (أ) و(ب) اللتين تخولان تقسيم الدم البشري أربع فصائل لا تزالان في عضلات المومياوات وأعضاء أجسامها، فإن: المادة (أ) نسبتها 37٪ بين سكان القاهرة و34٪ في أسيوط الحالية، والمادة (ب) 25٪ في القاهرة و30٪ في أسيوط، وهو ما ثبت وجوده في المومياوات القديمة، ومنها مومياء تاريخها أكثر من 5000 سنة. (1) أدوات التنقيب والاختبار
هي الفئوس والمجارف والمعاول والمقاطف وعربات نقل الأتربة والميكرسكوب والمنظار المكبر، والقواطع والمقصات والسكاكين وفرش لتنظيف الآثار من التراب والمواد الكيمائية لاختبار بعض مواد الآثار، وأقلام الرصاص والدفاتر.
هذا وقد يصحب العلماء المنقبين، المهندسون والمصورون والحاسبون الكاتبون والصحفيون وطلبة الجامعات وكبار رجال الدولة وضيوفها.
الفصل العشرون
الزراعة
الزراعة هي صناعة أو علم أو فن هدفه استغلال الأرض؛ لكي تنتج وسائل التغذية البشرية، أما في المعنى الأوسع فإن الزراعة تشمل تربية الماشية.
هذا وتاريخ الزراعة هو تاريخ الإنسان منذ أبعد العصور؛ ولهذا كانت الأمم القديمة تنسب الزراعة إلى أصل سماوي: «براهما» في الهند، و«إيزيس» في مصر، و«ديميتر» في اليونان، و«سيريز» في إيطاليا، بوصف أن الآلهة قد خلقت الزراعة.
كانت الزراعة وحشية وصغيرة، وكانت الأقوام تنتقل من أرض إلى غيرها، وقد رافقت الزراعة والرعي الحياة البدوية وشبه البدوية كما وصف سيزار وتاسيتاس القبائل الألمانية، ثم تقدمت حين عرف السماد والحرث؛ إذ كانت الزراعة قبلا تجري بالتجربة والعرف، أما الآن فطبقا للعلم.
ومما يدل على قدم الزراعة، أن مصر عرفتها قديما، وكانت تجري فيها وفاقا لرغبات المالك وحال المستأجرين والأسرى؛ وذلك لأن ري الأرض كان ميسورا من ماء النيل، وعرفت مصر أيضا المحراث الخشبي.
وكانت اليونان تؤثر زراعة الكروم على الحبوب؛ لأن البلاد اليونانية جبلية. «يراجع تاريخ النبات وأصل النبات تأليف ثيو فراستاس».
أما في بابل فقد قامت الزراعة بين الدجلة والفرات وآشور جنوبا، وكان الإسرائيليون زراعيين، ولهم قانون يوزع الأرض بين البالغين الذين أحصي عددهم قبلا قبيل دخول كنعان، فكانوا 600000.
هذا ويقول السير آرثر العالم «الأنثروبولوچي»: إن الإنسان الكرمانيوني الذي عاش في أوروبا منذ عشرين ألف سنة، وجد القمح مزروعا بريا فجففه وطحنه وتغذى به، هذا وقد وجدت حبات من القمح في بعض المقابر المصرية القديمة. قلنا: إن المفترض والمظنون أن اليابسة قد صلحت لإنبات النبات منذ شرعت القشرة الأرضية تدنو من الدفء والحرارة، ومن هنا كانت الحياة النباتية أسبق عمرا من الحياة الحيوانية؛ لأن الحيوان لا غنى له عن أكل النبات، وإن كان من النبات ما يأكل الحيوان، وجد الإنسان البدائي نباتا بريا وحشيا ينمو من تلقاء نفسه كالأعشاب وثمار الأشجار، فأكل منه وأصبح طعاما اعتياديا له، فإذا هلك النبات أو اختفى لأسباب طبيعية من حالة أتربة الأرض أو الرياح أو الأمطار المدمرة، انتقل الإنسان إلى مكان آخر لعله يصيب فيه نباتا أو ثمرا.
ثم تعلم الإنسان من نظرته إلى ما يأخذ به النبات أو الشجر نفسه من أسباب النمو والاكتمال، كيف يسيطر على الطبيعة ذاتها، فيعمد الإنسان إلى إلقاء البذور عند شواطئ الأنهار أو حيثما ينزل المطر، أما متى بدأ الإنسان يصنع هذا، فإن البحوث العلمية لا تزال قاصرة عن تحديد تاريخه؛ ومن أجل هذا تباينت آراء العلماء، وقد انتهت ظنونهم منذ مطلع هذا القرن إلى أن ثم زراعة عرفها الإنسان منذ 12 ألف سنة أو أكثر إلى عشرين ألفا، حين كان الآزيليون يسكنون جنوب إسبانيا، وكان الباقون من الصيادين البدائيين يذهبون شمالا وشرقا في شمال أفريقيا وغرب آسيا، وحين كان الذين يسكنون وادي البحر المتوسط قبل أن يصبح بحرا مغمورا بالماء، يعرفون منفعة الحيوان ويؤلفونه، وينتشرون في مراعيه، ويعدون لأنفسهم ولماشيتهم ما يصلح للطعام من خالص إنتاج الأرض، متخذين الأدوات الحجرية المنقورة وناسجين من الألياف النباتية خيوطا وأثوابا ساذجة، وصانعين من الطين أواني فخارية رديئة الشكل.
