ميناصور الحديثة.
قالوا: وفي الأحقاب الخوالي التي مضت على العالم؛ أي أيام كان الآلهة يعيشون فيما بين الناس اختط سممروم على القارة رسم مدينة من قصب الغاب، وأمامها استقر أخوه هيزعوس في بضع جزائر أقام فيها أعمدة مقدسة. وهيزعوس هذا هو أول بحري في العالم، وكان هذا مبدأ صور (شكل
16-1 )، ثم جاء بعد ذلك ملكارث، وهو عند الصوريين مثل هرقل الجبار المشهور في جاهلية اليونانيين، ويؤكد كهنة هذا الإله «أن هيكله بني والمدينة في وقت واحد، وقد مضى عليهما نحو ألفي سنة وثلثمائة عام» حينما زارهم المؤرخ هيرودوت، فبناء على حسابهم يمكننا أن نقول بأن مدينتهم هذه تأسست في نحو سنة 2750 قبل المسيح، وما كان لهذه المدينة القائمة على جزيرة في البحر إلا أن تستقي من ماء الصهاريج، أو من الماء الذي يؤتى به من البر إليها على الزوارق، وكان لها الحكم على جميع الساحل الممتد فيما بين مصب ليتاني إلى جنوبي الكرمل، سواء كانت تحت سيادة أهالي صيدون أو متمتعة بنعمة الاستقلال. (3) ابتداء السيطرة الصورية
إن مبلغ العلم عندنا أنه لم يتفق قط لهذه المدائن المتفرقة على ساحل البحر أن تتفق في أي زمن من أزمان تاريخها، وترتبط بمعاهدة تجعلها متحالفة أو مملكة قادرة على صد هجمات الأمم الكبيرة الفاتحة مصرية كانت أو آشورية أو كلدانية أو فارسية، وكثيرا ما اضطر الفراعنة إلى النكاية بأرواد وسميريا، وقد تعب تحوتموسيس الثالث في إخضاعهم، أما مدائن الوسط والجنوب وهي جيبل وبيروت وصيدون وصور، فقد استكانت إلى الخضوع والامتثال من غير حرب ولا قتال، وأخلص أهلوها في طاعة مواليهم الأجانب إلى ما بعد حكم رمسيس الثاني، وكان هذا والحق يقال هو عين الحكمة والصواب، فقد ترتب على رضائهم بحمل نير العبودية أنهم توصلوا إلى احتكار جميع تجارة مصر مع أمم آسيا والبحر الأبيض المتوسط، ثم تحصلوا على استقلالهم في أواسط القرن الثاني عشر قبل الميلاد حينما عدل الرمسيسيون من العائلة المتممة للعشرين عن المحاربة في البلدان القاصية والأقطار الشاسعة، واكتفوا بالاعتكاف في وادي النيل.
وحينئذ كانت كل من صور وصيدون عبارة عن دولة صغيرة تطمح إليها أنظار مجاوريها؛ بسبب ما أحرزتاه من توفر أسباب الثروة واليسار، ولكنهما قاومتا هذه الأطماع مدة من الزمان بما كان لهما من الحصون والأسوار غير أنهما لم يتأت لهما الاستمرار على هذا الدفاع؛ فقد حدث في السنوات الأخيرة من القرن الثالث عشر (في حدود سنة 1210) أن أقلع من عسقلون (عسقلان) أسطول فلسطيني وتلاقى بعمارة الصيدونيين؛ فدمرها تدميرا، ثم استولى على مدينة صيدون. فالذين تيسرت لهم أسباب النجاة من أبنائها فروا إلى مدينة صور ولاذوا بها؛ فأصبحت أقوى دولة في فينيقية كلها، وكان يحكمها في أول الأمر قاضيان يفضان المشاكل ويدبران شئون الدولة، إلى أن اتخذت لها ملكا هو أييبعل، وكان ذلك في نفس الوقت الذي فيه اختار اليهود سيدنا داود ملكا عليهم.
