إهداء الكتاب
فيلكس سوارس
1 - أصل اليهود ونسبهم
2 - انتشار اليهود وتاريخهم
3 - موسى والخروج من مصر
4 - بعد الخروج
5 - ديانة اليهود وشريعتهم وفرقهم
6 - التلمود
7 - فرق اليهود
8 - بعض عوائد اليهود والموسيقى
9 - تراجم مشاهير اليهود
10 - الجمعيات عند اليهود
11 - رجال الدين
12 - أعيان اليهود في القطر المصري
13 - في نوابغ الإسرائيليين
14 - في الأمة الإسرائيلية
تقاريظ الكتاب
إهداء الكتاب
فيلكس سوارس
1 - أصل اليهود ونسبهم
2 - انتشار اليهود وتاريخهم
3 - موسى والخروج من مصر
4 - بعد الخروج
5 - ديانة اليهود وشريعتهم وفرقهم
6 - التلمود
7 - فرق اليهود
8 - بعض عوائد اليهود والموسيقى
9 - تراجم مشاهير اليهود
10 - الجمعيات عند اليهود
11 - رجال الدين
12 - أعيان اليهود في القطر المصري
13 - في نوابغ الإسرائيليين
14 - في الأمة الإسرائيلية
تقاريظ الكتاب
تاريخ الإسرائيليين
تاريخ الإسرائيليين
تأليف
شاهين مكاريوس
إهداء الكتاب
إلى جناب الفاضل الخواجه فيلكس سوارس المحترم
اعتاد الكتاب إهداء ما يطبعونه من مؤلفاتهم ومصنفاتهم إلى الذين يعتقدون فيهم النفع والفضل بما يأتونه من جليل الأعمال، ولما كان اعتقادي بكم مطابقا لما دونته في ترجمة حياتكم رأيت أن أهدي هذا المؤلف إليكم، وحسبه فخارا أنه تاريخ أمة أنتم من عظمائها، ألا وهي الأمة التي إذا ذكر رجال الفضل كان منها النوابغ في الدين والعلم والسياسة، وقد استوى منها الملوك على العروش، فعدلوا في الرعية أحقابا طوالا، وبارك الله حكمهم، وأنمى في أيامهم شعبهم، فطبقت شهرتهم الآفاق، وبلغوا ذرى المجد والفخار بأعمالهم الصالحة، ناهيك عمن نبغ منها من الفلاسفة العظام والشعراء المجيدين والمؤرخين المحققين والكتاب والمحسنين.
فقارئ هذا الكتاب يرى شعار الحق والأمانة والاجتهاد ممثلا في الأمة التي أنتم منها، فحري بي أن أهدي إلى جنابكم كتابي هذا لتقادم عهد الوداد بيننا؛ ولأني آنست في أعمالكم المجيدة النفع العام لسكان هذا القطر السعيد فتقبلوه تذكارا لفضلكم، واعترافا بجميلكم أدامكم الله.
شاهين مكاريوس
الخواجه فيلكس سوارس.
فيلكس سوارس
فيلكس سوارس، وأعني به الرجل الطائر الصيت والشهرة، صاحب الأيادي البيضاء في كل مأثرة ومبرة، مبتكر المشروعات العظيمة والشركات الجليلة والأعمال النافعة التي أفادت القطر المصري، وفتحت سبل الخير لألوف من الناس على اختلاف مللهم ومذاهبهم، بل هو نابغة الأقران الذين يشار إليهم بالبنان لجوده وسماحته وتواضعه ومكارم أخلاقه ومبراته حتى كنوه بأبي الفقراء، ولقبوه جامع الشمل، ومجير الأيتام، وجابر عثرات الكرام.
صاحب هذه الترجمة هو الخواجه فيلكس سوارس ابن المرحوم إسحاق سوارس من عائلة كريمة أثيلة في المجد، ولد في مصر في 26 طيبت سنة 5603 عبرية/29 ديسمبر سنة 1842 ميلادية، وتوفي والده سنة 1848 عن خمسة أولاد أكبرهم مردخ توفي سنة 1861، وتوفي أخوه يعقوب سنة 1865، ويوسف سنة 1900، وأختهم سنة 1902، أما شقيقه الهمام الوجيه الخواجه روفائيل سوارس فلا يزال بعون الله ساعده الأيمن في مشروعاته المشكورة، وعماده الأقوى في أعماله المبرورة، بالاشتراك مع حضرات الوجهاء الخواجات إخوان رولو الذين لخصنا شيئا من تاريخهم بغير هذا المكان.
ولم يكن صاحب الترجمة عند وفاة أبيه متجاوزا السادسة من عمره، فاعتنت به والدته المرحومة نظلة سوارس اعتناء عظيما فربته على أقوم المبادئ وأشرفها، وأشربته حب الفضيلة والتقوى والاعتماد على النفس، فشب وشاب عالي الهمة مقداما تزينه حكمة الكهول في سن الشباب وقوة الشباب وإقدامهم على جليل الأعمال في سن الكهولة، وأدخلته والدته إحدى المدارس لتلقي العلوم والمعارف، فأتقن اللغات العربية والفرنسوية والإيطالية، ثم تخرج على معلمين خصوصيين، فكانوا يعلمونه في منزله، وخرج بعد ذلك إلى معترك الحياة، فكأنه بدر ظهر من وراء غمام تدفعه الآمال السامية والأماني الشريفة وتتقد في صدره نار العزم والهمة.
وكان أخوه المرحوم مردخ يتعاطى التجارة مع المرحوم إبراهيم شماع والد حضرة الخواجه ماركتو شماع، فلما توفي سنة 1861 دخل خلفه صاحب الترجمة شريكا، وظل كذلك إلى سنة 1873، واقترن في تلك السنة بالسيدة ركيتا كريمة المرحوم أصلان بك قطاوي، وشقيقة حضرات يوسف بك أصلان قطاوي، والخواجات جاك وأدولف وإميل وإخوتهم أبناء أخي الوجيهين السريين موسى بك ويوسف بك قطاوي أنجال المرحوم يعقوب بك قطاوي، فرزق منها أربعة صبيان وخمس بنات.
وفي سنة 1872 شرع يظهر جواهر آماله الكبيرة، فشمر عن ساعد الهمة والإقدام، وباشر تأسيس أعماله العظيمة، فأسس في السنة المذكورة محلا اشترك فيه مع حضرات الخواجات أنريكو نحمان وشقيق حضرة قرينته الخواجه جاك قطاوي دعي باسم «محل سوارس ونحمان وشركائهم في مصر»، وفي سنة 1876 انضم إليهم الخواجات رولو، وبقي اسم المحل كما كان، وأنشئوا في تلك السنة محلا في الإسكندرية باسم «الخواجات روبين رولو وأولاده وشركائهم»، ثم أسس محلا في مصر سنة 1882 باسم «بيت إخوان سوارس وشركائهم»، مع إبقاء محل سوارس ونحمان في مصر على حاله، وحول سنة 1886 المحلين إلى محل واحد سماه «بيت إخوان سوارس وشركائهم»، وبقي محل الإسكندرية على حاله أيضا.
ولم يقتصر في أثناء ذلك على إنشاء المحلات التجارية، بل كان آخذا أيضا في تأسيس الشركات النافعة، فأسس سنة 1876 أول شركة في مصر على شكل بنك سماسرة سماها «الشركة الأهلية»، ولكنها انحلت سنة 1877 عند تصفية دين الحكومة المصرية بأرباح طائلة لجميع المساهمين فيها.
وأسس سنة 1880 مع شقيقه الخواجه روفائيل وشركائه البنك العقاري المصري الذي كان ولا يزال مورد خير لمصر وأهلها، ولا تزال أشغاله آخذة في النجاح عاما بعد عام، كما يرى الذي يروم الاطلاع على تاريخ إنشائه.
وسنة 1882 أنشأ فابريقة السكر بالحوامدية، ولكنها لم تبتدئ بالعمل إلا سنة 1883.
وأسس سنة 1888 شركة سكة حديد حلوان المشهورة.
وسنة 1890 أسس شركة سكة الحديد من أسيوط إلى جرجا، ومد الخطوط الحديدية من دمنهور إلى الرحمانية، ومن شبين الكوم إلى منوف، ومن الفيوم إلى سنورس، وهذه كلها سلمت إلى الحكومة المصرية بعد إتمامها.
وسنة 1891 اشترى تفتيش الشيخ فضل من الدائرة السنية، وسنة 1892 أنشأ شركة السكر وضم إليها فابريقة الحوامدية والشيخ فضل ونجع حمادي، ثم اشترى تفتيش البدرشين من مصلحة الدومين في سنة 1894.
وسنة 1895 أسس شركة ري الوجه القبلي وباعها فيما بعد لشركة السكر، ومدت السكة الحديدية من قنا إلى أسوان في السنة نفسها.
وسنة 1896 أسس شركة سكة حديد الشرقية الاقتصادية، وباعها بعد ذلك لشركة سكة حديد الدلتا.
وفي هذه السنة أنشأ الشركة العقارية، وضم إليها تفتيش البدرشين الذي كان من جملة أملاكه.
وسنة 1897 أسس شركة قومبانية المياه بطنطا.
وسنة 1898 أسس شركة الدائرة السنية التي اشترت أراضي الدائرة السنية كلها، وفي السنة عينها أسس شركة البنك الأهلي الذي تفرع عنه البنك الزراعي سنة 1902.
فظاهر مما تقدم أن تاريخ حياة هذا الرجل العالي الهمة كانت سلسلة أعمال عظيمة ومشروعات كبيرة تنوء تحتها الهمم والعزائم وتقل في جنبها الحيل والوسائل، ولكن همته كانت قوية وعزيمته شديدة ومداركه عالية، فاستطاع أن يتغلب على الصعوبات الكبيرة والموانع الكثيرة التي لا بد من وقوعها في كل عمل عظيم مثل أعماله العديدة، التي يشتغل بها ألوف من الناس على اختلاف مللهم ونحلهم في سائر أنحاء القطر المصري وفي السودان أيضا، وكان التوفيق مرافقا له في كل أعماله ومشروعاته وشركاته الكثيرة التي كان يديرها بعقله الراجح ومداركه السامية وذكائه المفرط؛ حتى نجحت نجاحا عظيما وجاءت بأرباح طائلة على القطر المصري وأهله، فغيرت حالة التجارة وحسنت المعاملات وسهلت المواصلات، وخففت المشقات عن التاجر والصانع والزارع على السواء.
ومما يطيب ذكره في هذا المقام أن معنى كلمة فيلكس بالعربية «سعد»، وهكذا خدم السعد صاحبها فوافق الاسم المسمى في كل أعماله وأفعاله.
أما مآثره ومبراته الخيرية، فمما يضيق المقام عن تعدادها، بل يقتضي لها مجلد ضخم، فمنها مساعدته لمستشفى الكلب بمصر وغيره وهو رئيس الشركة الخيرية الإيطالية وغيرها، وله مآثر غراء وأياد بيضاء على المدارس الخيرية الإسرائيلية وغيرها، ويكسو الفقراء كل سنة ويوزع عليهم الهبات، ما عدا الرواتب الشهرية التي يتبرع بها لعدد كبير من البيوت التي أخنى الدهر على أصحابها لينفقوها على معيشتهم ويصلحوا بها من شئونهم، فحسنت أحوالهم وطاب عيشهم ورتعوا في نعيم وهناء، كل ذلك بلا تمييز بين طوائفهم ومللهم.
قال لي مرة: إن كل مشروعاتي التي باشرتها كان الخير والربح منها ظاهرين أمامي للقطر المصري عموما، سواء كان في التجارة أو الصناعة أو الزراعة ومنها سكة حديد حلوان أنشأتها مع زملائي لخير مصر وحلوان وسكانهما ولاعتقادي أن هواء حلوان صحي وأن سكة الحديد تفيد الجميع، وتأتي بالغاية التي أرومها لمن يقصدها من السكان والسياح وغيرهم.
وتأخرت مرة في إحدى ليالي الشتاء الباردة في مصر، ثم أتيت محطة حلوان بعد نصف الليل قاصدا منزلي، فرأيت الخواجه فيلكس سوارس واقفا ينتظر القطار الآتي من حلوان ليطمئن باله عن صحة ركابه، فقلت له: يا خواجه سوارس، إن مصر في احتياج إليك وإلى مشروعاتك العظمى ومجيئك في مثل هذا الوقت قد يضر بصحتك، فأجابني إني جعلت صحتي وحياتي وقفا لراحة الجمهور، ولما جاء القطار ودعته وسافرت إلى حلوان وأنا أتعجب من عالي همته وشدة انتباهه ويقظته.
وكنت مرة أذكر له شيئا عن محفل بدر حلوان الماسوني ومشروعاته الخيرية الجزئية التي يباشرها، فاستأذنته في سفر بعض موظفيه ذهابا وإيابا بين مصر وحلوان فتبسم، وقال: يا صديقي العزيز، ما دامت وجهتك إلى الخير فهذه سكة حديد حلوان، وهذا قلبي وعواطفي وهذه بنوكي، وأنا مستعد لمساعدتك في كل ما تراه صالحا ومفيدا لبني الإنسان، فقلت له: إننا لا نريد إلا أن يطيل الله في عمرك لتعم مشروعاتك وأعمالك العظيمة وينتفع بها الجميع.
أما أوصافه، فطويل القامة قد وخطه الشيب، مهيب في رؤيته، لطيف في محادثته، بشوش في مقابلته، نحيف في جسمه، مؤثر في كلامه، شفوق في عواطفه، مندفع في مبراته، بخيل في سيئاته، مسرع في حسناته، جبان في الغضب، حليم في الشدة، شجاع في الخطوب، سريع النسيان في الذنوب، وهو كثير الافتكار عظيم الابتكار، قلما يمضي عليه وقت ولا يفتكر فيه في عمل عظيم، واسع الرواية، طلق المحيا، متواضع عن غير ضعف، ولم تكن ملذات العالم والغنى والجاه والسعد إلا لتزيده دعة ورقة وسماحة، فهو عظيم غني عالم فقير ناسك.
أما نظره إلى الأمور فحاد، ونظر العالم إليه فبالاحترام والوقار، وقد أنعمت عليه الدول العظمى بنياشين الشرف والافتخار، ولم تكن هذه أيضا إلا لتزيده تواضعا وحبا بفعل الخير، وكل الذين عاشروه وامتزجوا معه يشهدون برقة شعوره الشريف ومشاركتهم في عواطفهم، فهو يسر لسرورهم، ويحزن لحزنهم، والذين اشتغلوا معه سواء كانوا كبارا أو صغارا يشهدون أنه يضحي كل نفيس في سبيل سرورهم ولا يميز نفسه عنهم، وقلما رأوه يغضب أحدا أو يهين أحدا، أو يتعمد أذية إنسان، وكل مشكلة أو قضية أو خصام يحسمها بالمحبة والسلام كما هو مشهور عنه، أطال الله أيام حياته وأدامه عضدا للخير والإنسانية.
الفصل الأول
أصل اليهود ونسبهم
يذهب أكثر العلماء إلى أن البشر ينقسمون إلى أربعة فروع يمكن رد جميع طوائفهم وأجيالهم إليها، واعتمادهم في هذا التقسيم على الاختلافات الكائنة في الأوصاف الأدبية والعقلية والبدنية، وهذه الفروع الأربعة هي: القوقاسي والمنغولي والزنجي والملقي.
أما القوقاسي أو الأبيض فاسمه مشتق من جبال القوقاس الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزبين والموصلة أوروبا بآسيا، وهو الفرع المنتشر في أوروبا وأميركا والجزء الغربي من آسيا، والقسم الشمالي من أفريقيا وبعض أستراليا، وسنعود إلى الكلام عليه.
والمنغولي أو الأصفر يشمل سكان الصين واليابان وبورما وسيام وسهول سيبيريا، ومنه بعض الشعوب المنتشرة في شرق آسيا وجنوبها الشرقي، ومنهم الأتراك والمجر وأهل فنلاندا ولبلاندا والإسكيمو في أميركا.
والزنجي ومواطنه أفريقيا وأوصافه معروفة.
أما الملقي فيشمل سكان شبه جزيرة ملقا وما جاورها من الجزر وأهل مدغسكر ونيوزيلاندا وهنود أميركا الحمر.
ولا يخفى أن المعتبر من تاريخ البشر إنما هو تاريخ الفرع القوقاسي، إذ لم يكن لسائر الفروع بعض ما كان له من التأثير في العمران؛ ولأن المدنية مديونة له لا لغيره من الفروع الأخرى فيما صارت إليه، ويندرج تحته طوائف ثلاث كبيرة نأتي على ذكرها هنا وهي:
الآريون أو الهنود الأوروبيون.
الساميون.
الحاميون.
أما الآريون فأمم أوروبا القديمة والحديثة - إلا من ذكرنا بين المنغول - كاليونان واللاتين والتيوتون والجرمان بما فيهم الإنكليز والسلتيون والسلاف، وثلاثة من أمم آسيا أعني الهنود والفرس والأفغان.
والساميون يشتملون على العبرانيين أو اليهود والفينيقيين والآشوريين والعرب والبابليين والكلدانيين.
أما الحاميون فلم يشتهر منهم في التاريخ سوى المصريين القدماء.
ولا يخفي أن للساميين منزلة كبيرة في تاريخ العمران ومقام الهيئة الاجتماعية الحاضر، فمنهم اشتقت الأديان الثلاثة العظمى بين المتمدنين أعني اليهودية والنصرانية والإسلامية، فهم دعاتها والمنادون بها وعنهم اقتبسها غيرهم من الطوائف الآرية وما شاكلها.
فاليهود إذن قوقاسيون ساميون يرجع نسبهم إلى سام بن نوح، وقد كانوا أيام انبساط ظلهم في فلسطين يحافظون على أنسابهم ويدونونها في كتب تحفظ لهذه الغاية متبعين في تدوينها الأسباط فالعشائر فالبطون فالبيوت، فلما تفرقوا أيدي سبا فقدت هذه الكتب وضاعت أنسابهم، ومع ذلك فقد حفظوا كيانهم حيثما حلوا ولم يكثروا من الاختلاط بالأمم الأجنبية حولهم حتى لقد قيل: إن الذين استوطنوا أوروبا منهم منذ قرون كثيرة لا يزال لفظهم للغات الأوروبية يمتاز عن لفظ الأوروبيين لها حتى يومنا هذا.
1
ولا يخفى أن معظم تاريخ اليهود حتى خراب أورشليم مأخوذ عن التوراة، فهي خزانة تاريخهم وحكاية ما حل بهم من العبودية والظلم، وما أصابوه من العز والفوز والسؤدد، كما أنها كتاب وحيهم ومجموعة معتقدهم وشرائعهم الدينية والأدبية والمدنية، فالناظر في تاريخهم لا بد له أن يعتمد التوراة لاستخلاص أخبارهم، ثم يجد التمام فيما بقي من آثار الآشوريين والبابليين وغيرهم من الأمم التي عاصرتهم، وكان لها معهم وقائع واتصال وتجارة، هذه مصادر تاريخهم وأخبارهم إلى خراب أورشليم، أما بعد ذلك فهي متفرقة في تواريخ الأمم التي أقاموا بين ظهرانيها شعبا لا وطن له ولا بلاد، وأمة لم يبق لها الدهر من مزايا الأمم سوى آثارها وتذكار الماضي واعتقادها اعتقادا واحدا أين سارت وأيان حلت.
وأبو هذه الأمة
2
إبراهيم أو إبرام، والمعروف من أمره أنه وصل من بلاده فيما بين النهرين نحو القرن العشرين أو الحادي والعشرين قبل الميلاد، وجاء إلى أرض كنعان الواقعة جنوبي سوريا والمعروفة اليوم باسم فلسطين أو الأرض المقدسة، ولم تأت التوراة على السبب الصريح لمهاجرة إبراهيم أرض آبائه، وإنما يؤخذ مما جاء فيها في مواضع متفرقة، إنه فضل ذلك كي يعبد الله عملا بما أنزل عليه من الوحي، وهذا يطابق ما جاء في القرآن من أنه إنما غادر أهله وبلاده؛ لأنهم كانوا عبدة أصنام، وكان يعبد الله فخاصمهم وارتحل عنهم إلى حيث يبيت في مأمن منهم، وحيث تتسنى له عبادة الحق دون معارضة أو خصام، وكأنه أولئك البيورتان الذين ارتحلوا من إنكلترا وذهبوا إلى أميركا يطلبون فيها ملجأ لهم يكونون فيه، بحيث لا يخشون بطش أعدائهم ولا دسائس الذين يريدون بهم شرا فيحافظون على عقيدتهم وإيمانهم.
الفصل الثاني
انتشار اليهود وتاريخهم
(1) آباء اليهود الأولون
إبراهيم بن تارح، من نسل سام من سلالة حابر، ولد في أور الكلدانيين، وما زال هناك إلى أن أمره الله قائلا: انطلق من أرضك ومن عشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، وأنا أجعلك أمة كبيرة، فقام وأخذ ساراي امرأته وارتحل هو وأبوه تارح وبعض أفراد عائلته من أور يقصدون أرض كنعان فنزلوا في حاران (اسم مكان أو مدينة موقعها في الشمال الشرقي مما بين النهرين بين الفرات وخابور، ولا تزال معروفة باسمها القديم وموقعها على شاطئ نهر بليك نحو 50 ميلا من مصبه في الفرات، ويزعم الدكتور بيك أنها حاران الحديثة بجانب بحر العتيبة بقرب دمشق)، وما زال إبراهيم ومن معه في حاران إلى أن مات تارح، فمضى حينئذ على هجرته إلى أرض كنعان فوصل إلى شكيم، وهي من أقدم مدن فلسطين (هي سوخار واسمها اليوم نابلس وعدد أهلها 9000 نفس).
وحدث جوع شديد في الأرض فاضطر إبراهيم أن ينحدر إلى مصر، وكان له مع فرعون ملكها وقائع لا موضع لإثباتها هنا، ثم عاد إلى أرض كنعان، وكان لوط ابن أخيه معه في رحلته هذه، فأصاب من غنى عمه بسهم وافر أيضا، ثم وقع نزاع بين رعاتهما أدى إلى انفصالهما، فاختار لوط أن يرتحل إلى سهل الأردن المخصب، حيث كانت سدوم وعمورة، وسار إبراهيم إلى أرض حبرون (وهي اليوم الخليل)، وحدث بعد هذا أن بعض ملوك البلدان الواقعة على الفرات أغاروا على مدن سهل الأردن فأخذوا سدوم وأسر لوط مع أهل بيته، فلما بلغ الخبر إبراهيم سلح غلمانه ثلاثمائة وثماني عشرة نفسا، وكبسهم ليلا هو وعبيده فكسرهم، واسترجع لوطا وأملاكه ونساءه وجميع الأسرى، وكل ما كان لهم، وأبى أن يأخذ لنفسه شيئا من الغنيمة جزاء لأتعابه، وفيما كان راجعا من ساحة الحرب التقى بملكي صادق ملك ساليم فأعطاه عشرا من كل شيء من الغنيمة.
1
وكان لإبراهيم ولد من جاريته هاجر اسمه إسماعيل رزقه قبل ابنه الآخر إسحاق من زوجته سارة، وقد جاء في التوراة أن إسماعيل هذا هو أبو أكثر قبائل البدو والرحل في الشرق والعرب ينتسبون إليه، فالعرب واليهود أبناء العم.
وعاد إبراهيم فتزوج في أخريات أيامه، فولد له عدة بنين وبنات، ومات وعمره مائة وخمس وسبعون سنة، وورثه ابنه إسحاق، وهو الجد الثاني لليهود.
ومن يمعن النظر في سيرة إبراهيم وأخلاقه وأفعاله، وينظر بينها وبين المشهود عن اليهود اليوم يتضح له شدة ما قاساه هذا الشعب من الضيق والاضطهاد والضغط الشديد، حتى تبدلت أخلاقه عما كان عليه أسلافه كإبراهيم ومن جاء بعده، ولا عجب في ذلك فثمرة الظلم والاستبداد والضغط واحدة في جميع الشعوب والأمم ولا تقتصر على اليهود، والتاريخ مشحون بحكايات ما آلت إليه أحوال الشعوب التي منيت بالظلم والاستعباد قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر، وإذا صح أن اليهود إخوة العرب أبطال الصحراء وصدقنا ما رواه المؤرخون عن بسالتهم التي أبدوها في حروبهم وحصار أورشليم وقمعهم ملوك سوريا من خلفاء الإسكندر، علمنا أن جزءا كبيرا من هذه التهم التي لصقت بهم في العصور المظلمة وظلت آثارها ظاهرة في عصرنا هذا إنما منشؤه الكره والحقد والتعصب الديني الأعمى، وسنعود إلى الكلام في هذا الشأن في بابه الخاص به.
وإسحاق لفظة عبرانية معناها «يضحك»، فلما ماتت والدته تزوج بابنة ابن عمه من بين النهرين وجاء بها إلى أرض كنعان، وولد له منها ابنان توأمان عيسو ويعقوب، وتوفي وله من العمر مائة وثمانون سنة.
ويعقوب ابنه هو جد اليهود الثالث، ولقبه إسرائيل وإليه ينتسب اليهود فيقولون: إسرائيليون، وفي أيامه انتقلت أسرته إلى مصر كما سيأتي.
وتزوج يعقوب من ابنتي خاله بعد أن أقام في خدمته أربع عشرة سنة، وولد له منهما ومن سريتيه أحد عشر ابنا وابنة واحدة وأحد أولاده يوسف الذي نقم عليه إخوته فباعوه من تجار مصريين، وهؤلاء جاءوا به إلى مصر، فكان في خدمة أحد موظفي حكومتها، ثم سجن ظلما وعدوانا، لكنه عاد فأطلق سراحه ودخل في خدمة فرعون حيث أصبح ثانيه في السلطة، وله حديث طويل مع إخوته ليس هذا محله، وأخيرا أرسل فأتى بأبيه وإخوته إلى مصر فأقطعهم فرعونها جزءا من الدلتا فاحتلوه وأقاموا هناك زمانا طويلا في عيش رغيد قائمين على رعاية السائمة والزراعة في بقعة من أخصب بقاع الأرض، لكن الزمان أبى إلا معاندتهم، فقلب لهم ظهر المجن إذ تغيرت الأسرة الحاكمة في مصر، وقام بعدها ملوك كرهوا الإسرائيليين فأذلوهم واستعبدوهم وسخروهم في بناء المدن والقصور وأصروا على قرضهم، فأمر فرعون بذبح الذكور من المولودين واستحياء الإناث، وفي ذلك العهد ولد موسى وتلطفت أمه في الحيلة حتى نجا من الموت، واتخذته ابنة فرعون ابنا لها فربته في قصر أبيها حتى شب فدرس علوم المصريين وحكمتهم وآدابهم حتى حذقها وبرع فيها.
2
الفصل الثالث
موسى والخروج من مصر
قضى الإسرائيليون في مصر نحو أربعمائة سنة ذاقوا في خلالها حلاوة رغد العيش وصفائه، وتجرعوا مرارة الذل والاستعباد، فبعد أن قبلهم الفراعنة على الرحب والسعة وأقطعوهم الأراضي الخصبة لهم ولمواشيهم عادوا فانتقضوا عليهم واستبدوا بهم وأقروا على قرضهم من مصر، فاتخذوا لذلك جميع الوسائل من مثل تشغيل الرجال بالأشغال الشاقة، وقتل الذكور من المولودين فيهم، ولا يعلم بالتأكيد أي الفراعنة بدأ بظلمهم والجور في معاملتهم، وإنما يظن كثيرون من علماء الكتاب أنه آمس (أموسس) الأول، وهو أول ملوك السلالة الثامنة عشرة، وقال بعضهم: بل هو رعمسيس الثاني (الملك الثالث من الأسرة التاسعة عشرة)، وهو سيزوستريس اليوناني صاحب الغزوات المشهورة والمباني الفخيمة.
ولما شب موسى ورأى ما يحيق ببني جنسه من الإرهاق والظلم وما يقاسونه من صنوف العذاب، ثارت في صدره النخوة الجنسية وهاجته العصبية إلى الانتصار لهم، فأخذ يطوف بينهم لعله يرى بابا للفرج، ورأى مرة أحد الوكلاء المصريين يضرب إسرائيليا ضربا مبرحا، فانتصر للإسرائيلي وقتل المصري، ولما شاع الأمر وخشي أن يناله عقاب القاتل، فر إلى أرض مديان، وهي في البرية واقعة عند خليج العقبة إلى طور سيناء، فتزوج فيها بابنة يثرون كاهن المكان، وأقام هناك أربعين سنة، وجاء في التوراة أن الله ظهر له في طور سيناء وأمره بالعودة إلى مصر لإنقاذ بني إسرائيل، وأظهر له من العجائب ما أثبت به قدرته وأتى إليه بأخيه هارون، فعاد الاثنان إلى مصر وبذلا جهدهما في إقناع فرعون؛ كي يأذن للإسرائيليين في الخروج من بلاده إلى حيث يعبدون إلههم، فلم يذعن لمطالبهما، وأخيرا أمرهما الله بأن يضربا مصر بالضربات العشر المشهورة، ففعلا حتى إذا ما عيل صبر المصريين أذن فرعون للإسرائيليين في مغادرة بلاده، فخرجوا منها وفيهم ستمائة ألف مقاتل ما عدا النساء والأولاد، ولما انفصلوا عن المصريين ندم هؤلاء على ما فرط منهم، إذ تركوا عبيدهم يفلتون من أيديهم فتبعوهم حتى أدركوهم على شاطئ البحر الأحمر، فخاف الإسرائيليون من المصريين لقرب عهدهم بظلمهم واستبدادهم، فشق الله البحر الأحمر وعبروا فيه على اليابسة، ولما حاول المصريون اللحاق بهم عاد البحر، فاتصلت أمواجه وطمت عليهم فأغرقت جيشهم.
1
ولم تنته علاقات الإسرائيليين بالمصريين عند الخروج، فإنه بعد قيام الملكية فيهم عادت المواصلات بين الفريقين، فكان بعضها حبيا سلميا، وبعضها حربيا عدائيا، فمن ذلك أن سليمان بن داود تحالف مع ملك مصر واتخذ ابنته زوجة له، ومنها أن المصريين غزوا أرض كنعان فأخضعوها وقتلوا أحد ملوك الإسرائيليين ثم عادوا مرة أخرى فأعانوهم على رد هجمات البابليين، هذا فضلا عن الروابط التجارية والصناعية التي كانت بين البلادين، كما ورد في أخبار ملوك بني إسرائيل، فقد كانوا يأتون بالخيل ونحوها من مصر، ويصنعون فيها المركبات، ثم إن مقام الإسرائيليين في مصر زمانا طويلا كالذي أشرنا إليه أثر في أخلاقهم وعاداتهم وأساليب معيشتهم، والظاهر أنهم تناولوا الشيء الكثير عن المصريين الذين كانوا في أوج مجدهم، ومنتهى عزهم وسؤددهم حتى كانوا أرقى الأمم المعروفة في ذلك العصر وأشهرها في العلوم والمعارف، وقد بدا شيء من هذا التأثير في الإسرائيليين أيام كانوا في البرية والتيه، كما يرى من مراجعة أخبارهم المدونة في سفر الخروج من التوراة.
