Taariikhda Waallida: Laga soo bilaabo Waayihii Hore ilaa Maanta
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Noocyada
تمهيد
الجزء الأول: العصور القديمة وجذور الجنون
1 - رب وأرباب
2 - مرض الروح
3 - التراث الأبقراطي
4 - طالما اعتنينا بالمجانين
الجزء الثاني: ممارسات الجنون في العصور الوسطىوفي عصر النهضة
1 - الوضع الراهن للتفكير النظري
2 - وضع المجنون في المجتمع إبانالعصور الوسطى
3 - نماذج من الجنون وصور لإعادة تجسيده
Bog aan la aqoon
4 - جنون ودين
الجزء الثالث: احتجاز المختلين عقليا
1 - الإنجيل من منظور فوكو
2 - المشفى العام
3 - دور الاحتجاز الجبري تتسلم الراية
4 - مرحلة مستودعات التسول
5 - فكر الإصلاح
الجزء الرابع: اختراع الطب النفسي
1 - إما الثورة وإما العودة إلى نقطة الصفر
2 - مداواة الجنون
Bog aan la aqoon
3 - عودة سريعة إلى فوكو
4 - «بينيل» اسم صار علامة
5 - إسكيرول ونشأة مصحة الأمراض العقلية
الجزء الخامس: العصر الذهبي للطب العقلي
1 - قانون 1838 الخاص بالمرضى عقليا
2 - ازدهار المصحات في فرنسا
3 - جدران المصحة
4 - «جولة» في مصحات الأمراض العقلية في الغرب
5 - البوتقة النظرية في عصر اليقين
الجزء السادس: عصر الشك
Bog aan la aqoon
1 - المصحات العقلية لا تؤدي إلى الشفاء
2 - القرن الجديد
3 - ثورة الطرق العلاجية البيولوجية
4 - مناهضة الطب النفسي
5 - تجزؤ الطب النفسي
الخاتمة
مصادر مخطوطة
مصادر مطبوعة
الهوامش
تمهيد
Bog aan la aqoon
الجزء الأول: العصور القديمة وجذور الجنون
1 - رب وأرباب
2 - مرض الروح
3 - التراث الأبقراطي
4 - طالما اعتنينا بالمجانين
الجزء الثاني: ممارسات الجنون في العصور الوسطىوفي عصر النهضة
1 - الوضع الراهن للتفكير النظري
2 - وضع المجنون في المجتمع إبانالعصور الوسطى
3 - نماذج من الجنون وصور لإعادة تجسيده
4 - جنون ودين
Bog aan la aqoon
الجزء الثالث: احتجاز المختلين عقليا
1 - الإنجيل من منظور فوكو
2 - المشفى العام
3 - دور الاحتجاز الجبري تتسلم الراية
4 - مرحلة مستودعات التسول
5 - فكر الإصلاح
الجزء الرابع: اختراع الطب النفسي
1 - إما الثورة وإما العودة إلى نقطة الصفر
2 - مداواة الجنون
3 - عودة سريعة إلى فوكو
Bog aan la aqoon
4 - «بينيل» اسم صار علامة
5 - إسكيرول ونشأة مصحة الأمراض العقلية
الجزء الخامس: العصر الذهبي للطب العقلي
1 - قانون 1838 الخاص بالمرضى عقليا
2 - ازدهار المصحات في فرنسا
3 - جدران المصحة
4 - «جولة» في مصحات الأمراض العقلية في الغرب
5 - البوتقة النظرية في عصر اليقين
الجزء السادس: عصر الشك
1 - المصحات العقلية لا تؤدي إلى الشفاء
Bog aan la aqoon
2 - القرن الجديد
3 - ثورة الطرق العلاجية البيولوجية
4 - مناهضة الطب النفسي
5 - تجزؤ الطب النفسي
الخاتمة
مصادر مخطوطة
مصادر مطبوعة
الهوامش
تاريخ الجنون
تاريخ الجنون
Bog aan la aqoon
من العصور القديمة وحتى يومنا
هذا
تأليف
كلود كيتيل
ترجمة
سارة رجائي يوسف
كريستينا سمير فكري
مراجعة
داليا محمد السيد الطوخي
كل تقديري وامتناني إلى بريجيت
Bog aan la aqoon
التي لولاها ما كتبت سطور هذا الكتاب
أبدا.
تمهيد
لماذا بحق السماء هذا الاهتمام بتاريخ الجنون؟ لأننا جميعا مصابون بالجنون. ربما تكون هذه إجابة الحكماء على ما يتردد من قول مأثور يرجع تاريخه إلى القرن السابع عشر: «إذا أردت أن ترى مجنونا، فما عليك إلا النظر إلى نفسك في المرآة.» والحقيقة، ليس هذا هو الجنون - الشائع بين الجميع - الذي نعنى هنا بدراسته، وإنما ما يعنينا هو دراسة تاريخ الجنون المرضي، ودراسة ما توصلت إليه مجتمعاتنا الغربية من إجابات حول هذا الموضوع، على المدى الطويل. لكن لماذا نتطرق إلى الحديث عن النوع الآخر من الجنون من المنظور الأخلاقي والفلسفي؟ لأنه، وعلى مدى قرون - أكثر من ألفي عام في الواقع، وحتى ظهور طب الأمراض العقلية والنفسية في مطلع القرن التاسع عشر - ظل هناك تضارب في تعريف كلمة «الجنون»؛ حيث كان في الغالب متأرجحا بين اتجاهين يحمل كل منهما معنى مختلفا، فيميل أحدهما إلى الاتجاه الأخلاقي (بمعناه الفلسفي)، والآخر إلى الاتجاه الطبي؛ مما نتج عنه التباس وغموض حول مفهوم هذه الكلمة. وقد شارك الأصل اللغوي للكلمة في تعزيز هذا الغموض؛ لأن كلمة مجنون
fou
مشتقة من الأصل اللاتيني
follis (ومنه اشتقت كلمة مجنون
fol
في العصور الوسطى) والتي تعني كيسا أو بالونا منفوخا بالهواء تتقاذفه الرياح هنا وهناك.
وتشهد المعاجم الفلسفية الحالية على غموض هذه الكلمة، فنجد بها تأرجحا (كما لو كان هناك تردد حيال وجوب ورود الكلمة أساسا في القاموس) في تعريف الجنون؛ ما بين اعتباره «مصطلحا مبهما وعاما» يقصد به «فقدان العقل»، والإشارة إليه بوصفه حالة متباينة الأبعاد من الاضطراب العقلي تندرج في مجال الأمراض النفسية. ومن هنا برزت أسماء أوائل المؤسسين للطب النفسي (أمثال بينيل وإسكيرول وغيرهما)، الذين توارت أسماؤهم بعد ظهور ميشيل فوكو الذي قلب موازين هذا العلم وأعاد وضع أسسه. وفي الواقع، سلط الضوء الإعلامي على غموض كلمة «جنون» مع صدور كتاب فوكو، في عام 1961 بعنوان: «الجنون والحماقة: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، الذي سرعان ما ترك بصمة في هذا المجال. فكيف لا ننطلق من هذه الأطروحة الشهيرة التي تعد اليوم راسخة رسوخا قويا وتفترض أن العصر الكلاسيكي «فرض التزام الصمت إزاء موضوع الجنون، باتخاذ إجراءات عنيفة وغريبة»؟ وربما تغيرت طبيعة احتجاز المجانين، مع إنشاء مستشفى باريس العام في عام 1656، ومع إرساء نوع جديد من الخطاب - وفقا لما ذكره فوكو - عن مكافحة البطالة. وسنتطرق في الصفحات القادمة لنظريات فوكو، ولكن يكفي الآن الإشارة إلى أن هذا الفيلسوف، في أثناء قيامه بتأريخ الجنون، تسبب في مشكلة من الناحية التاريخية. ولكننا نعترف بفضله في إدراج هذا الموضوع ضمن نطاق العلوم الإنسانية التي لم تكن حتى ذلك الوقت توليه اهتماما كبيرا، مكتفية فقط بعرض بعض المحطات المرتبطة بتاريخ الطب النفسي والسير الذاتية لرواده على التوالي، وعلى رأسهم بينيل.
Bog aan la aqoon
وتكمن صعوبة دراسة موضوع الجنون في كون كتابة تاريخه - نظرا لما يحمله من معنيين بينهما اشتراك وعلاقة ازدواج - أمرا منوطا بكل من المؤرخ والطبيب والفيلسوف والطبيب النفسي والمحلل النفسي وعالم الاجتماع، ولكل منهم نظرته الشخصية لهذا الموضوع. هناك العديد من القراءات التي تطرقت إلى موضوع الجنون. ومن قبيل المفارقة أن المؤرخين، رغم أن الأمر يتعلق بالتاريخ، هم الأقل اهتماما بدراسة هذا الموضوع. وعلى النقيض، كانت أصوات الفلاسفة ومن بعدهم علماء الاجتماع والطب النفسي، دون أن نغفل بالطبع المحللين النفسيين، هي الأعلى - (أما عن الأطباء النفسيين، فطالما أبدوا اهتماما بتاريخ فنهم) ولا سيما بعد صدور كتاب ميشيل فوكو - وسط موجة عاتية مناهضة للطب النفسي هزت الغرب في الستينيات والسبعينيات.
