فلما تخلص كمبيز (لهراسب) من هذا النظير الذي كان يتوقع منه الخطر، رجع إلى إتمام ما شرع فيه أبوه، ولم يكن عليه إلا إخضاع مصر، ولما رأى أماسيس ملكها سقوط كريسوس توقع غارة الفارسيين على بلاده، فأخذ أهبته وأعد لهم ما استطاع من قوة، فعقد المحالفات الوثيقة مع كثير من الممالك الإغريقية، وقوى جيشه بكثير من المرتزقة، وحصن حدود الدلتا تحصينا جيدا. وكان بين ينيسوس آخر نقطة من جهة الشام وبين بيلوزة (الطينة) أول نقطة من جهة مصر بيداء يبلغ طولها تسعين كيلومترا، ولا يكاد يوجد فيها الماء، وهي بحيث لا يتأتى لأية فرقة عسكرية أن تخترقها في أقل من ثلاثة أيام، ولكن فانيس الهلكارناسي أحد الرؤساء اليونانيين الذين في خدمة فرعون مصر خانه وخفر عهده، فسهل على كمبيز الاتفاق مع القبائل الرحالة النزالة المتوطنة بهذه البوادي، فتحصل منها على ترتيب منازل بهذه البيداء يكون فيها الماء الكافي للجنود.
فلما وصل الفارسيون إلى بيلوزة (الطينة) علموا أن أماسيس قد مات، وأن ابنه أبسماتيك الثالث خلفه على سرير الملك، فجاء هذا الملك الجديد بنفسه على رأس جيشه، وقاتل المغيرين أمام بيلوزة، وقد كان فانيس الخائن أبقى أولاده في مصر، فأحضرهم العساكر الكاريون واليونايون الذين كانوا تحت إمرته وذبحوهم أمام الجيش، ووضعوا دمهم في إناء كبير قد ملؤا نصفه بالنبيذ ثم شربوا هذا الخليط، وانقضوا على الأعادي مقتحمين نيران الوغى، وقد أخذت منهم سورة الحمية مأخذها، ولكن ما جاء المساء حتى انثنت الصفوف المصرية وابتدأت الهزيمة، ولم يمض إلا أيام قليلة حتى تم إخضاع الدلتا كلها وفتحت منف أبوابها ووقع أبسماتيك وعائلته في قبضة الفاتح، ولم يحصل مقاومة قط في مصر العليا. وكذلك الليبيون وأهل برقة فإنهم لم ينتظروا وثوب الفرس عليهم لدفع الجزية بل أدوها وهم صاغرون فكان في سرعة سقوط هذه الدولة التي قاومت المشرق مدة قرون عديدة وفيما أصاب ملكها الذي ما لبث أن لبس ثوب الملك حتى خلعه وخلع منه عجب عجاب، وقد رقت لذلك قلوب جميع المعاصرين. (5) جنون كمبيز (لهراسب) وموته
فكانت هذه الحوادث سببا في وقوع العالم الشرقي القديم في قبضة رجل واحد يتصرف فيه كيف يشاء، ولم يقتصر كمبيز (لهراسب) على الوقوف عند هذا الحد بعد أن دمر الدولة العظيمة التي لم ينج غيرها من سطوة أبيه، بل أراد أن يسوق عساكره إلى تلك الأراضي الغربية التي انفرد الفينيقيون بالوصول إليها، وكان أمامه طريقان أحدهما في الشمال فيما وراء بوغازات آسيا الصغرى؛ وهو طريق إفريقية وإيطاليا. والثاني في الجنوب وهو طريق إيتوبيا وقرطاجة، فبدأ بمقاتلة إفريقية فإنه بعد أن استولى على تاج الفراعنة وحصل على محبة المصريين له وميلهم إليه لتلطفه واعتداله أرسل جيشين؛ أحدهما لمهاجمة قرطاجة، والثاني لمقاتلة ملوك نباتا، وأخذ في سيره طريق النيل؛ فأما الجيش الأول فقد سار إلى ليبيا (لوبيا) ولما بلغ منتصف الطريق الموصل إلى واحة آمون (سيوة) أثارت الريح الرمال على الأجناد، فدفنتهم عن آخرهم، وأما الجيش الذي أرسله على