الفصل الرابع
بعد الخروج
انتهى بنا الكلام في الفصل السابق إلى خروج الإسرائيليين من مصر على الأسلوب المذكور في التوراة، وقد كان تاريخهم إلى هذا الحد قصة أسرة صغيرة أخذت تنمو وتزداد حتى صارت قبيلة كبيرة لا كيان لها ولا حكومة منها ولا شارع أو وازع منها ينظر في أمورها ويرد قويها عن ضعيفها، متفرقة في أرض مصر، عرضة للعبودية والسخرة والاستبداد والإهانة، أما بعد الخروج فإنهم تألفوا شعبا واحدا وأمة واحدة، لها قائد من بنيها وجيش يقوم على حمايتها، وحاكم يتولى أمورها وشئونها، وأخذت تبدو فيها صفات الأمة المستقلة، فإنها لم تكد تغادر مصر حتى بدأ الشارع في سن النواميس والقوانين والشرائع الدينية والأدبية والمدنية، كما تكون في الأمة المستقلة القائمة بنفسها، وعليه فتاريخ الإسرائيليين لا يبتدئ حقيقة إلا بعد الخروج، وتاريخهم هذا يستغرق قرونا عديدة اتفق لهم في خلالها كثير من الحوادث العادية من حروب وتقدم وانحطاط وأصابهم شيء من الوقائع الكبيرة التي اتخذناها حدودا في قسمة تاريخهم إلى أقسام ستة يفصل القسم الواحد عن الآخر حادثة خطيرة من حوادث وجودهم:
القسم الأول:
من الخروج من مصر إلى تأسيس مملكة شاول، أي: من 1491-1905 قبل الميلاد، الموافقة سنة 2448 إلى سنة 2882 عبرية.
القسم الثاني:
من تأسيس المملكة إلى انقسامها إلى مملكتي يهوذا وإسرائيل من 1095-975ق.م، الموافقة سنة 2882 إلى سنة 2964 عبرية.
القسم الثالث:
من انقسام المملكتين إلى السبي إلى بابل، أي: سنة خراب بيت المقدس الأول من 975-588ق.م، الموافقة سنة 2964 إلى سنة 3338 عبرية.
القسم الرابع:
من السبي إلى بابل إلى الفتح الروماني، أي سنة بناء بيت المقدس ثانية 588-63ق.م، الموافقة سنة 3338 إلى سنة 3408.
القسم الخامس:
من الفتح الروماني إلى خراب أورشليم، أي: سنة خراب بيت المقدس الثاني 63ق.م-70 بعد الميلاد، الموافقة سنة 3408 إلى سنة 3828 عبرية.
القسم السادس:
من خراب أورشليم إلى عصرنا الحاضر، أي: من حين شقوا عصا الطاعة على الرومان، فأتاهم فسبسيان وابنه تيطس فأخربا أورشليم ودكا معاقلها وحصونها، ومزقا شمل اليهود كل ممزق، فتفرقوا في بلاد الله وانتشروا في أطراف الأرض. (1) القسم الأول
فلما خرج الإسرائيليون من مصر وعبروا البحر الأحمر ساروا في البرية الواقعة جنوبي فلسطين نحو أربعين سنة أنزل الله في خلالها الشريعة على موسى، فبين فيها كيفية عبادته وشرح لهم معاملاتهم وأعيادهم ومواسمهم وذبائحهم وتقدماتهم وأنواع الجرائم والذنوب والقصاص الذي ينال من يقترف هذه الذنوب والجرائم كما ستراه مفصلا في بابه، وأهم ما أنزل على موسى في طور سيناء الوصايا العشر التي يصح اتخاذها بمثابة دستور لعقائدهم وقاعدة لإيمانهم، وسنأتي على ذكرها في الكلام على ديانتهم.
وأصابهم في مدة تيههم هذا أمور ومحن كثيرة يضيق بنا المقام عن استيفائهما أخصها فناء الجيل الذي خرج من مصر إلا رجلين فقط وقيامهم على موسى وهارون أخيه يطلبون العودة إلى مصر واطراحهم عبادة الله والاستعاضة منها بعبادة الأوثان، فنزلت بهم الضربات والأمراض حتى تابوا، ولما صاروا على مقربة من أرض الموعد توفي موسى وعهد بالقيادة إلى يوشع بن نون غلامه، فدخل هذا بالإسرائيليين إلى أرض فلسطين من الجهة الشرقية وحارب الأمم المقيمة فيها، فغلبهم على ملكهم واستباحهم قتلا ونهبا وقسم أرضهم بين جزء من شعبه، ثم عبر الأردن وحارب من بقي من شعوب كنعان السبعة، فغلبهم أيضا، وهكذا حتى انتشر الإسرائيليون في أكثر الأرض واستعبدوا أهلها.
ولما مات يوشع تولى أمورهم قضاة منهم نشئوا فيهم واشتهروا بأعمالهم الحربية وبسالتهم، فكانوا يفصلون الخصومات بين الشعب أيام السلم ويتولون الأحكام ويدفعون عنه شر الغزاة الذين كانوا يغيرون على البلاد آونة بعد أخرى.
وبلغ عدد هؤلاء القضاة 15 أولهم عثنئيل الذي خلص الإسرائيليين من ملك آرام النهرين وآخرهم صموئيل الذي كان نبي الله وهو الذي خلصهم من قبضة الفلسطينيين، ومن أشهر هؤلاء القضاة أهود وشمجر وباراق وجدعون ويفتاح وشمشون الجبار، وسيأتي الكلام على بعضهم في ذكر مشاهير اليهود من الجبابرة وغيرهم، وكانت مدة حكم هؤلاء القضاة بعد موت يشوع 450 سنة كانت البلاد فيها أشبه شيء بولايات متحدة في كل ولاية سبط من الأسباط الاثني عشر يحكمه كبار العشائر فيه، وهذه الأسباط جميعا مرتبطة برباط واحد أعني به عبادة الإله الواحد والاتحاد معا في دفع العدو المفاجئ أو رد الغزاة، وكانوا يشتركون في الحفلات الدينية الكبرى على أنهم كثيرا ما ارتدوا عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، وفي التوراة أن ذلك كان سببا لتسلط الأجانب عليهم، فكان لهم من قضاتهم هؤلاء قواد يلمون شعثهم ويجمعون شملهم ويسيرون بهم إلى الحرب، فيطردون الأجانب ويطهرون البلاد من الأرجاس والأدناس، ولم يكن لهم شيء من امتيازات الملوك ولا أبهتهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها عادوا إلى بيوتهم وعاد الشعب كل إلى مدينته أو قريته، ومن القضاة من انحصر عمله في رد غارة أو دفع عدو، ومنهم من تولى الحكم طول حياته لحكمة فيه وخبرة ميزتاه عن بني عصره، فاعترف له الإسرائيليون بالولاية وفرغوا إليه في فض مشاكلهم وحسم منازعاتهم فيقضي بينهم بحسب شريعة الله وبحسب ما يوحيه إليه التقليد والعقل السليم.
لكن هذا النمط من الحكومة كاد يؤدي إلى الفوضى، ولا سيما في أيام صموئيل، فإن ابنيه لم يكونا متخلقين بأخلاقه، فقام الشعب يطلب صموئيل باختيار ملك يضم شتاتهم ويتولى أمورهم أسوة بالشعوب الأخرى المحيطة بهم فعارضهم صموئيل في بادئ الأمر وأفهمهم أن في الملكية استعبادا لهم ولبنيهم من بعدهم، وعدد لهم ما للملك من الحقوق والامتيازات التي ترفعه عن بني جنسه وتجعله في مصف آخر، فألحوا عليه بانتقاء ملك رغما عما أبداه لهم من النصح، ولا يبعد أن ما شاهدوه من أبهة الملك وزخرفه في الشعوب المحيطة بهم شوقهم إلى الاقتداء بهم وتمليك ملك عليهم، وظنوا أن في حصر السلطة في يد واحد منهم فوائد للأمة لا تحرزها إذا ظلت تلك السلطة متفرقة بين كثيرين ولا قاعدة لانتقالها من واحد إلى آخر، كما كان الأمر في أيام القضاة فلما أعيا صموئيل أمرهم جاراهم على هواهم، واختار لهم ملكا شاول بن قيس من سبط بنيامين، وكان طويل القامة حسن المنظر، فلقيه صموئيل وأخذ قنينة الدهن المقدس وصبها على رأسه ومسحه ملكا.
1 (2) القسم الثاني (2-1) الملوك
تأسست الملكية اليهودية سنة 1095ق .م، وانتهت بسبي اليهود وخلع صدقيا آخر ملوكهم سنة 588ق.م، فتكون مدتها 509 سنوات.
وبعد أن مسح صموئيل شاول وأقنعه أنه سيكون ملكا على إسرائيل ذهب إلى المصفاة، وهي مكان اجتماعهم العام وأرسل فدعا الشعب ليوافوه إليها، فلما اجتمعوا أعلن لهم اختياره شاول ملكا عليهم ثم أوقفه بينهم، فإذا به أطولهم قامة، ففرح به الشعب ونادوا به ملكا عليهم، ولم يطل به الأمر حتى ظفر بالعمونيين فتضاعف سرور الشعب به لذلك، وبالغوا في إكرامه وعيدوا عيدا لجلوسه ذبحوا فيه الذبائح وأقاموا الألعاب، وأمره الله أن يحارب العمالقة ووعده بأن يدفعهم إلى يده وأمره أن لا يبقي على أحد منهم، وأن يبيد جميع مواشيهم فحاربهم وانتصر عليهم، لكنه عفا عن ملكهم أجاج ولم يخرم الغنم والبقر والماشية، فغضب الله عليه ونزع منه الملك وأعطاه لداود.
ثم أصيب بالسويداء فتبدلت أخلاقه واستولت عليه الهموم والمخاوف، فأضاع رشده وحدث في أخريات أيامه أن الفلسطينيين جيران اليهود وأعداءهم الألداء جمعوا جيشا كثيفا وتقدموا يريدون غزاة الإسرائيليين، فلقيهم شاول بجموعه وهو يحسب لتلك الحرب ألف حساب ولما التحم الفريقان انكسر الإسرائيليون وقتل أبناء شاول الثلاثة وجرح جرحا بليغا، فلما خشي أن يقع في الأسر سقط على سيفه فمات، وانهزم الإسرائيليون شر هزيمة.
وبقي شاول ملكا إلى يوم قتله فحكمه منفردا دام سنتين فقط.
وتولى الملك بعده داود وهو النبي الشاعر والبطل الباسل صاحب جليات جبار الفلسطينيين الذي أذاق الإسرائيليين مرارة الذل وهو يدعو فرسانهم وجبابرتهم كل يوم إلى النزال، وقد ارتعدت فرائص الأبطال منه فنازله داود بمقلاعه ورماه بحجر فقتله به، ثم انقض عليه فاحتز رأسه وأنقذ الإسرائيليين، وصاهر شاول بعدئذ فتزوج ابنته، وخطب يوناثان ابن شاول وده فعاشا صديقين حميمين أو أخوين حبيبين حتى ضربت بصداقتهما الأمثال، ولما سقط يوناثان قتيلا رثاه داود بأرق المراثي وأشجاها وبكى عليه بكاء مرا، وملك داود سبع سنين ونصف سنة في حبرون (الخليل) على سبط يهوذا، ثم استولى على ما بقي من المملكة وحارب سكان أورشليم وهي بيت المقدس فقهر أهلها اليبوسيين، وامتلكها فجعلها عاصمة ملكه وبنى فيها المباني الفاخرة وشاد الحصون المنيعة، فصارت مباءة الأسرة المالكة ومركز عبادة اليهود، وهي مهوى أفئدتهم اليوم، كما أنها قبلة أنظار المسيحيين.
وحارب داود الأمم المجاورة لبلاده، فظفر بهم في جميع مواقعه، فعظم شأنه وانتشرت صولته وامتدت هيبته في البلاد وسعدت أرض إسرائيل في أيامه، ثم ثار عليه أحد أبنائه فحاربه داود وغلبه، وعقب ذلك فتنتان أخريان كان الظفر فيهما له، وقبل موته عهد بالملك إلى ابنه سليمان وأوصاه ببناء الهيكل وخلف بين يديه الأموال الطائلة والعدة الكثيرة لبنائه، وكانت مدة ملكه نحو إحدى وأربعين سنة، وعلى قمة جبل صهيون اليوم بناء يسمى قبر داود.
وكان شاعرا موسيقيا اتخذه شاول ضارب عود في بيته أيام أصيب بالسويداء، وقد نظم الجزء الأكبر من المزامير وهي آيات في البلاغة والبساطة والرقة، ولا تزال على قدم عهدها وكثرة المنظومات الدينية بعدها منتشرة بين اليهود والنصارى يكثرون من قراءتها، ويطربون لبلاغتها حتى إن بعض طوائف الإنجيليين لا يترنمون في معابدهم إلا بها.
وعقبه ابنه سليمان بويع له بالملك في حياة أبيه كما تقدم، وهو الملك الحكيم الذي ضربت بحكمته الأمثال، واشتهر اسمه في كل العصور والبلدان، حتى إن شهرته تفوق شهرة من غبر من الملوك والسلاطين ممن سبقه أو جاء بعده، وفي عصره اعتز شأن الإسرائيليين وامتد ملكهم من البحر الأحمر إلى نهر الفرات الكبير، وهابتهم الأمم المجاورة لهم، وتزوج سليمان ابنة فرعون كما تقدم، وعقد معاهدة مع حيرام ملك صور وبنى هيكله المشهور فاستجلب مشاهير الصناع والبنائين والنحاتين وأتى بالأرز من جبل لبنان، وأرسل سفنه في الآفاق تجوب البحار فبلغت ترشيش في جنوب إسبانيا، فجاءت منها بالذهب والفضة والعاج والطاووس وأتوا من أوفير
2
بالذهب والحجارة الكريمة والعطورات، وانتشر صيت سليمان في جميع الممالك والبلدان، وسارت بحكمته الركبان فأصبح حكم المشرق وأعظم سلاطينه، وجاءته ملكة سبأ من أقاصي اليمن لتخبر حكمته فرأت منه ما أذهلها وجاء الخبر فوق الخبر، وقد روى الرواة عنها وقائع لا محل لذكرها هنا، وكان سليمان حكيما شاعرا نطق بألوف من الأمثال التي تدل على مبلغ إدراكه وسمو معارفه وفرط بلاغته، وله من الشعر نشيد الإنشاد، وهو من أرق ما قيل في الغزل وسيأتي الكلام على حكمته وشعره في الفصل الخاص بذلك، وكانت مدة حكمه أربعين سنة ذاق فيها الإسرائيليون الهناء والرخاء، وكرعوا كئوس المسرات والنصر، ورزقوا السعد، حتى إن عصره ليحسب العصر الذهبي لأمتهم؛ لأن المملكة كانت في أشد عنفوانها مرهوبة الجانب، محترمة من الملوك والأمراء، وتقدمت الصنائع تقدما عظيما بما شاد سليمان من المباني الفاخرة كالهيكل والقصر والمدن الكثيرة والمعاقل والحصون، ولما زاد غنى الشعب المادي أخذوا بالاهتمام بالكماليات، كما يرى من مراجعة أخبارهم لذلك العهد على ما هو مدون في التوراة.
وتوفي سليمان سنة 975ق.م بعد أن حكم أربعين سنة وخلفه ابنه رحبعام فأبدى جهلا بأساليب السياسة وإدارة المملكة، وشدة في موضع الرخاء معتمدا على مشورة الأحداث من أتباعه وأهل بيته، نابذا مشورة الشيوخ ذوي الخبرة والحكمة، مما أدى إلى انقسام المملكة الذي كان من أعظم أسباب ضعفها وذلها، فانفصل عشرة من الأسباط عنه في مملكة دعوها مملكة إسرائيل عاصمتها في السامرة،
3
وظل سبطا يهوذا وبنيامين مع رحبعام باسم مملكة يهوذا عاصمتها أورشليم، وخسر الإسرائيليون ما كسبوه من البلدان المجاورة كبلاد العمونيين، وضعف شأن التجارة وانحطت الصناعة وارتد فريق كبير من الإسرائيليين عن عبادة الله إلى عبادة الأوثان.
وظلت مملكة إسرائيل في الوجود نحن مائتين وخمسين سنة تولى عرشها في خلالها 21 ملكا، وفي سنة 740ق.م، سبى تغلث فلأسر ملك آشور الأسباط الساكنة شرق الأردن، وهي رءوبين وجاد ومنسى، وفي سنة 721ق.م، غزا سرجون ملك آشور مملكة إسرائيل فاستولى على السامرة وسبى الأسباط الباقية وأجلاهم عن أوطانهم إلى ما وراء الفرات، وهكذا انقضى أجل تلك المملكة فلم يقم لها قائمة بعدها.
أما مملكة يهوذا فعاشت أكثر من أختها وتعاقب عليها 21 ملكا، فحاربها سنحاريب ملك آشور سنة 713ق.م، وارتد عنها خائبا بعد أن هلك أكثر جيشه ، ثم غزاها الآشوريون ثانية سنة 677ق.م، فتغلبوا عليها وأسروا الملك منسى ونقلوه إلى بابل، وفي سنة 610ق.م اجتاحها نخو فرعون مصر فظفر بجيوشها وقتل ملكها يوشيا، وكان اضمحلالها على يد نبوخذ نصر ملك بابل المشهور؛ فإن هذا الغازي جاءها سنة 606ق.م فاستولى على أورشليم وصارت مملكة يهوذا تؤدي له الجزية، ولكن الملك يهوياقيم ثار عليه، فأعاد عليهم الكرة سنة 599 وأجلى منهم عشرة آلاف أسير من أعيانهم وأشرافهم، وحمل كنوز الهيكل والبلاط الملوكي وتحفهما، ثم إن صدقيا ملك يهوذا ثار عليه سنة 593 فعيل صبره وعزم على خراب تلك البلاد فأتاها سنة 588، فأخذ أورشليم ونهبها وهدم أسوارها وأحرق الهيكل واستاق الشعب إلى الأسر في بابل، وظلت الأرض خرابا خمسين سنة، فكانت مدة مملكة يهوذا نحو أربعمائة سنة.
جدول: ملوك إسرائيل قبل انقسام المملكة ومن عاصرهم من ملوك الأمم الأخرى.
اسم الملك
مدة حكمه
من عاصره من ملوك الأمم الأخرى
تاريخ عبري
سنة قيامه قبل الميلاد
شاول
سنتان *
2882
1095
داود
40 سنة
2884
سليمان
40 سنة
رزون ملك سورية
2924
1000 *
بقي شاول ملكا أربعين سنة إلى يوم وفاته، ولكن الملك نزع منه بعد مسحه بسنتين وأعطي لداود، ولذلك حسبنا مدة ملكه سنتين فقط.
ملوك يهوذا بعد انقسام المملكة.
اسم الملك
مدة حكمه
تاريخ عبري
من عاصره من ملوك الأمم الأخرى
سنة قيامه قبل الميلاد
من سنة
إلى سنة
رحبعام
17 سنة
2964
2981
شيشق ملك مصر
975
ابياه
3 سنين
2981
2983
958
آسا
41 سنة
2983
3024
زارح الحبشي
955
يهوشافاط
25 سنة
3024
3047
914
يهورام
8 سنين
3047
3055
بنهدد الثاني
898
أخزيا
سنة واحدة
3055
3056
885
عثليا *
6 سنين
3056
3061
884
يوآش
40 سنة
3061
3100
878
امصيا
29 سنة
3100
3129
828
عوزياه †
52 سنة
3129
3167
810
يوثام
16 سنة
3167
3183
758
آحاز
16 سنة
3183
3199
رزون ملك أرام
741
حزقيا
29 سنة
3199
3228
سنحاريب ملك آشور
726
منسى
55 سنة
3228
3284
697
آمون
سنتان
3284
3285
642
يوشيا
31 سنة
3285
3316
فرعون نخو ملك مصر
640
يهوآحاز
3 أشهر
609
يهوياقيم
11 سنة
3316
3327
نبوخذ نصر ملك بابل
609
يهوياكين
3 أشهر
3327
نبوخذ نصر ملك بابل
598
صدقيا
11 سنة
3327
3338
نبوخذ نصر ملك بابل
598 *
هي المرأة الوحيدة التي اغتصبت الملك ولم تجلس ملكة غيرها من نساء اليهود. †
جلس عوزياه على كرسي الملك خمس عشرة سنة في حياة أبيه.
ملوك إسرائيل بعد انقسام المملكة.
اسم الملك
مدة حكمه
تاريخ عبري
من عاصره من ملوك الأمم الأخرى
سنة قيامه قبل الميلاد
من سنة
إلى سنة
يربعام
22 سنة
2964
2985
975
ناداب
سنتان
2985
2986
بعشا
24 سنة
2986
3009
بنهدد الأول ملك أرام
952
ايله
سنتان
3009
3010
930
زمري
7 أيام
929
تبني وعمري
5 سنين
3010
3014
929
عمري
7 سنين
3014
3020
929
أخآب
22 سنة
3021
3042
918
أحزيا
سنتان
3042
3043
898
يهورام
12 سنة
3043
3054
896
ياهو بن نمشي
28 سنة
3055
3083
حزائيل ملك أرام
884
يهوآحاز
17 سنة
3083
3098
856
بوآش
16 سنة
3098
3114
بنهدد الثالث ملك أرام
840
يربعام الثاني *
41 سنة
3114
3152
زكريا
6 أشهر
772
شلوم
شهر واحد
3154
772
منحيم
10 سنين
3154
3164
فول ملك آشور
771
فقحيا
سنتان
3164
3166
760
فقح بن رمليا
20 سنة
3166
3186
تغلث فلاسر ملك آشور
758
هوشع
9 سنين
3188
3196
شلمناصر وسنحاريب
729 *
جلس يربعام على عرش الملك ثلاث سنوات في حياة أبيه.
وقد اشتهر من ملوك إسرائيل يربعام الأول الذي تولى المملكة حين انقسامها، وأخآب بضعفه وشر زوجته إيزابل التي خلدت شرورها اسمها على أن ملوك يهوذا كانوا في الغالب أفضل من ملوك إسرائيل، وممن اشتهر منهم آسا ويهوشافاط ويوآش وآحاز وحزقيا ويوشيا، ولم يكن لهم نظام يتبعونه في وراثة الملك فقد كان الملك أحيانا يعين من يخلفه أو يولون ابنه البكر بعد وفاته أو أحد أفراد الأسرة المالكة، إلا إذا تغلب على بيت الملك أحد العامة، كما فعل ياهو، فإنه صار ملكا لإسرائيل بعد أن كان قائدا في الجيش.
وحدث بين المملكتين حروب ومنازعات كثيرة أثارها ما كان بين ملوكها من التنافس وعدم انتظام الملك في كليهما على اطراد، لكن أولئك الملوك كانوا في بعض الأحايين يتعاهدون ويسيرون معا بجيوشهم إلى الحرب على أن روح المنافسة لم يزل دأبا بينهم؛ لأن ملوك إسرائيل كانوا يخشون أن ترتد رعاياهم عنهم إلى ملوك يهوذا بذهابهم للعبادة في هيكل أورشليم، فاتخذ بعضهم جميع الوسائل لحملهم على اطراح تلك العادة، فكانوا تارة ينصبون لهم الأوثان ليعبدوها وطورا يمنعونهم عن تأدية فريضة العبادة جبرا، وهكذا تناثرت عرى الاتحاد والوئام بين الأسباط وازداد الشقاق، فكانت نتيجته ضعف المملكتين وتغلب الأعداء والغزاة عليهما الواحدة بعد الأخرى.
وفي ذلك العصر قام في إسرائيل ويهوذا الأنبياء المشهورون الذين صرفوا همهم إلى رد الشعب عن عبادة الأوثان وحضهم على حفظ ديانة آبائهم وأجدادهم، ومن أشهر هؤلاء الأنبياء إيليا الذي يسميه النصارى ماري إلياس واليشع وأخبارهما مدونة مع أخبار الملوك في التوراة وأشعيا وأرميا وغيرهما، وقد ترك هؤلاء مواعظ وآيات حكمية ونبوات خاصة بالشعب اليهودي وهي موجودة في كتبهم المعروفة بأسمائهم ويتألف منها أسفار النبوات في العهد القديم.
أما تاريخ الإسرائيليين في منفاهم مدة سبيهم فمأخوذ أكثره من أسفار عزرا ونحميا ودانيال الذين نالوا الحظوة التامة في عيون ملوك بابل حتى صاروا من أكابر موظفي تلك المملكة، ويؤخذ مما ورد في تلك الأسفار أن أكثر المسبيين تابعوا الكلدان في عاداتهم وتخلقوا بأخلاقهم إلا فريقا منهم أبى ترك شعائره وآدابه ودينه فحافظ عليها تحت خطر الحريق والقتل.
وتولى قورش ملك فارس سنة 537ق.م، فأصدر أمرا سنة 536 يأذن به لليهود بالعودة إلى بلادهم من أراد ذلك منهم، ومهد لهم سبيل الرجوع وسمح بإعادة بناء أورشليم والهيكل، فعاد نحو خمسين ألفا من المسبيين أكثرهم من سبطي بنيامين ويهوذا بقيادة زربابل ويشوع، وأخذوا معهم كثيرا من آنية الفضة والذهب التي كان نبوخذ نصر قد غنمها، وعين زربابل هذا واليا على اليهود، وصارت اليهودية ولاية من ولايات الفرس، وفي سنة 519ق.م ثبت داريوس هستاسب أمر قورش المذكور فتم بناء الهيكل سنة 515، واحتفل بتدشينه احتفالا باهرا، ومن ذلك الزمان يختفي ذكر الأسباط العشرة الأخرى، فمن عاد منهم إلى فلسطين اختلط بسبطي يهوذا وبنيامين، وفي ذلك الحين سمي الإسرائيليون يهودا، ودعيت بلادهم اليهودية.
4
وفي أيام ارتكزركسيس (لوغيامانس) الفارسي عاد جزء من اليهود المتغربين في بابل إلى بلادهم بقيادة عزرا، وذلك سنة 458ق.م، وظل عزرا هذا واليا على البلاد إلى سنة 445ق.م.
وجاء بعده نحميا فبنى أسوار أورشليم ورمم حصونها وأعاد إليها بعض رونقها القديم، وظل واليا إلى سنة 420ق.م، وفيها ينتهي تاريخ اليهود كما هو مدون في التوراة، أما ما بقي من ذلك التاريخ فمأخوذ عن مصادر أخرى وسنأتي على خلاصته.
ظلت اليهودية خاضعة لحكم الفرس من سنة 420 إلى سنة 332ق.م، يتولى أمورها الكاهن العظيم تحت مراقبة مرزبان سورية، فلما حارب الإسكندر الكبير المكدوني ملوك الفرس وغلبهم على ملكهم، واحتل سوريا وفلسطين صعد إلى أورشليم فاستقبله الشعب يتقدمهم الكاهن العظيم فأكرمهم إكراما زائدا، وأبدى احتراما للهيكل والمعبود لم يكن اليهود يحلمون به، وقد اطلعنا على غير حكاية واحدة لهذه الحادثة، فرأينا أن نثبت منها ما جاء للمؤرخ يوسيفوس الشهير قال:
وبعد أن فتح الإسكندر غزة صعد إلى أورشليم، فخاف يدوس الحبر الأعظم لما بلغه ذلك؛ لأن الإسكندر كان قد كتب إليه يستنجده وهو يحاصر صور فرد إليه الجواب أنه في طاعة داريوس ولا يستطيع أن يخونه ما دامت البلاد له، فأمر الشعب أن يتضرعوا إلى الله؛ لينقذهم منه، فأوحى الله إليه في حلم أن يتشجع ويزين المدينة ويفتح أبوابها، ويأمر سكانها بلبس الثياب البيضاء ويخرج هو والكهنة بلباس الكهنوت فلا ينالهم شر ...
ولما دنا الإسكندر من أورشليم خرج للقائه هو والكهنة وجمهور غفير من السكان حتى بلغوا المكان المسمى الصفا، فلما رآهم الإسكندر عن بعد وهم بالثياب البيضاء والكهنة بلباس الكهنوت ورئيسهم بحلة من الأرجوان والذهب وتاجه على رأسه وعليه صفيحة من الذهب فيها اسم الله دنا منه بنفسه وحيا اسم الجلالة ورئيس الكهنة، واجتمع اليهود حوله يحيونه، وصعد ملوك سورية مع الإسكندر، فلما رأوا منه ذلك حسبوا أنه أصيب بدخل في عقله ودنا منه القائد بارمنيون وسأله قائلا ما حدث حتى تسجد لرئيس كهنة اليهود مع أن الناس كلهم يسجدون لك، فقال: إني لم أسجد له بل للإله الذي جعله رئيسا لكهنته؛ لأنني رأيت هذا الرجل في حلم لابسا هذه الأثواب عينها لما كنت في مكدونية وكنت أفكر كيف أستولي على آسيا فحضني على الإسراع إليها، وقال: إنه يقود جنودي ويملكني ممالك فارس ولم أر أحدا قبل الآن لابسا مثل هذه الثياب، والآن رأيت هذا الرجل لابسا إياها، فأنا واثق بصدق الرؤيا التي رأيتها، وبأن جنودي تسير بالإرشاد الإلهي، وإني سأغلب داريوس وأستأصل مملكته ويتم كل شيء على حسب ما هو راسخ في ذهني، ولما قال ذلك أعطى يمينه لرئيس الكهنة ودخل معه المدينة وصعد إلى الهيكل، وقرب الذبائح لله حسب إرشاد رئيس الكهنة وأروه سفر دانيال، حيث قيل: إن واحدا من اليونان يخرب مملكة الفرس فسر بذلك حاسبا أنه هو الشخص المعني، وصرف الجمع ذلك اليوم ثم دعاهم في اليوم التالي وسألهم عما يطلبون منه، فطلب منه رئيس الكهنة أن يسمح لهم بالجري على سنن آبائهم، وأن يعفيهم من دفع الجزية كل سنة سابعة، فأجابه إلى ما طلب، وطلبوا منه أيضا أن يسمح لليهود الذين في بابل ومادي ليسيروا حسب سننهم، فوعدهم بذلك، ثم عرض عليهم أن يتجندوا في جيشه ويكونوا أحرارا في السير على سننهم، فانتظم كثيرون منهم في خدمته.