على الرغم من هذا القيد الأيديولوجي (وعلى نحو ما كرد فعل إزاءه)، كان لزاما على المؤرخ أن يطرح أسئلة المؤرخين: هل يمكن اعتبار عام 1656 هو بداية تأسيس تاريخ الجنون؟ وهل السلطات كانت تسعى دوما للتهرب من مشكلة احتجاز المجانين بدلا من العمل بالأحرى على إيجاد حل لها؟ وهل المجانين - وليس الجهلاء أو الخطأة أمام الله، بل مرضى الجنون والمعروفون بإصابتهم بأمراض عقلية - موجودون منذ الأزل، ووجودهم قديم قدم البشرية نفسها؟ هل كانت السلطات تسعى في الأساس، ومنذ البداية، لعلاج المجانين؟ كل هذا يجعلنا نتساءل منذ متى وعلى أي نحو كان يتم تمييز الجنون بوصفه مرضا عقليا عن الجنون بوصفه نقيضا للعقل والحكمة.
لا بد من استئناف البحث، ولكن كيف؟ من منظور المؤرخ ... يجب، دون «جداول تحليلية» أو تحيز أيديولوجي، تتبع الجنون والمجنون واقتفاء أثر هذا الأخير منذ ظهوره في تاريخ البشرية، وتضييق نطاق البحث على نحو تدريجي للوصول إلى النتائج المتعلقة بقارة أوروبا ثم بفرنسا؛ وذلك باتباع نهج يعتمد على التسلسل الزمني لمتابعة كل ما طرأ على هذا الموضوع من مستجدات حتى يومنا هذا. فبعد أن شغل المؤرخون لفترة من الزمن بالمذهب التصوري الذي كان قد اجتاح العلوم الإنسانية، عادوا اليوم على استحياء إلى ما كانوا قد رفضوا الاعتراف به حتى لا يتهموا بانتمائهم إلى مذهب «الوضعية المحدثة» وهو: التسلسل الزمني والأحداث والتاريخ الكمي ... فالأحداث دائما ما تكون عنيدة!
إنه بحث طويل يمتد على مدار أكثر من ألفي عام لملاحقة الجنون ... بحث ميداني، كيف كان المجانين في الواقع المعاصر، ومتى ظهروا، وأين؟ ما حجم المشاكل التي تسبب بها الجنون منذ قيام الحضارات الأولى؟ وما الاستجابات النظرية والعلاجية وردود الفعل الاجتماعية والقانونية التي قدمتها المجتمعات إزاء هذا المرض؟
فضلا عن ذلك، ألا ينبغي أن يكون عنوان هذا الكتاب «تاريخ الطب النفسي» بما أنه يبحث في الجنون باعتباره مرضا؟ كلا، وذلك لعدة أسباب: أولها أن «الطب النفسي» تعبيرا واصطلاحا لم يظهر إلا في مطلع القرن التاسع عشر (في عام 1808 على يد رايل في ألمانيا، ثم مر وقت طويل - عام 1842 - حتى تم إدراج هذا المصطلح في قاموس الأكاديمية الفرنسية). ولكن لأن الحديث عن الطب النفسي وتاريخه (أو عن الأمراض العقلية) بالنسبة إلى الفترات السابقة على وجه الخصوص، ربما كان سيعد خطأ في المعنى أسوأ من ملاءمة التسمية؛ وذلك لأن «اختراع الطب النفسي» جاء كمرحلة فاصلة في تاريخ الجنون الذي كان قد بدأ بالفعل قبل ذلك بكثير.
وفضلا عن ذلك، فعنوان الكتاب «تاريخ الطب النفسي» يشير إلى المجال الطبي وحده، وهو المجال المركزي بالطبع، ولكننا نود كذلك إحكام الصلة بين هذا المجال وبين سياقه التاريخي والثقافي. وبقدر ما نرغب في رصد تاريخ المرض نفسه وتطور توصيفه يهمنا استعراض تاريخ الاستجابات العلاجية وردود الفعل الاجتماعية إزاء هذا المرض. ذلك أن الجنون ليس كأي مرض آخر. إن إدراك البعد الأنثروبولوجي للجنون يعد أمرا أساسيا لفهم تاريخه: «إننا لا نصبح مجانين برغبتنا، فقد تنبأت الثقافة بكل شيء. ففي داخل عملية الاضطراب العصبي، والتي نسعى إلى الهروب منها من خلال الاضطراب العقلي، تأتي الثقافة لتحدد لنا شكل الشخصية البديلة التي يتعين علينا تقمصها» (فرانسوا لابلانتين).
مما سبق، تتضح المكانة التي يشغلها تاريخ الطب النفسي. سنرى أنه خلافا لتاريخ معظم الأمراض، عند دراسة التاريخ الطبي للجنون، فإنه لا يعنينا الحديث عن إنجازاته والتقدم الذي أحرزه بقدر ما يهمنا تتبع أخطائه وتضحياته والنكسات التي تعرض لها، سواء في مجال النظريات الطبية، والاستجابات العلاجية أو فيما يتعلق بردود الفعل الاجتماعية. إذا أردنا البحث في هذا التاريخ الطويل، الذي يضاهي موضوعه غرابة وجنونا، عن سياسة قوة أو قمع من جانب السلطات، فإن جل ما نلحظه الغياب الواضح لأساليب المعالجة الحكيمة لهذا الموضوع، سواء على المدى الطويل أو على المدى المتوسط. فقد ظهرت - في ذلك الوقت - كلمات مثل التجريبية، والبراجماتية، وقلة الإمكانيات، واللامبالاة، بدت كأنها كلمات مفتاحية في هذا المجال.
إضافة إلى أن الجنون يعد حالة مرضية بالمعنى الطبي الدقيق، فهو يمثل مشكلة من وجهة نظر الفلسفة وعلم الاجتماع (وهو ما يفسر شرعية اهتمام هذه العلوم به)؛ وذلك لأنه يعبر عن سلبية كل من «العقل» والقوانين المنطقية التي تحكمه في زمان ومكان محددين، فكل مجتمع لديه أنماطه الخاصة من الانحراف ودرجات التحمل أو التساهل التي تتماشى معها. إن إجراء مقارنة بين حضارات مختلفة في زمن ما يعد أمرا مثيرا للاهتمام (وذلك لأن كل نظام له منظور نسبي مختلف تجاه الآخر) وهذا هو ما يهتم بدراسته - ولكن في عالم اليوم - علم الأنثروبولوجيا النفسية (الطب النفسي الأنثروبولوجي)، وذلك باتباع نهج تصوري لا يعنينا الخوض فيه الآن. ومن الواضح أنه ليس ثمة جنون إلا جنون العالم الغربي. بيد أننا نحيا في هذا الجنون وهو نفسه ما سنتناوله بالدراسة آملين أن يستمتع القارئ بهذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر التي سنخوضها عبر ما يقرب من ثلاثة آلاف عام.
الجزء الأول
العصور القديمة وجذور الجنون
Bog aan la aqoon
الفصل الأول
رب وأرباب
كان اليونانيون القدماء هم أول من اهتم بدراسة الجنون؛ أي مرض الروح، لكن هل يعني هذا أنه قبل ذلك الوقت لم يتطرق أحد إلى هذا الموضوع؟ نحن لا نقصد بالتأكيد الجنون بمعناه النظري، حتى وإن كان غياب المصادر يجعلنا نتغاضى بعض الشيء عن مثل هذا القول. إنما نقصد المجانين بالطبع. هل هناك حضارات أو مجتمعات، حتى الأولى منها، دون مجانين؟ نراهن أن الإجابة ستكون بالنفي.
جنون وآلهة
في الحقيقة، وحتى لا نستعرض إلا الحضارات التي سبقت اليونان وأثرت فيها، لا بد من البحث عنهم والعثور عليهم؛ أولئك المجانين، الذين سبق أن ضبطوا في أثناء تلقيهم للعلاج. ومع ذلك، نراهم هناك، ببساطة هناك. نجدهم في المعابد التي شيدت لغرض طبي في الحضارة البابلية وفي مصر القديمة، كما في معبد ممفيس على سبيل المثال، والذي كان يعد مدرسة للطب ومشفى في الوقت نفسه. من بين أولئك الذين كانوا يتوافدون على هذه المعابد طلبا للشفاء، نجد المجانين الذين كانوا ينتظرون دورهم لحدوث معجزة معهم من خلال ممارسة بعض الطقوس. وسط أجواء من الشعائر الدينية، كانت هناك ممارسات كالصوم والاغتسال والتطهر والدهن بالمسحة المقدسة تسبق الدخول إلى المعبد، أحيانا ببضعة أيام، للمبيت فيه ليلة. في اليوم التالي ل «نوم حضانة المرض»، والذي يمكن أن يصاحبه تناول بعض العقاقير، كان المريض يقص أحلامه على «الكهنة الأطباء»، الذين كانوا بدورهم يقومون بتفسيرها للحصول على وصفات العلاج والأدوية والأنظمة الغذائية، والتي كان الإله بنفسه هو من يمليها على المريض في بعض الأحيان عن طريق الأحلام. ويمكن الافتراض بأن الحالات المرضية للرجال والنساء التي لا أمل في شفائها لم يكن يسمح لها بدخول المعبد؛ حيث كانت سمعة المكان والإله على المحك. على أي حال، كان هذا الطب الكهنوتي ملائما تماما للجنون.
أما المصريون، فقد كانوا يعتقدون أن مركز كل شيء هو «القلب»؛ فهو مقر «الهروب» و«النسيان»، وأن الجنون يصيب المرء حينما تسكن قلبه قوة إلهية (في إشارة إلى الشيطان) ولا يصبح بعدها مسئولا عن أفعاله. وحينما يعثر الإنسان على «قلبه» فإنه يستعيد في الوقت نفسه عقله. وقد ظلت هذه الفكرة عن المجنون المغيب سائدة لوقت طويل، ثم عاودت الظهور خاصة مع نشأة الطب النفسي، في أوائل القرن التاسع عشر، مع ظهور مفهوم الاغتراب (وهي كلمة مشتقة من الأصل
alienare
وتعني أن يكون الإنسان شخصا آخر غريبا)، ليس فقط غريبا عن الآخرين وإنما أيضا غريب عن نفسه.