فلما خلفه ابنه حيرام الأول (من سنة 980 إلى سنة 946ق.م) جعل لنفسه مع داود ومع سليمان عليهما السلام علاقات عادت عليه بالفائدة والمنفعة الزائدة، ولما كان واثقا من صداقتهما له انهمك في المشروعات البحرية، وتفرغ لها بكليته حتى صارت مدته أعظم وقت بلغت فيه صور، على ما نعلم، نهاية الشوكة وغاية الرفاهية. (4) ثورات صور
كانت صور حينئذ متفرقة في جملة جزائر يفصلها عن بعضها ألسنة من البحر ليست بالعميقة، بل تتخللها صخور طافية رءوسها على صفحات الماء من جنس الصخور التي يتعذر معها اقتراب السفائن في بعض المواضع من سواحل الشام، وعلى أكبر هذه الجزائر وفي أعلى نقطة منها قد أقام أول المستوطنين بها قبل ذلك بثمانية عشر قرنا هيكلا لملكارث، وكان في إحدى الجزائر المجاورة هيكل لإلههم بعل السماين، وهو الذي قال اليونان فيما بعد إنه زفس أو لمبيوس، وقد ردم حيرام البوغازات التي كانت تجري المياه فيها فيما بين أقسام المدينة وبعضها، فصار له أرض فسيحة بواسطة الردم الذي عمله والجسور الحصينة التي أقامها لصد الماء، ولكنه مع هذا الاتساع ما زالت البقعة التي فيها المساكن غير فسيحة؛ بحيث لم تكن لتسع إلا ثلاثين أو خمسة وثلاثين ألفا من النفوس، فأفاض أهلوها على الأرض القارة، وأقام «تجارها الذين هم من الملوك وبائعوها الذين هم أكرم وأشرف أهل الأرض» قصورهم ودساكرهم على أواخر سفح جبل لبنان، ولكن الجزيرة بقيت مركز الحكومة بالنسبة لحسن موقعها وللخندق الذي يفصلها عن العالم.
ولما توفي حيرام عقبه ابنه بعليسترت على الملك، ولم يحكم سوى سبعة أعوام (من سنة 946 إلى سنة 939)، وخلفه ابنه ابدسترت فحصلت ثورة من الأهالي لاقى فيها حتفه؛ وذلك أن أولاد مرضعته الأربع قتلوه وولوا أكبرهم مكانه، وقد عضددهم الأرقاء والجنود المرتزقة والعملة الموجودون في المدائن الفينيقية، فاستمروا على منصة الأحكام اثني عشر عاما (من سنة 920 إلى سنة 908)، وترتب على حكمهم عواقب وخيمة ونتائج سيئة؛ إذ هاجر قسم من الأعيان والأشراف، ولو استمر الحال على هذا المنوال لانقضت سيطرة صور ودخلت في خبر كان، ولكن حصلت ثورة أعادت السلالة الملوكية القديمة على تخت المملكة، غير أن مدينة صور لم تنل من ذلك ما تحتاجه من الهدو والسكينة، فتعاقب أولاد بعليسترت الباقين بعد موت أخيهم وتناوبوا الملك الواحد بعد الآخر في مدة قصيرة (من سنة 908 إلى سنة 887) وكان آخرهم فيلي وقد قتله بعد أن حكم تسعة أشهر أحد أقاربه؛ المدعو إيثوبعل الأول كاهن عشتاروت، وحفظ الملك لنفسه مدة اثنين وثلاثين عاما (من سنة 887 إلى سنة 855). (5) تأسيس قرطاجة
تحالف إيثوبعل مع جيرانه الإسرائليين وتزوج أحاب بابنته إيزابل، فتمكن من حفظ السلام بين الأحزاب المختلفة المشارب، ولكنه بعد موته وقعت ذات الوقائع التي حدثت بعد حكم بعليصور الأول بستة أعوام (من سنة 855 إلى سنة 849)، وخلفه موتون الأول (من سنة 849 إلى سنة 820) ولم يكن له من الذراري سوى ابنته إليصار فتزوجها عمها سيشاربعل الكاهن الأكبر لملكارث وترك طفلا صغيرا اسمه بغماليون.
وقد أوصى موتون أن سيشاربعل يكون قائما بأعباء الملك إلى أن يبلغ الوارث الشرعي سن الرشاد غير أن الحزب الوطني قام عليه وأنزله عن منصة الملك، ثم قتله ابن أخيه بعد ذلك ببضع سنين، فأرادت أليصار أن تأخذ بثأر زوجها وشرعت في عمل مؤامرة انضم إليها جميع الأعيان والأشراف؛ إلا أن مكيدتها ظهرت للعيان وخشيت سوء العقبى، فأسعفتها الأقدار بتيسر أسباب الفرار، فاستحوذت على عمارة بحرية كانت في المينا على أهبة السفر، فأنزلت بها جميع محالفيها وأقلعت نحو إفريقية، واشترت هنالك قطعة أرض من يرياش ملك «لوبيا» وأسست المدينة الجديدة «قرط قاداشت» وقد سماها اليونان كارخيدون والرومان كارتاجه
Bog aan la aqoon