5
ولما مات الإسكندر في بابل سنة 323 انقسمت سلطنته بين أربعة من قواده، فكانت اليهودية من نصيب بطليموس ملك مصر فتولى البطالسة حكمها إلى سنة 202ق.م، وكانوا يستعملون الكاهن العظيم عليها. (2-2) البطالسة
يظن المؤرخون أن بطليموس الأول الذي تولى حكومة مصر بعد موت الإسكندر ابن غير شرعي لفيلبس المكدوني أبي الإسكندر، فلما مات الإسكندر أسرع إلى مصر فملكها ولم يكد عرشه يستقر فيها حتى اشتعلت نيران الحرب بينه وبين الملوك المجاورين له، ولما كان عالي الهمة مقداما عاجلهم وتغلب عليهم الواحد بعد الآخر، ففي سنة 320ق.م حارب ملك سورية وسلخ عنه فينيقية والبقاع، ثم هاجم أورشليم واستولى عليها في يوم سبت، ولكنه عامل اليهود معاملة حسنة وسبى منهم عددا كبيرا إلى مصر وأعطاهم مستعمرة يقيمون فيها، وجاء بعضهم إلى الإسكندرية، وكانت مدة حكمه من سنة 323ق.م-285ق.م، وهو الملقب سوتر، أي: المنقذ؛ وذلك لأنه رودس من يد ديمتريوس ابن ملك سورية التي نازلها، وكاد يستولي عليها فاتخذه الرودسيون إلها وعبدوه ولقبوه بهذا اللقب.
وعقبه ابنه بطليموس الثاني الملقب فيلادلفوس، أي: محب الأخ، قيل: لقب كذلك لأنه كان كلفا بأخته التي تزوجها بعد ترملها، وقيل: بل لقب كذلك على سبيل السخرية بعد أن قتل أخويه، وكان بطليموس الأول والثاني محبين للعلوم والمعارف، أخذا بنصرتها ومهدا لها سبيل التقدم وجمعا حولها خير الشعراء والفلاسفة والحكماء والرياضيين والفلكيين، وبطليموس الثاني هذا هو مؤسس مكتبة الإسكندرية المشهورة التي كان المؤرخون يتهمون العرب بحرقها بعد فتح مصر، وإليه ينسب الاهتمام في ترجمة التوراة إلى اليونانية الترجمة المعروفة بالسبعينية
6
على أن أكثر المؤرخين لا يعترفون بصحة هذه النسبة، ويلوح لنا أنه لما كان من أكبر أغراضه تأليف الشرق والغرب والجمع بين حكمة اليهود والفلسفة، ولما كانت الترجمة السبعينية مصرية لا ريب فيها اتفق المؤرخون على أنها تمت بإيعازه، وعلى كل حال فقد كان له تأثير عظيم في تاريخ الديانة اليهودية، وتولى حكومة مصر من سنة 285 إلى 247ق.م.
وعقبه ابنه بطليموس الثالث الملقب أفرجيتس، أي: المنعم سمي كذلك لأنه أعاد إلى المصريين التماثيل التي كان قمبيز قد سلبها من بلادهم يوم استولى عليها فلقبه المصريون بهذا اللقب، وفي غزوته هذه التي بلغ فيها بابل جاء إلى أورشليم ودخل الهيكل فقدم فيه الذبائح بحسب إرشاد الشريعة، وكانت مدة حكمه خمسا وعشرين سنة، أي: من سنة 247-222ق.م.
وعقبه بطليموس الرابع الملقب فليوباتر، أي: محب الوالدين، لقب كذلك من باب الهزء لقتله أمه وعمه وغيرهما من سلالته، وكان ضعيف العزم والإرادة سيئ السيرة قاسيا، قضى عمره في سفك الدم، وحارب ملك سورية فانتصر عليه، وجاء إلى أورشليم ليقدم ذبائح الحمد ففعل، ولما أراد أن يدخل قدس الأقداس عارضه الكاهن الأعظم فاستاء من ذلك، وقيل: إنه أصيب بالفالج عقابا له فلم ينس هذه المعارضة فأساء إلى اليهود واضطهدهم، وكان على قساوته وضعفه محبا للعلوم كأبيه وأجداده، وتعاقب على عرش مصر كثيرون من البطالسة، فساءت أحكام الأواخر منهم حتى أدى الأمر إلى مداخلة الرومانيين شيئا فشيئا إلى أن استولوا على مصر بأسرها، وانتهى ملك البطالسة بموت كليوباترا عشيقة قيصر وأنطونيوس على يد أوكتافيوس، أي: أغسطس قيصر ابن أخ يوليوس. (2-3) المكابيون
لما وقعت الحرب بين أنطيوخس الكبير ملك سورية وبطليموس الخامس ملك مصر تغلب أنطيوخس على اليهودية سنة 198ق.م، فخضع اليهود لحكمه فعاملهم بالتؤدة والحلم واحترم حقوقهم وفرائضهم الدينية، ودفع ما يجب لخدمة الهيكل فاستراحت البلاد فيما بقي من حكمه، وعفا اليهود من دفع الجزية ثلاث سنوات، ولكن ابنه أنطيوخس الذي قام بعده سنة 175ق.م ولقب نفسه أبيفانيس (أي: الشهير)، ولقبه غيره أبيمانيس (أي: المجنون) لكثرة إسرافه وشره لم يسر سير أبيه مع اليهود، بل أساء معاملتهم وباع وظيفة الحبر الصالح أونياس إلى أخيه الثالث المسمى يشوع بثلاث مائة وستين وزنة من الذهب يقدمها له خراجا كل سنة، فسمى يشوع نفسه ياسون، وأدخل بين قومه كل عادة ذميمة عند اليونان؛ لأنه كان مولعا بهم وأنشأ في أورشليم ملعبا وميدانا كان الشبان يتصارعون فيه عراة حسب عادة اليونان وزاد الكهنة والعامة فسادا في أيامه، حتى إنه بعث مع شبان اليهود تقدمة إلى هيكل صور يوم عيد الإله هرقل، وكان لياسون أخ ثان اسمه أونياس أيضا، فدعا نفسه منيلاوس، وهو اسم يوناني واشترى من أنطيوخس الرتبة الحبرية بستمائة وستين وزنة، ولما لم يكن عنده ما يكفي لوفاء ما تعهد به باع قسما من آنية الهيكل ودفعه إلى أنطيوخس فأحدث ذلك حزنا عظيما في الشعب واضطرابا شديدا بينهم، وعند غياب أنطيوخس في مصر سنة 170ق.م شاع أنه مات، فجاء ياسون أخو منيلاوس بألف جندي واستولى على أورشليم وقتل كثيرين وحاصر أخاه منيلاوس في البرج، ولكنه لم يستطع أن يتسلط على المدينة تسلطا تاما، وعاد أنطيوخس من مصر وعلم بما حدث، وأن اليهود سروا لما بلغهم خبر موته فهجم على أورشليم وقتل من أهلها أربعين ألفا وباع مثل ذلك عبيدا ممن ظن أنهم ليسوا من حزبه، وكان منيلاوس معه فأخذه إلى المقدس ونزع المذبح والمنارة وسلب الخزانة وكان فيها ألف وثمانمائة وزنة، واستخف بإله إسرائيل فدخل قدس الأقداس وقدم خنزيرة وقودا على المذبح.
وأقام فيلبس اليوناني أحد أراذل فروغية حاكما على اليهودية وأندرونيكس الفاحش رئيسا على السامرة وأعاد منيلاوس الجاهل كاهنا عظيما وسافر إلى أنطاكية.
وظل فيلبس يظلم اليهود حتى عاد أنطيوخس من مصر رابع مرة سنة 168ق.م، وصمم على الانتقام من اليهود؛ لأنه كان لا يزال حاقدا عليهم، فأرسل القائد أبولونيوس ومعه عسكر جرار فدخلوا أورشليم يوم السبت، بينما كان اليهود في الصلاة فقتلوا الرجال ونهبوا الأموال، واستعبدوا النساء والأولاد وأحرقوا البيوت وهدموا الأسوار واحتلوا برج صهيون، ولم يفلت من بين أيديهم إلا الذين هربوا إلى الجبال والمغاير وبنى هؤلاء الأشرار قلعة على جبل أكرا كانوا يشاهدون منها كل من يدنو من اليهود إلى الهيكل فيهجمون عليه ويقتلونه.
ولما وصل أنطيوخس إلى أنطاكية أصدر أمرا إلى سكان ممالكه للتدين بديانة اليونان، وكل من لا يمتثل أمره يعاقب أشد العقاب وبعث رجلا لئيما اسمه أثينيوس ليعلم اليهود طريقة عبادة الأصنام، فجاء أورشليم وأطاعه بعض ضعفاء اليهود وساعدوه فأبطل الذبيحة اليومية ومنع طاعة الدين الحق ودنس الهيكل بوضعه صنم زفس على مذبح الوقود وتقديمه الخنازير ذبائح له، وطغى فحرق ما وجده من نسخ التوراة، وأكره اليهود على عبادة الأصنام وعدم حفظ يوم السبت، ومنعهم من ختان أولادهم وتقديس كل شهر وفرائضه، وكان يقتل من يخالفه بعدما يذيقه من العذاب ألوانا، ولما علم أن امرأتين ختنتا ولديهما علق الوالدتين وعلق الطفلين بعنقيهما وأماتهما أشنع ميتة، ويروى عنه كثير من أمثال هذه الفظائع.
ولما عم البلاء وزاد شر أتباع أنطيوخس هرب من أورشليم جماعة من اليهود وفيهم متاثيا الكاهن، وكان شيخا جليلا من نسل يهوياريب الصالح من سبط لاوي، فجاء مع بنيه الخمسة: يوحنا وسيمون ويهوذا والعازر ويوناثان إلى وطنهم الأصلي مدينة مودين في بلاد الفلسطينيين، وكانت عائلة متاثيا تلقب بالحشمونية، فلما اشتهر ابنه يهوذا بشجاعته وحسن تدبيره غلب عليه لقب مكابيوس، فنسب إليه قومه فصاروا يسمون مكابيين إلى اليوم.
ولما كان متاثيا وأولاده في مودين تبعهم رجل من رؤساء أنطيوخس اسمه أبلس وبنى مذبحا للأوثان وأمر متاثيا وسكان مودين أن يمارسوا عبادة الأوثان ويذبحوا لها، وأطاعه بعض اليهود فغار متاثيا للرب إله السماء والأرض، وهجم بأولاده وقتلوا أبلس، والذي رام طاعته من اليهود وهدموا مذبح الأوثان وكسروا الأصنام، ونادوا بوجوب الدفاع عن شريعة الله الطاهرة، فانحاز إليهم كثيرون من أبناء ملتهم المشهورين بالغيرة والأمانة وفروا إلى الجبال، وكان ذلك سنة 168ق.م، ثم اتفق متاثيا مع أبناء وطنه ورجع بهم إلى اليهودية، فكسروا جميع مذابح الأوثان، واستأصلوا خدامها في كل المدن التي مروا بها وأعادوا الختان وعبادة الله الحقيقية سنة 167ق.م، وتقدم متاثيا في السن فأقام ابنه يهوذا خليفة له على الجنود اليهودية، فجاء يهوذا الباسل بقومه الأمناء وهاجم الأعداء على غير انتظار منهم، فانتصر عليهم وأبلى فيهم بلاء مرا، فاجتمع حوله اليهود الصادقون فدربهم على القتال ومقاومة الأعداء، وتشجع عسكره بعد هذه الغلبة حتى أتى الحرب جهارا، فالتقى بجنود أنطيوخس في بيت حورون فهزمهم شر هزيمة على قلة عدد رجاله.
ولما سمع أنطيوخس بما تم تميز غيظا وصمم على إهلاك اليهود، وجعل أورشليم مدفنا لهم وعين أحد قواده المسمى ليسياس وأصحبه بجيش جرار، فجاء هذا بأربعين ألف راجل وسبعة آلاف فارس أتى منهم نحو عشرين ألفا إلى عمواس بين يافا وأورشليم، وكان يهوذا (مكابيوس) في مصفاة ومعه نحو ستة آلاف مقاتل منهم، وبلغه أن فرقة من الأعداء جاءت لتكبسه فخاف رجاله ولم يبق معه سوى ثلاثة آلاف، فخطب فيهم قائلا: من كان خائفا فليرجع وشجعهم، وجاء بهم ليلا وكبس الأعداء في المحلة، فهزمهم إلى نواحي أشدود، ثم رجع فحارب الذين جاءوا ليبيتوه، وكانت قلوبهم قد هلعت لما علموا ما جرى برفاقهم في المحلة فهربوا تاركين أسرى كثيرين، وبينهم جماعة من النخاسين حضروا بمال كثير ليشتروا من يؤسر من اليهود، فغنم اليهود مالهم وباعوهم عبيدا.
ثم استولى اليهود على حصون جبل جلعاد المنيعة، وفي السنة التالية قهر يهوذا ليسياس نفسه في بيت صورا بين حبرون وأورشليم، وكان مع ليسياس نحو 60000 مقاتل فارتد منهزما، ثم استولى يهوذا على أورشليم سوى البرج، وطهر الهيكل وأقام الخدمة الدينية فيه لثلاث سنين منذ ألغاها أنطيوخس، وكان ذلك سنة 165ق.م، ولما أخذ بعض أمم المجاورة يضايقون من طالته أيديهم من اليهود شن يهوذا الغارة عليهم كالأدوميين وبني عمون فكسرهم وانتقم منهم، ثم سار في جيش إلى عبر الأردن وغلب السوريين في جلعاد، وأخضع البلاد بأسرها ونقل اليهود الساكنين فيها إلى اليهودية بغية حمايتهم، وفي أثناء ذلك بعث أخاه سيمون إلى الجليل ومعه نحو 3000 راجل فقهر العدو وخلص اليهود من ضيقاتهم، ولكن اليهود الذين في اليهودية انهزموا؛ لأنهم ناوشوا السوريين في غيبة يهوذا بغير أمره توهما أنهم قادرون على المحاربة دونه، لكن يهوذا عاد فغلب السوريين، ولا ريب في أن نجاح اليهود كان متوقفا على نباهة يهوذا وبأسه أكثر من غيره.
ومات أنطيوخس الرابع سنة 164ق.م بعدما أصيب بمرض مؤلم وانقضت حياته الأثيمة، فلما بلغ ذلك ليسياس نائبه نادى بملك ابنه الصغير الذي كان استودعه إياه أباه، وكان عمره 12 سنة ودعي أنطيوخس الخامس الملقب بيوباتور وأخذه ليسياس معه، وسار لنجدة السوريين المحصورين في برج أورشليم، وكان جيشه عظيما بلغ نحو مائة ألف راجل وعشرين ألف فارس، وكان فيه 32 فيلا هالت قلوب اليهود، واشتد القتال عند بيت صورا، وكان اليهود قليلين بالنسبة إلى الأعداء، لكنهم لم يجبنوا وأظهروا غاية البأس وأبرز العازر أخو يهوذا من الشجاعة ما يقصر عنه الوصف فإنه هاجم أحد الأفيال، ودخل تحت بطنه وطعنه بسيفه فقتله، لكن الفيل وقع عليه فقتله، ومع أن اليهود ثبتوا وأعجبوا في القتال لم يقدروا على قهر الأعداء لكثرة عددهم، فارتدوا إلى أورشليم وخضع بيت صورا للسوريين وتقدم ليسياس وحاصر أورشليم ولم يقدر على افتتاحها حتى سمع بقدوم فيلبس إلى أنطاكية وامتلاكها، فأراد ليسياس مصالحة اليهود؛ لكي يرجع إلى سورية فصالحوه إذ كانوا قد أشرفوا على الموت جوعا وعاهدهم ليسياس بأنه لا يضر بهم ويطلق لهم الحرية الدينية ففتحوا الأبواب فدخل السوريون ولم يقوموا بالعهد، فهدموا سور الهيكل وعينوا إنسانا يقال له: ألكيمس رئيس الكهنة على شرط أنه يخضع لهم.
ثم رجع ليسياس وأنطيوخس إلى أنطاكية وقتلا فيلبس وطردا جماعته ونجا ديمتريوس بن سلوقوس من رومية، فجاء إلى أنطاكية وقتل ليسياس وأنطيوخس الصغير سنة 162ق.م، وتولى الملك باسم ديمتريوس الأول ولقب بصوتير، ولما سمع الكيمس بذلك نزل إلى أنطاكية ليسالمه فحصل على ما أراد وأغوى ديمتريوس أن يوجه في صحبته قائدا يسمى بكديس في جيش جرار لمقاومة يهوذا في أورشليم، ولما لم ينجح بكديس عاد إلى أنطاكية فجهز ديمتريوس جيشا آخر في مقدمته رجل يسمى نيكانور ولاقاه يهوذا وقهره فلاذ القائد بالبرج في أورشليم، إذ كان في أيدي السوريين واستغاث بهم فأمدوه فخرج لمحاربة يهوذا، ولم يكن مع يهوذا سوى ألف راجل فاقتتلوا في أداسه في نواحي رمله، واشتد القتال على يهوذا، ولكن الله نصره فقتل نيكانور وكل من معه وأتي برأس القائد وعلق بسور في أورشليم، أما يهوذا فشاع صيته وطلب معاهدة رومية يومئذ فأجابته وكتبت مشيختها إلى ولاتها وأعوانها أن يحترموا اليهود إلا أن ذلك لم يجد يهوذا نفعا؛ لأن كثيرين من حزبه حسبوا استغاثة الوثنيين حراما وإهانة لله، وقدم بكديس سنة 161ق.م، في نحو عشرين ألفا ولم يستطع يهوذا أن يحشد أكثر من 3000 مقاتل، ولما قرب القتال خرجوا عليه سوى 800 منهم، ومع ذلك لم يخف يهوذا ولحق العدو في نواحي أشدود وحمي وطيس القتال، وثبت اليهود وقتا طويلا، وكان آخر الأمر أن نادى يهوذا رجاله قائلا: قد حضر أجلنا فلنمت كالأبطال، فحملوا على ميمنة العدو، حيث بكديس نفسه وكسروه وطردوه، غير أن الميسرة دارت من خلفهم، ولما كانوا قليلين أحاط بهم العدو وقتل يهوذا وأكثر رجاله وانتصر السوريون ولم يكن لهم في ذلك فخر؛ فإن اليهود فاقوهم شجاعة وبأسا، ولا سيما يهوذا، فكان يستحق ما مدح به ليونداس بطل اليونان المشهور، وكان ذلك سنة 161ق.م.
وورد في التاريخ العبري أن متاثيا كان حيا لما بلغه خبر موت ابنه يهوذا، فلما رأى اضطراب باقي أبنائه وشعبه شجعهم قائلا: فقدتم واحدا ولكن أمامكم رجالا كثيرين يؤمل الفرج عن يديهم وانتصارهم على أعدائكم ، فاذهبوا إلى ساحة القتال غير وجلين ولا خائبين، وتوفي متاثيا بعد يهوذا بشيبة صالحة.
وتمكن بكديس من التسلط على أورشليم بعد موت يهوذا وظلم اليهود كثيرا، وثقل نيره عليهم حتى استصرخ اليهود إخوة يهوذا فأجابوا ولم يبق منهم غير يوناثان وسيمون، وقام الأول قائدا عوضا عن أخيه فحشد جيشا جديدا في البرية؛ لأنه لم يتجاسر أن يحارب جهارا كأخيه فأقام في مستنقعة قرب الأردن، ولما عرف بكديس بذلك أوقع باليهود في يوم سبت لظنه أنهم لا يقاومونه يومئذ، فحرض يوناثان قومه على أشد قتال ففعلوا وقتلوا أكثر من ألف من الأعداء، ثم رموا بأنفسهم إلى النهر ونجوا إلى العبر ورجع بكديس إلى أورشليم خاسرا، ولما لم ير نجاحا ترك البلاد مدة، لكنه رجع بعد ذلك، وكان الفريقان يقتلان ويغزوان كل ما تيسر لهما، وبذل بكديس جهده في أن يتمكن من يوناثان ولم يستطع ولا أن يخضعه، فمل من الحرب وقطع معه عهدا أنه لا يقلق اليهود بعد فعاد إلى بلاده سنة 158ق.م ولم يرجع، وكان إيناس الحبر في مصر فاتخذ يوناثان الوظيفة الكهنوتية في أورشليم مع منصب السياسة.
وحصل اليهود على السلام نحو ست سنين بعد ذلك وحكم يوناثان بالاستقامة وأصلح ما أمكن من الأمور، ثم وقع الخصام بين ديمتريوس وإسكندر بالاس
7
في ملك سورية، وتسابق الفريقان في أن يحزب يوناثان معهما، فأطلق ديمتريوس اليهود المسجونين في البرج ورفع جانبا عظيما من الجزية، وقدم شيئا كثيرا لخدمة الهيكل، وأما إسكندر فعين يوناثان رئيس الكهنة مكان الكيمس الذي كان قد مات فقبل يوناثان واتفق مع إسكندر، ولما غلب هذا سنة 150ق.م، عظم شأن يوناثان وصار رئيس اليهود الديني والسياسي وأحسن السيرة ونجح، ولما استؤنف الخصام في مملكة سورية سنة 147ق.م، وساءت سيرة إسكندر بالاس، ومات ديمتريوس تولى ابنه ديمتريوس الثاني سنة 146ق.م، وطرد إسكندر من الملك، ثبت يوناثان فيما كان عليه، مع أنه كان حليف إسكندر سابقا، وسنة 145ق.م شرع يحاصر البرج على جبل صهيون الذي بقي كل هذه السنين بيد العدو ومكنهم من التسلط على المدينة ونهبها، ولما لم يقدر على افتتاحه عنوة سوره وسد على من فيه وبقي الحصار نحو ثلاث سنوات.
ثم انقلبت الأمور في سورية، وقام تريفون الذي اغتصب سرير الشام وطرد ديمتريوس الثاني، وأقام مقامه أنطيوخس السادس وهو ولد صغير لإسكندر بالاس وصالح يوناثان، ولكن لما أراد تريفون هذا عزل أنطيوخس ابن سيده واغتصاب الملك عمد إلى إهلاك يوناثان لئلا يقاومه؛ لأنه كان يعتقد أن يوناثان محب لأنطيوخس فأتى إلى بطلمايس (أي: عكا)، ودعا يوناثان للمشاورة، فلما جاء قبض عليه وقتله سنة 144ق.م، وأراد قتل أخيه سيمون أيضا، لكنه نجا فرجع تريفون، وأما سيمون فأخذ جثة أخيه ودفنها في مودين، حيث دفن جميع إخوته وبنى عليهم ضريحا فاخرا وخاطب قومه قائلا: لقد علمتم كل ما عملناه أنا وإخوتي بعد وفاة أبينا، وهو مخاطرتنا بأنفسنا في ساحة الحرب غيرة على شريعة الله الطاهرة ودفاعا عن بيت مقدسه، وقد قتل جميع إخوتي وبقيت الوحيد في بيت أبي وحاشا لي أن أمتنع عن الحرب والدفاع بكل قوتي لخلاص نسائكم وأولادكم من الأمم التي تروم إهلاكنا واستعبادنا، والآن يا إخوتي وشعبي اسمعوا كلامي وانهضوا معي إلى مقاومة الأعداء، ويقيني أن الله الذي نتكل عليه ينصرنا على مقاومينا.
ثم سد مسد يوناثان في الرئاسة وشدد الحصار على البرج، ولم يكف عنه حتى افتتحه سنة 142ق.م، وهدمه ودكه دكا، ونزع شيئا من الصخرة من تحته؛ لئلا تصير أساسا لبرج بعده، فإنهم احتملوا به شدائد لا توصف، ثم قوى أسوار المدينة، ولا سيما الأسوار المحيطة بالهيكل لكي يصير حصنا منيعا، وأحسن سيمون السياسة وحصل اليهود بعنايته على استقلالهم، فيؤرخ ملكهم من السنة الأولى لسيمون سنة 143ق.م، وتمتع الناس مدة بالسلام بعد أن تضايقوا من أعدائهم سنين كثيرة, واحتملوا مشقات لا مزيد عليها.
ولما ازداد عتو تريفون اغتصب الملك من أنطيوخس السادس وعزله، وكان قد ملك أنطيوخس السابع أخو ديمتريوس فاتفق مع كليوباترا وحاربا تريفون فقتلاه .
وأراد أنطيوخس هذا إضافة اليهود إلى مملكته فبعث إليهم جيشا هزمه ابنا سيمون، فلم يعد أنطيوخس يغزو اليهودية مدة حياة سيمون، فإنه كان قد غلظ أمره كثيرا وجدد المعاهدة مع رومية وحالف السبرطيين، لكن بطليموس زوج ابنته المدعو بالعبرية تلماي صاحب أريحا دعا سيمون وبنيه إلى وليمة، ثم قام على سيمون وقتله هو وابناه يهوذا ومتاثياس غدرا، وكانت غايته أن يبيد كل نسله، إلا أن مقصده لم يتم إذ كان يوحنا أحد بنيه غائبا، فإنه لما علم أن تلماي يروم قتله هرب إلى بلد في الجبال أهلها يكرهون تلماي، وتبعه تلماي اللئيم راغبا قتله، فدافع أهل البلد عنه وطردوا تلماي، ورجع يوحنا بعد ذلك فتولى الملك بعد سيمون سنة 135ق.م.
وكان يوحنا يلقب بهركانس، ولما استقام له الأمر سار بجيش إلى أريحا للانتقام من بطليموس اللئيم وتخليص أمه وإخوته منه، فنازل المدينة، ولما تضايق بطليموس أخرج الأم وبنيها وأوقفهم على السور، وصرح بأنه يطرحهم إلى أسفل إن لم يكف هركانس عنه، فنادته أمه وحثته أن يبقى على ما كان عليه إلى أن ينتقم من المذنب ولو هلكت هي وبنوها، لكن هركانس كره أن يكون سبب هلاك أحبائه فانصرف، فلما علم بطليموس بالفرج قتلهم جميعا وهرب.
ثم شرع أنطيوخس السابع يخضع اليهود وحاصر أورشليم محاصرة شديدة، ولم يقدر أن يفتتحها لقوة أسوارها ونشاط أهلها، وفي أثناء ذلك كان عيد المظال لليهود فطلب هركانس فترة سبعة أيام فيه فسمح بذلك أنطيوخس وقدم له ذبيحة من ثيران كسيت قرونها بالذهب لتقديمها قربانا على مذبح الرب، وأوان من ذهب وفضة ثمينة مملوءة بخورا فأثر ذلك في هركانس وفي الشعب، وتحققوا أن أنطيوخس هذا ليس كأنطيوخس السالف الذي لم يحترم بيت الله ودنسه بتقديمه خنازير على المقدس، ورشه دمها وشحمها على جدران الهيكل وإبطاله التوراة، بل هو رجل يخاف الله فاتفقوا على أن هركانس يعترف بملك أنطيوخس ويؤدي الجزية عن بعض المدن، ويهدم أسوار أورشليم، ويقبل فيها حراسا من قبل أنطيوخس، غير أنه بدل هذا الشرط الأخير بتأدية 500 وزنة من الفضة، وتم ذلك سنة 133ق.م، لكنه بعد قليل نجا اليهود من يد ملك سورية، فإنه لما سار أنطيوخس إلى محاربة الفرثيين لتخليص أخيه ديمتريوس سنة 128ق.م سار هركانس في صحبته وتأخر عن جيش أنطيوخس حين هزيمته فعاد سالما وانتهز الفرصة لإعادة استقلاله ولم يخضع لملوك سورية لتشويش أمورهم، وكان ذلك سنة 128ق.م.
ولما انتظم لهركانس أمر المملكة عمد إلى إخضاع القبائل المجاورة، فاستولى على ما كان لبني إسرائيل من عبر الأردن وأوصل تخومه إلى البحر المتوسط، ثم أغار على الأدوميين الذين تعدوا على تخوم اليهودية الجنوبية وأجبرهم على الختان وسائر سنن اليهود ليزيل جنسيتهم، وكان اليهود قد احتملوا مشقات ثقيلة من تسلط دولة الأدوميين عليهم.
وأخضع هركانس السامريين وخرب هيكلهم على جبل جرزيم لمضي مائتي سنة بعد بنائه، وأراد بذلك إبادة تلك العبادة الفاسدة التي كان السامريون يعيرون اليهود بها، وحاصر مدينة السامرة وضايقها، فاستصرخ أهلها ملك سورية الذي أمدهم بجيش، فلما عرف بقدومه ابنا هركانس القائمان بحصار المدينة أسرعا إلى لقاء جيش السوريين وهزماه، ثم رجعا إلى السامرة فساءت حالها واشتد ضيقها فسلمت سنة 109ق.م فخربها هركانس وتركها بلقعا وضم أرضها إلى مملكته، وأضاف إليها الجليل، فصارت مملكة ذات شأن تكاد تكون كمملكة داود وزخرف هركانس أورشليم وحصنها وعظم شأنه كثيرا، لكنه حدث في أواخر ملكه مشاجرات أقلقته وانشقت بها الأمة بعد موته، وصدر ذلك الانشقاق من الفريسيين والصدوقيين، وكان هركانس من الفريسيين وهم فرقة شديدة التعصب والتمسك بفرائض الدين، وقد زادوا على ما رسم في التوراة شيئا كثيرا، وحدث ذات يوم أن هركانس أولم لأرباب تلك الشيعة، وفي أثناء سرورهم خاطبهم في شأن حكمه الديني والسياسي، وأبان لهم أنه طالما بذل جهده في نفع الأمة، وقال لهم: إن كان عليه شيء فليقدموه فأثنوا عليه ثناء حسنا، لكن أحدهم كان رجلا رديئا واسمه العازار نهض، وقال له: إن أردت أن تسلم من الغلط والعيب فاعتزل رتبة الكاهن الأعظم واكتف بالملك السياسي، فقال: ما سبب ذلك؟ قال: سمعنا من أجدادنا أن أمك كانت سبية في أيام أنطيوخس أبيفانيس وبحسب قواعد الشريعة غير مباح لك تقلد هذه الوظيفة، ثم تحقق أن والدته لم تكن سبية كما قال، وغضب على العازار وغضب الشعب عليه، وكانوا يريدون قتله على هذه الإشاعة الباطلة واغتاظ هركانس ومن معه من ذلك الافتراء الشنيع، غير أنه ظن أن ذلك لم يكن من المتكلم وحده، وأن الفريسيين هم الذين أغروه به فاتهمهم وقوى ظنه ذلك الصدوقيون لحقدهم، فنشأ الانشقاق وصار بعد قليل علة شر عظيم، ومات هركانس سنة 106ق.م بعد أن ملك 31 سنة، وكان كاهنا أعظم.
ولم يقم بعده من حكى المكابيين في الحمية والإباءة، وأخذت الدولة التي أسسها سيمون تتوغل في الشرور وتضعف إلى أن انقرضت، ولقبت بالأسمونية أو الحشمنية تمييزا عمن سبقها من المكابيين الذين لم يسموا ملوكا.