استقبل الإنسان حينئذ عصرا جديدا في الثقافة الإنسانية، وهو العصر «النيولونيكي» عصر الحجر الجديد على نقيض العصر «الباليوليتيكي» عصر الحجر القديم، وكانت شعوب الإنسان وجماعاته تشمل أقواما عديدة كالآزليين والكروماجناريين والكريماليين، وكلما انتشروا في الأرض وجاسوا خلال وديانها، نشروا ثقافتهم الساذجة في الزراعة والصيد وتأليف الحيوان والنسيج وصنع الأدوات التافهة.
ومنذ 12 ألف سنة كان الإنسان يعرف كيف ينثر البذر على الأرض، وكيف يحرثها ويدرسها ويحصدها ويستخلص حبوبها ويطحنها ويخبزها، مستعينا بحرارة الشمس، فلما عرف كيف يوقد النار كان يعدها في حفرة يضع فوقها العجين منشورا رقيقا جدا، ومستديرا لكي ينضج في سرعة وفي أقل العناء، ولعل هذا هو الأصل فيما نعرفه الآن من الرقاق، ومن المحتمل أن يكون الإنسان قد عرف الطحن قبل أن يعرف الزراعة؛ لأنه كان يحصل على الحبوب برية وحشية من إنتاج الأرض في غير زراعة أو غرس من أحد.
ويقال إن فكرة الزراعة؛ أي نثر الإنسان البذور بيده على الأرض، قد اقترنت بفكرة أخرى، هي التضحية بدم إنسان، وخاصة إنسانا محترما، له منزلة الإله أو الملك أو ابن أو بنت لأحدهما، وذلك حين يقبل موسم الزراعة، كما تحدث عن هذا السير چ. چ. فريزر في كتابه «الغصن الذهبي»، ولم يكن الإنسان قد عرف التقاويم ولا ما هي السنة، ولعله عرف الشهور القمرية من نظرته إلى السماء معجبا بالنجوم أو متخذا منها هاديا في سيره، ثم عرف تحديد المواسم الزراعية، وظهر بين مواطنيه السحرة والمنجمون ورجال الدين.
هذا ويطلق العالمان إيليوت سميث وريفرز اسم «الثقافة الهيليوليتيكية»؛ أي الشمسية الحجرية، على ما كانت هذه الجماعات والأمم الساذجة تعرفه منذ 12 ألف سنة أو 15 ألف على سواحل البحر المتوسط وغرب آسيا، وقد انتقلت جماعات من هؤلاء السكان إلى شرق الباسفيك ثم إلى أمريكا ممتزجين بالمنغوليين الذين جاءوا من الشمال، وقد زاد المهاجرون علما فعرفوا بناء المساكن والمعابد والأهرام والوشم والختان وتحنيط جثث الموتى وشيئا من الفلك، وقد ظهرت هذه الحضارة البدائية في المناطق المعتدلة والقريبة من الحارة من ستونهينج وإسبانيا إلى المكسيك وبيرو.
الفصل الحادي والعشرون
العواطف الجنسية
تلك الميول القائمة بين الإنسان والإنسان وبين الذكر والأنثى ، وبين الإنسان وبعض أنواع الحيوان، هذه كلها «عواطف»، على رأسها «العواطف الجنسية»، التي من عواقبها وثمارها الحب والزواج وما يدور بين العاشقين والزوجين من ألوان المخاصرة والمعانقة والقبلة، وبين الأقربين والأصدقاء من صلات المودة، وما يتفتق عن المجتمع الإنساني من حلقات الرقص ومجالس الطرب والموسيقى، وما ينبعث في النفس من آيات السرور والضحك، ومن أجل هذا أرصدنا هذا الفصل لكي نتحدث هنا عن العواطف. (1) الحب
الحب قديم جدا، فهو قائم على رنين ملحق بالجهاز الصوتي، وممتد إلى غور اليد ومعين الذكر على إيجاد منفس له إلى الصرخة المحبة المرددة الفاتنة للأنثى، التي ليس لديها هذا الجهاز، ومن هنا كانت قانعة، بأن تصغي إلى ذلك الصوت وهي بعيدة عن مصدره إلى أن يستولي عليها تأثيره المطرد فتستجيب إلى هذا النداء، أو قل هذه الأغنية؛ إذ إن ذكور جميع أنواع الحيوان ومنه الحشرات تتولى «الإذاعة»، أما إناثه فتصغي إليها، ويحدث مثل هذا في القردة العليا والإنسان؛ إذ تتبع الفتيات نداء الفتى وأغنيته، وفي السادسة عشرة؛ أي في سن البلوغ، تستيقظ الغدد الجنسية وتشرع في تأدية مهمتها، وتبرز مواد كيماوية «الهرمونات»، التي تمضي في مجرى الدم، فتتسع الحنجرة وتتأثر الأحبال الصوتية ويخشن الصوت، ويشعر الفتى البالغ بالحياء حين ينظر إلى الفتاة ويفكر في حبها، وتتسع حنجرتها قليلا.
ويؤدي هذا إلى أن يتبعها، جاهدا في الاستحواذ عليها، وفي الشعوب الهمجية يقترن هذا السعي باستعمال العنف، وقد تقاوم الأنثى إلى أن تستسلم من الإعياء. (2) الزواج
عندنا أن الزواج على الصورة التي نعرفها الآن لم يعرفه الإنسان البدائي، ذلك أن المفروض أنه لم يكن يعرف للأسرة نظاما ثابتا ولا للعلاقات الجنسية حرمة، وليس ببعيد أو بمستغرب أنه كان يتصل اتصالا جنسيا بأمه وجدته وأخواته وبناته وحفيداته، غير أن غريزة التملك والاستئثار قد هدته، على تعاقب الدهور والقرون، إلى الحرص، ولو إلى وقت قصير، على إحدى النساء باختطافها والهرب بها بعيدا عن مواطنيه ومساكنيه، خاصة حين يكون مرغوبا فيها من أنداده ولداته أو غيرهم.