في الطب البابلي، كان هناك اعتقاد بأن لكل مرض شيطانا مسئولا عنه؛ ومن ثم فإن الروح الشريرة التي تسبب مرض الجنون كانت تدعى إيديتا. في النصوص المسمارية الطبية،
1
Bog aan la aqoon
جرى التمييز بين أنواع مختلفة من الجنون كما يلي: «بحسب ما إذا كان الشخص يعاني كثيرا من نوبات حادة أو خفيفة من الصرع، أو بدأت تنتابه أفكار عن الاضطهاد وأن الآلهة غاضبة عليه، أو إذا كان يصاب بهلاوس، أو لديه شعور دائم بالرعب والفزع ...» وبالطبع، فيما يتعلق بالجنون، وكما هي الحال بالنسبة إلى الأمراض الأخرى، كان الطب البابلي يلجأ إلى العراف أو الساحر
Asipu
مثلما يلجأ إلى الطبيب
Asu ، وأحيانا، إذا كان المريض يستحق العناء، كان يجري استدعاء الاثنين معا. كان الطبيب، وهو في الوقت نفسه الصيدلي، يمتلك بالفعل صيدلية (تحتوي على عقاقير ومراهم) لا يتورع العراف من جانبه، إضافة إلى ما يتلوه من تعويذات وعزائم، عن استخدامها.
في بلاد فارس القديمة، كان هناك اعتقاد بأن جميع الأمراض يتحكم بها شياطين، وأن المفهوم الثنائي للصراع الدائم بين الخير والشر يتجسد، ليس في العالم فحسب، حيث يتنازع إله الخير «أهورا-مازدا» مع إله الشر «أهريمان»، وإنما أيضا في الجسم البشري حيث تتعارض الصحة مع المرض. وكان هناك ثلاثة أنواع مختلفة من الطب كما يلي: «طب المبضع أو الجراحة، طب العلاج بالأعشاب والنباتات، وطب الكلام»، ويقصد بهذا النوع الأخير التلاوات المقدسة التي «تجلب السكينة للروح». ويعد اليونانيون أول من قام فيما بعد بتعريف دقيق لماهية الروح.
في تلك العصور القديمة، نادرا ما نجد حالات من الجنون لها أسباب مرضية أو طرق علاجية ملائمة، بعيدا عن نطاق التداوي بالسحر والدين. وبالرغم من ذلك، قبل ألفي عام من ميلاد المسيح، عزا المصريون العديد من الاضطرابات النسائية، سواء أكانت جسدية أم نفسية، إلى هجرة الرحم إلى أعلى الجسم؛ مما ينتج عنه حدوث ضيق في التنفس و«اختناق رحمي» (ما يقصد به «الإصابة بالهستيريا»). انطلاقا من الفرضية القائلة بأن العضو المهاجر يهرب من الروائح الكريهة بينما تجذبه الروائح الطيبة، وساد اعتقاد بضرورة الجمع بين استنشاق روائح غير محببة وتطهير المهبل بالروائح العطرية لإجبار الرحم على العودة إلى موضعه الطبيعي. وهكذا نشأت الهستيريا، والتي أصبحت حقلا واعدا على الصعيدين الطبي والاجتماعي للباحثين بهذا المجال.
وقد اتبعت اليونان القديمة (وما بعدها من حقب) النهج الطبي نفسه القائم على الاستعانة بالسحر والدين، متأثرة في ذلك بالطب المصري القديم. كان الكهنة أيضا هم القائمين على رعاية صحة البشر، ولا سيما في العديد من المعابد المخصصة للإله أسكليبيوس. ووفقا للأسطورة الإغريقية، فإن أسكليبيوس هو ابن الإله أبوللو والحورية كورونيس والذي عهد به إلى القنطور شيرون لتربيته. وكان هذا القنطور يمتاز عن أقرانه، المتوحشين والجهلة، بالحكمة والطيبة. وقد قام القنطور شيرون، بتعليم أسكليبيوس الطب، حيث نقل إليه ما سبق أن تعلمه على أيدي أبوللو وأرطميس. وسرعان ما تفوق الطالب على أستاذه. ولم تقتصر قدرة أسكليبيوس على شفاء المرضى فحسب، وإنما امتدت لتشمل أيضا إحياء الموتى. ولم يتحمل الإله زيوس ذلك، فغضب على أسكليبيوس وضربه بالبرق. وأصبح أسكليبيوس هو إله الطب (وهو الإله إسكولاب عند الرومان)، وصارت ابنته هيجيا أو هيجي (Hygie)
إلهة الصحة (ومن اسمها اشتق الأصل اللغوي لكلمة
hygiène ؛ أي النظافة الصحية).
يقع المعبد الرئيس للإله أسكليبيوس في مدينة إبيداوروس، في أرغوليس. وكان يتوافد عليه المرضى منذ القرن السادس قبل الميلاد. وكما هي الحال أمام مئات المعابد الأخرى المخصصة لإله الشفاء في جميع أنحاء اليونان، كان المرضى يصطفون بانتظار قضاء ليلة حضانة المرض الشهيرة. وكان المؤلف المسرحي أريستوفان يسخر من هذا المشهد في مسرحياته الكوميدية، قائلا بأن الأمر لا يعدو أن يكون عمليات احتيال وخداع كبرى. ولكن لم يشاركه هذا الرأي أولئك المرضى الذين كانوا يحجون إلى هذه المعابد، مفعمين بالإيمان والاعتقاد في الشفاء، ولم لا وقد عزز من إيمانهم هذا منظر آيات الشكر والعرفان والوفاء بالنذور التي كانت تزين جدران المعابد. أما أولئك الكهنة الأطباء - الذين يدعون أنهم ينحدرون من سلالة أسكليبيوس ويمثلون رابطة قوية - فكان من بينهم مختصون في علم التغذية، وصيادلة، وجراحون، ومعالجون بالموسيقى، وكذلك - وقبل ظهور الكلمة نفسها - أطباء نفسيون. وكما هي الحال في مصر، لم يكن الكهنة الأطباء يكتفون بالبقاء في معابدهم بل كانوا يقومون بجولات واسعة لتفقد المرضى. وكان المجانين يمثلون الفئة المختارة لدى هذا النوع من الأطباء الذي يجمع بين السحر والدين.
Bog aan la aqoon
كما حدث في مصر، أنشئت مدارس تنافسية: في قوريني، ورودس، ولا سيما في كنيدوس، في آسيا الصغرى، وفي جزيرة كوسفي دوديكانيسيا. وتزايد الاهتمام بتسجيل العوارض الصحية وطرق معالجتها على ألواح، بحيث تكون في بعض الأحيان بمنزلة مرجع طبي متكامل، ونذكر على سبيل المثال في هذا الصدد كتاب «الحكم الكنيديسية». ومع ذلك، كان الكهنة الأطباء من سلالة أسكليبيوس يميلون إلى الاقتصار على معالجة الجروح والأمراض الحادة؛ ولهذا السبب هجر العديد من المرضى المصابين بأمراض مزمنة معابد أسكليبيوس وأخذوا يترددون على صالات الألعاب الرياضية، اعتبارا من القرن الخامس قبل الميلاد. ذاع صيت الألعاب الرياضية في اليونان إلى حد أنها لم تكن تعد وسيلة للتمتع بصحة جيدة فحسب، بل أضحت طريقة لمعالجة الأمراض المزمنة، اعتمادا على التمارين البدنية والسير لمسافات طويلة واتباع أنظمة غذائية.
أما فيما يتعلق بالجنون نفسه، فهو يحتل في الأسطورة اليونانية القديمة وقصائد هوميروس مكانة خاصة؛ فقد كان ينظر إليه على أنه يمثل في أغلب الأحيان عقابا يبتلى به البشر الذين يقعون ضحية الجموح والغطرسة. وهكذا، أصيب أوريستيس بالجنون بعد أن قتل والدته وعاقبته على فعلته إلهات العذاب إيرينيس (المسماة فيوريس عند الرومان). كان الإغريق يخافون بشدة من جنيات الجحيم إيرينيس، لدرجة أنهم كانوا يطلقون عليها «الجنيات الطيبة» حتى لا يغضبوها. وكانت مهمة هؤلاء الإلهات معاقبة القاتل والمتغطرس أيضا.
لقد سلطت الآلهة الجنون على أوديسيوس، الذي كان يحرث الرمال بدلا من الحقول، وأجاكس، وهو أشجع الرجال اليونانيين بعد أخيل. وعند موت هذا الأخير، طالب أجاكس بأسلحته ولكن القادة الآخرين اختاروا أوديسيوس. وهكذا أصابت أجاكس لوثة الجنون وطفق يذبح قطيعا من الخراف ظنه جيشا من الآخيين. وكتب سوفوكليس، في مسرحيته «أجاكس» (التي ألفها حوالي سنة 440 قبل الميلاد)، مشهدا تظهر فيه الإلهة أثينا، حامية الآخيين، وهي تشرح لأوديسيوس كيف أنها بددت غضب أجاكس؛ بأن ضربته ب «غشاوة على عينيه»: «سأوقع على عينيه الوهم الثقيل لانتصار كريه [...]، وسأضغط على الإنسان الواقع ضحية هذيانه، وأدفعه نحو عمق شبكة الموت.» وعندما أدرك أجاكس خطأه، لم يبق أمام هذا البائس إلا الانتحار.