وقام بعد هركانس ابنه أرستبولس، وهو أول من لبس التاج من دولته واتخذ كل ما يتعلق بالملك بخلاف من سلفه، فكان رئيس الكهنة أيضا وهو الملك الأول من العائلة الحشمونية بعد مرور 460 سنة وثلاثة شهور بعد رجوع اليهود من سبي بابل، وروي في بعض التواريخ أن أول ما فعله بعد ملكه أنه اعتقل أمه وإخوته سوى أنتغنس فإنه أحبه وأكرمه، لكن الناس سعوا به إلى الملك واتهموه بأنه يريد الملك فحقد عليه أرستبولس ووضع له كمينا بقرب باب قصره وأمر بقتله إن أتى متسلحا، لكنه بعث إليه يخبره بما أمر، إذ لم يرد موته لحبه له، أما زوجته فقيل: إنها أغوت الرسول أن يخبر بخلاف ذلك لأنها حقدت على أنتغنس فوقع بالكمين وهلك، وكان الملك مريضا وداؤه شديدا فلما علم بموت أخيه ندم واضطرب لما أتاه من الظلم، فانفجر أحد عروقه وسال دمه من فيه وحمل أحد غلمانه الدم في طاس إلى خارج، واتفق أنه عند وصوله إلى حيث سفك دم أنتغنس زلت قدمه فوقع الطاس من يده فسال دم الملك وامتزج بدم أخيه فصاح الغلام وبلغ خبره الملك فاستولى عليه الروع الشديد، فهلك بعذاب لا يوصف سنة 105ق.م.
وخلفه أخوه إسكندر ينيوس، ولما انتظم له الأمر أراد افتتاح غزة وصور وبطلمايس وهاجم بطلمايس أولا فاستنجدت بطليموس لاثرس ملك قبرس، فأجاب الطلب وأتى بجيش عظيم، وكانت الكرة على إسكندر وقتل من اليهود نحو 30000 فاستصرخ كليوباترا ملكة مصر ، فسارت إلى اليهودية لمعونته، إذ توقعت الشر من لاثرس إذا ظفر، ولما أتت أنقذت إسكندر من الهلاك، غير أنها أرادت أن يخضع لها فاستدعته لمحلها بغية القبض عليه والاستيلاء على مملكته، لكنه منعها من ذلك بعض اليهود من قوادها، وكان ذلك سنة 101ق.م فنجا إسكندر وتمكن من التسلط على اليهودية وعلى بعض المدن التي لم تكن خاضعة له قبلا ومنها غزة افتتحها غيلة وأحرقها وقتل كثيرين، وأبدى في سياسته من الظلم ما حمل الناس على بغضه، ولا سيما الفريسيون الذين وقع الخلاف بينهم وبين أبيه كما مر، وحدث أنهم رموه في عيد المظال بالترنج وعيروه أنه ابن فاجرة ولا تليق له وظيفة الكاهن العظيم فحمي غضبه وقتل 6000 منهم، ولم يركن إلى شعبه، بل استأجر عسكرا أجنبيا يحميه، وشن الغارة على العرب سنة 94ق.م فغلب أولا، لكنه انهزم أخيرا، ولما رآه الناس على هذا الحال خانوه، وبقيت الخيانة ست سنين فقتل إسكندر نحو خمسين ألفا من اليهود فلاذ بعضهم بديمتريوس ملك سورية، فقدم إلى شكيم فخرج إسكندر لمحاربته وانكسر وهلك أكثر مستأجريه وتقهقر اليهود وهرب إسكندر إلى الجبال، وكان مشرفا على الهلاك، لكن اليهود الذين خانوه ولاذوا بديمتريوس، لم يريدوا أنه يستولي على اليهودية فخذلوه فرجع اضطرارا إلى الشام، وكان ذلك سنة 89ق.م، ثم عاد إسكندر وقتل عددا عظيما من العصاة وأخذ البعض أسرى إلى أورشليم، ولما كان يسر مع سراريه في وليمة التذكار لنصراته دعا 800 رجل منهم وصلبهم على مرأى من الجميع وأمر بذبح نسائهم وأولادهم أمام أعينهم فهجر لهذا الجور الوطن نحو ثمانية آلاف، لكنه أمن الخيانة بعد ذلك وسار لمحاربة بعض القبائل شرقي الأردن ، فمات في أثناء محاصرته حصنا هنالك سنة 78ق.م.
ولما أيقن حلول الأجل استدعى إسكندرة امرأته وأوصاها أن تستولي على الملك بعده وتصالح الفريسيين وتلاطفهم إذ تحقق أن لا سلام ولا راحة لمن لا يسالمهم، فسلكت إسكندرة، كما أشار عليها وسلمت نفسها لمشورتهم، فأقاموا لإسكندر جنازة فاخرة وعضدوا يدي إسكندرة.
وكان لإسكندر ابنان هركانس وأرستبولس حصل بينهما خصام شديد على وظيفة رئاسة الكهنوت العظمى، ثم تصالحا في بيت المقدس أمام الكهنة فصار الأول وهو البكر رئيس الكهنة، وصار الثاني قائد الجيوش، أما الفريسيون فلما غلظ أمرهم أخذوا ينتقمون من الصدوقيين الذين ضايقوهم أيام الملك السابق فقتلوا من شاءوا منهم بإذن الملكة، وكان هركانس من حزبهم، وأما أرستبولس فعكف على الصدوقيين، وطلب إلى أمه أن تحميهم من جور الفريسيين، فسلمت إليهم أكثر الحصون في البلاد فامتنعوا فيها، وكان عاقبة ذلك أنهم اختلفوا بعد موتها، إلا أنها استراحت في أيامها لفطنتها في معاملة الحزبين، ولما رأى أرستبولس أمه قد قربت من الوفاة عزم على اختلاس الملك عند موتها دون أخيه الأكبر فخرج من أورشليم ليلا، وانطلق إلى الحصون حيث كان أصحابه وأظهر قصده فاجتمعوا إليه جميعا، وماتت أمه سنة 69ق.م، وهو مستول على أكثر الحصون.
وملك هركانس من بعد أمه وخرج لمحاربة أرستبولس فانهزم ولجأ إلى أورشليم وأتى أخوه وحاصره فيها، ولما كان هركانس غير راض بالحرب عرض على أخيه المسالمة على شرط أن يكون الحبر الأعظم وأرستبولس ملكا، فأجابه أرستبولس إلى ذلك وصار ملكا سنة 69ق.م.
ثم ظهر إنسان أدومي اسمه أنتيباتر، وكان قد هاد في عهد إسكندر فولاه على أدومية، وكان غنيا ورغب في الارتقاء والرئاسة، فلما رأى ما في هركانس من اللطف والبساطة ملقه وذم له بأخيه، وقال: إنه قد ظلمه بأن حرمه الملك بغير حق، وما أتى تلك الفتنة إلا ليهيج هركانس على أخيه فيحاربه فيفوز هو بأن يكون وزيره، فلم يبال هركانس بما قال فأخذ يقنعه بأن أخاه يريد قتله، وأشار عليه أن يلجأ إلى الحارث ملك العرب فيخفره؛ لأنه كان صديقا لأنتيباتر ففعل هركانس ذلك خوفا، فرحب به الحارث وحمله أنتيباتر على أن يحارب أرستبولس، فسار الحارث في خمسين ألف مقاتل إلى اليهودية وغلب أرستبولس وحاصر أورشليم، وبذل قوم هركانس جهدهم في افتتاحها وأتوا بشيخ مشهود له بالتقوى يسمى مونير اعتقدوا أنه مستجاب الدعاء وسألوه أن يطلب إلى الله أن ينصرهم على أرستبولس ويفتح المدينة، فأبى الشيخ أن يدعو على إخوته بالشر، ولما ألحوا عليه قال: يا الله، ملك الكون أطلب إليك أنك لا تستجيب لدعاء الفريق الواحد على الآخر، فصاحوا به وقتلوه، فأدركهم العقاب سريعا، فإنه أتى سورية حينئذ إسكارس نائب بمبيوس عظيم رومية؛ ليستولي عليها، فبعث الفريقان الوفود إليه يستنجدانه، ولما رأى أسكارس أن أرستبولس كان صاحب أورشليم وأقدر على الرشوة سمع له وأمر هركانس وقومه أن يفرجوا عنه فأطاعوا، ولما ارتد الحارث مع جيشه حشد أرستبولس جنودا وتبعه وضربه ضربة شديدة فانتقم منه كما أراد، وكان ذلك سنة 64ق.م.
ثم قدم بمبيوس وأقام في دمشق فوفد عليه أرستبولس وهركانس وقدما له الإكرام والهدايا النفيسة، وكان من جملة ما أهداه أرستبولس جفنة من ذهب عجيبة الصنعة قيمتها 500 وزنة، ورفع كل منهما دعواه إليه بالملك، فلم يسمح لأحد منهما في أول الأمر، بل أمرهما أن يخضعا له إلى أن يفرغ من محاربة العرب وشرع في ذلك سنة 63ق.م.
أما أرستبولس فظن أن بمبيوس يميل إلى حزب أخيه فخرج عليه واستعد لمقاومته، فحول بمبيوس عن المسير إلى العرب ودخل اليهودية وأكره أرستبولس على تسليم جميع حصونه فهرب حينئذ إلى أورشليم، واعتصم فيها، لكنه لما قدم بمبيوس خرج إليه وسلمه المدينة، أما الكهنة فلاذوا بالهيكل الذي كان غاية في الحصانة وامتنعوا فيه، فالتزم بمبيوس أن يقيم عليه الأدوات المنجنيقية، وطال الحصار؛ لأن الكهنة دافعوا عنه بشدة وعنف، لكنهم كانوا يقعدون عن ذلك في السبوت، فانتهز الرومانيون الفرصة ليقربوا إلى الأسوار ويضربوها فبقي الحصار نحو ثلاثة أشهر، وكان الكهنة في أثناء ذلك يقومون بالفروض الدينية غير مكترثين لما يجري حولهم من القتل والويل، ولما كانوا يفرون من تلك الواجبات كانوا يخرجون للقتال ويبدون من البأس ما يحير الأعداء، ولما تمكنت المجانيق من ثقب الأسوار دخل الرومانيون إلى الهيكل وأعملوا السيف بلا شفقة، فقتلوا أصحابه وهم يخدمون المذبح، ودخل بمبيوس إلى قدس الأقداس فأخذه العجب والحيرة، إذ لم ير فيه شيئا؛ لأنه كان يظن أنه لا بد من تمثال لإله اليهود كما لسائر الأمم، فلم يعلم أن اليهود يعتقدون أن الله لا يرى ولا يمثل وأعجبته الذخائر الفاخرة التي وجدها في الهيكل، لكنه احترمها ولم يسلبها، وكان ذلك سنة 63ق.م، قيل: إن كل السبب في تقهقر اليهود وانحطاطهم الخصام الذي كان بين هركانس وأخيه أرستبولس وعدم اتحادهم، فتمكن لذلك أعداؤهم منهم.
فخضعت أورشليم واليهود لرومية، وأقام بمبيوس هركانس حبرا ورئيسا سياسيا على أنه يطيع رومية، غير أنه فصل عن حكمه كل ما استولى عليه المكابيون خارج اليهودية، وأقام إسكارس حاكما عاما على كل سورية من الفرات إلى تخوم مصر، ثم توجه بمبيوس إلى رومية وأخذ معه أرستبولس وأولاده وهم إسكندر وأنتغنوس وابنتان، أما إسكندر فنجا ورجع إلى اليهودية وحشد جيشا سنة 57ق.م، واستولى على بعض الحصون وأخذ يغزو البلاد فأتى القائد غابينيوس من قبل الرومانيين فلم يلبث أن قهره وألزمه أن يمتنع في حصونه، ولما ضاق به الأمر طلب إليه الأمان ووعده بتسليم جميع حصونه، فأمنه غابينيوس من أجل أمه التي كانت أمينة للرومانيين وثبت هركانس في رئاسته، إلا أنه غير نظام السياسة بأن ألغى المجمع العام وقسم البلاد إلى خمسة أقسام وأقام في كل قسم منها مجمعا تدبر أموره تحت نظر الرومانيين فبطل حكم الملوك، ولكن أمور البلاد لم تسكن لأن أرستبولس نجا من رومية ومعه أنتغنوس وصار يرمم الحصون ويجمع العساكر، واجتمع إليه أناس فقابلهم الرومانيون فانهزم أرستبولس وأنتغنوس ووقع في يد غابينيوس فأرسلهما إلى رومية واعتقل أرستبولس هناك، أما أولاده فأفرج عنهم لتوسلات أمهم التي سر بها غابينيوس كثيرا، ولما ذهب هذا القائد إلى مصر انتهز إسكندر المذكور الفرصة، وجمع ما تيسر له من العسكر وطفق يقتل الرومانيين حيثما التقى بهم إذ كانوا قليلين في البلاد، وحاصر من نجا في حصنهم على جبل جرزيم، فلما بلغ الخبر غابينيوس رجع وضرب إسكندر وقومه وقتل عشرة آلاف منهم، وبدد شملهم، فقهر إسكندر وفر لا يأمل النجاة، وكان ذلك سنة 56ق.م.
ثم عاد غابينيوس إلى رومية وخلفه قرسس فنهب الهيكل وسلب اليهود وظلمهم ظلما شديدا، ثم سار إلى مقاتلة الفرثيين فهلك، فرأى اليهود في ذلك عقوبة كفره وتعدياته على هيكل الله سنة 53ق.م، ولما هلك قرسس نجا قسيوس أحد قواده فرد الفرثيين عن سورية، وقدم إلى اليهودية وأخضعها وأخضع إسكندر وأثبت أنتيباتر على ما كان عليه من السطوة فبقي مشيرا لهركانس، وتقوى أنتيباتر إلى أن تمكن نسله من التسلط على اليهودية، وظلت الحال كذلك إلى أن ملك يوليوس قيصر فأفرج عن أرستبولس وجهزه إلى اليهودية ليعضد حزبه فيها فقتل قبل وصوله، أما إسكندر فحشد وهو يتوقع مجيئه جيشا وافرا فقبض عليه ميتلس شببيون والي سورية قبل بمبيوس وجز رأسه في أنطاكية سنة 49ق.م، فلم يبق من بني أرستبولس إلا أنتغنوس فخضع لقيصر، وظن أنه يفوز بملك اليهودية بعد قتل بمبيوس، وأما أنتيباتر نتاثر الأدومي، فكان ذكيا لبيبا، فلما رأى أمر بمبيوس متأخرا بذل جهده في مؤازرة قيصر وسار في جيش إلى مصر عندما تضايق قيصر في الإسكندرية وعضد أمره، واشتهر كثيرا بشجاعته في القتال حتى قيل: إن فوز قيصر يومئذ توقف عليه، ولما عرف هذا ما كان منه من الشجاعة والنجدة له أنعم عليه بما أراد من ملك اليهودية دون أنتغنوس.
وغلظ أمر أنتيباتر كثيرا بأن أيده قيصر فتسلط على هركانس، وتصرف كما شاء ومنحه قيصر رعوية رومية وأقامه نائبا له في اليهودية سنة 48ق.م، وكان له أربعة من البنين منهم فسايل فرأسه على مدينة أورشليم وهيرودس على الجليل، وهو لم يجاوز سن الخامسة عشرة فصار ملك اليهود إلى يد هذا الأدومي وبنيه، مع أن هركانس استمر رئيس الكهنة وعظيم الأمة في الظاهر.
ولم يسر الناس بأنتيباتر وأولاده فاشتكوهم إلى هركانس وتظلموا منهم وحرضوه على طردهم من مقامهم، ولا سيما هيرودس؛ لأنه ظلم الرعية ظلما فاحشا وقتل أناسا من اليهود فطلبوه للمحاكمة أمام مجمع السبعين في أورشليم فأتى مع شرطه وكل علامات المجد والفخر، ولما جرت المحاكمة لم يجسر أحد أن يشهد عليه فانفض المجمع ولم يحكم عليه بشيء فخرج يتوقد غضبا من أعدائه وأضمر النقمة فحشد جيشا وزحف به إلى أورشليم، لكنه رجع عنها بمشورة أبيه، ثم اضطربت اليهودية بسبب قتل قيصر، فإن قسبوس أحد القائمين عليه أتى وضرب على البلاد الجزية وأجبر أنتيباتر وأولاده على أن يجمعوها له فحقد عليهم الناس، فاحتال بعضهم على أنتيباتر وقتله، وقام هيرودس وانتقم لأبيه ولم يقدر هركانس أن يمنع هذه الأمور لضعفه فتسلط عليه هيرودس، ولما أخذ أوغسطوس وأنطونيوس الرئاسة في رومية قام أنتغنس بن أرستبولس وجمع جيشا بغية أن يسترجع مملكة أبيه، فهزمه هيرودس فأكرمه هركانس كثيرا وتزوج هيرودس سنة 37ق.م، مريمنة ابنة إسكندر بن أرستبولس وهي بنت ابنة هركانس أيضا، وأتى ذلك ليدعي الحق في الملك ويجمع بين بيتي هركانس وأرستبولس.
وجاء أنطونيوس إلى سورية بعد حرب فيلبي سنة 42ق.م، وهي الحرب التي قتل فيها بروتس وقسيوس فأقام هيرودس وأخاه فسايل على أمور اليهود، وجعل كلا منهما رئيس ربع، فكره كثيرون سلطتهما وسعوا بهما إلى أنطونيوس فلم يصغ إليهم بل قتلهم.
ثم ذهب أنطونيوس إلى مصر وهام في عشق كليوباترا فقدم الفرثيون واستولوا على سورية، فنهض أنتغنس بن أرستبولس وأعطى قائد الفرثيين دراهم كثيرة و500 جارية، وسأله أن يفتتح اليهودية ويعزل هركانس وهيرودس وأخاه ويقيمه على الملك، فأجابه إلى ذلك وجهز الجنود وزحف بهم إلى اليهودية فاستولى عليها سوى أورشليم فحاصرها مدة فلم يستفد شيئا، ثم اعتمد أنتغنس وقومه المكر، فكتبوا إلى هركانس وقومه يسألونه المصالحة وأغروا هركانس وفسايل بأن يذهبا إلى كبير الفرثيين بعهد الأمن، فينصف بين الفريقين بعد الفحص فاحتسب هيرودس المكر فلم يذهب، ولما وصل هركانس وصاحبه إلى كبير الفرثيين قبض عليهما فبلغ الخبر هيرودس فهرب هو وعائلته، ولجأ إلى بعض الحصون في أدومية فغزا الفرثيون البلاد وسلموها إلى أنتغنس بمقتضى الشرط واستودعوه هركانس وفسايل، فانتحر فسايل يأسا وجدع أنتغنس أذني هركانس ليمنعه من رئاسة الكهنة؛ لأن اليهود توجب أن يكون الكاهن بلا عيب في الجسد، ثم بعثه إلى الفرثيين فاستحيوه، أما هيرودس فاستودع عائلته أخاه يوسف وهرب إلى مصر ثم إلى رومية مستصرخا، وملك أنتغنس على اليهودية مدة ثلاث سنين بين سنة 40 وسنة 37ق.م.
ولما بلغ هيرودس رومية وده أنطونيوس كثيرا فاتفق مع أفنافيوس على أن يولياه اليهودية، مع أن هيرودس طلب الملك لصهره أرستبولس وهو حفيد أرستبولس السابق وهركانس، ولكن لما رأى أنطونيوس أن يملك هيرودس قبل بفرح ورجع إلى الشرق مع أنطونيوس وقد أمده بعسكر إلى اليهودية، ولما وصل إليها كان الرومانيون قد طردوا الفرثيين، وكان أنتغنس محاصرا مساد الحصن، حيث ترك هيرودس عائلته وأخاه كما مر، فما لبث أن طرد أنتغنس وخلصهم، ثم حاصر أورشليم ولم يتمكن من افتتاحها إلا بمساعدة الرومانيين، أما سولو قائدهم فأفسده أنتغنس بالبراطيل حتى أعاق هيرودس كثيرا، فلم يبلغ مراده حينئذ لكنه حارب أدومية وأخضع جانبا منها، واستولى على السامرة وهاجم اللصوص الكثيرين الذين سكنوا كهوف الجبال في الجليل وأضروا الناس كثيرا، وسمع أن أنطونيوس تضايق في حرب الفرثيين فسار لنجدته وكسر فرقة من العدو كمنت له في الطريق ولحق بأنطونيوس فأكرمه لشجاعته ورغبته في معونته، فلما عاد أمده بعسكر لينصره على أنتغنس، وكان قد قتل يوسف أخو هيرودس فاغتاظ هيرودس وبذل جهده في أخذ الثأر، وحمل في بعض المعارك على الأعداء بشجاعة وبأس فولوا منهزمين، فهابه الناس وانحاز كثيرون إليه واستولى على البلاد سوى أورشليم فحاصرها سنة 37ق.م فقاومته أشد المقاومة وطال الحصار نحو ستة أشهر، فاغتاظ الرومانيون، ولما دخلوا قتلوا ونهبوا فأوشكت المدينة أن تخرب لكثرة العسكر، فاشتكى هيرودس إلى قائدهم قائلا: إن لم تمنع الجنود عن القتل والنهب، وليتني خرابا يبابا لا مدينة، وأعطاه مالا وافرا فرد الجنود فسأله أنتغنس الأمان باكيا فضحك عليه القائد وقيده وأخذه إلى أنطونيوس فقطع رأسه فهو آخر من ملك من بيت حشمناي وقتل سنة 37ق.م، أي: بعد 130 سنة لنصرات يهوذا، و70 سنة للبس أرستبولس الأول التاج، وكان أنتغنس آخر تلك الأسرة فانقرضت بموته دولة المكابيين، وانتقل الملك إلى هيرودس الكبير نسيبهم.
وقد كان عصر المكابيين من العصور التي أجلى فيها اليهود عن شجاعة وبسالة عظيمتين فعاودتهم النخوة الوطنية والغيرة الدينية التي كانت قد خمدت فيهم أثناء السبي وبعده، وأظهروا للملأ قاطبة إنهم لم يعدموا تلك الصفات التي ميزت أسلافهم أيام غزوا أرض كنعان وطردوا أهلها منها وحلوا محلهم يحمون حوضهم ويدفعون أعداءهم الكثيرين عنهم، على أن ذلك العصر لم يطل لوقوع النزاع الأهلي وانقراض تلك الأسرة الباسلة وعدم قيام غيرها مثلها بين اليهود تتولى زعامتهم وتقود جيوشهم إلى مواقع النصر والظفر، وكان الرومان قد شرعوا يوسعون سلطتهم ويبسطون ظلهم ويمدون تخومهم، فلم يكن ينتظر أن تقف جماعة اليهود على ما بهم من الضعف الداخلي وقلة العدد سدا حائلا في سبيل نصرتهم وفوز جيوشهم على كثرتها وحسن تدريبها بعد أن تغلبوا على جزء كبير من العالم، وأخضعوا لصولتهم أكثر أنحاء المعمور في تلك العصور.
جدول رؤساء المكابيين.
رؤساء المكابيين
الاسم
سنة قيامه قبل الميلاد
تاريخ عبري
متاثياس
167
3621
يهوذا ابنه
166
3622
يوناثان أخو يهوذا
160
3628
سمعان أخو يهوذا أيضا
143
3637
هركانس الأول ابن سمعان
134
3642
ملوك المكابيين
أرستبولس الأول ابن هركانس
105
3665
إسكندر ينيوس أخو أرستبولس
104
3666
ألكسندرة امرأته
77
3688
هركانس الثاني ابن ينيوس
69
أرستبولس الثاني ابن ينيوس
67
3697
هركانس الثاني أيضا
62
370
أنتغنس بن أرستبولس الثاني
37
3721 (2-4) الهرادسة
قلنا: إن هيرودس تولى ملك اليهود بعد المكابيين، وهو هيرودس الأكبر باني قيصرية على شاطئ البحر المتوسط ومرمم السامرة التي هي سبطية (لاتينية معناها أغسطس أي: المجيد)، وهو مجدد بهاء هيكل أورشليم المشهور وظل العمل فيه نحو 46 سنة حتى جاء في غاية الفخامة والجمال، وكان يتقرب بهذه الأعمال إلى اليهود، أما هم فلم يحبوه لكونه أدوميا أجنبيا عنهم، ومات في السنة الرابعة قبل الميلاد
8
وله أحاديث تدل على سوء أخلاقه وأفعاله وقسوته البربرية لا موضع لذكرها هنا أشهرها قتله مريمنة زوجته وأخاها وجدها هركانس وابنيها إسكندر وأرستبولس، وأصيب في أخريات أيامه بمرض قتال ذاق منه صنوف الآلام والعذاب، وتوالى على الملك بعده خمسة من نسله كان لبعضهم شأن في تاريخ الديانة النصرانية، وكان بعضهم كهيرودس الكبير هذا في الأخلاق والطباع وحب الأبهة والفخفخة وبعضهم عادلا عفيفا نزيها، وانتهى ملكهم سنة 100ب.م، ولم يحدث في أيامهم حوادث ذات شأن؛ ولذا أغفلنا بسط الكلام عنهم، وكان لهم وقائع مع أمبراطرة رومية لا علاقة لها بتاريخ اليهود مباشرة فلتطلب في أماكنها من تاريخ الرومان.
على أن اليهود لم يخلدوا إلى السكينة بعد دخولهم في طاعة الرومان، وشق عليهم أن تحتل جنود الأجانب عاصمة ملكهم وبيت مقدسهم، فكانوا تارة يتهددون الولاة وطورا يطردون الجند الروماني من أورشليم، وآونة يظهرون الرضا بحكم الأمبراطرة عليهم إلى أن توفي هيرودس أغريباس الملك ابن ابن هيرودس الكبير وعقبه ولاة رومانيون أكثرهم ظالمون عتاة، فلم يهتموا بشئون اليهود، بل عاملوهم بالقسوة وساموهم الخسف حتى عيل صبرهم فرفعوا أمرهم إلى رومية، ولما لم يأتهم منها الفرج تظاهروا بالعصيان وأحدثوا شغبا عظيما، فأرسلت إليهم رومية قائدها المحنك فسباسيان، فحاصر أورشليم وحارب اليهود وظل على قتالهم إلى أن انتخبه الجيش الروماني إمبراطورا فخلف ابنه تيطس على الحصار وقتال اليهود، وكان تيطس هذا قائدا مدربا وبطلا مجربا ذاق منه اليهود الأمرين ولقي منهم من المقاومة والدفاع والثبات في الحرب والحصار ما كاد يثنيه عن عزمه من إخضاعهم، لكنه ثابر على منازلتهم بالجنود الرومانية المشهورة ومني اليهود بالانقسام الداخلي والفتن والمنازعات بينهم حتى ضعف أمرهم وتقلص ظلهم وتقوى تيطس عليهم فمزق شملهم، ودخل أورشليم فدكها دكا ودمرها تدميرا، ومات من اليهود في ذلك الحصار نحو مليون نفس، فسالت الدماء كالأنهار، وأبدى اليهود من البسالة ما لو كان لهم مثله من الوفاق والوئام لقهروا تيطس وجيوشه وأجلوهم عن اليهودية وأعادوهم إلى رومية مدحورين مخذولين، وقد فصل يوسيفوس المؤرخ الشهير قصة تلك الحرب، ونحن ننقل طرفا مما كتبه في هذا الشأن منقولا عن مجلة المقتطف التي استخلصته من أوثق المصادر، ومنه يتضح شدة المقاومة التي لقيها تيطس في حربه هذه مما شاب لهوله الولدان، ولم يلق الرومانيون مثله إلا في حروبهم مع القرطاجنيين يوم كان يقودهم هنيبال المشهور إلى مواقع الظفر.
قال يوسيفوس: فسار تيطس نحو المدينة أي: أورشليم، ولم ير أحدا أمام أبوابها، ثم التفت ليدور حولها، وإذا بجمهور غفير من اليهود خرج من الباب المقابل له وفصل بينه وبين رجاله فلم يبق معه إلا نفر قليل منهم وتعذر عليه التقدم إلى ما أمامه؛ لأن في الأرض جدرانا قائمة في طريقه وخنادق عميقة وتعذر عليه الرجوع إلى رجاله؛ لأن اليهود فصلوا بينه وبينهم، لكنه لم ير له سببا إلى النجاة إلا بالرجوع على اليهود، فأدار جواده ونادى بالذين معه ليتبعوه، واستل سيفه واقتحم جموع الأعداء والنبال تنصب عليه، وهو بلا درع ولا خوذة، وكان اليهود يزدحمون عليه فيزعق بهم ويحمل عليهم حملة الأبطال فيفرقهم شذر مذر، والنفر القليل يحمون ظهره، وظل على هذه الحال إلى أن تمكن من النجاة وسر اليهود بهذا الظفر.
ولما رأى اليهود أن جنود الرومانيين أحاطوا بالمدينة؛ لكي يسدوا خناقها، قالوا: ما لنا نشتغل بمحاربة بعضنا بعضا عن مناجزة أعدائنا، وقد أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم هلم نخرج إليهم ونوقع بهم قبلما يتمكنون من نصب خيامهم وإقامة الحصون حولها، فاختطفوا أسلحتهم وخرجوا على الفيلق الأخير ... فلم يشعر الرومانيون إلا واليهود يتدفقون عليهم تدفقا، فبهتوا وأركن بعضهم إلى الفرار وبادر البعض إلى أسلحتهم، فقابلهم اليهود بالسيوف والحراب وأوقعوا بهم، ونمي الخبر إلى تيطس، فأسرع بشرذمة من نخبة رجاله وهجم على اليهود وقتل كثيرين منهم وهرب الباقون إلى الوادي، فتبعهم وأمر أن تصطف فرقة من الجنود للقتال، وتهتم الفرق الأخرى بنصب الخيام وتحصين المعسكر، فلما رأى اليهود الرومانيين راجعين لتحصين المعسكر ظنوا أنهم هربوا من وجوههم، فأعادوا الكرة كأنهم حجارة تقذفها المجانق، فهرب الرومانيون من وجوههم، ولم يبق في الوادي إلا تيطس وبعض رجاله، فألحوا عليه بالانصراف من وجه اليهود؛ لأنهم رأوهم مستقتلين، فلم يلتفت إليهم وتطلع الجنود الذين على الجبل إلى الوادي، وشاهدوا تيطس فيه يحيط به اليهود فكبر عليهم الأمر وعلتهم حمرة الخجل، فارتدوا عليهم بعزيمة صادقة وأنقذوا قائدهم من مخالب الموت.
صورة الهيكل في السنة الأولى للميلاد
معنى الإشارات في هذه الصورة: (أ) قدس الأقداس. (ب) القدس. (ج) مذبح المحرقة. (د) مرحضة النحاس. (ه) دار الكهنة. (و) دار إسرائيل، (ز) باب نيكانور. (ح) دار النساء. (ط) الباب الجميل. (ي) دار الأمم. (ك) الباب الشرقي. (ل) رواق سليمان. (م) الرواق السلطاني، (ن) الحائط الخارجي.