ولقد كان الإنسان البدائي يعقد زواجه على من يشاء أو من يستطيع أن يقربه من النساء في غيرما تفريق بين الأقارب والأصهار كما قدمنا، فيقترن الرجل بأخته وابنته وأمه وحماته، وقد اقترن «آدم» بامرأة من ضلعه «حواء»، واقترن أولاده بأخواتهم، وتزوج «إبراهيم» من أخته لأبيه، واقترن أخوه «ناحور» بأخت أخيه «حارام» أو بابنة أخته، واقترن «يعقوب» بأختين معا، وكان الأثينيون يجيزون الاقتران بالأخوات لأب والاسبرطيون بالأخوات لأم، والمصريون والآشوريون بالإخوة والأخوات لأب أو أم.
لم يعرف الإنسان قيود الزواج إلا بعد أن ظهرت الشرائع السماوية المنظمة.
هذا ولا يزال الزواج بالإخوة والأقربين جاريا بين الهمجيين في أفريقيا وأمريكا وأستراليا، بل إن عند القليل من الفلاسفة العصريين أنه ينبغي أن يعود الإنسان إلى حياته الطبيعية؛ أي إلى حياته البدائية ونشأته الهمجية فيتزوج ما يطيب له في غيرما قيد ولا حد.
وهكذا تقلبت الصلات بين الرجل والمرأة في مختلف الطرز وألوان العرف، تبعا للضرورات الاقتصادية والدفاعية والهجومية، فاتخذ الزواج من المقدمات والمراسيم والمواثيق ما لا يقف عند حصر قبل التاريخ وبعده إلى العصر الحاضر، فتعدد طوعا للنظم السياسية والدينية القائمة، كالإسلامية والكنسية والمدنية والشيوعية والإلحادية والشرائع الوثنية.
على أن بعض أشكال الزواج البدائية لا تزال قائمة عند هنود أمريكا وسكان أستراليا الأقدمين وزنوج أفريقيا، فعند هنود نهر الأمازون أن طالب الزواج يسعى عند رئيس القبيلة؛ لكي يوافق على زواجه من المرأة التي يختارها، فإذا ما أذن الرئيس، كان على العريس أن يأتي بالعروس إلى الغابة قبل غروب الشمس، وهنا يمضي مصحوبا بشاهدين في ربط العروس بجذع شجرة ثم يلهب عروسه بسوط تطهيرا لها في نظر القوم، وعندئذ تصرخ متألمة فيقبل السحرة محيطين بها راقصين هاتفين هتافا عاليا مزعجا، ويشعل - في أثناء هذا - أحد الشهود النار في كومة حشائش وحطب عند قدوم الفتاة التي تتلوى متألمة إلى أن يغمى عليها، وعندئذ يسرع الشاهد الآخر إلى حل وثاقها، ويهتف السحرة مهللين فرحين؛ لأن الأرواح الشريرة قد خرجت منها، ثم تحمل العروس إلى كوخ عريسها، وهناك مراسم تجيء بعدئذ. (2-1) المهر
عرف المهر قديما في بابل وآشور واليونان القديمة والبلاد اليهودية، فقد كان الشاب إذا أحب فتاة طلبها له والده أو بعض أقاربه من والدها، ويتراضون على مال أو عقار يدفعه الرجل مهرا لوالد الفتاة، أما الفقير فيقوم بخدمة حميه، فقد ورد في سفر التكوين ص29 : 20 أن يعقوب قد خدم حميه لابان سبع سنوات حتى زوجه ابنته راحيل، وورد في سفر الخروج ص2 : 21، وص2 : 1 أن موسى أقام عند حميه بترو كاهن مديان، يرعى غنمه مهرا لابنته. (3) البغاء
لازم البغاء الإنسان قبل عصر التاريخ وبعده، فقد كان في مصر وآشور وكنعان وفينيقيا والكلدان وإيران شعائر دينية تمارس بضروب الخلاعة والفساد، وكانت معابد إيزيس رمولك والبعل وعشتاروت ومليتة ملآى بالشعائر الشهوانية، وكانت الديانة البابلية تتطلب من المرأة ممارسة البغاء كطقوس دينية، واقتصرت الشريعة اليهودية على حصر البغاء بين الأجنبيات وتحريمه بين اليهوديات، وإحراق بنات الكهنة، وسن صولون قانونا يحصر البغايا في دور خاصة وفي أزياء خاصة. (4) السرور والضحك
رافق السرور والضحك الإنسان البدائي والمتحضر، فهو من الغرائز. عند علماء النفس أن كل ما يحس به الإنسان، يصل إليه إما من الخارج: كما يسمع ويرى ويذوق ويلمس، وإما من الداخل: كالحرارة والبرودة وحركة الدورة الدموية والجهاز التنفسي والأمعاء وأعضاء التناسل وغيرها من الاختبارات. هذا وإن ما يحس به إما أن يسبب له ارتياحا ولذة، أو انقباضا وألما، وهو ما نسميه وجدانا، وهو ذو مظاهر خارجية من احمرار الوجه أو اصفراره، وابتسامته أو عبوسته، وكوقوف الشعر، وخفقان القلب، وانقباض اليدين، وارتعاش البدن؛ أي الانفعالات التي تدل الناس على وجدان صاحبها؛ فالرجل الضاحك المبتسم يوافق وجدانه السرور، هذا وإذا ما ضمرت أو ماتت عضلات الوجه لقلة الاستعمال، كان هذا سيئ الأثر في الوجدان ذاته، وخاصة أن الانفعالات قد تسبق الوجدان؛ أي إننا نضحك ونحس بالسرور، ونذرف الدمع ثم نحس بالحزن، كما في الحركات البدنية وحلقات الذكر بسبب الانفعالات الدينية، وإذا ما بكى الممثل أو غضب أو خاف تأثر الموقف، ومن يتصنع المرض يكاد يدركه المرض، كما يذهب إلى هذا كارل لانج الدنمركي، ووليم چيمس الأمريكي، وعند علماء الأمراض العصبية أن من يتوهمون أنهم غير مبتسمين ينظرون إلى الدنيا بمنظار أسود، هذا وللمران والعادة الأثر في هذا الميل.