بيد أن آلهة الأساطير الإغريقية لم تكتف بلعب دور المنتقمين أو الحماة. فقد كان لدى هذه الآلهة جميعها عيوب الفانين نفسها. وهكذا كان زيوس زير نساء بمعنى الكلمة وكانت هيرا زوجته (راعية الزواج وحامية النساء المتزوجات) غيرى بشكل رهيب. ونظرا لعدم قدرتها على الانتقام من زوجها الفاسق، والذي يعد في الوقت نفسه كبير الآلهة أو رب الأرباب؛ كانت هيرا تتجه نحو العديد من الفانيات اللائي نلن جانبا من إحسانها. وهو ما حدث على سبيل المثال مع ألكمن، أميرة الميسينيين، التي أغواها زيوس بعد أن اتخذ شكل زوجها الغائب أمفيتريون، ثم حملت منه. فاستشاطت هيرا غضبا وطلبت من ابنتها إيليثيا، إلهة الولادة، أن تطيل فترة حمل ألكمن. وبمجرد ميلاد ابن ألكمن، لم تكف الإلهة الرهيبة هيرا عن وضعه في اختبارات كانت تبعث بها إليه، ولكنه كان دائم الانتصار فيها. ومن هنا جاء اسمه: هرقل، ومعناه «مجد هيرا». وعندما أدركت الإلهة أنه لا شيء يقدر على هزيمة هذا البطل، ضربته بلوثة جنون دفعته إلى قتل أبنائه (وأصبح لزاما عليه فيما بعد القيام بالأعمال الاثني عشر الشهيرة للتكفير عن مثل هذه الجريمة). وقد قدم المؤلف المسرحي يوربيديس نسخة شائقة من جنون هرقل في صورة عمل مسرحي؛ حيث أدركت هيرا فجأة، في تجل مصحوب بإحساس شنيع بالابتهاج، أنه لا يوجد شيء أو شخص بإمكانه هزيمة هرقل. لا أحد، إلا نفسه! وبناء عليه، فليعلن الآن الحرب على نفسه! وليصر مخبولا بحيث يكون، في جنونه، غير مدرك لأفعاله؛ وبذلك يكره نفسه!
ورغم أننا هنا في نطاق الأسطورة الإغريقية والشعر التراجيدي، فالجنون المشار إليه، بعيدا عن أي مجاز، لا يقل عن الجنون بصورته الحقيقية؛ لأن الجنون في صورته الأكثر عنفا والأكثر خطورة يتجلى في: هوس هرقل الإغريقي، وغضب هراقليس اللاتيني الهائج.
الإله والجنون
مع آلهة الأسطورة الإغريقية، على الرغم مما كانوا يبدونه من قسوة مع البشر، فقد كان من الممكن - في بعض الأحيان - تقديم تنازلات للوصول إلى اتفاق معهم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الآلهة، التي تكون بشرية للغاية، في أحيان كثيرة، لا تتعامل بقسوة إلا بدافع العاطفة أو التسلية، فإن ذلك يخلق مساحة مشتركة من التفاهم والعلاقات المتبادلة. ولا يوجد مثل هذا مع الإله الأوحد لأول دين كتابي. مع عقيدة التوحيد بوجه عام، ليس هناك مجال للمزاح. إن إله العبرانيين والعهد القديم، والذي يدعى يهوه، محب للانتقام وعنيف في أغلب الأحيان. ألم يطلب من إبراهيم التضحية بإسحاق، ابنه البكر؟ وسيجيب البعض قائلا: إن يهوه لم يكن يريد إلا اختبار عبده إبراهيم بدليل وجود كبش الفداء الذي حل محل ولده في اللحظة الأخيرة. إذا سلمنا بذلك، فهذا لا يبرر أن الأب قد وافق، باسم الرب، على قتل ابنه؛ حيث كان إبراهيم قد قيد بالفعل ابنه على مذبح المحرقة. وبالفعل، مد يده ليمسك بالسكين. وهكذا ظهر إله جديد.
وبعيدا عن هذا الإله العنيد، لا سبيل للنجاة (كما ضاقت سبل الخلاص). «أنا أميت وأحيي. سحقت، وإني أشفي، وليس من يدي مخلص» (سفر التثنية، إصحاح 32، آية 39). الله يرسل المرض ليعاقب خلائقه. وماذا يكون العقاب الأمثل إلا الجنون؟ في هذا السياق، يكتسب الجنون طابعا مبهما وباعثا على التشاؤم بشكل جذري. وعليه، يكون المجنون هو بداية من يقع في الخطية - ثم يسقط في شباك الخطيئة والعقاب. «فكر الحماقة خطية» (سفر الأمثال، إصحاح 24، آية 9). «لأن شعبي أحمق. إياي لم يعرفوا. هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين» (سفر أرميا، 4، 22). وترد في سفر الأمثال على وجه الخصوص، بشكل متكرر ومهيمن، الصورة الأكثر تشاؤما للأحمق المتعارض مع الحكيم: «الحكماء يذخرون معرفة، أما فم الغبي فهلاك قريب.» ومن يهوه يغضب المخبول ويكون جنونه غير قابل للشفاء: «إذا ما سحقت معتوها بالهاون بين الحبوب، فإن جنونه لا يحيد عنه.» ولذلك، لا بد من الابتعاد عن الأحمق: «ليصادف الإنسان دبة ثكول ولا جاهل في حماقته» (سفر الأمثال، 17، 12).
عندما عرفت التعاليم اليهودية المجنون على أنه الإنسان الذي يفقد عطية منحت له، كان يقصد بذلك المريض عقليا وأيضا الخاطئ الذي لم يستطع الحفاظ على إيمانه وفضيلته باعتبارهما عطيتين من الله. بالإضافة إلى ذلك، أليس المريض عقليا مسئولا، في نهاية المطاف، عن السماح لنفسه بالانزلاق في هوة الجنون؛ وذلك بنسيان الله ومن ثم الاستهانة به؟
هذا الجمع بين المجنون والآثم لم يكف على أي حال عن التأثير في التقليد اليهودي-المسيحي. وفي هذا الصدد، يمكن أن يأخذ الجنون طابعا جماعيا. هكذا، كان موسى يحذر شعبه قائلا إنهم إذا حادوا عن طريق الإيمان، فسيضربهم الرب بالجنون وب «حيرة القلب» (سفر التثنية، 28، 28). وهكذا كان اليهود يدعون السامريين بأسلوب مهين «شعبا مجنونا»؛ وذلك بسبب انشقاقهم الديني (فهم لا يقبلون في الكتاب المقدس إلا التوراة). مجنون، آثم، شرير، كلها مترادفات لشيء واحد.
Bog aan la aqoon
ويبلغ التشاؤم ذروته حين يكون جنون الإنسان أمرا مثيرا للحزن أكثر من موته: «ابك على الميت لأنه فقد النور وابك على الأحمق لأنه فقد العقل. قلل من البكاء على الميت فإنه في راحة أما الأحمق فحياته أشقى من موته» (سفر يشوع بن سيراخ، 22، 10-12).
ونتيجة لذلك، كان من الصعب معرفة مصير المجانين «الحقيقيين»؛ فقد كان ينتظرهم بالطبع مصير لا يحسدون عليه، في إطار مناخ ديني متعصب إلى أبعد حد عن الحضارات المؤمنة بعدة آلهة، وفي سياق بيئة دينية ترفض، بل وتحرم اللجوء إلى السحر. وهكذا، كان للعديد من هؤلاء المجانين - المنبوذين من مجتمعهم والمختبئين في الغابات حيث يعيشون حياة بدائية وهمجية - دور في مولد أسطورة الاستذآب (وهي كلمة مشتقة من الأصل اللغوي «الرجل الذئب»، الذي عرف فيما بعد بالمذءوب). ويعد نبوخذ نصر، ملك بابل، خير مثال على ما نقول؛ فلتوقيع العقاب على هذا الملك، الذي قام بغزو مملكة يهوذا ودمر معبد أورشليم (في مطلع القرن السادس قبل الميلاد)، على غروره، ضربه يهوه بالجنون؛ حيث اعتقد نبوخذ نصر أنه تحول ليس إلى ذئب ولكن إلى ثور، على غرار صور الثيران الكثيرة التي تزين جدران قصره. وقد انطلق ليعيش على نحو بدائي في حدائقه الشاسعة، معرضا نفسه لسوء الأحوال الجوية، ولم يعد يأكل إلا الحشائش وأطال شعره وأظفاره. ولكن ملك بابل لم يتعرض للعقاب إلا لفترة مؤقتة («سبعة أزمنة»، كما ذكر الكتاب المقدس دون إعطاء مزيد من التوضيح). ثم صار بإمكانه أخيرا «استعادة رشده» والتضرع في تذلل إلى الله الذي قبل طلبته ومن عليه بالشفاء.
ولكن من يمكن أن يكون مجنونا دون أن يكون خاطئا؟ «إنه ذلك الذي يخرج بمفرده في الليل، ويبيت في المقابر، ويقذف الحجارة، ويمزق ملابسه، ويفقد ما يعطى له» (تكملة التلمود). وإلى جانب هذا التعريف «الإكلينيكي» المبهم، أكد التلمودي ريش لاكيش، في القرن الثالث بعد الميلاد، أن الإنسان لا يخالف أحكام الدين إلا إذا دخلت إليه روح الجنون.
وقد ذكر الكتاب المقدس بعض حالات الجنون، بمفهوم المرض العقلي، أشهر هذه الحالات هو شاول، أول ملوك شعب بني إسرائيل، وقد حدث ذلك قبل الميلاد بألف عام (حسبما ذكر في سفر صموئيل الأول ، من الإصحاح التاسع إلى الإصحاح الحادي والثلاثين). بعد أن شاخ شاول وأصبح معتل المزاج، لم يكن هناك إلا قيثارة داود، الذي كان لا يزال راعيا للغنم، هي التي بإمكانها تهدئته. «فكان يرتاح شاول ويطيب ويذهب عنه الروح الرديء» (سفر صموئيل الأول، 16، 23). ومع ذلك، ها هو الحديث عن الأرواح الشريرة، حتى وإن كان سفر الملوك يقدم لنا الخلاصة في قوله: «وذهب روح الرب من عند شاول، وبغته روح رديء من قبل الرب.»