واحتال اليهود على الرومانيين حيلة كادت تودي بكثيرين منهم، ذلك أن قوما من الخوارج تظاهروا كأن جماعة الشعب طردتهم من المدينة لإصرارهم على العصيان، فخرجوا منها متضعضعي الحال، وتظاهروا كأنهم خائفون من أن يعرف الرومانيون أمرهم فيوقعوا بهم، ووقف أناس على الأسوار ينادون الرومانيين ويستأمنون إليهم، وكان الخوارج يرتدون إلى الأبواب قاصدين الدخول فيرشقهم هؤلاء بالحجارة ويصدونهم عنها، وانخدعت الجنود الرومانية بهذه الحيلة، وظنت أنها تقتل أولئك الخوارج، ثم تدخل المدينة بأمان؛ لأن الشعب استأمن إليها، ولم تنطل هذه على تيطس فأمر جنوده أن يبقوا في مواقفهم، لكن بعضهم كانوا بعيدين عنه، ولم يسمعوا أوامره فهجموا على الخوارج إلى أن صاروا بين الأسوار، وللحال خرج عليهم جمع غفير من اليهود وأحاطوا بهم ورشقهم الذين على الأسوار بالحجارة والسهام، فقتلوا وجرحوا كثيرين منهم وأسقط في يد الرومانيين وارتبكوا في أمرهم خجلا ودهشة، ولكنهم قالوا: إن نحن عدنا مخذولين فليس أمامنا إلا العقاب الشديد، فقاتلوا مستبسلين وارتدوا رويدا رويدا، فنجا كثيرون منهم.
وقال يوسيفوس في موضع آخر مشيرا إلى الفتنة في المدينة: «وكان مع شمعون في الأماكن العالية من المدينة عشرة آلاف مقاتل ما عدا الأدوميين وهم خمسة آلاف، ومع يوحنا ستة آلاف مقاتل ما عدا الغيورين الذين انضموا إليه وهم ألفان وأربعمائة، وقد استولى يوحنا على الهيكل، واصطلح هذان القائدان عند أول مجيء الرومانيين عليها، ثم عادا إلى الشحناء ونال أهالي المدينة منهما أكثر مما نالهم من الرومانيين، ويقال جملة: إن الخوارج أهلكوا المدينة، وإن الرومانيين أهلكوهم.» وقال في موضع آخر: «ولما أتم الرومانيون بناء حصونهم وضعوا عليها الكباش، وجعلوا ينطحون الأسوار بها، ورأى اليهود ذلك فأيقنوا بالهلكة واصطلحوا بعضهم مع بعض وتناسوا ما بينهم من البغضاء، وتحالفوا على مقاومة العدوان، وكان الرومانيون قد وضعوا حول الكباش دبابات وقاية لها وللذين يدفعونها، فخرج اليهود ومزقوها وقتلوا الذين فيها، إلا أن تيطس لم يأل جهدا فضاعف عدد الرجال وحماهم بالرماة، ودامت الحرب على هذا المنوال أياما والكباش تنطح السور ولا تنال منه إربا، وخرج اليهود من باب خفي وحاولوا إحراق الكباش والمجانق وسائر آلات الحصار، واشتد القتال بينهم وبين الرومانيين، وكادوا يفلحون في إحراقها لو لم يبادر تيطس بنخبة فرسانه ويقع عليهم، ويقتل اثني عشر رجلا منهم بيده ويضطرهم إلى الفرار والرجوع إلى المدينة.» ودامت الحرب سجالا بين الفريقين، وأظهر كل فريق من البسالة ما يخلد ذكره في صفحات التاريخ، أما اليهود فلجسارتهم الخلقية ولخوفهم من الوقوع في يد الرومانيين، وأما الرومانيون فلرغبتهم في إرضاء قائدهم تيطس وفي إحراز الفخار؛ ولأنهم اعتادوا الظفر في مواقع القتال.
وظلت الحال على هذا المنوال بين أخذ ورد حتى وقعت المدينة في أيدي الرومانيين كما تقدم، ولم يقبل أهلها ما عرضه عليهم تيطس من الأمان فأسر منهم نحو مائة ألف، ومات ما يزيد عن مليون قتلا ومرضا وجوعا. (2-5) تفرق اليهود بعد خراب أورشليم
إلى هنا ينتهي تاريخ الإسرائيليين كأمة، فإنهم بعد خراب أورشليم كما تقدم تفرقوا في جميع بلاد الله وتاريخهم فيما بقي من العصور ملحق بتاريخ الممالك التي توطنوها أو نزلوا فيها، وقد قاسوا في غربتهم هذه صنوف العذاب والبلاد، فإن الرومانيين حظروا عليهم دخول أورشليم إلى أن تبوأ القياصرة المسيحيون تخت المملكة الرومانية، فأعاد قسطنطين الكبير لأورشليم اسمها بعد أن استبدل بغيره، واهتمت أمه الإمبراطورة هيلانة بتنظيفها والنقب فيها، وظلت البلاد في حوزة الرومان إلى سنة 614 حين استولى عليها الفرس بقيادة كسرى الثاني، وفي سنة 637 دخلت في طاعة العرب المسلمين في خلافة الإمام عمر، وأخذها صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين سنة 1187، وانتقلت في زمن الحروب الصليبية ثلاث مرات من الصليبيين إلى المسلمين، وأخيرا امتلكها السلاطين العثمانيون مع جميع سوريا وسائر فلسطين، وذلك سنة 1517، ولا تزال خاضعة لهم، وأكثر فلسطين اليوم وهو الجزء الجنوبي واقع ضمن متصرفية القدس وبعضها وهو الجزء الشمالي داخل في ولايتي بيروت والشام والمتصرف يقيم في أورشليم نفسها المعروفة بالقدس الشريف.
ولا تزال أبصار اليهود تطمح إلى أورشليم وفلسطين، وهم يتخذون جميع الذرائع التي تمكنهم من العودة إليها فيضمون شتاتهم ويلمون شعثهم؛ حتى تكون منهم أمة تحتل بلادهم القديمة ومهوى أفئدتهم، حيث كان أجدادهم وأسلافهم من قبلهم، وفيها اليوم مستعمرات وملاجئ للأوروبيين منهم ابتاعها لهم بعض مثرييهم وكبار المحسنين منهم كبيت روتشيلد الشهير والبارون هرش، وقد بنى المهاجرون منهم هناك البيوت، وأقاموا المعامل وزرعوا الأراضي على الطرق الحديثة، وقد أخذوا يتقدمون هناك تقدما واضحا سريعا، وبعض اليهود في أوروبا يعمل على ابتياع فلسطين من الدولة العثمانية على أن دون ذلك موانع وحوائل لا محل لإثباتها هنا.
وبعد خراب أورشليم على يد تيطس ظل قسم من اليهود في بلاد اليهودية، ولم يمر بهم ثلاثون سنة حتى تقدموا وازداد عددهم وأثروا وأفلحوا، ولكن حب الثورة عاودهم فانتقضوا على الرومان مرة ثانية في بلدان مختلفة كقيروان وقبرص وما بين النهرين وفلسطين، وذلك بين سنة 115 وسنة 130ب.م، لكن الرومان قهروهم وأثخنوا فيهم قتلا وذبحا ونهبا، وأصبحت اليهودية قفرا بلقعا فبلغ عدد المدن الخربة والقرى 985، وهدم 50 حصنا وأبدل اسم أورشليم وحظر على اليهود السكن فيها كما تقدم، وعقب ذلك عصر راحة لليهود، إذ تولى القيصرية الرومانية أمبراطرة أحسنوا معاملتهم، وأحلوهم محلا رفيعا وأخذوا عنهم بعض طقوسهم كالختان والامتناع عن أكل لحم الخنزير، وظلوا في عيش رغد من ختام القرن الثاني إلى أن ملك قسطنطين الكبير سنة 330، فعاودتهم المصايب والإحن.
اليهود في بابل
وكان حظ الباقين منهم في بابل أفضل من نصيب إخوانهم في اليهودية، لا سيما تحت رعاية الدولة الفارسية، فكان لهم أمير منهم لقب بأمير السبي، وكانوا ينتخبونه من بيت داود ويؤدون له واجب الاحترام والإكرام كملك وهو خاضع للدولة الفارسية، وأثرى كثيرون منهم في تلك البلاد، واحترفوا الحرف الكثيرة، فكان منهم التجار والصيارفة والصناع والحاكة والفلاحون والرعاة، وكانوا أمهر الناس في نسج الحلل البابلية المشهورة، وقام منهم جمهور غفير من العلماء الأعلام، ولا يعلم بالتأكيد ماذا حل بالذين أوغلوا في الشرق منهم، وإنما يؤكد أن جماعة منهم وصلوا إلى الصين حوالي القرن الأول من التاريخ المسيحي، وقد لقي مبشرو اليسوعيين بعض نسلهم هناك في القرن السابع عشر، ويرجح من بعض الأدلة أنهم جاءوا الصين عن طريق فارس، والظاهر أنهم أصابوا حظوة في عيون ملوك الصين، فتولى بعضهم أرفع الوظائف الملكية والعسكرية.
اليهود في أوروبا
أما في أوروبا فلم يكن نصيبهم فيها مثله في الشرق، فإن الأمبراطرة المسيحيين والبابوات أخذوا يتسابقون في نشر الأوامر الصارمة بشأنهم لخضد شوكتهم، فحظر عليهم أن يقبلوا مسيحيا في دينهم، أو يتزوجوا من المسيحيات، أو يكون لهم عبيد مسيحيون، وضربت عليهم الضرائب الباهظة، فلم تفلح جميع هذه الأوامر، فظل اليهود يزدادون عددا وثروة وجاها وانتشروا في إيليريا وإيطاليا وإسبانيا ومنوركا وغاليا وفي المدن الرومانية على ضفاف نهر الرين، واشتغلوا بالصناعة والزراعة والتجارة، ومع أن قسطنطين الكبير لقبهم في منشور قيصري «بالشعب المكروه»، فإن كثيرين منهم ارتقوا إلى أعلى المراتب الملكية والعسكرية، وكانت لهم محاكم خاصة بهم، هذا فضلا عما كان لهم من النفوذ الناتج عن الغنى والعلم، ولما تولى يوليانوس الملحد تخت الإمبراطورية أسبغ نعمه عليهم وأذن لهم ببناء الهيكل في أورشليم، لكنه مات قبل أن تتحقق أمانيهم من هذا القبيل، ثم عقب ذلك عصر أرهقوا فيه فصدر أمر في القرن الخامس للميلاد يحظر عليهم التجند في جيوش الإمبراطورية، ثم ألغيت زعامتهم الدينية في طبرية، وبعد سقوط الإمبراطورية الغربية استراح الذين كانوا منهم في إيطاليا وسيسيليا وسردينيا، فعاشوا دون أن يلحق بهم أذى، أما الذين كانوا في السلطنة الشرقية، فإنهم ذاقوا العناء واضطهدهم الإفرنج والقوط الإسبانيون في القرنين السادس والسابع.
اليهود في بلاد العرب
وأسس اليهود في الجنوب الغربي من بلاد العرب مملكة كبيرة عظم شأنها في القرن الثاني قبل الميلاد وهي مملكة حمير، ثم استولوا على اليمن، وتعاقب على حكومتها ملوك منهم إلى أن جاء الأحباش فطردوهم منها وأدخلوا النصرانية، وكانت بعض قبائل العرب تدين باليهودية، فلما ظهرت الدعوة الإسلامية لقي زعيمهم منهم عداوة شديدة فحاربهم وقهرهم، واستولى على خيبر سنة 627ب.م وأجلى اليهود العرب إلى سورية، وكان اليهود ناعمي البال برعاية الخلفاء والأمراء المسلمين، إلا أن المسلمين اضطهدوهم مرتين في المغرب سنة 790، وفي مصر سنة 1010ب.م، وإنما يقال بالإجمال: إن المسلمين عاملوهم بالحسنى واللطف، فنجح اليهود وأفلحوا ونبغ في تلك العصور كثير من الأطباء والفلكيين والمنجمين والكتاب والشعراء والخطباء والفلاسفة، لا سيما في الأندلس، ولهم اليد الطولى بفضل العرب في حظ بقايا معارف الأقدمين من اليونان والرومان ونشرها في أوروبا، لا سيما الفلسفة، وعهد إليهم الخلفاء بتعريب الكتب النفيسة في الطب وغيره عن اليونانية، وقد بقي شيء من هذه الترجمات في العربية على أن الأصل اليوناني فقد تماما.
اليهود في أماكن مختلفة وأحوالهم فيها
ولم يصادف اليهود في أوروبا وغيرها من حسن المعاملة ما لقوه من المسلمين، فكانت أيامهم في تلك القارة أيام محن ومصايب، فإن باسيل الثاني إمبراطور القسطنطينية أثار عليهم اضطهادا عنيفا في القرن الحادي عشر، ونقم عليهم الملوك الذين استولوا على بغداد بعد الخلفاء فقتلوا أمير السبي ونكلوا باليهود ففر جزء كبير منهم إلى إسبانيا، وأصاب الباقين من الذل والهوان ما أقعدهم عن طلب ما خسروه، وكانت أحوالهم في فرنسا مدة القرنين الثامن والتاسع أحسن منها في غيرها، لا سيما في باريس وليون ولانجودك وبروفتس، فكان لهم نفوذ عظيم في بلاط الملك لويس المعروف بالدبونير، على أنه لم تكد السلالة الكارلوفنجية تستقر على سرير الملك حتى فاجأهم الاضطهاد، فقام عليهم الملوك والأمراء والأساقفة وأذاقوهم العذاب ألوانا، وظل الأمر كذلك من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر وتاريخهم في ذلك العصر سلسلة مذابح واضطهاد، فكان أعداؤهم يشيعون عنهم أخبارا سيئة وتهما كاذبة كاتهامهم إياهم بسرقة الجسد المقدس وسرقة أولاد المسيحيين وقتلهم وإلقاء السم في آبار الشرب، وكان معظم كره معاصريهم لهم ناشئا عن تعاطيهم أعمال الصيرفة والربا، وقد قال أحد كتاب الإفرنج في ذلك: إن معظم اللوم في هذا الأمر عائد إلى جور الذين حظروا على اليهود اقتناء الأملاك والعقارات، ونهوهم عن الاشتغال بالحرف، فأجبروهم على توحيد أشغالهم وأعمالهم وصرف همتهم واجتهادهم في مجرى واحد على أن أعداءهم كانوا على الغالب يتخذون هذه التهم وسيلة للتخلص مما عليهم من الديون لليهود، كما فعل الملك لويس أغسطس، فإن اليهود أقرضوا الحكومة والكنيسة مبالغ كبيرة من المال، واسترهنوا منهما أملاكا ثمينة مقابل الدين، فلما أعيا الملك ورجال الكنيسة الأمر رأوا أن يستنبطوا ذريعة يتملصون مما عليهم، فأصدر لويس أمرا يقضي بإلغاء ذلك الدين بأسره وبرد الرهن، وأجبر اليهود على إرجاع صكوك الرهن وعقوده، ثم أمر بطردهم من فرنسا، فطردوا منها قسرا بعد أن سلبهم أموالهم ظلما وعدوانا، لكنه عاد فرحب بهم بعد عشرين سنة لما بدا له من الحاجة إليهم.
مصايب اليهود
وأمر لويس التاسع بإلغاء ثلث ما كان لهم على رعاياه المسيحيين من الدين، ثم أصدر إرادة ملكية بحرق جميع كتبهم المقدسة، وقد قال أحد المؤرخين: إنهم حرقوا في باريس وحدها محمول أربع وعشرين مركبة من نسخ التلمود وغيرها، وفي عهد فيليب الجميل طردوا من فرنسا وأصابهم من القتل والنهب والظلم شيء كثير، لكن مالية البلاد تضعضعت بعد انفصالهم عنها فلم ير الملك بدا من إرجاعهم إليها بعد اثنتي عشرة سنة من نفيهم، وأذن لهم بتحصيل ديونهم على شرط أن يدفعوا ثلثيها للملك! وفي سنة 1321 هاج عليهم الشعب في أواسط فرنسا، وذبحوا منهم عددا كبيرا ، وقد قال أحد الكتاب في وصف المذابح: إن ما ارتكبه الفرنسويون في ذلك الحين لمما تقشعر له الأبدان، حتى إن اليهود في فرون رموا بأولادهم إلى الأرض من أعالي برج حصرتهم فيه الغوغاء لما أصابهم من الجنون والذهول لقسوة مواطنيهم، لكن ذلك لم يحرك شفقة أولئك البرابرة الذين كانوا يطلبون دماء ذلك الشعب التعيس المكروه، وعقب هذه المذبحة الوباء، فاتهم اليهود أفظع التهمة وأقبحها، وقامت عليهم القيامة حتى قيل: إنهم أحرقوا في بعض الأقاليم جميع من كان فيها من اليهود وحفروا في شينون حفرة عميقة ألقوا فيها 160 رجلا وامرأة وأحرقوهم فيها، وقد أطنب مؤرخو هذه الحوادث بشجاعة اليهود وصبرهم وشدة تمسكهم بعقيدتهم في الضيق والشدة، حتى قال أحدهم: إنه لم يقم بين شهداء المسيحيين من أبدى عزما وثباتا كعزم اليهود وثباتهم وهم يقادون إلى القتل والذبح والحريق، فإنهم كانوا يسيرون مترنمين بالمزامير كأنهم سائرون إلى عرس، وفي أواخر القرن الرابع عشر نفوا تماما من أواسط فرنسا.
اليهود في إنكلترا
ويظن أن اليهود جاءوا إنكلترا مع السكسون وقد ورد ذكرهم في بعض النظامات الدينية سنة 740ب.م وسنة 833ب.م، ولقوا معاملة حسنة من وليم الفاتح وابنه وليم روفس، ويروى أن وليم روفس هذا أقسم في خلال جدال دار بين الأساقفة والحاخاميين ليصيرن يهوديا إذا فاز الحاخامون، وزاد على ذلك أن وهبهم كراسي جميع الأبرشيات الفارغة، وكان لهم ثلاث كليات في جامعة إكسفورد لذلك العصر يدرسون فيها العبرانية لأبنائهم ولمن شاء من المسيحيين، ولكن ذلك لم يطل فأخذ الشعب يتذمر من زيادة ثروتهم ونجاحهم في الأعمال والتجارة، وتحول التذمر إلى كره، وقد جاء في أحد التواريخ أن أحدهم وقف ينظر تتويج الملك ريكارد المعروف بقلب الأسد، وكان ذلك محظورا عليهم فهاج الشعب وثاروا عليهم، ونهبوا بيوتهم، فغضب الملك وأمر بمعاقبة الجانين فشنق منهم ثلاثة، ولكن تعصب الكهنة حال دون تحقيق رغائبه من إجراء العدالة ومعاقبة جميع المذنبين، ولما ذهب ريكارد إلى فلسطين في الحرب الصليبية الثالثة ساءت أحوالهم جدا وخيروا في بعض المدن بين الموت أو اعتناق النصرانية فاختاروا الموت، ومن يطالع رواية إيفانهو «الشهامة والعفاف» لولتر سكوت ير ما حل بهم في ذلك العصر من الإرهاق والظلم، ويعجب لثباتهم على دينهم ومعتقدهم في وسط تلك الاضطهادات التي ثارت عليهم، نعم لقد كان في الإنكليز قوم من ذوي الشهامة دافعوا عنهم، ولكنهم كانوا نفرا قليلا لا يحسبون شيئا في جنب الذين نقموا عليهم وأرادوا بهم السوء، ولما عاد الملك ريكارد من فلسطين انتعشت آمالهم وصارت حياتهم في أمان، وأكرمهم الملك يوحنا إكراما زائدا، ثم انقلب عليهم وأمر بنهبهم وحبسهم في جميع أنحاء المملكة وأصابهم أذى شديد في أيام الملك هنري الثالث، واتهمهم البعض بأنهم ينزعون جزءا من ذهب النقود وفضتها بعد أن يقبضوها، ثم يدفعونها إلى التجار.
فأصدر ذلك الملك أمره إليهم سنة 1230 بأن يدفعوا إلى الخزينة ثلث أموالهم المنقولة، وفي أثناء ذلك اتهموا بصلب ولد من أولاد المسيحيين اسمه «هيولنكولن»، وهي تهمة اتضح فسادها بعدئذ، وتبين بأجلى بيان أنها أذيعت بقصد الإيقاع بهم في زمان لم يدخر أعداؤهم فيه جهدا لإهلاكهم وخرابهم، ولم تتحسن أحوالهم بتبوء إدورد عرش المملكة، ولكن بعض الإنكليز حاول أن يثنيهم عن الربا كما حاول غيرهم ذلك في فرنسا فلم يفلح؛ لأن اليهود كانوا ممنوعين عن معاطاة الأعمال الأخرى طبقا للأوامر الملكية العديدة التي صدرت بشأنهم؛ ولأن كره الناس لهم في أوروبا جمعاء حال بينهم وبين اهتمامهم بالصناعات والزراعة لكثرة ما كان يصيبهم من النهب والظلم، وما ينزل بهم من الضيم والأذى، ولما اشتد بهم الأمر في إنكلترا ضاقت بهم سبل الوجود توسلوا إلى الملك أن يأذن لهم بمغادرة البلاد، فأقنعهم بالبقاء، لكن الأمة بأسرها قامت عليهم سنة 1290 فأخرجتهم من إنكلترا، فخلفوا في يد الملك جميع أموالهم وديونهم ورهنهم، وارتحلوا إلى فرنسا وجرمانيا، ويقدر عددهم حينئذ بنحو ستة عشر ألف نفس.
اليهود في جرمانيا
دخل اليهود جرمانيا
9
في عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير, وانتشروا في القرن الثامن في المدن الواقعة على ضفاف نهر الرين، وفي القرن العاشر حلوا في سكسونيا وبوهيميا، وفي القرن الحادي عشر أتوا فرانكونيا وسوابيا وفينا، وفي القرن الثاني عشر نزلوا في براندنبرج وسليزيا، ولم يكن نصيبهم من جرمانيا بأحسن منه في غيرها، فأجبروا على تأدية الضرائب الباهظة على اختلاف أنواعها، وأرغموا على تقديم الهدايا للأمبراطرة والأمراء والحكام استعطافا لهم وترضية، وكان الأمراء في تلك العصور إذا عضتهم الحاجة أغاروا على اليهود فسلبوهم مقتنياتهم، ثم جاءت الحرب الصليبية ضغثا على إبالة، فهاج الرأي العام، وقامت عليهم القيامة فصبغت المدن بدمائهم وظل القتل والذبح منتشرا فيهم، والظلم والجور لاحقين بهم إلى أن صدرت الأوامر بطردهم من أنحاء تلك البلاد المختلفة في أزمنة متتابعة، وذلك بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر حتى لم يكد يبقى منهم واحد فيها، لكنهم ظلوا مدة هذه الاضطهادات متمسكين بمعتقدهم محافظين على دينهم، صابرين على بلواهم صبر الكرام، حتى إذا ما حرقت الغوغاء كنائسهم ألقوا بنفوسهم في النار حبا بدينهم، ولم يطل زمان غيابهم عن جرمانيا لافتقارها إليهم، فعادوا إليها وأذن لهم في بعض المدن باتخاذ الرعوية المحلية وباقتناء العقارات، لكنهم ما برحوا معرضين لطمع الأمبراطرة والملوك والأمراء الذين كانوا يلغون ما لليهود عليهم من الديون حينا بعد آخر تخلصا منها على أسهل منوال، وكان عليهم في بعض المدن أن يسكنوا شوارع خاصة بهم تعرف «بحي اليهود».
اليهود في سويسرا
ولم يطأ اليهود سويسرا إلا بعد أن أقاموا زمانا طويلا في ألمانيا، وبدأ اضطهادهم فيها في القرن الرابع عشر، ولم يكد القرن الخامس عشر ينتهي حتى طردوا منها، ولم يلاقوا في بولونيا ولثوانيا من العنف ما لاقوه في غيرهما، فاتخذوا الأولى ملجأ لهم، وكان المهاجرون منهم من ألمانيا وسويسرا يأتونها أفواجا وهم يصادفون من ملوكها كل رعاية وإكرام، أما في روسيا وهنغاريا فأصابهم من الاضطهاد مثل ما أصابهم في الممالك الأخرى، وبعد أن ذاقوا فيهما الأمرين طردوا منهما نحو أواخر القرون الوسطى.
اليهود في إسبانيا
أما البلاد التي لقوا فيها شيئا من الراحة فإسبانيا بعد أن امتلكها العرب، فإن الفاتحين أحسنوا إليهم وأكرموهم وعاملوهم بالتؤدة والمعروف، وتساوى الفريقان في العلم وطلبه والثروة والرغبة في التقدم والتمدن حتى بات يهود إسبانيا أنعم بالا وأحسن حالا من إخوانهم في سائر أوروبا، فاتخذوا الحرف والمهن العلمية والصناعية، ونشأ بينهم الكتاب والشعراء والأطباء والماليون والموظفون وأصحاب الفنون على اختلاف أنواعهم.
ولم ينحصر ذلك من الأندلس في الممالك الإسلامية، فإن ملوك النصارى فيها أكرموهم ورحبوا بهم لما آنسوه فيهم من اللياقة لتعاطي الأعمال والمهن المختلفة، وبراعتهم في العلوم والفنون، وكان الشعب في غاية الراحة كأيام هنائهم في أراضيهم وملكهم على أن ذلك الشعب المضطهد لم تطل مدة هنائه، فإن بذخ الأمراء وتعاظم نفوذ الإكليروس بدلا سعادته بالشقاء، وذلك أن أملاك الفريقين أصبح أكثرها مرهونا عند اليهود فسلبت امتيازاتهم وزيدت الضرائب عليهم.
وفي أواخر القرن الرابع عشر قامت البلاد عليهم في مواضع متفرقة فقتل منهم العدد الغفير، وقد قال أحد المؤرخين: إن ما أصاب اليهود في القرن الخامس عشر في إسبانيا لما يقصر عنه وصف الواصفين، فقد أحرقوا أحياء بالألوف حتى قيل: إن 280 منهم حرقوا في سنة واحدة في إشبيلية، حتى إن كل طاهر ذمة كان يقشعر من فظائع ديوان التفتيش وأفعاله البربرية، فحاولوا أن يلطفوها، ولكن سدى ثم جاء اليوم المخيف، وفيه تم ذلك العمل الذي شوه تاريخ إسبانيا وترك فيه لطخة سوداء لا يمحوها كرور الأيام، وذلك أن فرديناند وإيزابلا زوجته أصدرا منشورا يأمران فيه بطرد جميع اليهود (سنة 1492) من إسبانيا في مدة أربعة أشهر دون أن يؤذن لهم بنقل ذهب أو فضة معهم من المملكة، فنزل الأمر على اليهود نزول الصاعقة وسعوا بإلغائه، وبذلوا القناطير المقنطرة من المال حتى كاد الملكان يحولان عن عزمهما، لكن رئيس ديوان التفتيش الدومينيكي عرقل جميع تلك المساعي وتهدد الملكين، وقال لهما: إذا فعلتما ما يطلبه اليهود كنتما كيهوذا الذي باع سيده، ثم حذرهما سوء العاقبة فخافا منه وثبتا أمرهما، فكان علة خراب وشقاء جماعة كبيرة من أحذق الناس وأمهرهم وأكثرهم مسالمة وعلما في إسبانيا وسببا لانحطاط تلك المملكة نفسها بما خسرته من معونتهم ونجدتهم وعلمهم وغناهم، فضلا عن انتشار نفوذ ديوان التفتيش هذا، وامتداد هيبته في البلاد التي كان من أكبر الضربات عليها، وقد قال أحد الكتاب: إن هذا العمل الوحشي من أحزن ما جاء في التاريخ الحديث ويشبهه اليهود بأكثر من سقوط أورشليم وتبددهم على وجه الأرض، فإن نحو نصف مليون منهم أجبروا على ترك بلاد سكنوها سبعة قرون فصارت لهم وطنا، هذا فضلا عن إجبارهم على التخلي عن أملاكهم ومقتنياتهم وأموالهم وهي شيء كثير ظلما وعدوانا، وحكاية طردهم في إسبانيا تفتت الأكباد (وجميع ذلك مدون في كتب التاريخ العبرية)، فتفرق هؤلاء التعساء في مراكش وإيطاليا وفرنسا وتركيا، وطلب ثمانون ألفا منهم الإذن من ملك البورتغال، حيث كانت الفظائع، كما في إسبانيا بواسطة الإكليروس؛ لكي يبقوا في بلاده ثمانية أشهر ريثما يجدون مكانا يلجئون إليه، ودفعوا عن كل واحد منهم ثمانية دنانير فقبلهم في بلاده على أن يقيموا فيها، لكنه تغير عليهم بعد سنتين وطردهم، وأصدر أمرا سريا إلى جنوده بالقبض على أولادهم من ابن أربع عشرة سنة فما دون وبإبقائهم في البلاد لينشئوا فيها مسيحيين، فلما درى اليهود بذلك حاروا في أمرهم، فكان النساء يطرحن الأولاد في الآبار والأنهار ليخلصنهم من أعدائهم ومضطهديهم، ومن بقي منهم في إسبانيا بيع عبدا، ولم يقف تيار الاضطهاد في إسبانيا حتى أواخر القرن السابع عشر.
اليهود في إيطاليا
وكان نصيبهم في إيطاليا خيرا منه في غيرها، فأحمدوا مقامهم فيها إلا في بعض الأحايين حين ثارت سورة الاضطهاد عليهم، على أن معظم زمانهم فيها كان مقرونا بالراحة والخير، فاشتغلوا في جميع الحرف والصناعات، لا سيما الصرافة حتى ضاهوا صيارفة لمبرديا، وكانت تجارة المشرق في أيديهم، ونالوا حظوة في عيون ملوك نابولي، حتى إن أحدهم عين مستشارا ملكيا لأحد ملوكها.
اليهود في المملكة العثمانية وغيرها
وأحسن إليهم السلاطين العثمانيون وعاملهم الأتراك بالرفق، وكانوا يعتبرونهم أكثر من اليونان فيسمون هؤلاء عبيدا، أما اليهود فكانوا يدعونهم ضيوفا وأذنوا لهم بفتح المدارس وإنشاء الكنائس، وسمحوا لهم بالسكن في جميع مدن الشرق التجارية الواقعة في المملكة العثمانية، وهي الدولة الوحيدة التي شهدوا لها التواريخ العبرانية أنه لم يحصل لليهود اضطهاد فيها.