ومن النظريات الوجدانية النظرية المنطقية، وهي أن الجهاز العقلي في تأدية وظيفته، قد يلقى عوائق في طريقه، وهنا يحس صاحبه بالألم أو الانقباض وفي غير هذا يحس بالسرور، أما النظرية المادية فهي أن الألم الناتج عن الانقباض وعدم الارتياح هو نتيجة إتلاف للأنسجة البدنية، أما السرور فهو نتيجة بناء للأنسجة البدنية، فإذا ما وضعت أصبعك في الماء الساخن أحسست بألم، وما هذا الألم سوى نتيجة لازمة لإتلاف أنسجة بدنية متصلة بالأوعية الدموية، وكذلك الألم الذي يجيء عن حزن أو غم، أو غضب، أو كراهية، أو حسد، أما الرجل الذي يغلب عليه الضحك، فإنه يعمل على بناء أنسجة وخليات جديدة في جسمه، والناس الذين يمزجون حديث المائدة بالبسط والمزاح والضحك، ينتفعون بالطعام من المادة الغذائية فيه، ومن بناء الأنسجة بالمرح، وثمة نظرية تكاد تكون مناقضة لسابقتها في الظاهر، ولكنها تؤدي المعنى ذاته، وهي أن الوجدان الذي يتصل به سرور يساعد الجسم على التخلص من الأنسجة الميتة المتراكمة التي لا يحتاج إليها صاحبها، وهذا يفسر ظاهرة الحالة النفسية التي يكون عليها الرجل الذي يتناول كأسا، أو مقدارا معتدلا من الخمر، تكون هذه الكأس سببا في التخلص من الأنسجة المتراكمة، وينتج عن ذلك أن يحس شاربه بالارتياح الوقتي. (4-1) سبب الضحك
لما كان الضحك هو انبساط الوجه الناتج عن حركة عضلات ولا سيما عضلات الشفتين، كان في الواقع حركة أكثر ما تكون غير مقصودة، مع ظهور العينين بمظهر خاص يشف عن الفرح والانشراح وارتياح النفس، ويكون هذا المظهر مصحوبا بانطلاق الهواء من الرئتين انطلاقا منقطعا وبصوت يخرج من الحلق، فإن لم يكن مصحوبا بصوت وبظهور الأسنان فهو التبسم، الواقع أن الإنسان لا يضحك من حركة واحدة ولا من كلمة واحدة بل من مجموعة حركات أو كلمات، وهذا يحمل البعض على تعليل الضحك بقولهم إنه يجمع بين حركات أو ألفاظ على وجه مبهج غير منتظر، إلا أن هذا التأويل لا يعلل جميع الحوادث والمناظر والأقوال التي تدعو إلى الضحك، كما أن الاختبار يدل على أن الضحك هو عمل نسبي، فقد تضحك أنت من شيء لا يضحك غيرك، وقد تقهقه من نكتة لا يقهقه لها جليسك، وهذا دليل على أن للمزاج أيضا علاقة بالضحك، فأصحاب الأمزجة الباردة لا يتأثرون بالنكات بالسهولة التي يتأثر بها أصحاب الأمزجة العصبية، وقد يكون أصعب عليك أن تضحك الرجل الإنجليزي من أن تضحك الرجل الفرنسي.
وخلاصة القول أن العلماء لم يتفقوا على تعليل الضحك تعليلا صحيحا، وإن اتفقوا على أن غريزة الضحك رافقت إنسان ما قبل التاريخ. (5) القبلة
القبلة: هو ضغط الشفتين أو لمسهما خدا أو يدا أو شفة لآخر استجابة لعاطفة الحب والود والاحترام أو التحية، هذا ويبدو أن القبلة من أقدم العادات البشرية، وكان قدماء اليونان يقولون: إن القبلة مفتاح الجنة. وهناك أنواع للقبلة تبعا للغرض منها؛ فالقبلة على الجبين واليد رمز للاحترام، وعلى الخد دليل على الصداقة والمحبة، وعلى القدم رمز للعبودية، وعلى الفم آية على الغرام.
وقد رافقت القبلة الإنسان البدائي فقد كانت المرأة تقبل صغيرها قبلة الحنان، ثم انتقلت القبلة إلى لثم الراحتين والمخلفات الدينية وإلى إدخالها في الطقوس الدينية وتعميد الأطفال.