لقد صور كل من رمبرانت ولوكاس دي ليدن في لوحاتهم، شاول مكتئبا ومصابا بالعين. كما كان الملك الشيخ مصابا أيضا بجنون العظمة، أو البارانويا، وبالغيرة من نجاح داود زوج ابنته التي كان شاول نفسه قد زوجه إياها بإرادته؛ هربا من انتقام شاول الذي يعد نموذجا لثنائية المضطهد-المضطهد، وكان يتعين على داود الالتجاء إلى بلاط ملك مدينة جت. وهناك، خوفا على حياته، تصنع هو نفسه الجنون حتى يبدو بمظهر المسالم، غير العدائي: «كان يضع علامات على مصراعي الباب ويترك لعابه يسيل على ذقنه.» لدى رؤيته، صرخ الملك قائلا: «أنتم ترون جيدا أن هذا الرجل مجنون، فلماذا إذن أحضرتموه إلي؟ أينقصني مجانين حتى أكون بحاجة لرؤية ذاك يفعل حماقاته؟» وهكذا، انتحر شاول بعدما عاش وحيدا، ومهزوما من قبل الفلسطينيين في جبل جلبوع؛ مما يثبت أن روح الرب كان قد فارقه. وخلفه داود وبلغت مملكة إسرائيل في عهده أوج قوتها.
يعتبر العهد الجديد أقل تناولا لموضوع الجنون كما أنه أقل تشاؤما بهذا الصدد من العهد القديم؛ فلم يعد يصور الجنون على أنه سلاح في يد إله يميل إلى الانتقام والقصاص، بل نجد هناك إحياء للتقليد القديم المتعلق بالأرواح والشياطين، والذي يعد مترسخا في إيمان الحضارات المتعددة الآلهة. فها هو يسوع يشفي الصريع: «فانتهره يسوع، فخرج منه الشيطان. فشفي الغلام من تلك الساعة» (متى، 17، 18). أيضا، في كورة الجدريين، أتى إلى يسوع رجل كان منذ زمان طويل لا يلبس ثوبا، ولا يقيم في بيت، بل يعيش في القبور (في المغارات التي كانت منتشرة في هذه المنطقة). وكان يربط بسلاسل لمنعه من التحرك ولكنه كان دائما يكسر قيوده. وعندما سأله يسوع عن اسمه، أجاب الرجل قائلا: «لجئون»؛ لأن شياطين كثيرة دخلت فيه. ولأن الشياطين خافت أن يأمرها يسوع بالذهاب إلى الهاوية؛ طلبت إليه أن يأذن لها بالدخول في قطيع من الخنازير كان يمر في ذلك الوقت. وما إن دخلت الشياطين في الخنازير حتى اندفع القطيع إلى البحيرة وغرق. أما عن الإنسان الذي خرجت منه الشياطين، فقد كان «جالسا عند قدمي يسوع، لابسا وعاقلا» (لوقا، 8، 26-39).
وفيما يتعلق بالجنون المجازي، فله مكانة محدودة، ولكن مميزة، في العهد الجديد. بداية أليس هو جنون يسوع نفسه؟ فالشعب اليهودي الذي جاء المسيح ليعظه، ألم يقرن الكرازة بالجنون، بل واعتبرها جنونا يعاقب عليه الدين التقليدي؟ وهكذا نجد الآية مقلوبة، فالمسيح مخلص البشرية، يعد عمله الخلاصي على الصليب جنونا بينما هو الحكمة في أجلى صورها، على العكس من ذلك، تعد حكمة العالم، وفطنته الكاذبة، هي الجنون بعينه: «إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصر جاهلا لكي يصير حكيما! لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله.» وفي موضع آخر: «فإن كلمة الصليب عند الهالكين [بمعنى الخطأة] جهالة [بمعنى جنون]، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله» (القديس بولس الرسول، في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس).
ها نحن الآن في القرن الأول الميلادي وقد بلغنا بالفعل مرحلة متقدمة على طريق التصوف المسيحي. فلنعد إلى جنون العبرانيين كما كان يبدو لنا قبل عدة قرون من ميلاد المسيح وذلك حتى نوضح إلى أي مدى كان مثل ذلك التصور الباعث على التشاؤم بخصوص الجنون يحبط سلفا أي محاولة للتفكير النظري بشأنه. إننا أكثر قربا من الناحية الجغرافية، ولكن على طرفي نقيض من الناحية الفكرية، من وضع البحث الفلسفي والطبي الذي كرس مفكرو اليونان الكلاسيكية، ومن بعدهم مفكرو روما القديمة، أنفسهم له، ابتداء من ظهور المفهوم الأساسي لمرض الروح أو النفس.
الفصل الثاني
مرض الروح
Bog aan la aqoon
رأينا كيف كانت معابد الاستشفاء المخصصة للإله أسكليبيوس وصالات الألعاب الرياضية مهدا للطب حتى قبل ظهور أبقراط. غير أن هناك جنية سهرت على رعاية هذا المهد، وهي جنية الفلسفة. وبينما ظل الالتجاء إلى السحر والدين مستمرا (حتى إنه بلغ أوجه مع ازدهار معبد إبيداوروس في القرن الرابع قبل الميلاد)، كانت الفلسفة في الوقت نفسه في طور النشأة. كان الفلاسفة يسافرون ويتعلمون من أسفارهم. وكانوا يفكرون مليا بكل ما للكلمة من معنى في العديد من التساؤلات، بدءا بعلم الكونيات (ما الكون؟) (من سنة 600 إلى سنة 450 قبل الميلاد)، وانتهاء بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) (ما الإنسان؟) (من سنة 450 إلى سنة 400 قبل الميلاد). كما كانوا يدرسون الطبيعة، بما في ذلك تنظيم الأجسام وأصل الأمراض.
ومن بين هذه الدراسات، برز مفهوم مرض الروح بشقيه: الفلسفي، بما أن الأمر متعلق بالروح أو بالنفس، والطبي، بما أننا بصدد دراسة نوع من الأمراض. وبناء على ذلك، ساد لفترة طويلة تقليد طبي-فلسفي يجمع بين خبرتين؛ وهما: علم الأمراض النفسية من منظور طبي، وعلم الأمراض النفسية من منظور فلسفي. ويتناول هذا الأخير بدوره مبحثين: المبحث الأول متعلق بأمراض الروح والجسد «يعالج الطب الجسد من الأمراض، وتحرر الحكمة الروح من العواطف» (كما يقول ديموقريطوس). أما المبحث الثاني فيشمل صحة الجسد وصحة الروح. يقول أبيقور: «لا بد من العمل للحفاظ على الجسد من المعاناة والحفاظ على الروح من الاضطراب.»
ولكن، في البداية، ما الروح (في اللغة اللاتينية، كلمة
anima
تعني «النفخة»)؟
وللإجابة عن هذا السؤال، كان لا بد من التوغل في حقل واسع محفوف بالمخاطر ... يعرف أفلاطون (428-348ق.م) الروح على أنها «مبدأ الحياة والفكر أو الاثنين معا، باعتبارها حقيقة كائنة بشكل منفصل ومستقل عن الجسد ولكنها تتجلى من خلاله.» أما أرسطو (384-322ق.م)، فقد عرف الروح على أنها «جوهر كينونة الإنسان، أو صورة لجسد طبيعي به حياة بالقوة (وتمامية الفعل المتحقق للكائن على عكس الذات الناقصة).»
هل الروح والجسد يشكلان كلا لا يتجزأ (الواحدية)، أم يمكن فصل أحدهما عن الآخر (المثنوية)؟ جالينوس (الذي ولد عام 129م وتوفي تقريبا في عام 210م)، هو طبيب درس الفلسفة في بداية حياته وأعرب عن عدم فهمه لما قاله أفلاطون بأن «الموت يحدث حينما تفارق الروح الجسد.» وأكد من جانبه على مادية الروح لارتباطها بالطبائع الأربع (البارد، والرطب، والحار، واليابس)، حتى وإن أوضح في بعض الأحيان أن هذه المعرفة لا تهم كثيرا مجالي الطب وعلم وظائف الأعضاء. وقد أشار جالينوس في مؤلفاته إلى نظرية أفلاطون حول الأنفس الثلاث للإنسان (وهي نظرية شائعة لدى أبقراط) كما يلي: النفس الشهوانية أو النباتية (التي تمثل منبع الرغبة) ومكمنها في الكبد، والنفس النشطة أو الذكورية ومركزها في القلب، والنفس المفكرة أو الآمرة ومقرها في المخ. وهكذا نجد نفسين غير عقلانيتين ونفسا عاقلة (يختص بها الآلهة وحدها). ويصاحب النفس الأولى فضيلة الاعتدال، ويرافق النفس الثانية فضيلة الشجاعة، أما النفس الثالثة، وهي العاقلة، فتلازمها فضيلتا الحكمة والعلم. هذا بالإضافة إلى العدالة التي تحافظ، بالقدر الملائم، على التناغم بين الأنفس الثلاث.
ولأرسطو رأي مختلف تماما؛ فهو يرى أنه لا توجد إلا نفس واحدة متمركزة في القلب ولكنها تجمع كل ملكات الأنفس الثلاث التي عرفها أفلاطون. ويعتقد الفلاسفة الرواقيون، أن الإنسان يملك نفسا واحدة دون أن يميزوا بين الملكات. ويرون أن كل ما يتحرك يعد جسدا (بما في ذلك الروح). أما خريسيبوس (القرن الثالث قبل الميلاد)، فيرى أن الروح نفحة مستمرة، تولد مع مولدنا، وتتوغل في كل الجسد طالما ظل به تناغم الحياة.