وقد ظن بعض الكتاب أن اختراع الطباعة والنهضة العلمية في أوروبا والإصلاح أفادت اليهود فائدة كبيرة، فحسنت أحوالهم وخففت ذلك التعصب عليهم، لكن ذلك صحيح من بعض الوجوه، فإنه حالما شرع اليهود باستخدام الطباعة لطبع كتبهم المقدسة حرك بعضهم الإمبراطور مكسيمليان وأقنعه بوجوب حرق كتبهم ولولا مداخلة بعض أولي الفضل لتم ذلك القصد السيئ على ما يريده أولئك المتعصبون وفاز الجهل، ولم يكن لوثير ميالا إلى اليهود والمأثور عنه أنه كان يذهب إلى أخذهم بالقسوة والعنف، في حين أن البابا سكستوس الخامس عاملهم بمثل ما لم يعاملهم به أمير بروتستانتي من الحسنى واللطف، فإنه ألغى أوامر أسلافه القاضية بمعاقبتهم، وأذن لهم بالسكن والاتجار في أملاك الكنيسة الرومانية وجعلهم والمسيحيين سواء في عين الشريعة، وفيما تقدم دليل على أن الإصلاح لم يكن له يد في تحسين أحوالهم؛ لأن زعيم حركة الإصلاح كان خصما لهم بين أن بعض أخصامه كانوا من محبيهم، أضف إلى ذلك أنهم صادفوا من الاضطهاد والأذى على أيدي البروتستانت مثل ما لاقوه من الكاثوليك، إن لم يكن أكثر منه يتضح لك أن التبديل الذي طرأ على شئونهم في القرن الثامن عشر لم يكن ناجما عن هذه الأمور الثانوية، بل نشأ عن هبوب أوروبا في ذلك العصر من سبات الجهل والغباوة، وعن لمعان نور التمدن في أنحائها ذلك النور الذي أنار في سمائها فشق حجاب الجهل والظلم والاستبداد.
اليهود في هولاندا
ومن المعلوم أن هولاندا كانت في مقدمة الممالك الأوروبية التي أفاقت من الجهل والغباوة، فقدرت اليهود حق قدرهم وعطفت عليهم، ففي أوائل القرن السابع عشر أذنت لهم بالنزول فيها أيان شاءوا وأجازت لهم الاتجار والاشتغال بجميع الحرف والمهن، وفي أواخر القرن الثامن عشر خولتهم حق اتخاذ رعوية البلاد، ولا نسهب الكلام في هذا الموضع عما أصابته هولاندا من الربح في عملها هذا، فإنها سبقت سائر بلدان أوروبا في التجارة والزراعة، ولا تزال في مقدمتها في الغنى والعلم والتقدم والتمدن.
عودة اليهود إلى إنكلترا
وبعد أن نفي اليهود من إنكلترا حاولوا دخولها ثانية في أيام كرمويل، أي: بعد 300 سنة لطردهم منها، وكان كرمويل وجمهور القضاة والمحامين يميلون إلى إرجاعهم، لكن الأمة عارضت في الأمر لا سيما الفئة الدينية منها، فتعينت لجنة من الأساقفة ورجال الكهنوت للبحث في القضية وبت الحكم فيها، وطال الجدال بينهم حتى استغرق سنين عديدة إلى أن تولى عرش الملك الملك شارل الثاني، ولما كان في أشد الحاجة إلى اليهود أذن لهم بالعودة إلى إنكلترا، وفي سنة 1723 سمح لهم باقتناء الأملاك والأراضي فيها، وفي سنة 1753 نالوا حق الرعوية، ولم يزالوا يمنحون ما بقي من الحقوق واحدا بعد الآخر حتى كانت سنة 1858، وفيها سمح لهم بدخول البارلمنت، وتقلد الوظائف العالية كالنظارات وغيرها، وقد نبغ منهم في إنكلترا أفراد معدودون سنأتي على ذكر بعضهم في الفصل الخاص بذلك.
اليهود في فرنسا
قلنا: إن بعض اليهود الذين طردوا من إسبانيا ذهب إلى فرنسا فلقوا فيها مشقات ومصاعب شتى, وأذن لهم في أواسط القرن السادس عشر بالسكن في بعض مدن تلك البلاد وأقاليمها، وفي سنة 1790 نحو بداءة الثورة الفرنسوية العظمى رفعوا عريضة إلى مجلس نواب الأمة يطلبون فيها منحهم حق الرعوية ومساواتهم بسائر أهل البلاد، وكان ميرابو في جملة أنصارهم، فمنحوا ذلك الحق، ومن ذلك الحين أطلق عليهم لقب إسرائيليين في فرنسا، وفي سنة 1806 جمع نابوليون الأول مجمعا من علمائهم وألقى عليهم أسئلة مختلفة؛ ليمتحن أهليتهم لتأييد حق الرعوية هذا، فأحسنوا الجواب على أسئلته جميعا فاعترف بهم وبمجامعهم ومدارسهم، ومن ذلك الزمان أخذوا يرتقون في الوظائف والمناصب الأميرية حتى تولى بعضهم النظارات ونالوا رتبا سامية في الجيش والأسطول، وقد أجلوا في الحروب والمواقع البحرية عن شجاعة وبسالة نادرتي المثال كذبتا ما اتهمهم به المنافقون من الجبن رغما عما في تاريخهم من دلائل الشجاعة والنخوة.
وقد لقوا في أواخر القرن الماضي بعض الكره والعدوان من مواطنيهم بسبب مسألة دريفوس، لكن براءة الرجل اتضحت في المحاكمة الثانية، وعادت الأمور إلى مجاريها.
ويقال بالإجمال: إنهم في القرنين الأخيرين نالوا حقوقهم في جميع ممالك أوروبا وأميركا وصاروا كغيرهم من مواطنيهم، إلا في روسيا، حيث صادفوا اضطهادا شديدا منذ بضع سنوات، فجارت عليهم الحكومة وأمرت بطرد بعضهم من بلادها، وحظرت على الباقين السكن إلا في أقاليم معينة من البلاد.
ولا تكاد بقعة من الأرض تخلو منهم وهم في جميع العالم أصحاب همة وكد محبون للعمل عارفون بأساليب الكسب ، وتراهم في البلدان التي نالوا فيها تمام المساواة مع غيرهم يشتركون في أفراح الأمة وأحزانها، ويهتمون برفعة شأنها وتوطيد عزها، ويجود مثروهم بالأموال في سبيل الذود عنها وتقدمها وزيادة مجدها وعظمتها.
هذا ملخص تاريخ هذا الشعب المشهور، وما لقيه من المصاعب والمشقات والاضطهاد والقتل والسبي والنفي في أوروبا وغيرها بعد خراب أورشليم، لكن العناية التي اختصته من بين الشعوب القديمة أبت إلا بقاءه ولم تسمح بانقراضه، فإنه لم يزل يزداد عددا وثروة ونفوذا وسطوة رغما عما صادفه من تعصب القوم عليه وارتياحهم إلى إفنائه، واتخاذهم في العصور المختلفة جميع الوسائل لخضد شوكته وإذلاله، فإن جميع هذه المساعي السيئة أخفقت وكأنها جاءت منشطة لليهود فتقدموا ونجحوا، لا سيما النجاح المالي حتى بات من الحقائق المقررة أن زمام الأمور المالية الكبرى في العالم في أيديهم.
ويقدر عددهم في العالم حسب إحصاء سنة 1898 بنحو 8120000 وهم منتشرون كما يأتي:
في أوروبا 6750000، وفي آسيا 500000، وفي أفريقيا 350000، وفي أميركا 500000، وفي أستراليا 20000، ولا يبعد أن يكون عددهم الآن أكثر من عشرة ملايين.
الفصل الخامس
ديانة اليهود وشريعتهم وفرقهم
الديانة اليهودية مؤسسة على الدستور الذي أعطاه الله لموسى نبيه مكتوبا على لوحي الحجر، وهذا الدستور هو الوصايا العشر المشهورة، وهي أساس اعتقادهم بإله واحد عظيم قادر - كما أنها أساس اعتقاد المسيحيين - وكيفية عبادته وإكرامه, وما يتوجب على عباده من الأعمال، وما يجب عليهم اطراحه والابتعاد عنه.
وهذه هي الوصايا العشر منقولة عن الإصحاح العشرين من سفر الخروج: (1)
أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. (2)
لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن؛ لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي، وأصنع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي. (3)
لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا؛ لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا. (4)
اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك؛ لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع؛ لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه. (5)
أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك. (6)
لا تقتل. (7)
لا تزن. (8)
لا تسرق. (9)
لا تشهد على قريبك شهادة زور. (10)
لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك.
أما ما بقي من أحكام الشريعة الخاصة بالعبادة والطقوس والمعاملات المدنية والعقوبات، فموجودة في التوراة على الوجه الذي أوحي بها إلى موسى، ونحن نأتي على خلاصتها هنا نقلا عن كتاب سوسنة سليمان في العقائد والأديان.
إن القسم الطقسي من العهد العتيق يحتوي على تفصيل مبادئ الديانة اليهودية وآدابها، وهو يتضمن:
أولا:
تكريس هارون أخي موسى وبنيه لخدمة الكهنوت، وما يتعلق بالشرائع والقوانين لتقديس اللاويين وتعيين ما ينبغي إعطاؤه لهم من الأملاك والعشور والنذور وغلات البيادر وقطر المعاصر وأوائل القطاف وباكورة الأثمار وأبكار الأنعام وسائر الحيوانات، أما أبكار البنين فيؤخذ عنهم مقدار معلوم من الفضة فداء، إذ إن الله اختار سبط لاوي ليخدمنه بدلا عنهم.
ثانيا:
الشرائع والنظامات المختصة بالذبائح والقرابين، وهي تشرح بالتدقيق الذبائح المتنوعة التي ينبغي أن تكون من الحيوانات والطيور المعينة لطهارتها ونقاوتها، وكيفية تقديمها لأجل المحرقة والسلامة والخطية والإثم، مع الإبانة عن أنواع الخطايا التي تتقدم لأجلها والنهي عن تقديم البنين والبنات محرقات، كما يفعل الوثنيون الذين يحرقون أولادهم قربانا لآلهتهم، ثم تفاصيل السنن المتعلقة بالنجاسات والتطهيرات المختلفة والملابس والمواكيل، ومنها النهي عن طبخ الجدي بلبن أمه.
ثالثا:
السنن المتعلقة بالأعياد، وهي تشمل خمسة أعياد يعيدونها لله في السنة، وهي: عيد الفطير أو الفصح، وعيد الحصاد، وعيد رأس السنة، وعيد الصوم الكبير، وعيد الجمع أو المظال في اليوم الخامس عشر من أول السنة، وكما يكون أيضا كل يوم سابع من الأسبوع سبتا لله لا يعمل فيه أدنى عمل، كذلك تكون كل سنة سابعة أيضا سبتا لا تزرع فيها الأرض ولا يقطف الكرم، بل تترك الأرض عطلا وغلات الكروم تكون مأكلا لفقراء الشعب ووحوش البرية، وهكذا كل سبعة أسابيع من السنين تكون السنة التي بعدها، أي الخمسين يوبيلا، وهي سنة مقدسة لا يكون فيها زرع ولا حصاد أيضا، وينادى فيها بالعقق في الأرض لجميع سكانها، فيرجع كل إلى ملكه وإلى عشيرته، إذ لا يبقى فيها دين ولا رفيق؛ ولذلك ينبغي أن يكون بيع أملاكهم بعضهم إلى بعض بحسب غلة الملك المبيع منذ يوم بيعه إلى سنة اليوبيل المذكورة، وهكذا يشتريه المشتري، إذ فيها يلزم أن يرجع إلى بائعه الذي هو مالكه الأصلي، ولا يستثنى من ذلك إلا بعض البيوت التي تكون داخل المدن ذات الأسوار إذا لم تفك قبل أن تكمل سنة واحدة من زمان بيعها.
ثم في هذا القسم أيضا توجد أحكام هذا الدين السياسية، ونلخصها هنا؛ لكونها صارت أصلا لكثير من الشرائع الآتية بعدها، ولا سيما عند الذين يرون من الواجب مزج الأحكام السياسية بالأوامر الدينية.
فمن شروط المحاكمات فيه عدم المحاباة مع المسكين أو احترام وجه الكبير أو تحريف الدعاوى، أو قبول الخبر الكاذب، أو الإصغاء إلى شاهد واحد، بل على فم شاهدين أو ثلاثة يصير إثبات المدعى، والنهي عن أخذ الرشوة، والجور في القضاء، ووجوب اليمين على المنكر، والقسامة على أهل المدينة الأقرب إلى محل قتيل يوجد في الحقل ولا يعرف قاتله.
ومن أحكام هذه الشريعة أن لا يسلم عبد آبق إلى مولاه، بل يبقى عند من يلتجئ إليه ما طابت نفسه، وأن العبد من بني إسرائيل يخدم مولاه ست سنين ويخرج في السابعة حرا مجانا، فإن كان متزوجا تخرج امرأته معه، إلا إذا كان سيده قد أعطاه إياها، ولو ولدت له أولادا فلا يخرج إلا هو وحده، وأما المرأة وأولادها فيبقون في قبضة السيد، وإذا أراد العبد أن لا يفارق امرأته وأولاده وأراد أن يبقى عبدا فيأخذه مولاه ويقربه إلى الباب أو إلى القائمة ويثقب أذنه بالمثقب، ومن ثم يبقى في خدمته إلى الأبد، وإذا باع رجل ابنته أمة فلا تخرج كما يخرج الرجل، بل إذا قبحت في عين سيدها الذي خطبها لنفسه يدعها تفك وليس له سلطان أن يبيعها لقوم أجانب لغدره بها، وإن خطبها لابنه فبحسب حق البنات يفعل لها، وإن اتخذ لنفسه أخرى فلا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها، وأما الأسير من الأغراب فيكون لهم عبدا يتوارثونه إلى الأبد.
وأما الجزاء فهو على أنواع:
الأول:
القتل، وهو يشمل من ضرب إنسانا فمات، ومن غدر برجل فقتله عمدا فإنه يقتل ولو التجأ إلى مذبح الله ليحتمي من الموت، ومن شتم الله، ومن ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو تمرد عليهما وعصاهما، ومن سرق إنسانا وباعه أو أبقاه في يده، وصاحب الثور النطاح إذا كان أشهد عليه من قبل ولم يضبطه، ثم نطح إنسانا وقتله، فإن صاحب الثور يقتل والثور يرجم، ومن يعمل عملا في يوم السبت، والسحرة ومن كان به جان أو تابعة فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت، ومن ضاجع بهيمة من الرجال والنساء يقتل مع البهيمة أيضا، ومن أعطى من زرعه للأوثان، والزاني بامرأة قريبه والتي زنى بها، والزاني بامرأة أبيه أو كنته ومضاجع الذكور والزاني بعذراء مخطوبة (أعني مقدسة بخاتم التقديس)، وإذا حصل ذلك داخل المدينة أو في الحقول والبراري والتي زنى بها، وأما إذا وقع ذلك في الحقول فيقتل الرجل فقط، وأما الفتاة فلا، إذ لم يكن هناك من يخلصها لو صرخت، والفتاة التي إذا تزوجت وادعى زوجها بأنه لم يجد لها عذرة ووجد الأمر صحيحا جميعا يقتلون، أما من اتخذ امرأة وأمها فيحرقون جميعا بالنار، وأما من قتل نفسا بغير قصد، واستطاع أن يصل إلى مدينة من مدن الملجأ الست التي أمر الله بإقامتها ثلاثا منها في عبر الأردن، وثلاثا في أرض كنعان لمثل فاعل هذا الفعل قبل أن يلحقه ولي الدم ويقتله في الطريق، فإنه يبقى في المدينة التي يصل إليها إلى موت الكاهن العظيم، ومن ثم يرجع إلى ملكه ولا حرج عليه، أما إذا خرج منها قبل ذلك وقتله ولي الدم فيكون دمه هدرا ولا يقتل الآباء عن الأولاد ولا الأولاد عن الآباء، بل كل إنسان يموت بخطيته.
والثاني:
القصاص بمثل الذنب أعني العين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرجل بالرجل والكي بالكي والجرح بالجرح والرض بالرض،
1
أما إذا ضرب الإنسان عبده أو أمته بعصا ومات المضروب فينتقم منه، ولكن إن بقي المضروب بعدها حيا يومين أو ثلاثة فلا ينتقم منه؛ لأنه ماله، وأما إذا أتلف عين عبده أو أمته أو أسقط لأحدهما سنا فيلزم عتقه.
ثالثا:
أحكام الدية وهي تشمل الضارب إذا عطل إنسانا بضربه إياه عن عمله، فيلزم أن يعوض عطلته وينفق على شفائه، والذي يعدم في أثناء خصام مع آخر امرأة حبلى ويسقط جنينها بدون أذية فيلزمه أن يغرم المقدار الذي يطلبه منه زوج المرأة، وأما إن حصل أذى فترجع المسألة إلى حكم القصاص بالمثل أعني النفس بالنفس والعين بالعين إلخ، وكذلك صاحب الثور النطاح إذا أراد أهل المقتول أن يضعوا عليه دية فداء عن نفسه.
رابعا:
الجلد، فإن المذنب المستوجب الضرب يطرحه القاضي ويجلدونه على قدر ذنبه، بحيث لا يزيد على أربعين جلدة.
خامسا:
إذا أمسكت امرأة عورة رجل تقطع يدها، وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات المنطوح، يرجم الثور ولا يؤكل لحمه، وإن نطح عبدا أو أمة يعطى صاحبه ثلاثين شاقلا من الفضة والثور يرجم، وإن وقع ثور أو حمار في بئر أو حفرة لم يغطهما صاحبهما فصاحب البئر أو الحفرة يعوض من صاحب الحيوان دراهم والميت يكون له، وإن نطح الثور ثورا فمات المنطوح يباع الثور الحي، ويقسم ثمنه بين صاحب الثور الحي، وصاحب الثور الميت، وكذلك يقتسمان الميت أيضا، لكن إذا كان الثور معروفا بأنه نطاح من قبل ولم يضبطه صاحبه، فيعوض من الثور الميت بثور حي والميت يكون له، ومن يسرح مواشيه لترعى حقل غيره فيلزمه العوض من أجود حقله وأجود كرمه، وكذا من أوقد وقيدا أصابت ناره شوكا فأحرقت أكداسا أو زرعا أو حقلا، وأما من أودع عنده فضة أو أمتعة للحفظ وسرق ذلك من عنده، فإذا وجد السارق فعليه العوض باثنين وإلا فعلى الأمين اليمين بأنه لم يمد يده إلى ملك صاحبه، وهكذا في كل دعوى جناية من جهة حيوانات أو مفقود ما يقال إن هذا هو تقدم دعواهما إلى الله، والذي يحكم عليه بالذنب يعوض من صاحبه اثنين، وكذا من أودع عنده حيوان أو غيره فمات أو انكسر أو نهب وصاحبه غائب لا يلزمه إلا اليمين فقط، وليس عليه عوض، وأما إن سرق من عنده فيلزمه العوض، وإن افترس فعليه أن يحضر شهادة ولا يعوض، ومن استعار من صاحبه شيئا فانكسر أو مات وصاحبه ليس معه فعليه العوض، وأما إن كان صاحبه معه فلا يلزم ذلك، وإن كان مستأجرا أتى بأجرته.
سادسا:
أحكام السرقة وهي إذا سرق إنسان ثورا أو شاة فذبح ما سرقه أو باعه فيلزمه أن يعوض عن الثور بخمسة ثيران، وعن الشاة بأربعة من الغنم، وإذا ضرب السارق ومات وهو ينقب فليس له دم، ولكن إذا أشرقت عليه الشمس فله دم؛ لأنه يعوض وإن لم يكن له ما يعوض فيباع بسرقته، وإن وجدت السرقة في يده، وكانت ثورا أم حمارا أم شاة بالحياة فيلزمه العوض باثنين.
سابعا:
أحكام الزنا وهي من راود عذراء لم تخطب وضاجعها يلزم أن يمهرها لنفسه زوجة، فيعطي أباها خمسين من الفضة، وتكون زوجة له لا يقدر أن يطلقها كل أيامه، وإن أبى أبوها أن يعطيه إياها يزن له فضة كمهر العذارى وغير ذلك، كما هو مذكور في سفر التكوين، وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه أو اضطجع مع امرأة طامث يقطعون جميعا من شعبهما، وكذلك من كشف عورة أخت أمه أو أخت أبيه أو امرأة عمه أو امرأة أخيه، فإنهم جميعا يحملون ذنوبهم ويموتون عقيمين، وإذا اتهم رجل امرأته يأتي بها إلى الكاهن فيوقفها الكاهن أمام الرب ويأخذ ماء مقدسا في إناء خزف ويضع فيه من الغبار الذي في أرض المسكن، ثم يحلف المرأة بأنها لم تزغ ويكتب اللعنات التي يهددها بها في كتاب ويمحوها في الماء المر ويسقي المرأة ماء اللعنة المر، فإذا كانت قد تنجست وخانت، فيرم بطنها ويسقط فخذها وإلا فلا، ثم إن باقي أحكام الزنا قد ذكرت في أحكام القتل.
وأما أحكام الزواج فهي أن لا يكشف الرجل عورة أبيه ولا عورة أمه ولا امرأة أبيه ولا أخته ولا ابنة ابنه ولا ابنة بنته ولا أخته من أبيه ولا عمته ولا خالته ولا امرأة عمه ولا كنته ولا امرأة أخيه ولا امرأة وبنتها، ولا ابنة ابنها ولا ابنة بنتها، ولا تؤخذ أخت المرأة للضر في حياة أختها، وأما بعد وفاة الزوجة فمرخص، ولا تقرب المرأة في أيام طمثها، والمتزوج جديدا لا يخرج في الجند، بل يبقى حرا سنة واحدة ويسر امرأته التي أخذها، وإذا تزوج الرجل بامرأة ولم تجد نعمة في عينيه أو وجد فيها عيبا فيكتب لها كتاب طلاق ويطلقها، ثم إذا تزوجت رجلا آخر وطلقها أو مات الرجل الثاني فلا يجوز لزوجها الأول أن يراجعها، وإذا مات رجل عن غير ولد يأخذ أخوه امرأته والبكر الذي تلده يقوم باسم أخيه الميت.
وهناك أوامر ونواه وآداب لهذا الدين متفرقة في هذا القسم، أما الأوامر فهي برد كل مفقود يجده الإنسان لأصحابه، ومساعدة المبغض أيضا في حل حماره إذا كان واقعا تحت حمله، والقيام من أمام الأشيب، واحترام الشيخ، وإباحة الأكل من الكرم الذي يدخله الإنسان بقدر شبعه، بحيث لا يحمل منه شيئا إلى الخارج، وهكذا أيضا من الزرع، فإن له أن يقطف السنبل بيده ويفركه ويأكله، ولكن لا يرفع عليه منجلا، وأما النواهي فهي النهي عن اضطهاد الغريب ومضايقته، والنهي عن الإساءة إلى الأرملة واليتيم، وعن أخذ الربا ممن يقترض فضة من بني المذهب بخلاف الأجنبي (الذي لا يعترف بالله سبحانه)، فإن أخذ ذلك منه جائز، والنهي عن إبقاء ثوب مرهون من صاحبه إلى ما بعد غروب الشمس، وعن لعن رئيس الشعب، وعن موافقة المنافق والموافقة على عمل الشر، وعن تعويج كلام الأبرار، وعن الجور في الموازين والمكاييل، وأن لا يكون في كيس الرجل أوزان مختلفة كبيرة وصغيرة (وذلك لوزن دراهم التعامل)، والنهي عن طلب الانتقام والحقد، وعن إبقاء أجرة الأجير وطنيا كان أو غريبا إلى الغد، بل تعطى قبل غروب الشمس، والنهي عن شتم الأصم، وعن وضع معثرة أمام الأعمى، واستعمال العرافة والصيافة والفال والسحر والرقى وسؤال الجان والتوابع واستشارة الموتى، ولبس الرجل ثوب المرأة، والمرأة ثوب الرجل، وأخذ الطيور الحاضنة مع فراخها، وترك سطح البيت بلا حائط يصونه؛ لئلا يسقط أحد منه، وزرع الحقل الواحد صنفين، ولبس ثوب مختلط صوفا وكتانا، وإبقاء جثة المقتول بجناية إلى الغد إذا كان معلقا على خشبة؛ لأن المعلق ملعون من الله، ودخول ابن زنا من امرأة رجل ثان أو من المحرم زواجهن له لا يدخلون في جماعة الرب للأبد، وأما عموني أو موآبي إلى الجيل العاشر، وإدخال أجرة زانية أو ثمن كلب إلى بيت الرب عن نذر، ورجوع الرجل إلى حقله ليأخذ حزمة الحصيد التي يكون قد نسيها فيه، بل يتركها للغريب واليتيم والأرملة، وكذلك مراجعة أغصان الزيتون بعد خبطها، وتكميم الثوار في الدراس. ا.ه. والخلاصة أن عدد وصايا وأحكام الشريعة الإسرائيلية 613، وبيانها 248 وصية عمل، و365 وصية عدم عمل .
والمتأمل يرى من هذه الخلاصة أن الشريعة اليهودية المدنية كانت أساسا لكثير من الشرائع التي جاءت بعدها عند غيرهم من الأمم، وأنها كانت لتلك بمثابة الأم، ومع أن أحكامها أنزلت منذ آلاف من السنين وفي أحوال خاصة لعمران شعب خاص فلا يزال جزء كبير منها يعمل به في الشرائع المدنية إلى يومنا هذا، أضف إلى ذلك أن الإسرائيليين ظلوا عصورا بأسرها الشعب الوحيد الذي يؤمن بإله واحد، وأنهم حفظوه فيهم إلى أن انتشر بين غيرهم يتضح لك ما لهذه الأمة من الشأن في عمران العالم بأسره لما كان لها من التأثير في معتقده وشرائعه، وهذا التأثير لا يزال إلى يومنا هذا.
الفصل السادس
التلمود
قلنا: إن التوراة تحتوي على تاريخ اليهود إلى سنة 240ق.م، وأن فيها شرائعهم وطقوسهم ومعاملاتهم، وأنها الكتاب الذي يتمسكون بتعاليمه وأقواله، ونزيد الآن أنه ليس الكتاب الوحيد الذي يعتبرونه، وأن لهم كتابا آخر يعتبرونه اعتبارا فائقا وهو التلمود.
والتلمود مجموعة تفاسير وشروح وأخبار وإضافات وأحكام وضعها حكماؤهم وربنيهم والمجتهدون منهم وهو كبير الحجم يزيد عن عشرين مجلدا وضعت في عصور مختلفة وأحوال متباينة، وهو يتألف من المشنة
1
والجمرة،
2
وذلك أنه لما كثرت التقاليد وتشعبت أطرافها وازداد عدد الكتاب والمجتهدين الناظرين في هذه الشريعة، وكثرت الأحكام الصادرة من المجامع في الشئون المختلفة قام سمعان بن جاملئيل أحد علمائهم في طبرية، وذلك سنة 166ب.م، واستعان بزملائه وتلامذته على تنسيق تلك التقاليد والنظر فيها، فجمعوا ما تيسر لهم جمعه منها وعكفوا على غربلته وتبويبه، وظل العمل سائرا كذلك إلى أن أتمه يهوذا أهاناسي (أعني الرئيس) وتلامذته نحو سنة 216ب.م، فجاء ستة أقسام تحتوي على 63 مبحثا، فيها 524 فصلا، فكانت هذه المشنة على أنه بقي شيء من الشرائع التقليدية لم يدمج في هذا المؤلف، مع أنه سابق في التاريخ لزمان وضعه وزيدت إضافات وحواش وتفاسير بعد وضعه، فضلا عما كان منها في كتب أخرى لم يعثر عليها هؤلاء العلماء، فضمت هذه جميعا، وظل المجتهدون ينضون المطايا في سبل البحث ويجمعون ما يعثرون به من التفاسير والشروح، حتى كان آخر القرن الثالث بعد الميلاد فجمعت كلها، لكنها لم تدون في كتاب حتى منتصف القرن السادس، على أن جميع هذه التآليف لم تحسب كافية وافية جامعة مانعة، فتوجب إعادة النظر فيها بعد أن كثرت فتاوى العلماء وأحكام المحاكم، وبعد أن قامت المشاحنات بشأن تفسير بعض التقاليد وتأويلها، هذا فضلا عما طرأ على أحوال الأمة الإسرائيلية وغيرها من الأمم التي ساكنوها، مما جعل الأحكام القديمة غير وافية بالمطلوب منها في العصور المتأخرة، ودعا إلى تجديد البحث فيها.
والتلمود حقيقة اثنان؛ الأورشليمي نسبة إلى أورشليم، وهو الذي تم عمله في طبرية، والبابلي الذي تم عمله في بغداد، أما الأورشليمي ففيه اليوم 39 مبحثا من المشنة، مع أنه كان في القديم يحتوي على الأقسام الخمسة الأولى من الأقسام الستة المشار إليها آنفا، وكان الفراغ من تهذيبه في أواخر القرن الرابع وإنشاؤه أوضح وأجلى من إنشاء التلمود البابلي، ويمتاز عن ذاك بإيجاز مباحثه، أما التلمود البابلي فكان الفراغ الأول منه نحو أواخر القرن الخامس ولم يمض زمن طويل حتى اعتور التلمود تحريف وأدخل فيه تقاليد لم تكن هناك، وأضيفت إليه تفاسير وشروح وفتاوى جديدة، وسبب ذلك أن التلمود لم يكن قد قيد بعد في الكتب والدفاتر، فكان تحريفه سهلا، ثم إن انتشار اليهود في أنحاء الأرض، وكثرة المدارس والجمعيات اليهودية التي نشأت معهم أينما حلوا جعلت فرقا في أحوالهم بحسب تباين تلك الأحوال، فكانت الأحكام الصادرة من هذه الجمعيات في المكان الواحد تباين في بعض الأحايين أحكام جمعيات أخرى في مكان آخر، ولما كثر التحريف والزيادة قام أحد علمائهم المشهورين، وعني بتأليف التلمود ثانية بمعونة تلامذته ومريديه وكتبته، وقضى ستين سنة في التحبير والتحرير والتنقيب والتهذيب، وجاء بعده غيره فسعى سعيه واقتفى خطواته، فتم بذلك هذا العمل، وجاء كتابا كبيرا كما تقدم الكلام وهو بمثابة أنسكلوبيذيا كبيرة.
ويتألف التلمود البابلي اليوم من الأقسام الأربعة الأولى من الجمرة، وهو نحو أربعة أضعاف التلمود الأورشليمي، وفيه 36 مبحثا في 2947 صحيفة، ولغة التلمود الآرامية أو الكلدانية، وهي تقرب من السريانية، على أن الإضافات والشروح والمختارات من مجموعات المشنة والجمرة القديمة مكتوبة بالعبرانية، وفي القرن الثامن بعد الميلاد قام أحد العلماء في بغداد وتبعه فرقة رفضت التلمود واكتفت بما في التوراة بغير تفسير، وهذه الفرقة تسمى اليهود القرائين، والمعلوم أن الأمة اليهودية لم تعتبر ما في التلمود بمثابة شرائع رابطة كشريعة موسى، بل كان اعتبارها له مبنيا على قيمته الذاتية وكونه أساسا أو قاعدة للغتهم وآدابها، ومجموعة لجميع ما يختص بمعاملاتهم غير المذكورة في التوراة، فهو ولا ريب أنفس مجموعة للتقاليد اليهودية، ولما نقم ملوك الفرس على اليهود واضطهدوهم اضطهادا عنيفا في حكم يزدجرد الثاني وفيروز وقباد أجبروهم على إقفال مدارسهم نحوا من ثمانين سنة، فلم يبق لهم في ذلك العصر ما يهتدون بنوره، ويعتمدون عليه بعد التوراة سوى هذا التلمود، ولما أعيد فتح تلك المدارس وأذن للعلماء منهم في عقد الجمعيات لم تقل أهميته عندهم عما قبل.