هذا والقبلة عند بعض الهمجيين وبعض أنواع الحيوان تكون باللسان، أما قبلة الكلب فهي مسح رأسه في ثياب سيده، وقبلة الفيل بتحريك خرطومه، ومن الأطفال والرجال من يلعقون الجلد وهي صورة من صور القبلة حين تؤخذ بالمعنى الأوسع، وهو اللمس المنبعث من حرارة العاطفة، وهذه العاطفة الحارة تبعث في نفس ما تنطبع عليه القبلة، نشوة وابتهاجا وتأججا في العاطفة أو الحب. (6) الرقص
الرقص من أقدم العادات التي مارسها الرجل البدائي محاكيا الحيوان في تجمعه وتحركه، والأشجار في اهتزازها، والسيول في جريانها، أو محيطا بالمرأة أو زعيم القبيلة أو رأس الأسرة ابتهاجا أو تحمسا ودفاعا أو احتراما وتقديسا.
والرقص، لغة: مشية فيها تفكك وخطران ينتقل بها الراقص مترددا في وقت الطرب، أما من الوجهة الفلسفية فإن الرقص حركة فطرية ناشئة عن تراكم القوى الحيوية في الجسم وتزايدها إلى درجة يحملها على طلب منفذ لتخفيفها، وعلى هذا كانت الحركات التي يأتيها الطفل هي من قبيل الرقص.
كان الرجل البدائي يقف في حلقة الرقص واثبا وممسكا بالعصا أو سلاح ما يحركه حركة يرمي به إلى التدليل على شجاعته وقوته، والمرأة واقفة أمامه في زينتها وخطرتها ورشاقتها وملاحتها وصباحة وجهها وتبرجها، وكان عرب الجاهلية يعرفون نوعا من الرقص يسمى «الزفن» و«الفنزج»، وفيه يأخذ بعض الراقصين بأيدي البعض الآخر، ويمارسون الرقص في الأعياد والحفلات الدينية، بل إنه كان ملازما للآلهة ونوعا من العبادة.
هذا وقد عرفت مصر الرقص قبل عصر التاريخ وبعده. قال «لوسيان»: «كان الرقص والغناء مقدسين عند قدماء المصريين ومن لوازم احتفالاتهم الدينية، وكانت حركات رقصهم تماثل في سرعتها انحدار الماء وتموج الشعلة النارية في الهواء، وكبرياء الأسد وغضبة الفهد وترنح الغصن.» هذا وكان لهم رقص حربي يمارسه الجند المسلحون، ورقص اعتيادي يمارسه أعضاء الأسرة أو العشيرة، ولكل حالة من حالات النفس عند اليونان رقصة خاصة بها.
أما طبيعة الرقص فهو اهتزاز العضلات ناشطة من تلقاء نفسها بتأثير شعور قوي كفرح اجتماعي أو حفل ديني، واجتماع معين لحركات ظريفة تؤدي للمرح الذي يستمتع به الراقص والناظر إليه، والرقص حركات مرتبة يراد منها محاكاة أعمال بعض الأمم وعواطفها، وتذهب بعض القبائل إلى حد الهوس والجنون، ومحور الرقص (التناسق)، أما في تيجري بالحبشة فالرقص يعقد في دائرة أو حلقة بتحريك الأكتاف، وهز المرفق أماما وخلفا، أما البوشمان فيمسكون العصي (تحت أسقف دورهم الواطئة)، وبينما أحد القدمين لا تتحرك، ترقص الأخرى رقصا وحشيا، وفي الهند يرقصون زوجين، العين إلى الأرض والذراع قريب من الجسم، وعند نقطة معينة يهز الراقص رأسه فجأة ويديرها، أما نساء البلتوه فيرقصن في دائرة متحركات أماما وخلفا في انحناء. وأحيانا يعبر الرقص عن عاطفة شهوانية، كما في (تسمانيا وأندمان)، أما في نيو كاليدونيا فهو عدة حلقات حول الجسم مع القفز، أما في المكسيك فيمسك الراقصون والراقصات بأيديهم ويعانق بعضهم بعضا والذراع على الرقبة.
هذا ويرقص المئات في رقصة البرفيان، أو يمسكون الأيدي أماما وخلفا 3 درجات، وعند قبائل الزولو وتاهيتي يرقصون ويغنون عند الحرب والصيد، وعند قبائل الإستياك تسأل المرأة ويجيب الرجل، وفي آسيا الشمالية يماثل الرقص حركة الحيوان. (7) الموسيقى
قال إريك بلوم في كتابه بالإنجليزية «الموسيقى في إنجلترا» صفحة 11:
لسنا نعلم متى أصبحت الموسيقى فنا مهذبا في البلاد الإنجليزية بل في غيرها من بلاد العالم أيضا، كذلك لسنا نستطيع أن نذكر كيف اتخذت الموسيقى لنفسها هذا الإهاب والنمط، غير أن من المحقق أن ثمة مدارج قد درجت فيها الموسيقى قبل أن تبدو في شكلها المعروف، مدارج لم تصل أنباؤها إلى التاريخ بعد، إذ إنه منذ آجال بعيدة كان الناس يرقصون ويغنون، ومن بواعث الأسف من الناحية التاريخية، أن الموسيقى كانت تتناقلها الأسماع والتقاليد، بل إنه حين كان هناك شيء من نظام النوتة بقيت أمدا طويلا ناقصة، فلم تكن أكثر من مذكر - بتشديد الكاف - غامض عما كان يعرفه الموسيقيون بالتعليم عن طريق السماع، ولا يزال مجهولا متى وصل الموسيقيون إلى الهرموني في شكله البدائي، وقد أكد المؤرخون أن الأغنية الساذجة، وهي ليست هرمونية، تمثل أولى مراتب الموسيقى كخطوة كبيرة سبقت كشف الهرموني، ومن المظنون أن النماذج بين نوتتين أو أكثر لم يعرفه أحد قرونا طويلة.