ولكن ما هو مرض الروح، سواء وفقا لمذهب الواحدية أم وفقا للنزعة المثنوية (وبالأخص من وجهة نظر العقيدة المثنوية؛ نظرا لأنها تفرق بين مرض الجسد ومرض الروح)؟ من الجدير بالذكر أن جاكي بيجو كان أول، وربما كان لفترة طويلة هو الوحيد، من خصص رسالة ماجستير لبحث مرض الروح في العصور القديمة.
1
Bog aan la aqoon
وسنتابع بحماس في هذا الفصل ما تم التوصل إليه من خلال هذه الأطروحة. تعتمد فكرة بيجو على تحديد إشكالية العلاقة بين الطب والفلسفة في العصر القديم، مع دراسة «الاستدلالات القياسية المميزة التي يقدمها الطب لعلم الأخلاق، ولا سيما ما يتعلق بمرض الروح »؛ حيث لا يقدم الطب استدلالا قياسيا فحسب، كما قلنا، وإنما هوية أيضا، بما أن «مرض الروح يأتي من خلال الجسد»، والجسد «هو المكان الذي تنفذ الروح من خلاله»، وهذا لا يحدث دون ألم.
في محاورة أفلاطون «طيمايوس»، يحدث مرض الروح، ويقصد به الحماقة أو الجنون، بسبب حالة الجسد، مع الفارق أنه إذا كانت الروح أقوى من الجسد، فإنها «تهزه بالكامل من الداخل»؛ وينتج عن ذلك الإصابة بالهوس أو بالمس الجنوني. أما إذا كان الجسد أقوى، فإن الروح تسقط «في أشد أنواع المرض؛ وهو الجهل» [نقيض الحكمة، أو نسيان الواقع] «لا أحد فاسد طوعا»؛ فكل عمل سيئ هو نتيجة لحكم خاطئ يجعلنا نؤثر الشر على الخير. أما جالينوس، وهو أكثر تشددا من أفلاطون وأرسطو اللذين أخذا بعين الاعتبار تأثير العوامل المادية والمعنوية عند تفسير دوافع الأفعال الإنسانية؛ فيرى أن مزاج الروح مرتبط بمزاج الجسد، وبناء على ذلك يمكن القول: إن أمراض الروح هي انعكاس لأمراض الجسد.
يرى القدماء أن أمراض الروح، أو بالأحرى الأمراض المشتركة بين الجسد والروح، تعد أمراضا عضوية. وأكثر هذه الأمراض الجسدية شيوعا هو التهاب الدماغ الذي يصاحبه حدوث حمى حادة أحد أعراضها الاضطراب العقلي. ومع الاتجاه التدريجي بين ما هو عضوي أو بدني نحو ما هو فلسفي، نجد الهوس (أي «الهياج» عند اللاتينيين). ونظرا لأن الهوس يعد مرضا وفي الوقت نفسه عرضا لأمراض أخرى (التهاب الدماغ، والملنخوليا)، فهو يمثل الجنون بامتياز؛ ولذلك سنتعمق في بحثه في إطار دراسات أبقراط وخلفائه في هذا الصدد. في الأصل، لم يكن لمصطلح «الهوس» أي مرجعية طبية بشكل خاص، وإنما كان مفهوما شائعا يشير إلى السلوك العنيف.
وقد ميز كل من أفلاطون وإيمبيدوكليس (في القرن الخامس قبل الميلاد) بين نوعين من الجنون؛ وهما: نوع سيئ، وهو الهوس الذي يصاحبه ولع جسدي؛ ونوع جيد، ملهم وسماوي. وهكذا أضاف الفلاسفة الإغريق معنى آخر للجنون، فضلا عن معناه المزدوج الذي قد يكون الخطيئة، وهو الجنون الذي قد يكون خلاقا. ويميز أفلاطون في محاورته «فيدر» بين أربعة أنواع من الجنون الإلهي كما يلي: الجنون النبوي والإله المسئول عنه أبوللو، والجنون المتعلق بالإدراك الحسي الأولي أو الجنون الطقسي والإله المسئول عنه ديونيسوس، وهو إله الكرمة والخمر والنشوة، والجنون الشعري المستلهم من ربات الإلهام والفنون، وأخيرا جنون الشهوة الجنسية المستوحى من الإلهة أفروديت والإله إيروس.
يقول سقراط لفيدر: «إن الهذيان، عندما يكون ممنوحا لنا كعطية إلهية، يمثل مصدر الخيرات الأعظم [...] ذلك أن الهبة الإلهية تفوق البراعة [الحكمة] البشرية» (من محاورة فيدر أو جمال الأرواح). وفي هذا السياق نفسه، أشار سقراط إلى الكاهنة بيثيا في معبد دلفي، والتي من المفترض أن ينطوي هذيانها ربما على النبوءات الموحى بها من الإله أبوللو. بالإضافة إلى ذلك، فالإنسان ليس بوسعه أن يكون ناظما جيدا للشعر «دون جنون الإلهام الممنوح من ربات الفنون [...]؛ لأن الشعر الذي ينظمه إنسان متزن ورابط الجأش دائما ما يتفوق عليه ذلك الشعر الذي يقرضه إنسان ملهم (بمعنى إنسان خاضع لسيطرة روح).» أما الجماهير التي لا تدرك أن هذا الإنسان ملهم، فهي تقول عنه: إنه مجنون.
ويشتق الفعل «يهذي»، من اللاتينية
delirare
وتعني «الخروج عن المسار الصحيح»، سواء بالتخريف (ومن هنا نشأت كلمة «هذيان» في القرن السادس عشر)، أو بالتنبؤ (تحدث أفلاطون عن «الهوس التنبئي»).
ومع الاتجاه المستمر نحو ما هو فلسفي، نذكر فيما يلي داء الكلب أو السعار. في نقطة التقاء بين الفلسفة والطب، يعد هذا الداء «اعتلالا جسديا يؤثر على جودة الروح» (كاليوس أوريليانوس، القرن الخامس الميلادي). وأخيرا، نأتي للسوداوية، التي تعد أكثر أمراض الروح ارتباطا بالفلسفة؛ حيث تتجلى بوضوح في هذا المرض العلاقة بين النفس والجسد. ونود في البداية أن نلقي الضوء على الأهمية التاريخية للسوداوية، والتي لن نكف عن الرجوع إليها تباعا. نبدأ بذكر الأهمية التي أولاها القدماء في الطب إلى المرة السوداء
melancholia ، التي يمكن أن تسبب بقطبيها المتناقضين اللذين يمزجان اللذة والألم (الحلو والمر)، عواصف أو فترات سكون.
Bog aan la aqoon
لم تتوقف تأملات القدماء حول مرض الروح عند هذا الحد، ولكن المجال لا يتسع لاستعراض كل هذه الفكر. يرى لوكريسيوس أن الروح مادية فانية وقابلة للانقسام. ومن هنا تنبع خصوصية أمراض الروح. فهناك أمراض خاصة بها وهي: الهم، والغم، وفقدان الذاكرة، ولا سيما الخوف من الموت الذي يعد المرض الأصلي للروح نظرا لكونه «مرضا جذريا وأساسيا مرتبطا بجوهر الكائن ومتأصلا في شعوره بحتمية الموت» [جاكي بيجو]، هذا بالإضافة إلى أمراض الجسد ذات البعد النفسي مثل: هذيان الحمى والنوام (أو السبات) والسكر والصرع.
كان الرواقيون أكثر من تعمقوا في دراسة مرض الروح، فاعتبروه مماثلا للشغف. ورفضوا إقرار المفهوم الأفلاطوني الخاص بمثنوية الروح والجسد، وكانوا يرون أن الاثنين أشبه ب «ورقة ذات وجهين»؛ بحيث لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل أحدهما عن الآخر. بين العاطفة والشغف والرذيلة والجنون (بمعنى غياب الرقابة على النفس)، لا يوجد اختلاف في الطبيعة، وإنما في الدرجة. بعد أن تخلى بينيل بدوره عن الإيمان بمذهب المثنوية، تبنى هذه الفكرة بقوة؛ مما أنذر بتحوله من طبيب إلى فيلسوف. فقبل ظهور الطب النفسي وبروز إسهامات بينيل في هذا المجال، قام شيشرون الفيلسوف، في مؤلفه المعنون ب «مناقشات توسكولوم»، بفصل الجنون عن الجسد، خلافا لرأي الأطباء الذي كان سائدا في ذلك الوقت. ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الروح التي ينبغي أن تكون الفلسفة هي طبيبها. يتعين على كل شخص أن يكون طبيب نفسه؛ وبناء على ذلك، يمكن تعريف المجانين بأنهم أشخاص غير حكماء.
يشرح الفيلسوف الرواقي سينيكا - الذي عاش في القرن الأول الميلادي وكان يؤمن أيضا بمذهب وحدة الوجود (الواحدية) - أن «الروح ليس لها مستقر منفصل وهي لا تراقب العواطف من الخارج»، ولكنها تتحول هي نفسها إلى عاطفة. كما أوضح سينيكا في «رسالته الخمسين إلى لوكيليوس» أن صحة الروح ليست طبيعة فطرية، وإنما هي مرحلة الشفاء، قائلا إنه «ما من أحد لم يمر بالجنون قبل بلوغ الحكمة، فقد اجتاز جميعنا تلك المرحلة مسبقا: فتعلم المرء للفضائل يعني تخليه عن الرذائل.»