وأفضل شروح المشنة التفسير الذي وضعه الأستاذ الأعظم المسمى موسى بن ميمون، ويسميه المؤرخون الميموني وبرتنورا، أما التلمود البابلي فقد وضع أحسن شروحه راشي والتسوفا ستيون في فرنسا وألمانيا، ولم يقتصر الميموني على ما فعل، بل اختصر التلمود خدمة للناظرين في جميع أجزائه وسمى كتابه «مشني توراة»، وإلى الآن لا يزال خزانة الديانة الإسرائيلية، وتأليفه كان بالكتابة العبرية وباللغة العربية الدارجة بمصر، وألف كتبا أخرى بالعربية ترجمها تلامذته إلى العبرية ولا تزال متداولة إلى الآن، وطبعت المشنة أول مرة في نابولي سنة 1492، وتوالت طبعات التلمود بعدئذ في عصور مختلفة وأماكن متفرقة، وقد ترجمت المشنة إلى لغات كثيرة، أما الجمرة فلم تتعد الترجمة فيها بعض الفصول، ولا نتولى في هذا المقام تعداد ما في التلمود من المباحث؛ لأن ذلك لا يقع تحت حصر، وقد سبقت الإشارة إلى مواضيع أقسامه على أننا ننقل هنا ما قاله فيه أحد الكتاب الأوروبيين: «لا بد أن يأتي يوم فيه يرى الناس أن التلمود من أهم تآليف العالم ، ولا يمكن تقدير ما فيه من مخبئات الكنوز التاريخية والجغرافية والشعرية والطبية وغيرها.»
الفصل السابع
فرق اليهود
أشرنا في الفصل السابق إلى الأسباب التي دعت إلى وضع التلمود في العصور المختلفة، وتكلمنا عن كثرة الجمعيات والمدارس والفتاوى في تلك العصور، ولا يخفى أن كل تحقيق في شريعة من الشرائع الدينية أو السياسية يئول إلى توليد فرق كثيرة كل فرقة منها تنحاز إلى مذهب، وتميل إلى تفسير، ثم تزداد الفروق بين هذه الفرق حتى يكون منها طوائف يجمعها الدين ويفصلها شيء من الاختلافات الخطيرة أو التافهة، واليهود في نظرهم في الشرائع لا يخرجون عن هذا الناموس، وعليه فقد نشأ فيهم من الفرق الدينية مثلما كان لغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وقد أفردنا هذا الفصل للكلام على فرقهم هذه بالإيجاز: (1) الفريسيون
واسمهم مشتق من معنى الإفراز دلالة على انفصالهم عن عامة الشعب فيما يختص بالسلوك، نشئوا في أيام المكابيين وغرضهم المحافظة على الشريعة والتمسك بها مع التقاليد الحرفية التي كان يتناقلها الخلف عن السلف، وكانوا يهتمون بدرس الشريعة وتفسيرها اهتماما عظيما، ولهم حدود دقيقة في التمييز بين الطاهر والنجس، حتى إنهم وضعوا للطهارة درجات يرتقي إليها الإنسان بعد الدرس والتكريس، ولم يكونوا يختلفون عن غيرهم من اليهود في المعتقد، وإنما كان همهم الوحيد منصرفا إلى طاعة الشريعة بحسب التفاسير الموجودة في التقاليد، وكانوا على الغالب الفئة المتعلمة من شعب اليهود، وكانوا يؤمنون أن حرية اليهود وكيانهم لا يحفظان إلا بحفظ الشريعة حفظا مدققا، وهذا موضع الخلاف بينهم وبين الصدوقيين، فإن هؤلاء كانوا ينادون بوجوب فصل الدين عن الحكومة قائلين: إن الله خلق الإنسان كفؤا ليتولى إدارة شئونه بنفسه، وإن من العبث الإخلاد إلى السكينة وانتظار إرادة الله، في حين أن الإنسان يستطيع أن يحل المشاكل التي أمامه بنفسه، وكان الفريسيون يؤمنون بالخلود حتى يجازى الإنسان في الحياة الأخرى عن أعماله في هذه الدنيا خيرا كانت أو شرا، أما الصدوقيون فإنهم لم ينكروا هذا القول ولا رفضوه، ولكنهم قالوا أن ليس في التوراة ما يؤيده، وأن لا حاجة لحياة ثانية بعقابها وثوابها.
وقد نشأ من الفريسيين جماعة من أكبر علماء اليهود في الشريعة والدين، وقد أشار الإنجيل إلى بعضهم، ويتضح من التلمود أن الفريسيين لم يكونوا جميعا على ما يرام، وأن كثيرين منهم كانوا كذلك بحسب الظاهر فقط، أما باطنا فكانوا يخالفون تعاليم فرقتهم، وقد قسم التلمود الفريسيين إلى سبعة أقسام، وقال: إن ستة من هذه السبعة لا تستحق الاعتبار لمخالفتها الغاية المقصودة، أما السابعة فأفرادها هم الفريسيون الحقيقيون، وهم الذين يعملون إرادة الله؛ لأنهم يحبونه. (2) الصدوقيون
هم أشراف اليهود وأبناء الأسر النبيلة فيهم ورجال الكهنوت منهم كانوا من الفرق الكبيرة، وبينهم وبين الفريسيين مشاحنات وخلاف أتينا على ذكر بعضها في الكلام على الفريسيين، ولا يعلم بالتأكيد سبب تسميتهم كذلك، وإنما ظن البعض أنه مأخوذ من مادة صدق، وأن اللفظة تعني الصادقين، والصحيح أنهم اتخذوا لقبهم من اسم زعيمهم صدوق الكاهن الذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد، وقد ظن بعض الكتاب والمؤرخين أن الصدوقيين يسلمون بصحة التوراة إلا أسفار موسى الخمسة، وأقام صدوق كاهنا في بيت المقدس الثاني ثمانين سنة، ويظهر من الجدال الذي كان بينه وبين الفريسيين أنهم كانوا غير راضين عنه لاعتقادهم أن أفكاره مضادة للتوراة، وكان له زميل اسمه بينوس قام بفرق أخرى، وعلم بالاكتفاء بما في التوراة وعدم الالتفات إلى التلمود، ويقال: إنه أول رجل في اليهود القرائين، وعلى ما يظهر أنه كان من حزب الصدوقيين، وظلت هذه الفرقة نحو ستمائة سنة هادئة، ثم ظهرت في بغداد، وهم اليهود القرائين المعروفين الآن. (3) الكتبة
كان الكتبة علماء الشريعة وحافظي تقاليدها، وكانت لهم العناية بحفظ الهيكل والمجامع تحت مراقبة الكهنة، وكان الشعب يوقرهم ويحترمهم، وكانوا معلمي الشريعة منتشرين في بلاد اليهودية بأسرها، ومن أراد درس الشريعة والتعمق فيها، ففي مدارسهم، ولما كان التعليم مجانيا فرض على الكتبة أن يمتهنوا المهن التي تمكنهم من تحصيل معاشهم، وكانوا درجات من حيث العلم والأهلية فبعضهم كانوا أعضاء في المجمع الأكبر، وبعضهم ناموسيين أو معلمين، ومن لم يكن منهم من العلم في منزلة تؤهله إلى هذه الأعمال كان كاتبا ينسخ الكتب المقدسة ويكتب الرسائل والكتب والعقود ... إلخ. (4) الأسينيون
فئة غريبة الأطوار، ولها علاقة بالديانتين النصرانية والإسلام، لا موضع لذكرها هنا، ويظن أن يوحنا المعمدان كان منها، كما يتبين من مقابلة أسلوب معيشته ومكان سكناه في البرية مع أسلوب معيشتهم ومكانهم كما سيأتي، وهم فرع من الفريسيين ورد ذكرهم ووصفهم في التلمود وتاريخ يوسيفوس وبينيوس والمقريزي وأبي الفرج، وأهم ما يعرف عنهم أنهم استقلوا بنفوسهم، وابتعدوا عن غيرهم واتبعوا طريقة التقشف في المعيشة إلى حد غريب، وكانوا يحتمون على نفوسهم الطهارة والابتعاد عن الأقذار والنجاسة، فكانوا يغتسلون كل صباح كالكهنة في مياه الينابيع الصافية، ولا يتعاطون تجارة، بل يعيشون على ما يزرعونه من الحبوب والفواكه، وكانت مقتنياتهم شائعة بينهم، فما للواحد منهم ملك غيره أيضا، وكانوا يفضلون العزوبة على الزواج لامتناع استمرار الطهارة الدائمة في الحالة الثانية، وكانوا يكرهون الدم ويبتعدون عن مواقع القتال؛ ولذا كان أكثرهم يتمنع عن الذهاب إلى الهيكل، حيث كانت الذبائح تقدم يوميا، وكانوا يستحضرون العقاقير ويجمعون الحشائش، ويشتغلون بشفاء الأمراض وإخراج الشياطين ولا يقسمون، وكانوا ينظرون إلى الفلسفة من حيث علاقتها بالله، ولم يزد عددهم عن أربعة آلاف في عصر من عصور وجودهم، وكانوا يقيمون حول البحر الميت، ولم تطل حياة هذه الفرقة فإنها كما انشقت عن الفريسيين عادت فاندغمت فيهم، وغاب ذكرها من الأذهان، حتى إنه في القرن الثالث بعد الميلاد لم يكن بين علماء اليهود من يذكر عنهم شيئا.
وقد بقيت فرق أخرى اتصلت أخبارها بنا، ولكنها ليست في مكان التي أتينا على ذكرها من الأهمية، وأشهر هذه الفرق السمرة، وسموا كذلك على اسم بلدهم المذكورة في التوراة باسم شومرون وهم من الإسرائيليين الذين عادوا من السبي قبل أن عاد الذين بنوا الهيكل، ولما أرادوا أن يتفقوا معهم على إعادة بنائه رفض هؤلاء فانفصل عنهم السمرة وبنوا هيكلا على قمة جبل جرزيم بقرب مدينة نابلس، واشتد العداء بين الفريقين حتى انقطعت بينهم المواصلات والعلاقات، والسمرة يتمسكون بالتوراة، ويرفضون التقليد، وقد بقي منهم إلى عصرنا الحاضر نحو ثلاثمائة، وهم في نابلس، وفي كل سنة يصعدون ثلاث مرات إلى جبل جرزيم هذا للعبادة منتظرين مجيء المسيح الموعود به.
ومن هذه الفرق الهيروديون وهم طائفة سياسية كانوا يميلون إلى هيرودس؛ لكي يقربهم من الرومانيين، والجليليون وهم أتباع يهوذا الجليلي الذي ظهر قبل الميلاد، وكان يقول أن لا ملك لليهود غير الله، والليبرتيون وهم من المشهورين، وغيرهم أضربنا عنهم حبا بالاختصار.
الفصل الثامن
بعض عوائد اليهود والموسيقى
لما كان عند اليهود بيت مقدس كانت الشريعة تلزمهم استعمال فن الموسيقى في العبادة الدينية والأفراح العمومية، كالأعياد ورءوس الشهور ونحوها، وذكر في التوراة أسماء كثير من الآلات الموسيقية التي لا يزال بعضها مستعملا إلى الآن.
1
لا يخفى أن في التوراة نشائد فرح وشكر وتسبيح وحزن ومراثي كمراثي داود على موت شاول وابنير، ومراثي أرميا على خراب أورشليم، ونشائد الغلبة والظفر والتهنئة كنشيد موسى على عبور البحر الأحمر، ونشيد دبورة وباراق وغيرهم، وكان اليهود يصعدون كل سنة ثلاث مرات إلى أورشليم في أعيادهم الثلاثة حسب وصية التوراة، وفي طريقهم كانوا يطربون أنفسهم ويخففون أتعابهم بالترنم،
2
وسفر المزامير هو مجموع نشائد كثيرة العدد ومتنوعة موحى بها من الله، ومنظومة لكي تجرى على جميع الألحان الموسيقية عندهم.
والموسيقى هي من أقدم الفنون النفيسة، فإن موسى يخبرنا أن يوبال الذي عاش قبل الطوفان كان أبا لكل ضارب في العود والمزمار،
3
وكان لابان يتشكى من صهره يعقوب أنه هرب خفية، ولم يخبره حتى يشيعه بالفرح والأغاني بالدف والعود،
4
ولما عبر الإسرائيليون البحر الأحمر نظم موسى تسبيحة ورنمها مع بني إسرائيل، وكانت أخته مريم تنشدها وجميع النساء وراءها بالدفوف.
5
وقد صنع أبواق فضة لأجل الهتاف بها في أفراحهم وأعيادهم ورءوس شهورهم وعلى محرقاتهم وذبائحهم السلامية، وداود الذي كان حاذقا بالعزف كان يسكن روح شاول الردي بواسطة الضرب في العود،
6
ولما استقل بالملك وقسم وظائف اللاويين وأشغالهم عين عددا عظيما منهم لأجل الغناء والضرب في آلات الطرب في الهيكل،
7
ولما أجمع رأي الإسرائيليين على نقل تابوت الرب من قرية يعاريم أصعده داود إلى أورشليم بأغاني وعيدان وربابات ودفوف وصنوج وأبواق،
8
وعلى هذا المنوال مسح سليمان ملكا،
9
وكان الأنبياء يستعينون باستعمال آلات الغناء عندما يتنبئون.
10
وكان آساف وهيمان ويدوثون رؤساء المغنين في خيمة الشهادة تحت يد داود، وفي الهيكل تحت يد سليمان، وكان لآساف أربعة بنين وليدوثون ستة ولهيمان أربعة عشر، فهؤلاء الأربعة والعشرون من اللاويين أولاد هؤلاء الثلاثة الرؤساء في الغناء في الهيكل صاروا رؤساء أربع وعشرين فرقة من المغنين يخدمون في الهيكل بالدور، وكان عددهم كثيرا هناك، ولكن كانوا يكثرون بنوع خصوصي في الأعياد العظيمة، وكانوا يصطفون بالترتيب حول مذبح المحرقة، وبما أن كل شغلهم ووظيفتهم في بيت المقدس كان عليهم أن يتعلموا الغناء ويمارسوه، لا ريب في أنهم قد أتقنوا ذلك جدا سواء كان بالصوت أو بالآلات.
11
وكان الملوك أيضا يستعملون الغناء، فإن آساف كان رئيس المغنين عند داود، وورد في أخبار الأيام الثاني ما يأتي، وأوقف اللاويين في بيت الرب بصنوج ورباب وعيدان حسب أمر داود.
12
ولا يمكننا أن نحكم على كيفية إجراء الألحان عند اليهود واستعمال الآلات إلا على سبيل الظن، نظرا إلى تقادم عهدهم وفقد معرفة ذلك، وقد ذكر في التوراة عدد وافر من الآلات الموسيقية، غير أنه لا يمكننا أن نصفها جميعها كما ينبغي، ولكن إذا قابلناها مع الآلات التي كانت مستعملة عند اليونانيين والرومانيين والمصريين يمكننا أن نصف البعض منها بحسب الإمكان، وسنذكر معها البعض من الآلات المعروفة في هذه الأيام لزيادة الفائدة.
وهذه الآلات قسمان أحدهما يختص بفن الإيقاع، أي: الأصول كالطبل والدف والنقارات والصنوج ونحو ذلك كثير، وهذا لا يتعلق بمعرفة الألحان، بل بقياس الزمان:
الأول منها:
الصنوج، ويقال لها: صنوج التصويت، وصنوج الهتاف،
13
وهي صفائح مستديرة من النحاس الأصفر
14
قطر كل منها نحو شبر، ولها في مركز أحد سطحيها عروة تمسك منها حين العمل بها الذي يتم بإمساك اثنتين منها كل واحدة بيد وضرب إحداهما على الأخرى لأجل الطرب.
ومنها الفقيشات، وهي صنوج صغيرة من نحاس أصفر يستعملها الراقصون في المراسح الواحدة منها قدر الريال المجيدي يوضع منها في كل يد صنجان أحدهما في رأس الإبهام، والآخر في رأس الشاهدة ليضرب بهما الأصول حين الرقص، ويوجد إشارة في التوراة إلى كلا النوعين، أي: صنوج اليد وصنوج الأصابع، وإلى استعمالها في الهيكل والأفراح العمومية،
15
ويقال لما يجعل في إطار الدف من الهنات المدورة صنوج أيضا.
الثاني:
الطبل، وهو أشكال كثيرة منها الطبل الكبير ذو الوجهين، وهو لوح رقيق من خشب ملتف يلاقي أحد طرفيه الآخر فيكون على شكل أسطوانة مستديرة مجوفة ارتفاعها نحو شبرين، فيشد على فوهتها رقا من جلد الخيل يضربون عليهما.
الثالث:
الدرابكة، ويقال لها: دربكة، وهي نظير جرة من فخار لها عنق طويل مقطوعة من وسطها الذي قطره نحو شبر ومشدود على مكان القطع رق ليضربوا عليه، والنقارات وهي طبول ذات وجه واحد مصنوعة من فخار أو نحاس على هيئة الطاسة يشدون على فوهتها رقا، والعمل يكون على اثنتين منها؛ إحداهما يضرب عليها الدم، والأخرى التك.
الرابع:
الدف أو الدف،
16
وهو طارة من خشب مشدود عليها جلد، فالكبير منه قطر دائرته نحو شبرين ويسمونه مزهرا يستعمله البعض في احتفالاتهم التعبدية، وعليه قول الشاعر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله
دم الزق عنا واصطكاك المزاهر
والصغير قطره عرض نحو عشرة أصابع، وموضوع في دائرته الخشبية صنوج صغيرة، والموسيقيون في بر الشام يسمونه دائرة، وفي مصر رقا، والعوام يسمونه دفا.
الخامس:
الجنك
17
جمعه جنوك، طوله ست عشرة عقدة، أو ثماني عشرة عقدة، والعمل به يتم بتحريك بعض أجزائه، وقد ذكره بعضهم بقوله:
رحمة العود والجنوك عليه
وصلوة العيدان والمزمار
السادس:
المثلث،
18
وهو آلة طرب على شكل المثلث يتم العمل به بتحريك بعض حلقات محيطة بأضلاعه، ولا نعرف عنه أكثر من ذلك.
السابع:
الجلجل،
19
وهو جرس صغير كان يعلق على ذيل جبة الرداء للكاهن الأكبر عند دخوله للعبادة في الهيكل.
القسم الثاني من الدوزان ما يختص بالألحان، ويقال له آلات التلحين، وهو نوعان ذوات أوتار،
20
وذوات نفخ،
21
أما ذوات الأوتار فمنها ما يشدون عليه وترا، ومنها ما يشدون عليه سلكا من حديد أو نحاس، ومنها ما يشدون عليه شيئا من شعر الخيل ونحوها، وهذه هي أسماء البعض منها: (1) ذوات الأوتار، أي: ما يشدون عليه وترا
الأول منها:
العود،
22
ويقال له: البربط أيضا، ويسمونه سلطانها، وهم يشدون عليه سبعة أزواج من الوتر مختلفة الغلظ والدقة؛ ولذلك يسميه الشعراء المثاني، وكل زوج من هذه الأوتار مشدود الوترين على نغمة واحدة لأجل ضخامة صوت النقر عليه، وأغلب استعمال الموسيقى يكون على أربعة أزواج منها، ويندر استعمال الأزواج الأخرى، ويعزفون عليه بضلع ريشة من جناح النسر يسمونها زخمة أو طزنة،
23
وهذه الآلة هي الأكثر قدمية عند اليهود من ذوات الأوتار وكانت خفيفة الحمل، وقد شاع استعمالها عندهم في أوقات الفرح، سواء كانت دينية أم غير دينية،
24
ومخترعها هو يوبال المذكور في الإصحاح الرابع من سفر التكوين.
الثاني:
القانون، وهو من الطبقة العليا من آلات الطرب ويعدونه وزيرها، ومع ذلك العمل عليه سهل جدا، وصوته كصوت آلتين تشتغلان معا؛ لأن جميع الأبراج التي يحتاج إليها العازف به مع قراراتها وجواباتها تكون مبسوطة قدامه ويداه متفرغتان للعمل فيشتغل باليد اليمنى على ديوان ما، وباليسرى على قراره، فيكون المسموع من الآلة صوتين معا جوابا وقرارا، وبما أن كل برج منه يحتوي على ثلاثة أوتار، فيكون صوته عبارة عن ست كمنجات تشتغل معا، وقد جرت العادة أن يشدوا عليه أربعة وعشرين برجا كل برج منها ثلاثة أوتار متساوية في الغلظ والدقة؛ ولذلك يسمونه المثالث كما يسمون العود المثاني، ووتر كل برج يكون أغلظ مما فوقه وأدق مما تحته.
قيل: إن الشيخ أبا النصر محمد الفارابي الذي كانت وفاته بدمشق سنة ثلاثمائة وتسع وثلاثين قدم بهذه الآلة على سيف الدولة علي بن حمدان العدوي، فجرى بينهما حديث طويل أفضى إلى أن ضرب بها، فأضحك كل من حضر في المجلس، ثم ضرب فأبكاهم ، ثم ضرب فأنامهم وتركهم نياما وانصرف.
الثالث:
الكمنجة، وهي نوعان: عربية، وسيأتي بيانها، وإفرنجية، وفيها كلامنا الآن، وعادتهم أن يشدوا عليها أربعة أوتار؛ أولها من الجهة اليمنى، وهو أغلظها وملفوف عليه سلك دقيق من نحاس، وثانيها أدق منه، وثالثها أدق منهما، ورابعها وتر أو خيط مزدوج مبروم من حرير أدق منهن، والأول يجعلونه قرار الرست، والثاني يكاه، والثالث دوكاه، والرابع نوى، والعمل في أخذ الأبراج والأرباع الباقية كالعمل في العود تؤخذ بالحبس على الأوتار بأصابع اليد اليسرى، ويعزفون عليها بقوس مشدود عليها جرزة من شعر الخيل، ويسمونها ترجمان سائر الآلات الموسيقية.
الرابع:
الرباب،
25
أو الربابة
26
وهو ذو صوت شجي مطرب؛ ولذلك شاع استعماله عند العبرانيين، وكان غالبا مثلث الشكل ومشدودا عليه من سبعة أوتار إلى اثني عشر،
27
وكان يلعب عليه باليد أو بطزنة، وقد رجح البعض أن هذا الاسم كان يطلق على طائفة من آلات الطرب تشبه العود مختلفة المقدار والهيئة، وأما ذات عشرة أوتار فليست آلة خصوصية، كما توهم البعض مما قيل في المزامير 62 : 4، بل هي الرباب ذاته، كما يظهر من المزامير 23 : 2، و144 : 9، والظاهر أنه يوجد مباينة بين الرباب المستعمل عند العرب، وهذا كما سيأتي.
الخامس:
الجتية، وقد ورد ذكرها في عنوان بعض المزامير،
28
والمظنون من اسمها أن داود أتى بها من جت، وهي بلد للفلسطينيين، والبعض يرجحون أنها اسم آلة ذات أوتار معروفة عندهم.
السادس:
الأوتار،
29
وهي ربما كانت اسم آلة خصوصية من ذوات الأوتار. (2) ذوات السلك المعدني
السابع:
السنطير أو السنطور،
30
وهذا يشدون عليه أربعة وخمسين سلكا كل ثلاثة منها على نغمة واحدة، ويعزفون عليه بزخمتين من خشب هيئتهما كشفرة السكين، وهو يشبه القانون بعدة اعتبارات.
الثامن:
الطنبور أو الطنبار، وهو ذو عنق طويل يشدون عليه غالبا ثمانية سلوك من حديد كل أربعة منها على نعمة واحدة ويعزفون عليه بزخمة من قرن البقر، وهو يعتبر عندهم أنه من أتم الآلات الموسيقية وأسهلها للعمل.
التاسع:
البزق، وهذا يشدون عليه خمسة سلوك حديد أربعة منها متقاربة بعضها لبعض وواحد منفرد عنها وجميعها على نغمة واحدة، ويشدون بمجاورة المنفرد منها سلكا من النحاس الأصفر مبروما على طاقين على نغمة أخرى، ويعزفون عليه بزخمة من القرن.
العاشر:
الطنبورة، وهي أصغر من البزق، وحكم السلوك المشدودة عليها والعزف عليها بها كحكم البزق، غير أن سلك النحاس فيها يكون على طاق واحد. (3) ذوات الشعر
الحادي عشر:
الكمنجة العربية، وهي نصف جوزة هند مثقوبة ثقوبا كثيرة، ومشدود على فوهتها قطعة من جلد الخيل، ومنظومة في أسطوانة خشبية، ومشدود عليها جرزتان من شعر الخيل؛ كل واحدة على نغمة ، ويعزفون عليها بقوس مشدود عليها جرزة من الشعر، وصوتها شجي مطرب للغاية، لكنها غير كاملة الترتيب.
الثاني عشر:
الرباب المستعمل عند العرب، وهو آلة مربعة الشكل مشدود عليها جرزة من شعر الخيل يعزفون عليها بقوس نظير الكمنجة، وهي آلة كثيفة يستعملها أهل البادية في إنشاد قصائدهم. (4) ذوات النفخ
أما ذوات النفخ فهي أنواع كثيرة ومنها:
الأول:
الناي
31
وهو سيدها، وهو يؤخذ من قصب الغاب المتقارب العقد، بحيث يكون طوله ثماني قبضات أو تسعا وعقده سبعا أو تسعا، فإن كانت تسعا يقال له: شاه.
الثاني:
الكرفت، وطوله نحو خمس قبضات وعقده خمس أيضا، وهو مع الذي قبله مفتوحا الطرفين، وليس في فوهتيهما آلة أخرى لأجل الصفير، ولكن يتم ذلك بصناعة النفخ فيهما.
الثالث:
الصافور، ويقال له: صوفيرة وشبابة، وهو قطعة قصب مثقوبة كالكرفت، ولها في فوهتها سدادة مفتوحة قليلا من ظهرها لينفذ منها النفخ ويحصل الصفير.
الرابع:
المزمار،
32
ويقال له: القصاب أيضا، وهو أسطوانة من خشب طولها نحو شبر مثقوبة الوسط، وفي رأسها ما يسمونها قشة لأجل الصفير بها، وهي قطعة قصب يقطعونها قبل بلوغها ويطبقونها بواسطة ملقط محمى بالنار، وهذا المزمار يقل استعماله في سوريا، وصوته عريض ومطرب إلى الغاية، وعليه قول الشاعر:
فدفناه بين أزرار ورد
ثم نحنا عليه بالمزمار
الخامس:
الزمر، وهو أيضا أسطوانة من خشب أسفلها متسع على شكل مخروط مجوف وفي رأسها قشة للصفير كقشة المزمار ولكنها صغيرة جدا، وصوته رقيق وعال جدا يسمع من مسافة بعيدة، لكنه غير مطرب، والبعض يسمونه صرناي والأتراك يقولون له: زرنا، ويوجد منه نوع صوته غليظ وواط يشتغلون عليه بمعية الأول يسميه الأتراك قبازرنا.
السادس:
الجناح، وهو أنابيب رفيعة من القصب مسدودة من الجهة الواحدة ومفتوحة من الجهة الأخرى، وغالبا تكون خمس عشرة أنبوبة، كل واحدة أقصر مما قبلها على نسبة الأعداد على النسق الطبيعي، أي: إذا كان طول أقصرها واحدا، فيكون طول الثانية اثنين والثالثة ثلاثة، والخامسة عشرة خمسة عشر، فيجمعون هذه الأنابيب بالقرب من فوهاتها بين مسطرتين على التوالي الطولى أولا، ويليها الأقصر منها ثم الأقصر ... إلخ، فيكون المجموع شكل مثلث قائم الزاوية أحد ساقيه الأنبوب الأول، والآخر مجموع فوهات الأنابيب المنضمة بعضها إلى بعض بواسطة المسطرتين.
وكيفية العمل عليه هي أن الضارب فيه يمسكه بيده، ويجعل فوهات الأنابيب تحت شفتيه وينفخ فيها صفيرا ويحرك هذه الآلة تحت النفس الخارج من فمه بحسب اقتضاء اللحن الذي يجريه، وهذه الآلة قديمة ومطربة، وقد مدحها بعض الشعراء بقوله:
حبذا السنطير مع صوت الجناح
السابع:
المزوج، وهو أسطوانتان من قصب متساويتان في الطول مضمومتان بربائط، وفي رأس كل منهما عقدة قصب رفيعة لأجل الصفير بها يسمونها بالصلوب، وفي كل واحدة منهما ثقوب بقدر ما يلزم للأنغام التي يتألف منها اللحن، وأكثر من يرغبه الفلاحون ورعاة المواشي.
الثامن:
الأرغن، وهو نظير المزوج، غير أن إحدى أسطوانتيه بغير ثقوب وأطول من الأخرى بمقدار كاف؛ ليصير صوتها قرارا لصوت تلك.
التاسع:
العنيز، وهو المزوج عينه، غير أن النفخ فيه يكون بواسطة زكرة من جلد، فيربطه المغني بأسفلها وينفخها بواسطة أنبوبة في جانبها الآخر.
العاشر:
البوق،
33
وكانت عادة اليهود أن يستعملوه لأجل دعوة الشعب في الحروب وفي الاجتماعات العمومية، كما تستعمل الأجراس في هذه الأيام،
34
وهو نوعان طبيعي وصناعي، أما الطبيعي فهو ما كان مصنوعا من محار
35
بعض ذوات الأصداف البحرية، وصناعي وهو ما كان مصنوعا من نحاس.
الحادي عشر:
بوق الهتاف،
36
والأرجح أنه هو ذات البوق المذكور آنفا.
الثاني عشر:
القرن ، وهو الذي يستعمل عند الإسرائيليين في الصلاة في عيد رأس السنة العبرية،
37
وهو كان يستعمل كالبوق لأجل دعوة الشعب، وكانوا أولا يتخذونه من قرون الثيران والمعزى، ثم صاروا يصنعونه من نحاس على هيئة القرن، ثم غلب استعماله من نحاس أو فضة مستقيم الهيئة على شكل الزمر تقريبا طوله نحو ذراع وسمي بالصور، وكانوا يضربون فيه للشعب في أيام السلم بصوت رخيم، وفي أيام الحرب بصوت عال جدا.
الثالث عشر:
الصور،
38
وهو قرن مستوي الهيئة يشبه الزمر تقريبا لا القرن، وقد تقدم الكلام عليه آنفا.