الفصل الثاني والعشرون
العادات: طعام الأمم القديمة وغيره
منذ نشأ الإنسان على الأرض في نظام الجماعة، نشأت معه وله عادات مارسها في طعامه وشرابه ولباسه وحفلاته وقوانينه ومحاكمه، ومن أجل هذا نذكر هنا شيئا من ذلك.
كان المصريون يأكلون السمك نيئا مجففا بالشمس أو منقوعا في الماء الملح، وكثيرا من اللحوم النيئة كالسلوى والبط، وبعض أنواع الطيور بعد تمليحها، وكانوا يتناولون طعامهم على أنغام الموسيقى، ويجعلون على موائدهم تماثيل صغيرة تمثل أجساما محنطة، كأنهم يريدون بذلك كبح جماح الشهوات بتذكير أصحاب المائدة أن نعيم الدنيا زائل، وقد يطوفون بتمثال جثة محنطة حول المنزل يغنون الأغاني ويقولون: كل واشرب وتمتع بملاذ الدنيا قبل أن يدركك الموت.
وكان البابليون وسكان ما بين النهرين كالمصريين يكثرون من أكل الأسماك، ولكنهم كانوا يزيدون على المصريين أنهم يجففون السمك جيدا ويدقونه بالهاون ثم ينخلونه بقماش ناعم ويصنعونه أقراصا ويخبزونه كالخبز ويتناولونه، أما الفرس فكانوا يأكلون قليلا من اللحم ويتناولون الأثمار كميات قليلة، على دفعات متعددة وكان من أمثالهم: «إن الإغريقي يأكل ليسد جوعه؛ لأنه لو قدم له ما طاب أكله بعد الطعام وقد انقطع عن الأكل، لأكله.» وكانوا يكثرون من شرب الخمر، وكان اليونان في أكثر أزمانهم يتناولون ثمر الأرض ويشربون الماء القراح، ولم يعتادوا تناول اللحوم إلا في بداية حضارتهم، ثم أخذوا يتوسعون في الترف والتأنق بتوسع سلطانهم وانتشار نفوذهم، على أن كثيرين من فقرائهم كانوا يتغذون بالجنادب والفراش وأطراف أوراق الشجر، أما أغنياؤهم فكانوا منغمسين في الترف مكثرين من تناول اللحوم.
وهكذا كان الرومانيون في مبدأ حضارتهم يتغذون بألبان الماشية والبقول، ونوع من الحلوى يصنعونه من الدقيق والماء، فلما اتسعت دولتهم تأنقوا في المآكل والمشارب، وأكثروا من أكل اللحوم وأنواع المطبوخات والمعجونات، وبالغوا في أيام جمهوريتهم في أكل الطيور، وكان بعض أغنيائهم وولاة أمورهم تشتمل مائدتهم على كثير من رءوس الببغاء وأدمغة بعض الطيور الصغيرة النادرة، أما العرب في جاهليتهم فكانوا على حالة من شظف العيش لقحولة بلادهم، وقد ذكر ابن خلدون أنهم كانوا يأكلون العقارب والخنافس، ويفاخرون بأكل العلهز؛ وهو وبر الإبل، يموهونه بالحجارة ويطبخونه في الدم، أما طعامهم الاعتيادي فهو في الجملة اللبن والتمر وبعض أنواع الحبوب، وكثيرا ما كانوا يطبخون دقيق الحنطة أو الذرة باللبن أو اللحم وما إليه، فيصنعون من ذلك أنواعا من الأطعمة تعد عندهم بالعشرات، وأنواع الحلوى تصنع عادة من الدقيق والعسل أو السمن والعسل أو الحليب والسمن والعسل. (1) عادات مختلفة
مما كان يتناوله الإنسان البدائي اللحم التي مع التوابل أو بغيرها، ورءوس الأسماك وذيولها وزعانف الحيتان وعظامها، هذا ويتحجب بعض الرجال - كما في قبيلة الطوارق إلى اليوم - وقاية للوجه من رمال العواصف ومن حرارة الشمس، ويدهن بعضهم أجسامهم وشعورهم بطين أحمر اللون كالحمرة، ويتخذون منه نقوشا وأنماطا ساذجة. وهناك من يتزوج بعشرات النساء، وخاصة الرؤساء الذين ينكحون ما يطيب لهم مئات أو ألوفا، وهناك المرأة التي تقترن برجال عديدين، ومن يبيع زوجاته أو يبادل عليهن، وفي داهوس يسدد رجال القبيلة سهامهم إلى العروسين، فإذا عجزا أو عجز أحدهما عن اتقاء السهم ألغيت الخطبة، وتضع النساء الأقراط في أنوفهن وذقونهن، ويتحلين بالوشم وبالأخاديد التي تحدثها في وجوههن السكاكين.