الهوى يسبب استلاب العقل، هذا ما تبينه التراجيديا؛ فميديا التي تخلى عنها جاسون بعد أن ارتكبت - بدافع حبها له - العديد من الجرائم، انتقمت بقتل أبنائها منه. وقد ألهم جنونها كلا من يوربيديس، ومن بعده بيير كورني، وديلاكروا الذي رسم لوحة قاتمة عن «ميديا الغاضبة». يقول يوربيديس على لسان ميديا: «أنا أعي ما هي الشرور/الجرائم التي سأرتكبها.» ولكن صوت أحشائها الملتهبة كان أعلى من صوت العقل لديها. لقد أصبحت شخصا آخر؛ «الآخر حل محل الشخصية الأصلية بصورة يتعذر كبحها. وهذا هو الاغتراب بعينه» (جاكي بيجو).
استغرق القدماء أيضا في تأمل الشفاء الفلسفي لمرض الروح؛ وهو ما أطلق عليه سوائية المزاج، وهي كلمة مشتقة من الأصل اللاتيني
De tranquillitate animi . يعرف سينيكا هذه الحالة: «بأنها روح تشعر بالهناء والتصالح مع نفسها»، وذلك نقيض الاكتئاب الجزئي [الذي يصاحبه الشعور بالضيق وعدم الرضا عن النفس]. ويرى جاكي بيجو أن سوائية المزاج تمثل ذروة تقدم الفلسفة نحو الطب. في الرواية الفلسفية «رسائل إلى أبقراط»، يجيب ديموقريطوس أبقراط قائلا: «إن المعرفة الفلسفية هي بمنزلة أخت الطب ويعيش الاثنان تحت سقف واحد»؛ فالفلسفة تخلص الروح من الأهواء، بينما الطب يخلص الجسم من الأمراض. بيد أن الطبيب يعد أهم من الفيلسوف؛ لأن صحة الجسد هي الشرط الأساسي لصحة الروح.
الفصل الثالث
التراث الأبقراطي
وأخيرا جاء أبقراط، شعرنا برغبة في صياغة الجملة على هذا النحو، حتى وإن لم تكن دقيقة من الناحية التاريخية. لقد عاش أبقراط، الذي لقب ب «أبو الطب» في الفترة ما بين سنة 460 و377 قبل الميلاد تقريبا. درس أبقراط - الذي ربما كان ابنا لأحد كهنة الإله أسكليبيوس - مع ديموقريطوس وجورجياس، ثم سافر عبر اليونان وآسيا الصغرى قبل أن يستقر في جزيرة كوس، موطنه الأصلي حيث مارس هناك الطب قبل أبقراط. ولكن قبل أبقراط، كان بعض الكهنة الأطباء وبعض الفلاسفة يدرسون الطب. وكانت توجد مسبقا مدونة بأسماء الأمراض والمصطلحات الطبية. وتمت بالفعل الإشارة في هذا الطب القديم إلى دور السوداء في بعض الأمراض. وقد ورد ذكر المرة السوداء وارتباطها بالجنون في أعمال المؤلف المسرحي أريستوفان؛ أي في المجال الاجتماعي والشعبي. وقد استبعد ديموقريطوس وأعضاء المدرسة الطبية بمدينة كروتوني فكرة تدخل الآلهة في تفسير ما يحدث في الكون والطبيعة. وبينما كان أبقراط لا يزال طفلا، وضع إيمبيدوكليس نظرية العناصر الأربعة (التي غالبا ما تنسب إلى أبقراط). ومن الجدير بالذكر أن إيمبيدوكليس نفسه قد استلهم هذه النظرية من فيثاغورث.
بالطبع، تشبع أبقراط بهذه الروح العلمية، فاستقر بداية في جزيرة كوس لتلقي العلم. «يذكر، نقلا عن إسترابون، أن أبقراط قد تدرب بشكل خاص على ممارسة الطب عن طريق دراسة قصص معالجة الأمراض التي كانت محفوظة في معبد كوس.»
Bog aan la aqoon
ولكن، ما هي إذن الإنجازات التي ينسب الفضل فيها إلى أبقراط؟ يقول سيلسوس، الطبيب الروماني الذي عاش إبان حكم الإمبراطور أغسطس، والذي يعد أحد خلفاء أبقراط: إن هذا الأخير هو أول من فصل الطب عن الفلسفة. يعد هذا القول صحيحا ولكن به شيء من المبالغة، هذا إن أغفلنا المؤلفات السابقة مثل «الحكم الكنيديسية»، أو تأملات سقراط الذي كان معاصرا لأبقراط وقام أيضا بالفصل بين الطب والفلسفة. ومن جهة أخرى، ليس في الإمكان تجريد أبقراط تماما من لقب ذي وقع جميل؛ وهو لقب «فيلسوف»، عند قراءة إحدى الجمل التي كتبها في مؤلفه «الفصول» كما يلي: «العمر قصير، والصناعة طويلة، والوقت ضيق، والتجربة خطر، والقضاء عسر.»
ناموس الطب لأبقراط
ماذا عن أبقراط والطب؟ نال أبقراط شهرة واسعة في حياته واشتهر بالأكثر بعد مماته؛ لدرجة يصعب معها في أغلب الأحيان التمييز بين ما هو حقيقي وأصلي، وما هو خرافي وأسطوري. وتكمن ميزته الأساسية في كونه مؤلف 76 مقالة بحثية، جميعها تحمل اسمه، سواء أكانت مكتوبة بواسطته أم منسوبة إليه. وتجمع هذه البحوث كل المعارف الطبية التي وصلت إلينا نقلا عن مدرسة كوس. إضافة إلى كون أبقراط مؤسس الطب، فهو أيضا مشرع المبادئ الأخلاقية لهذا العلم. ما الذي يقدمه لنا ناموس الطب لأبقراط؟ يركز هذا الكتاب على العلاج ومتابعة تقدم المرض، مع التشديد على أهمية الملاحظة، وهي الكلمة الرئيسة، وتنحية الفرضيات جانبا. فلا بد من دراسة الوقائع وإدراك الروابط الموجودة بينها وبين أي شيء، بدءا بالتغذية (حيث إن أنواع الاضطرابات كافة إنما تنتج عن نظام غذائي سيئ). وهكذا أصبحت دراسة مسببات الأمراض أمرا بالغ الأهمية.
ترتكز الفسيولوجيا الأبقراطية بشكل كامل على نظرية الأخلاط البشرية التي تتمازج وتتغير داخل الجسم البشري، سواء في حالة الصحة أو في المرض. ما المقصود بهذه الأخلاط؟ يبلغ عددها أربعة، وهي: البلغم، والدم، والسوداء (المرة السوداء، ويقصد بها الدم المتخثر من الطحال)، والصفراء (عصارة المرارة)؛ ويقابلها أربعة أعضاء في الجسم وهي على التوالي: المخ، والقلب، والطحال، والكبد؛ بالإضافة إلى ارتباطها بأربع طبائع، وهي: البلغمي والدموي والسوداوي والصفراوي (المزاج الغضوب). كما أن هذه الأخلاط الأربعة تتوافق مع العناصر الأربعة (الماء، والهواء، والتراب، والنار)، وأيضا مع الخصائص الأربع (البارد، والرطب، والحار، واليابس)، وهي تلك النظرية التي كان منشؤها فلسفة إيمبيدوكليس. ويعتبر توازن الأخلاط شرطا أساسيا للتمتع بصحة جيدة، وذلك عن طريق الغلي [التسوية]: «التعرض للغلي يعني امتزاج الأخلاط بحيث يلطف بعضها بعضا وتسوى معا لتستعيد توازنها.» وحدوث اختلال في توازن الأخلاط من شأنه إصابة الجسم بالمرض.
تشكل المعرفة التي يملكها الطبيب أفضل ضمانة للمريض، ولكن «الطبيعة هي من تقوم بشفاء السقيم.» هذا بالإضافة إلى ذلك التحفظ الذي يعد أحد أعمدة أخلاقيات مهنة الطب: «إذا لم تستطع فعل الخير، فأقله لا تفعل الشر.»
وماذا عن الجنون في كل ما سبق؟ ورد ذكر الاضطرابات العقلية ضمن أربعين مرضا داخليا آخر في ناموس أبقراط الطبي كما يلي: التهاب الدماغ (أو الاهتياج)، الصرع، الهوس، السوداوية، داء الكلب أو السعار، و«الاختناق الرحمي» (أو الهستيريا). يظل التهاب الدماغ ممثلا للهذيان الكلاسيكي الحاد أو الجنون الحاد المصاحب للحمى. ويعد جنون النفاس (ظهرت هذه الكلمة في أواخر القرن الثامن عشر)، على سبيل المثال، أحد أنواع الاهتياج.
وقد وردت دراسة أكثر حداثة حول مرض الصرع في البحث الذي يحمل عنوان «المرض المقدس». «لم يبد لي أن هذا المرض يمتاز بشيء أكثر ألوهية وأكثر قداسة عن سائر الأمراض الأخرى [...] يرجع ذلك دون أدنى شك إلى انعدام الخبرة وروعة هذا المرض؛ مما جعلنا ننظر إلى طبيعته وسبب الإصابة به وكأنهما مظهران لقوة إلهية. وفي الواقع، لم يكن هذا المرض يشبه أيا من الأمراض الأخرى.» كما أن «هناك أمراضا أخرى، ولا أحد يعتبرها مقدسة، لا تقل إبهارا وإثارة للخوف عن سواها [...] رأيت أناسا مصابين باختلال العقل والجنون، دون أي سبب ظاهر، يقومون بالعديد من الأفعال الطائشة وغير العقلانية.»