إتيوبيا فقد بلغ نباتا، ولكن الصحراء التي بين نباتا ومروى صدته عن الاستمرار. وقد فقد خلقا كثيرين فكان لهذه الخيبة في المشروعين أسوأ تأثير على كمبيز (لهراسب) لأنه كان من عهد طفوليته عرضة لنوبات صرع شديد؛ فإذا جاءه الدور غاب عنه العقل وضاع منه الصواب، فلما حلت هذه المصائب اشتد مرضه لاستيلاء القنوط عليه؛ فازداد عدد النوبات وطالت مدتها حتى لقد طعن بخنجره الثور (أبيس) وأمر بإعدام كهنة الآلهة، فكرهته الأمة المصرية الشديدة التمسك بدينها كراهة ليس عليها من مزيد، وانحرفت قلوبها عنه إلى ما شاء الله، ثم تزوج بشقيقته وقتلها، ثم صوب سهمه نحو ولد بركزاسبس أحد مشيريه فمزق أحشاءه ثم أمر بدفن اثني عشر رجلا من وجوه فارس وهم أحياء، ثم إنه بارح مصر وقد مقته جميع الناس وسخطوا عليه، ولما وصل بجنوده إلى شمال الشام جاءه رسول وأعلمه بخلعه من الملك، وأمر الذين أطاعوه إلى هذا الوقت بأن يؤدوا البيعة ويمين الطاعة لبردية بن كورش، الذي نادت بارتقائه على سرير الملك فارس وماداي والأقاليم التي في قلب المملكة (يوليو سنة 522) فهد هذا الخبر قواه، وأذهب رشده في أول الأمر، ولكنه عزم على موالاة السفر بمن بقي مواليا له من الجند، غير أنه جاءته النوبة واشتدت عليه فأجهز على نفسه بيده.
خلاصة ما تقدم (1)
كان الفارسيون مقيمين في بلاد جبلية بعضها قليل الخصوبة، وهي ممتدة فيما بين عيلام وبوغاز هرمز، وكان الملوك الحاكمون عليهم من سلالة أخيمنيس، وقد تفرع من هذه العائلة فرع انتزع إقليم انشان من يد العيلاميين. (2)
وخرج بهم كورش الثاني كيكسرى (سنة 558-528) ملك انشان من حيز الخمول والانحطاط إلى ذرى المجد والرفعة، وضرب استياج كيكاوس الذي هو جده على ما قالته الرواية، ثم دمر المملكة المادية سنة 549، ثم وجه عزيمته إلى ليديا وأخذ سرد (سرت) من ملكها كريسوس فجأة، ثم عهد إلى قواد جيشه بإتمام إخضاع آسيا الصغرى. (3)
ثم حمل على المشرق وأخضع الأقسام الشرقية من هضبة إيران وهي بلخ والصغد (سنة 545-539) وجعلها تابعة لمملكته وانتصر على نابوناهيد وتمم خراب دولة الكلدانيين (سنة 538)، ومات في حربه مع المساجيت، وكان ذلك في سنة 529. (4)
وابتدأ كمبيز (لهراسب) حكومته بقتل أخيه بردية، ثم انقض على مصر فهزم أبسماتيك الثالث في بيلوزة (الطينة) واستحوذ على أرض مصر كلها (سنة 525). (5)
ثم جال بخاطره أن يتمم فتح إفريقية، وبعث جيشين؛ أحدهما على الأتيوبيين، وقد اضطر لأن يرجع القهقرى بعد أن وصل إلى نباتا. والثاني على قرطاجة، وقد ابتلعته رمال ليبيا عن آخره، فكانت هذه الخسائر سببا في وقوعه في نوبات جنون شديد، ارتكب أثنائها أمورا جعلته ممقوتا مسخوطا عليه عند الخاصة والعامة، وقد قتل نفسه عند عودته من مصر أثناء نوبة شديدة وقع فيها عندما علم بقيام فارس عليه تحت قيادة رجل كذاب سمى نفسه بردية (سنة 522).
هي الآن تشهبل منار؛ أي: الأربعون عمودا وأطلالها قائمة حول مدينة اصطخر؛ بحيث إن كثيرين من العلماء يعتبرونها هي نفس اصطخر وهو وهم.
Bog aan la aqoon