ومن عادات الإنسان الأول التفكير في طرد الأرواح الشريرة من الجسم، واختبار قوة الشبان - حين يراد إقامة حفلة أو عقد زواج، أو علاج مرض أو النهوض بعبء الزعامة - بجلدهم بالسياط جلدا متتابعا باعثا على الإعياء والإغماء، أو مفضيا إلى الموت في الحال أو بعد مدة قصيرة، وعند بعض القبائل أن الإنسان يولد صالحا وأن الحياة تفسده وتكرثه وتلبسه شيطانها، وأن اللون الأبيض رمز للطهر والنقاء، والأسود للفساد والخبث، والأحمر للنشاط والحماسة والجمال والسرور، وقد يعمد بعضهم إلى تجريد جثة فقيدهم من بشرتها السوداء لكي تبدو بيضاء تيسر له الانتقال إلى الحياة الثانية، أو إلى تدليك أبدانهم برشاش رماد أسود تتايها أو تضليلا للآخرين.
وحين يدرك صبيان القبيلة سن البلوغ، يحتفل بتعميد رجولتهم وصلاحيتهم للنهوض بالأعباء بختانهم فرادى أو جماعات أو بتر شيء من أجسامهم؛ إذ إن الدم السائل عنوان القوة ورمز التضحية وتقديس الواجب، ومن أجل هذا يجب أن يبتسموا عندئذ، وقد نشأت عادة ربط القدمين رغبة في ستر عاهة الرجل، وكان الصينيون أول من عرف بطاقة الزيارة وبصمة الأصابع لتحقيق الشخصية، وفي اليابان عادات غريبة لازمتها قبل عصر التاريخ، من ذلك عادة الهارا كيري؛ أي بقر البطن وتنظيمه في شبه حفلة يحضرها الشهود في أحد الهياكل المضاءة بالشموع، ويلبس المنتحر رداء أبيض اللون ويقف أمام الهيكل ثم يتناول خنجرا يغمده في جنبه الأيسر، ثم يديره في جنبه الأيمن باقرا بطنه في شجاعة لا يتلوى من الألم. (2) قراءة الكف، وأكل لحوم البشر
نشأت قراءة الكف في الصين منذ 5000 سنة، فهي إذن خرافة قديمة جدا.
من المفروض أن الإنسان البدائي، وقد كان يعيش مع الضواري وكالضواري، لم يكن يتورع عن أكل اللحم البشري، سواء أكان من جثث الموتى أو الأحياء بعد الهجوم عليهم وقتلهم، بل كان يقتل من يعدهم ملوكا وسادة وآلهة لسبب من الأسباب، كما كان يأكلهم حين يموتون أو يقتلون، ومما نضيفه إلى هذا، أنه لا تزال بعض القبائل الضاربة في أفريقيا وأمريكا تمارس هذه العادة؛ فقد حدث منذ سنوات قليلة أن زعماء أحد القبائل في غابات أمريكا الجنوبية قرروا قتل أحد رجالهم، ومن ثم طرحوا ظهره على الأرض موثقين جسمه، وبعد أن وضعوا جذع شجرة كبيرة على صدره، وقفوا عليه جماعات جماعات إلى أن تصدعت أضلعه وتهشمت عظامه وأسلم روحه.
وفي أثناء هذا أحاط به نساء القبيلة في حلقة هاتفين صائحين صياحا مزعجا منشدين نشيدا همجيا، كأنهم في حفلة عرس، وبعدئذ جاء الرجال فقطعوا أوصاله ومزقوا أشلاءه، ملقين بها في النار؛ تمهيدا لالتهامها على مرأى من زوجة المذبوح، بل بعد إكراهها على الاشتراك في الأكل من لحم زوجها، ثم احتفظوا بذراعه بعد ربط أصابعها ليتخذوها ملعقة وأداة لتناول لحم الزوجة ذاتها بعد قتلها، هذا ومن أفراد القبائل آكلة لحوم البشر من لا تتخذ منها طعاما شهيا ممتازا إلا إذا كان القتيل من الأعداء المأسورين، وكان الدافع إلى الذبح استجابة إلى طقوس دينية، مؤثرين الأذرع والأفخاد واللسان وأصابع اليد والمخ، محجمين عن القدم. ويذهب «دنج» الأثري الإنجليزي إلى أن البريطانيين كانوا من آكلي لحوم البشر إلى ما بعد تدينهم بالمسيحية في قرونها الأولى. (3) الألعاب الأولمبية والملاكمة
أولمبية مكان في اليونان يتبارى فيها رجال الرياضة، وكانت المباراة تعقد مرة كل أربع سنوات، وكان تاريخ اليونان يحسب بعدد المباريات، وأسماء الفائزين مدونة منذ سنة 776ق.م، ولكن الألعاب كانت تعقد قبل هذا التاريخ، وكانت مدة انعقادها خمسة أيام، ولم تلغ إلا في سنة 394ب.م، وكان لا يجوز القتال مدة انعقادها، وكانت المباريات تحتوي على سباق بالقدم، وسباق بالعربات، والمصارعة، والملاكمة، والقفز، والزرق. وكان للفائز الحق في أن يكلل بإكليل الزيتون وتضمن له مدينته معاشه مدى حياته، وقد أعيدت الألعاب الأولمبية في أثينا في سنة 1900، وعقدت بعد ذلك في كل أربع سنوات في باريس ولندن وستوكهولم وأنفرس وأخيرا في باريس، ولولا الحرب لعقدت في برلين، هذا والملاكمة عرفتها الشعوب القديمة، وقد ذكرها هوميروس في الإلياذة وفرچيل في الأنياد. (4) الصوفية والتطفيل
النسك والتصوف والزهد والرهبنة البدائية مما عرف قديما، أما الصوفية فتقوم على تصفية القلب عن موافقة الخلق ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية ومجانبة الدعاوى النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية والتعلق بعلوم الحقيقة، والصوفي فان بنفسه باق بالله مستخلص من الطبائع متصل بحقيقة الحقائق.