ويشدد أبقراط (أو المؤلف الأبقراطي) بأسلوب حاد ولاذع على الفكرة نفسها قائلا: «أرى أن أولئك الذين يقرنون داء الصرع بالألوهية ينتمون إلى تلك الفئة نفسها التي ينتمي إليها الدجالون المدعون، والسحرة، والمشعوذون، والمتزمتون دينيا؛ الذين يريدون إيهام الناس بأنهم يعقدون صفقات مع الآلهة وأنهم يعرفون عن هذه الأمور أكثر من سائر البشر جميعا. أمثال هؤلاء اتخذوا من الألوهية ستارا يخفون به قصورهم وعدم أهليتهم.» فبإمكاننا معالجة الصرع بشرط تخير الوسائل المفيدة، «دون الحاجة إلى عمليات التطهير والحيل السحرية وكل ذلك الدجل والشعوذة.»
وقد وصفت نوبة الصرع على النحو التالي: «يفقد المريض صوته ويختنق، ويخرج زبد من فمه، وتصر أسنانه، وتتشنج يداه، وتحول عيناه، ويفقد وعيه بالكامل.» وبإمكان المرضى أن يستشعروا دخولهم في نوبات الصرع. أما عن علاقة الصرع بالمخ، فهو أمر يمكن تبينه بشكل واضح: «المخ هو أساس الإصابة بهذا المرض، كما هي الحال بالنسبة إلى جميع الأمراض الحادة الأخرى.» مما سبق يتضح أن البحث المعنون «المرض المقدس» ليس مجرد دراسة بسيطة عن مرض الصرع، بل هو أكثر من ذلك؛ فمنبع كل شيء هو المخ: «لأننا به نفكر ونفهم ونرى ونسمع ونميز بين القبيح والجميل وبين الشر والخير [...] كما أن المخ هو مصدر إصابتنا بالجنون والهذيان.»
فنحن نهذي عندما يكون المخ غير سليم؛ تماشيا مع الاعتقاد بأن المخ يكون رطبا للغاية ومتحركا من مكانه (مثل تلك الفكرة المتعلقة بالرحم). «طالما كان المخ مستقرا [بمعنى ثابتا في موضعه]، يحتفظ الإنسان بوعيه.» لا بد كذلك أن نفرق بين تضرر المخ الناتج عن تأثره بالبلغم البارد؛ مما يؤدي إلى إصابة المرضى بحالات جنون تجعلهم مسالمين «لا يصرخون ولا يهتاجون»، وبين التضرر الناتج عن تعرض المخ لدرجة حرارة مرتفعة بفعل الصفراء؛ مما يؤدي إلى إصابة المرضى بحالات جنون تجعلهم «صارخين ومؤذين ودائمي الحركة ودائمي الانشغال بفعل أمر خاطئ أو بإحداث ضرر ما.»
Bog aan la aqoon
في انتظار حدوث تطورات واسعة فيما يتعلق بالسوداوية على يد خلفاء أبقراط، عرف هذا الأخير السوداوية باقتضاب في مؤلفه «الفصول» قائلا: «إذا استمر الشعور بالخوف والحزن لفترة طويلة، فإن ذلك يعني أن الإنسان مصاب بحالة من الكآبة.» وفيما يتعلق بالهوس، جرى التمييز بين نوعين في المؤلف الأبقراطي «النظام الغذائي»، وينتج كلا النوعين عن حدوث اختلال في توازن أحد عناصر المزاج المثالي؛ إما الماء وإما النار. فإذا كان السبب العنصر الأول، فنحن أمام «هوس المياه» الذي يصاحبه خمول وفزع وبكاء. أما إذا كان السبب العنصر الثاني، فنحن أمام «الهوس الناري» الذي يصاحبه السرعة والاندفاع المفرط.
ومما يثير الفضول، كما يوضح جاكي بيجو في إحدى دراساته،
1
أن أبقراط، الذي كان يرفض الفصل بين علم النفس المرضي (الباثولوجيا النفسية) والأخلاقيات في مؤلفه «المرض المقدس»؛ أقر هذا الفصل فيما يتعلق بالهوس: «الجنون
mania ، تلك الحالة التي يكون الإنسان فيها مغيبا عن العالم، يمكن تفاديها إذا قمنا بتصحيح الطبيعة»، ولكن إلى حد معين، خاصة أن النظام الغذائي (كما ورد في البحث الذي يحمل الاسم نفسه) «ليس بوسعه فعل شيء حيال حدة الطبع، والهدوء، والدهاء، والصدق، والأريحية، والرفق، وسوء القصد أو النية.» والخلاصة، أن الطبيب لا يستطيع شيئا إزاء الظواهر الأخلاقية.
ورد مرض «الاختناق الرحمي» (ولم تكن كلمة «هستيريا» قد ظهرت بعد)، في كتاب «أوجاع النساء»، حيث جرى التأكيد على الاعتقاد القائل بأن سبب الإصابة بهذا المرض يرجع إلى انتقال الرحم وتجوله داخل الجسم. كما جرت الإشارة إلى هذا المرض، الذي يعد غريبا تماما عن نظرية الأمزجة والأخلاط البشرية ومناقضا للحداثة التي تجلت في كتاب «المرض المقدس»، في ناموس الطب لأبقراط. يتعلق الأمر بوجه عام بطب الأمراض النسائية؛ ذلك أن انتقال الرحم داخل جسم المرأة لا يفسر فقط الإصابة ب «الاختناق الرحمي »، وإنما أيضا ببعض أمراض النساء الأخرى؛ فانتقال الرحم يمكن أن يؤثر على العديد من الأعضاء الأخرى؛ فإذا ضغط الرحم على القلب، يسبب الشعور بالقلق والانزعاج والضيق النفسي، والدوار وقيء العصارة الصفراوية. «وحينما يكون الرحم عند الكبد مما ينتج عنه حدوث الاختناق؛ يؤدي ذلك إلى انقلاب العين (ظهور بياض العين)، وتصبح المرأة باردة وشاحبة اللون في بعض الأحيان، وتصر أسنانها ويمتلئ فمها باللعاب، وتكون في هذه الحالة أشبه بالمصابين بنوبات الصرع.»
الخلفاء
يجدر أن نركز على الأهمية التي احتلتها عملية وضع المفاهيم، والتي تستحق أن نتوقف عندها لنتناولها بشيء من التفصيل، خاصة وأن هذه العملية ستشهد تطورا استثنائيا في مرحلة لاحقة ستستمر حتى أواخر القرن التاسع عشر. وهكذا، نجد اليوم مصطلحات مثل الهذيان والهوس والصرع والهستيريا والسوداوية لم تفقد تماما صداها، كما لم تفقد مضمونها الطبي.
ساد التقليد القديم وحده لما يقرب من ألف عام (من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي)، وشهدت هذه الفترة بزوغ العديد من المدارس، من بينها: المدرسة الدوجماتية، وهي أكثر المدارس التزاما بالتعليم الأبقراطي، وتوصي بدراسة التشريح والبحث باتباع التفكير المنطقي عن جوهر الأمراض ومسبباتها الكامنة. على النقيض، ظهرت المدرسة التجريبية التي ترفض البحث عن أسباب الأمراض وترى أن ما يهم فقط - في فن مداواة المرضى - هو التجربة، سواء أكانت مستندة إلى خبرة الطبيب الشخصية أم إلى التجارب والخبرات الجماعية المذكورة في المراجع الطبية. من هذا التناقض بين المدرستين السابقتين، برزت المدرسة الثالثة، التي انتشرت أفكارها في روما في أواخر القرن الأول الميلادي على يد سورانوس الأفسسي؛ وهي المدرسة المنهجية، التي ترى أن الجسم يتألف من مجموعة من الجزيئات دائمة الحركة. وقد تأثرت هذه المدرسة إلى حد ما بالمذهب الذري لأبيقور، كما قامت بدحض المذهب المرتكز على نظرية الأخلاط الأربعة. وفقا لهذه المدرسة، هناك قنوات تمر عبر الجسم ومن خلالها تتدفق النفحة (الهواء) أو الروح بالإضافة إلى سوائل الجسم. وتعتمد حالة الجسم سواء في الصحة أو في المرض على هذه الجزيئات، ومدى سهولة أو صعوبة تدفقها، وشكلها ... إلخ، كما تعتمد على وضع هذه القنوات داخل الجسم. ومؤسس هذه المدرسة هو أسكليبياديس البيثيني الذي عاش في (أواخر القرن الثاني قبل الميلاد)، وكان صديقا لشيشرون. ومن الجدير بالذكر أن مؤلفاته لم تصل إلينا، ولكنها حفظت ونقلت على يد الطبيب الروماني كاليوس.
تجدر الإشارة أيضا إلى المدرسة القائمة على الإيمان بمذهب النفحات، والتي كانت هي نفسها مناهضة للمدرسة المنهجية. فالنفحة أو الروح تسري داخل الجسم، ولكنها لا تجعله في صحة جيدة إلا إذا كان الضغط منتظما. هذا بالإضافة إلى بروز فئة تضم بعض كبار الأطباء الذين لم ينتموا إلى أي من هذه المدارس الطبية، والذين رفضوا التسليم بأي من المعتقدات السائدة وأخذوا منها فقط ما يناسبهم؛ ولذلك أطلق عليهم لقب «الاصطفائيين». نذكر من بين هؤلاء سيلسوس وأريتايوس من كبادوكيا في القرن الأول الميلادي، ومن بعدهم جالينوس في القرن الثاني الميلادي، وهو ثاني أعظم الأطباء في العصور القديمة بعد أبقراط. وقد شاع القول إن جالينوس كان معاديا لأفكار أبقراط (فإذا قال أبقراط «نعم»، قال جالينوس «لا»). يعد جالينوس بالأحرى خليفة أبقراط، كما أنه هو الذي أعاد إحياء نظرية الأخلاط والأمزجة البشرية.
Bog aan la aqoon