أما التطفيل فهو تعرض المرء لطعام الناس من غير أن يدعى إليه، أما الداخل في شرابهم من غير دعوة فيدعى الواغل، وأما الدعي فهو الداخل في نسب القوم وليس منهم.
يقول «عبد العزيز البشري» في الجزء الثاني من كتاب «المختار» إن «الطفيليين» نسبة إلى رجل يدعى «طفيل العرائس». «وقد زعموا أنه أولهم فإليه كانت نسبتهم، ولكنني أحسب أن التطفيل قديم جدا قدم الشره في الإنسان وهوان نفسه عليه، وتطلعه إلى ما ليس له ولو كان طعاما.»
مراجع الكتاب
استندنا في إعداد هذا الكتاب إلى عشرات المراجع والوثائق، وقد أشرنا إلى بعضها في غضون فصول الكتاب، ونحن نؤثر أن نذكر هنا أسماء بعض هذه المراجع:
الكتب السماوية: القرآن والإنجيل والتوراة وشروحها.
الآثار الباقية عن القرون الخالية: تأليف ابن الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي.
تاريخ عمر بن الوردي.
تاريخ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
تاريخ ابن خلدون ومقدمته.
خطط المقريزي.
الحضارة المصرية القديمة: جوستاف لوبون.
سر تطور الأمم: للدكتور جوستاف لوبون أيضا.
صور أولية للحياة الدينية: تأليف دور كيم.
من القبائل إلى الإمبراطوريات: تأليف دافي.
كتابا التاريخ العام للغات السامية والغصن الذهبي: سير چيمس فريزر.
البريستوريك بالفرنسية «ما قبل التاريخ» تأليف روبير مونرو.
التاريخ الأول لليونان: تأليف أندرسون.
عدم المساواة بين بني الإنسان.
القانون البدائي: تأليف چ. چ. أنكينسون.
تاريخ القبيلة: تأليف هارفي 1902.
قبلات الأتيكيت 1698 في الأرشيف كيربيز لتاريخ فرنسا من 1834 إلى 1890 جزء 12.
طبيعة العنصرية: تأليف هنريك رالف.
شعب البحر المتوسط: تأليف جسبي سرجي.
تاريخ الزواج: تأليف الأستاذ وسترمارخ.
شعوب أوروبا: تأليف الأستاذ ريلي.
طفل الشمس: تأليف بيري.
الوطنية في أستراليا الجنوبية الشرقية: تأليف ر. هويت - تسوني جوم.
الكائن الأعلى للخوي خوي: تأليف دكتورة هاهن. (عن الهوتتنوت) تمثل في حرب مع جوناب «الديانة سبقت المثيولوچيا».
عصور ما قبل التاريخ: اللورد وبري سنة 1900.
الأدوات الحجرية في بريطانيا العظمى: تأليف سير چون إيفانس سنة 1897.
الچيولوچي: تأليف سير چون بريستويتش 1886 و1888.
الجماعات القبيلية الفردية في الشرق والغرب: تأليف ه. س. مين.
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: تأليف أبو عبد الله بن أحمد المقدسي المعروف بالبشاري.
مبادئ المدنية الغربية.
التطور الاجتماعي: تأليف بنجامين كد.
تاريخ النار: الدكتور الأمريكي.
حياة الشرق القديم: تأليف چيمس بيكي.
في داخل آسيا: چون چنتر.
واجب الرجل الأبيض: تأليف چورچ بدمرر والآنسة نانسي كونراد.
الفن في حياة كل يوم: تأليف هارييت وفيتاما كميلان.
تأملات في ثورة عصرنا: هارولد لازكي.
بشر المستقبل: جروندل.
مقالات مختارة ومحاضرات عن اللغة: ماكس ميلار.
الثقافة الأولية: أ. ب. تيلور.
أصل الخرافات الأولية: دورمان.
قصة الأدب في العالم: أحمد أمين وزكي نجيب محمود.
بيان موجز عن أقوام البوشمان: بليك.
المجلات:
المقتطف، الهلال، الرسالة، الثقافة، الأزهر، مجلة الجمعية الآسيوية الملكية (الإنجليزية)، المجلة الجغرافية الوطنية الإنجليزية، إصلاح التقويم، فورم، سكرتير، العصر الحي، أتلانتيك مانثلي، هوبر، نيويورك تايمس مجازين، تايم، لايف مجلة العالمين، كرونيك ديچيبت، بكتوريال ريفيو، بريطانيا آند سيانس سيرفيس، أمريكان ويكلي، مكول، آوتلوك، لايف ميروار دي موند، آسيا، مجلة المجلات الإنجليزية، مجلة المجلات الأمريكية ديكوار سيون، الآسيوية الفرنسية، الأمريكية، مجلة ناش، لوس أنجليس، مجلة لانست، مجلة سينتيفيك أمريكان، مجلة ويلدون ليدز چورنال، مريان، ليموا، باريد، نيويورك تايم مجازين، رسالة الأخبار العلمية أمريكا، مجلة هاربرز، مجلة هيلت ديچست، سيانس نيوز لنر، ليتراري ديچست، ريدر ديچست، مودرن ثينكر، بوبيلار ميكانيكس ، مجلة كارانت هيستوري سيكولوچي أند أينيسبيريشان، فو، مودرن سيكولوچيست.
Bog aan la aqoon