الفصل التاسع
تراجم مشاهير اليهود
اعلم أن المتقدمين من اليهود الذين لهم علاقة بالدين دون أشهر تاريخهم وتراجم حياتهم في التوراة، وهي كثيرة الشيوع يقرؤها الجميع ويعرفون منها أخبار هؤلاء المشاهير؛ ولذلك نقتصر هنا على ذكر بعضهم تبيانا لما حازوه من الشهرة العظيمة وما أتوه من الأعمال المعروفة، حتى إن المتأخرين على سعة اطلاعهم وغزير علمهم لا يزالون يترنمون بنظم أولئك الأفاضل وسمو أقوالهم ووافر حكمتهم. (1) داود
وهو ثاني ملك لإسرائيل وأصغر بني يسي ولد في بيت لحم يهوذا سنة 1085ق.م، واضطجع داود مع آبائه ودفن في مدينة داود، وكان الزمان الذي ملك فيه داود على إسرائيل أربعين سنة، في حبرون ملك سبع سنين وفي أورشليم ملك ثلاثا وثلاثين سنة، وكان لا يزال يرعى غنم أبيه عندما أرسل الله صموئيل إلى بيت لحم في العيد السنوي؛ لكي يقيمه ملكا على إسرائيل بدلا من شاول الذي وقع عليه غضب الله، وكان في صغره على جانب عظيم من الجمال والشجاعة والهمة عارفا بالألحان والتواقيع الموسيقية، وكان قصير القامة أشقر الشعر متلألئ العينين قوي البنية خفيف الحركة يسابق الإبل، وكانت ذراعاه القويتان تحني قوسا من النحاس، وقد دخل بلاط شاول الملك؛ ليسكن اضطرابه ويريحه بضربه على قيثاره من السويداء التي كانت تستولي عليه فجعله واحدا من حاشيته وحامل سلاحه، وطلب من يسي أن يسمح له بالبقاء في البلاط الملكي.
وبعد ذلك بعدة سنين حارب داود جليات جبار الفلسطينيين وقتله فحرك انتصاره حسد الملك فأخذ في تدبير الحيل لإهلاكه وحاول قتله مرارا، وقد أحبه يوناثان بن شاول وتعاهدا سوية على المحبة والإخاء إلى آخر حياتهما ورأته ميكال أخت يوناثان فشغفت به ومال قلبها إليه، وكان الملك قد وعده بإعطائه ابنته، غير أنه حنث بوعده وأخذ يفكر جهارا في قتله والتخلص منه، فأوقعه في أعمال خطرة منها أنه طلب منه مائة غلفة من الفلسطينيين مهرا لابنته ميكال فقتل داود منهم مائتين وصاهر الملك بعد ذلك.
ولما أخبره صديقه يوناثان أن أباه عازم على قتله هرب إلى أراضي الفلسطينيين ومعه سيف جليات، ولكنه لم يأمن شرهم وخاف على نفسه منهم فادعى الجنون وعاش عيشة عاص في أراض وعرة المسالك قرب اليهودية لا يعرفها أحد وجمع هناك زمرة من الأتباع الأشقياء الشاردين، وجعل والديه الشيخين تحت حماية ملك موآب لان يسي هو صغير راعوث الموآبية، وأحبط مساعي شاول في القبض عليه وسنحت له الفرصة بأن يقتل شاول منتقما منه لنفسه، إلا أنه لم يشأ أن يضع يده على مسيح الرب.
وقد رجع داود إلى فلسطين ومعه زمرة قوية من أتباعه وبقي هناك إلى أن قتل شاول وابنه يوناثان في واقعة جلبوع، وذلك نحو سنة 1055ق.م، فاعترفت به حينئذ قبيلته ملكا عليها فجعل حبرون (أي: الخليل) موطنا له، وأسف داود على موت صديقه يوناثان وأظهر في مرثاته عظم محبته له وتعلقه به وما كان يظهره يوناثان من صدق الولاء له بإخباره بعداوة شاول له وسوء تصرفه معه.
أما أبنير قائد جيوش شاول فنادى باسم ابنه أيشبوشث خلفا شرعيا على كرسي المملكة، غير أنه ما لبث أن مال إلى داود لما رأى من اتساع سلطانه وتزايد جنده وأعوانه، ثم قتل يوآب أبنير فأسف داود على قتل أبنير ورثاه أعظم رثاء، كما هو مذكور في التوراة في سفر الملوك وقتل الشعب إيشبوشث الملك، وكان داود قد انتقل بأمر إلهي إلى حبرون، حيث لاقاه رؤساء يهوذا ونادوا به ملكا على سبطهم، وبعد أن ملك سبع سنوات في حبرون اعترفت به الأمة الإسرائيلية ملكا عليها، وأخضع داود بقية الوثنيين ووسع نطاق مملكته من الفرات إلى البحر المتوسط ومن دمشق إلى الخليج العربي، وأقام قوات عسكرية للمملكة، وبعد أن طرد اليبوسيين من صهيون جعلها قاعدة لملكه فوسعها وأقام فيها المباني الباذخة الفخيمة والحصون المنيعة، وأخذ يكمل العبادة العامة وأتى بتابوت الرب إلى أورشليم ونظم خدمة الكنائس المقدسة، وكان يحيط به جمهور من الأنبياء والمرسلين، وكان عازما على بناء هيكل بيت مقدس للرب، فنهاه ناثان النبي؛ لأنه كان قد سفك دماء غزيرة في الحروب، وإنما وعده بأن الولد الذي يولد له هو يبنيه ووبخه على قتله أوريا الذي اتخذ زوجته بتشبع حليلة له وولد له منها سليمان الحكيم، وكانت شيخوخته محفوفة بالمتاعب والشقاء، وحدثت قلاقل كثيرة في بيته بسبب النساء وشهوات أولاده وأطماعهم.
وكان لداود ابن اسمه أبشالوم فشق عصا الطاعة لوالده وخرج عليه غير أن يوآب قائد الجيوش استظهر عليه وظفر به فقتله، فأسف داود لقتل ولده ورثاه أرق رثاء من عواطف أبوية وشفقة زائدة، وقام أدونيا ابنه الثاني بمؤامرة ضده ففشل في مسعاه وأعلن سليمان وارثا للملك، ولم يمض حين بعد هذه الحوادث والاضطرابات حتى توفي داود شيخا متقدما في السن بعد أن حكم على إسرائيل ما ينيف على 33 سنة، وأسس لملوك العبرانيين دولة ثابتة متينة الأركان، ووسع حدود مملكته وتركها عند مماته قوية عظيمة.
وقد كان داود شاعرا مجيدا ذا أفكار سامية ومعان جميلة، كتب مزامير كثيرة غاية في البلاغة، والمرثاة التي رثا بها شاول ويوناثان هي وحدها كافية للدلالة على أنه كان شاعرا كبيرا نشيطا ذا قوة فكر يندر وجودها في غيره، وفي شعره ما يشف عن سريرته وأحواله، ويوضح عن أعماله وقد جمع في أخلاقه بين قساوة الرجل وحنو المرأة، فإن الرجل الذي قتل جليات الجبار وأصلى نار الحروب يرثي يوناثان بكلام يرق له الجماد شفقة وحنوا، والذي أخطأ ببتشبع ولعن من أعدائه يبكي خطاياه بخشوع عظيم ويبارك لاعنيه والمتمردين عليه، وكفاه فضلا سفر المزامير المملوء حكمة وعقلا، وقد تركه للعالم للتعزية وللأفراح وللأحزان والمواسم والأعياد ينير العقول ويرشدها إلى طرق الصواب والهدى، وقد تفنن علماء النصرانية بترجمته ونظمه واستعماله في العبادة، وهذا مثال مما نظم للكنائس البروتستانية.
المزمور الأول
1 طوبى لمن لم يتبع مشورة الأشرار ولم يكن بواقف في طرق ذي الأوزار
2 ولا يكون مجلس الهازي له قرار لكن بناموس العلي يسر باستمرار
3 يلهج في ناموسه في الليل والنهار يكون مثل شجر في جانب الأنهار
4 وفي الأوان دائما قد ينتج الثمار أوراقه نضيرة تدوم في اخضرار
5 وكل ما يصنعه تراه في يسار ليس كذا الأشرار بل كالعصف في انتثار
6 فليس في الدين تقوم زمر الأشرار كلا ولا الخطاة في جماعة الأبرار
7 فإن ربي عالم بطرق الأخيار أما طريق فاعلي الشر فللبوار (2) سليمان
ويقال له: سليمان الحكيم، وهو ابن داود النبي الذي مر بنا اسمه وثاني ملوك بني إسرائيل، أمه بتشبع أو بتشابع اقترن بها داود بعد أن قتل بعلها أوريا، وكانت ولادته في أورشليم سنة 1033ق.م، وملك أربعين سنة 1021 إلى 981ق.م، ويسمونه بالعبرانية شلومو ومعناها ذو سلام.
لما توفي أخوه أبشالوم انتخبه أبوه من بين إخوته للجلوس على عرش المملكة وكان أصغرهم سنا، ثم تآمر بعض من الإسرائيليين واتفقوا على أن يملكوا أخاه أدونيا مكانه، غير أنه تثبيتا للأمر الإلهي أمر داود صادوق الكاهن أن ينزل سليمان إلى جيجون ويقلده الصولجان وينادي به ملكا، ثم توفي الملك داود فجلس سليمان على كرسي الملك، وكانت المملكة في أعلى ذرى المجد والسؤدد قد اتسعت مساحتها وانبسطت حواشيها، وتأيدت سطوتها وامتدت شوكتها من نهر الفرات إلى تخوم مصر ومن البحر المتوسط إلى خليج العقبة.
ولم تمض سنة على تسنمه العرش حتى أصدر أمرا بقتل أخيه أدونيا لذنب اقترفه، وألحق به يوآب رئيس جيشه الذي قتل أخاه أبشالوم، وقتل أيضا شمعي الذي أهان أباه عند هربه أمام أبشالوم عملا بوصية أبيه داود، فخلا له بذلك الجو وخضع له الشعب ودانت الحكام وتعززت به دعائم الملك وامتدت سطوته وبعد صيته واشتهر بحكمته الباهرة ودرايته وعدالة أحكامه، وواسع اطلاعه وعلمه، وانحاز إليه السواد الأعظم وأحبه شعبه لما رآه من شدة ميله إليه وسعيه في المحافظة على حقوقه وزيادة رفاهه، وزاد إيراد خزينته واتسعت التجارة في أيامه اتساعا لا مثيل له في تاريخ بني إسرائيل، وصاهر فرعون ملك مصر وعقد معاهدة تجارية مع حيرام ملك صور، فكانت سببا لزيادة المعاملات بين الدولتين اللتين اشتركتا في تجارتهما البحرية وتوثقت عرى المودة بينهما، وكان السلام والأمن سائدين مدة حكمه، والملك سعيدا عظيما.
وأتى سليمان أعمالا جليلة دلت على توقد ذهنه وسامي حكمته، واشتهر بلاطه بالغنى والأبهة، فصارت تتقرب الملوك منه وتحمل الهدايا النفيسة إليه خاطبة صداقته ووده، وأتته ملكة سبأ في موكب عظيم لتختبره فرأت من دلائل ذكائه وحكمته شيئا كثيرا حتى صغرت نفسها في عينيها، وعلمت أن ما سمعته عنه لم يكن شيئا مذكورا في جانب علمه الزاخر، وأعطاه الله من الحكمة والغنى ما فاق به سائر ملوك الأرض، وقد استخدم سليمان ما تركه له أبوه من المال الكثير والجيش المنظم لنشر رايات السلام في أنحاء المملكة، وأفرغ جهد طاقته في تحسين أحوالها وترويج مصالحها وتجاراتها، وكان ينفق الجزية التي تؤديها الأمم الخاضعة له في تشييد المباني العظيمة حاصرا اهتمامه ببناء هيكل الرب الذي شاده في جبل أرنان في أورشليم، وهو أعظم هيكل في العالم اشتغل به ما ينيف على مائة وخمسين ألف نحات ونقاش، فأتقنوا بناءه وزخرفته فجاء بناء فخيما جامعا لبهاء المنظر ومتانة البناء، والذي ساعده على تشييده هو حليفه حيرام ملك صور فإنه أرسل إليه عددا كبيرا من الرجال الماهرين في صناعة البناء والنقش، وأهدى إليه شيئا كثيرا من خشب أرز لبنان وسروه وصندله، وباشر سليمان بناء الهيكل في السنة الرابعة لملكه وأتمه في السنة الحادية عشرة، ونقل إليه تابوت العهد، واحتفل بذلك احتفالا عظيما دام عشرة أيام، أما رسم الهيكل وأثاثه ومحتوياته فمدون في سفر الملوك الأول، وهو شيء كثير يضيق عن وصفه هذا الكتاب، فاقتصرنا بالإلماع إليه لضيق المقام.
ومن أعمال سليمان العظيمة المفيدة بناؤه مدينة تدمر في العراء بين الشام والفرات تسهيلا للمواصلات التجارية وتوسيعا لنطاق التجارة، وعقد تجارة مع أوفير وهي فرضة على خليج العقبة في الهند، وأرسل سفنه مع سفن ملك صور إلى ترشيش وغيرها من البلدان فربح بذلك شيئا لا يحصى من الذهب والحجارة الكريمة، وأتى بخيل كثيرة من مصر لفرسانه ومركباته، وكان حرسه مؤلفا من اثني عشر ألف فارس وعدد مركباته الحربية 1400.
وهنا تغيرت سيرة سليمان وانقلبت طباعه، فقد رأى ما وصل إليه من الجاه والسطوة والغنى، وما بلغته مملكته من المنعة والمجد، فطغى وتجبر واتخذ في آخر أيام ملكه سبعمائة زوجة وثلاثمائة حظية من الأمم الأجنبية، مع كون التوراة حرمت على الملك تكثير النساء، فملكن قياده وسلبن لبه وأغرينه على عبادة الأوثان وتقديم الذبائح للآلهة الكاذبة، وارتكب خطايا كثيرة جرت عليه وعلى بلاده قصاصا شديدا وبلاء جسيما، وثقلت وطأة الضرائب على رعاياه، بعد أن كانوا في أمان ورغد عيش يحسدون عليهما، وانقلبت حالتهم إلى الفقر والمذلة، وقد استغنم رزون بن رداع السوري فرصة هذا الانقلاب السريع، فاستولى على دمشق وأنشأ فيها مملكة مستقلة، وضايق بها الإسرائيليين مضايقة شديدة، وغضب الله على سليمان فأسقطه من عالي مجده وباسق فخره إلى دركات الذل، وأنذره أن مملكته ستنقسم بعد مماته ولا تخضع لابنه إلا قبيلة واحدة، وقد سمي جبل الزيتون جبل الهلاك لكثرة الخطايا المتعددة التي ارتكبها سليمان عليه، وتوفي سليمان سنة 975ق.م، فانقسمت المملكة بعد وفاته إلى مملكة يهوذا، وكانت مؤلفة من عشر قبائل، ومملكة إسرائيل وكانت مؤلفة من قبيلتين فقط.
ويظن أكثر المؤرخين والباحثين أن سليمان تاب بعد حماقته وكفر عن ذنبه، واستغفر الله على ما ارتكبه من الخطايا، وأن سفر الجامعة دليل كاف على توبته وندمه، وهو سفر جليل يعلمنا بطل الأشياء الدنيوية ومخافة الله تعالى وحفظ وصاياه.
حكمة سليمان: يقال: إن الله وهب سليمان الحكمة والذكاء، بعد أن تراءى له في الحلم، وقال له: اسأل ماذا أعطيك؟ قال: أعط عبدك قلبك فهيما، وقد كان سليمان ذا فطنة وذكاء وذاكرة قوية قلما توجد في مخلوق، وأعظم دليل على ذلك فتواه في قضية الأمين اللتين تخاصمتا أمامه على الولد الحي والولد الميت، وله دلائل كثيرة غير هذه يطول ذكرها، وقد تقدم سليمان في كثير من العلوم بعد أن درسها طويلا وبرع في الطبيعيات وعلم الحيوانات والطيور والدبابات، وكتب في ذلك فصولا طويلة، ونطق بثلاثة آلاف مثل وألف وخمسين نشيدا، وكلها آيات في الحكمة وكنز لا يفنى لبني الإنسان، وكتب غير ذلك نشيد الأنشاد والجامعة.
وقد تفنن حضرة الأستاذ الفاضل والشاعر الشهير المعلم أسعد شدودي بنظم أمثال سليمان فاتت مثالا بديعا في متانة المبنى وجمال المعنى، ونحن ننقل منها هنا الإصحاح الثالث تفكهة للقراء لما فيه من الفوائد الجزيلة والنصائح الثمينة؛ وذلك لتبيان شيء من أمثال سليمان الحكمية وإقرارا بفضل الناظم وبراعته:
يا ولدي لا تنسين شريعتي
بل احفظن في الحشى وصيتي
فإن حفظها يطيل العمرا
وليس هاويها يخاف الضرا
إياك ترك رحمة وحق
فالبسها قلادة في العنق
واكتبهما يا ابني على الجنان
ليرسخا تبغي رضا الرحمن
فنعمة وفطنة في ذا ترى
في عين مولاك وأعين الورى
ولذ بصخرة الدهور الصمد
لكن على فهمك لا تعتمد
في كل طرقك اعرف القديرا
فهو الذي يقوم المسيرا
لا تعتقد بكونك الحكيما
واخش القدير الخالق العظيما
واقصد لذلك اجتناب الإثم
فخشية الباري انتعاش الجسم
وأكرمن الرب من أموالك
وأعطه المبكار من أغلالك
فتمتلي من حنطة خزينتك
كذا تفيض عنبا معصرتك
تأديب رب الناس لا تحتقرا
يا ابني ومن تونيبه لا تضجرا
لأن من يحبه يؤدبه
رب الورى وكابنه يؤنبه
طوبى لفائز بنور الحكمة
فإنها للمرء خير قنية
قيمتها أغلى من الجواهر
وهي تفوق كل شيء فاخر
العمر في يمينها والسعد
وفي يسارها الغنى والمجد
لسالك في طرقها اغتنام
وكل مسلك لها سلام
شجرة الحياة في جنانها
طوبى لمن يعطو جنى أفنانها
قد أسس الأرض العلي بحكمته
وأثبت الباري السما بقدرته
بعلمه قد شق لج البحر
والسحب جادت بالندى والقطر
لا تنسين يا ابني التحذيرا
ولاحظن الرأي والتدبيرا
هما حياة النفس بل سعاده
تزين عنق المرء كالقلاده
حينئذ تمشي بلا عثير
بالأمن تخشى الله في المسير
ترتع في بحبوحة السلام
وفي الدجى تلتذ بالمنام
لا ترتعب من باغت إذا بدا
ولا تخف من مفسد إذا عدا
بل عذ بخلاق الورى من الأذى
فهو يصون الرجل من أن تؤخذا
لا تمنع المعروف عن شخص يرى
مستأهلا إسعافه بين الورى
ما تستطيع العمل الجميلا
ولا تراع مانعا مقولا
ولا تقل لصاحب يأتيكا
يطلب حقه غدا أعطيكا
ماذا ترى يفيدك الإمهال
في دفع حق ولديك المال
لا تخترع شرا على الصديق
والجار والقريب والرفيق
وارفق به لكي يعيش ساكنا
أرغد عيش مطمئنا آمنا
ولا تخاصم أحدا لم يذنب
إليك لا تظلمه دون سبب
لا تحسدن ظالما قد نجحا
في طرقه وبات يخشى مرحا
لا تمش في سبيله الذميم
فإنه رجس لدى العليم
باري البرايا سره يعطيه
لمستقيم القلب من يرضيه
في منزل الشرير لعنة العلي
فلا ترى من بهجة في المنزل
لكن يبارك القدير الباري
مشرفا منازل الأبرار
يهزأ بالمستهزئ الشنيع
ويمنح النعمة للوديع
الحكما يلقون مجدا زاهرا
ويحمل الحمقى هوانا ظاهرا
ونظم المرحوم رزق الله ابن نعمة الله حسون الحلبي سفر الجامعة وسفر نشيد الأنشاد وغيرها من أسفار التوراة باللغة العربية شعرا، وطبعت في ديوان سمي أشعر الشعر ننقل عنه الفصل الثاني عشر من الجامعة، وهو:
1 عليك في الشباب ذكر الخالق
قبل زمان الشر والبوايق
وحجج تقول فيها ما بقي سرور
2 قبيل ما عين الضحى تعور
ويظلم النور النجوم والقمر
ويرجع السحاب من بعد المطر يمور
3 إذ زعزعت حفظة المساكن
أن يتلوى الغلب الدهاقن
إذ نزرت وتبطل الطواحن تدور
يومئذ يغشى على الأحداق
تطل من نوافذ أو طاق
من دامس مقتنم الأغساق ديجور
4 إذ تغلق الأبواب في السوق دعه
إذ ليس للإرحاء بعد الجعجعه
يقام للصوت إذا ما أسمعه عصفور
5 تحت قينات الغنا الغوالي
أيضا يخافون القدير العالي
وفي الطريق كثرة الأهوال نذير
ويزهر اللوز به لا يحفل
والجندب يومئذ يستثقل
وشهوة الحيوان أيضا تبطل تبور
لأنه يسري بكل أحد
والمرء ذاهب لبيت أبدي
في السوق للنعاة وسط الجدد تبور
6 قبل انفصام سبب اللجين
أو سحق كوز الذهب الثمين
أو كان للجرة عند العين تكسير
وقبل يوم إذ على البئر تقف
من لغب الأحشاء تبغي ترتشف
بكرة الرشاء تلوى تنقصف تغور
7 فيرجع التراب للأرض كما
كان ورجع الروح لله سما
إلى الذي قد كان أعطى منعما تحور
8 غر الأباطيل وساءت خادعه
بئس الأماني للنفوس الطامعه
الكل في الدنيا يقول الجامعة غرور
9 بقي أن الجامعة كان حكيما، وأيضا علم الشعب علما عظيما، ووزن خبيرا
10 وبحث تنقيرا، وأتقن من الأمثال كثيرا، الجامعة طلب أن يجد كلمات مسرة، مكتوبة بالاستقامة والمبرة، كلمات حق غرة
11 كلام الحكماء كالمناسيس، وكأوتاد منغرزة التأسيس، أرباب الجماعات
12 قد أعطيت من راع واحد رئيس، وبقي فمن هذا يا ابني الوقاية الوقاية لعمل كتب كثيرة لا نهاية
كثرة الدرس ضنى تعب للجسد
13 فلنسمع ختام الأمر كله
اتق الله وصاياه احفظن
إنما الإنسان هذا كله
14 يحضر الأعمال تخفى كلها
خيرها والشر يوم الدين هو (3) دانيال
هو دانيال النبي وأحد الأنبياء الأربعة العظام، قيل: إن معنى اسمه الله قاض، أو قاضي الله، وهو من عائلة شريفة عريقة في الحسب والنسب، ويظن أنه ولد في أورشليم حسب ما حققه المؤرخ الشهير يوسيفوس، وأنه هو الذي كتب سفر دانيال الذي أخذ منه معظم تاريخه.
وقد مدح النبي حزقيال حكمته السامية وتقواه.
وقد أتي بدانيال سنة 606ق.م إلى بابل مع ثلاثة شبان عبرانيين وهم: حنانيا وميشايل وعزاريه، وذلك بعدما تغلب نبوخذ نصر ملك بابل على يهوياقيم ملك يهوذا وسبأ سبطه، واختاره البابليون هو ورفقاؤه ليتعلموا لغة الكلدانيين وعلومهم، وأدخلوهم في القصر الملكي وغيروا أسماءهم، وسمي دانيال بلطشاصر، وبعدما تعلم ثلاث سنوات أعطاه الله فرصة لإظهار علمه وحكمته، وما خص به من الفكر الثاقب والمواهب السامية، ففسر حلما للملك نبوخذ نصر كان قد أزعجه وأقلق باله فكافأه على ذلك بجعله رئيس الشحن على حكماء بابل، ثم فسر حلما آخر للملك وهو أن الله سيقاصصه على عنفوانه وكبريائه.
ولم يذكر دانيال بعد ذلك في أيام خلف نبوخذ نصر، ولا في أيام خلف خلفه القصيرة، ولكن تردد ذكره في أيام بيلشاصر آخر ملوك بابل الكلدان الذي رأى وهو في وليمة أصابع إنسان تكتب على حائط القصر، ولم يستطع حكماء المملكة على قراءة هذه الكتابة أو تفسيرها، ولما دعي دانيال لينظر فيها فسرها بسقوط مملكة بابل وتسلط الماديين والفرس عليها، وذلك لسبب استخدامه في الوليمة إناء الذهب المأخوذ من بيت الرب، وفي مدة ملك بيلشاصر حلم دانيال حلمين مذكورين في الإصحاح السابع والثامن من سفره.
ولما تغلب الماديون والفرس المتحدون على بابل وملكوها، وجلس داريوس على كرسي المملكة وجه دانيال عنايته إلى تدبير أمور شعبه الإسرائيلي وإرجاعه إلى وطنه، وكان قد قرب الزمان الذي ينتهي فيه سبي الإسرائيليين حسب نبوءة أرميا، ففي ذلك الحين عظم شأنه وعلت منزلته عند داريوس لما رأى من همته وثباته وحصافة عقله فقربه إليه وجعله أول وزرائه الثلاثة، فحسده كثيرون على منزلته وقام له أعداء أقوياء، فكادوا له المكايد لإسقاطه وإهلاكه، ومما أتوه أنهم سعوا عند الملك فاستصدروا أمرا ملكيا ينهى الجميع عن تقديم صلاة إلا للملك واعتباره إله مدة ثلاثين يوما، ومن خالف هذا الأمر يطرح في جب الأسود، وقد حدث ما كانوا ينتظرون، فإن دانيال لم ينقطع عن إقامة الصلاة حسب عادته ثلاث مرات في اليوم تاركا كوى بيته مفتوحة فوشوا به إلى الملك فأمر بطرحه في جب الأسود، ولكن الله خلصه من أفواهها بأعجوبة عظيمة، وبعد ذلك أعاده الملك إلى منصبه معززا مكرما كما كان من قبل وزاد نفوذه وعلت مكانته وأعاد الإسرائيليين إلى أوطانهم.
وقد نجح دانيال أيضا في ملك كورش الفارسي، ويظهر أنه فارق بابل بعد قليل؛ لأن رؤياه الأخيرة كانت إلى جانب دجلة وبابل على الفرات، وكانت تلك الرؤيا في السنة الثالثة من ملك كورش، وذلك سنة 435ق.م.
هذا وسيرة دانيال وسلوكه في بلاط بابل تشبه سيرة يوسف في بلاط فرعون؛ لأنهما كليهما كانا عاقلين حكيمين متضلعين في العلوم وأمور تدبير المملكة حسني السيرة والسريرة، وقد حافظا كلاهما على ديانتهما وتمسكا بها تمسكا شديدا، مع أنهما كانا محاطين بعبادة الأوثان وأصناف العوائد الفاسدة، وقد ارتقى كل منهما بحكمته واستقامته من العبودية إلى أعظم منصب في مملكة وثنية، وكانا مثالا عظيما في مخافة الله والأمانة والفضيلة الشخصية. (4) إستير
من لم يسمع باسم هذه المرأة الشهيرة التي خلصت شعبها من الهلاك ودافعت عنه مدافعة الأبطال، وأعلته إلى ذرى المجد ورفعة الشأن وأتت أعمالا خطيرة دونت في صحف التاريخ، ولا يزال صداها يردد على توالي الأيام، اسمها الأصلي بالعبرانية «هدسه»، وهي لفظة تفيد معنى الآس، أما اسمها الفارسي فإستير، ومعناه الكوكب أو السيار المسمى بالزهرة، وهي معروفة بالاسم الأخير الذي لقبت به عندما أحبها الملك وعظمت في عينيه، وقد اعتاد ملوك الشرق في قديم الزمان أن يغيروا اسم كل من كان محبوبا منهم مشمولا بعواطفهم وأنظارهم دلالة على علو مكانته، وعليه لقبت إستير بهذا الاسم عندما دخلت القصر، أو عندما وضع التاج على رأسها.
ولدت إستير منفية في بلاد فارس واسم أبيها إبيحايل توفي وتركها صغيرة السن فتبناها عمها مردخاي، واعتنى بتربيتها وتثقيف عقلها، وكان لها أبا ووصيا.
وبعد أن عزل أحشيورش ملك الفرس الملكة وشتي لمخالفتها أوامره، وعدم انقيادها إلى إرادته أرسل رجالا من قبله يطوفون أنحاء المملكة وينتقون الفتيات العذارى الجميلات، ويبعثون بهن إلى القصر ليختار الملك واحدة منهن ويجعلها ملكة مكان وشتي، فجيء بكثيرات، وكانت إستير منهن فأدخلت على الملك فنالت حظوة في عينيه أكثر من سائر العذارى وأحبها حبا شديدا لما كانت عليه من الجمال الباهر والأدب الكامل، ووضع التاج على رأسها في الحال، وذلك في السنة السابعة من ملكه وأولم يوم تمليكها الولائم وفرق العطايا وعفا عن المجرمين وخفف الضرائب عن رعاياه، ويظهر من الحوادث التي جرت بعد ذلك أن ما وصلت إليه إستير من علو المكان كان بإرادة إلهية لتخليص الشعب الإسرائيلي من أعظم الويلات وإعلاء شأنه ومنزلته.
وبعد مضي زمن قليل على تمليكها أعلمها عمها أن بعضا من حراس القصر يتآمرون على قتل الملك ويدبرون الحيل لإهلاكه، فأبلغت الملك ذلك ففحص عنه، وبعد أن تأكد صحته أمر بصلب المتآمرين، وكانت في كل أعمالها ملتزمة الحياد لا تظهر ميلا إلى شعبها، مع أنها كانت تحبه حبا عظيما، فتبعت في ذلك نصائح عمها مخافة أن تثير البغضاء والحسد في قلوب أشراف الفرس، فيسعون في إسقاطها وتنقلب النعمة نقمة عليها ووبالا على أمتها، ومع ما اتخذته من التدابير لإخفاء هذا الميل العظيم ظهر أخيرا، وظهرت معه عناية الله ببني إسرائيل في إقامة إستير ملكة على الفرس.
في ذاك الوقت كان الوزير الأول في المملكة رجل يسمى هامان الأجاجي، هذا كان محترما عند الشعب، وكان الملك يعزه ويظهر من إكرامه والاحتفاء به الشيء الكثير، حتى إنه أمر أن يسجد له خدام القصر، فكانوا يسجدون للأذقان ما عدا مردخاي عم إستير، فإنه لم يسجد له ترفعا من جثوه أمام رجل عماليقي يقل عنه معرفة وإدراكا، فاحتدم هامان غيظا وحنقا على مردخاي، ولا سيما بعد أن علم أنه يهودي وأضمر له ولشعبه الشر، وجعل يسعى في تدبير المكايد لإبادة يهود المملكة عن بكرة أبيهم، فأغرى الملك بذلك فوافقه على مشروعه وأصدر منشورا عموميا للحكام والولاة بقتل اليهود في اليوم الثالث عشر من الشهر من الصبي الصغير إلى الشيخ الكبير، وبلغ الخبر مدينة شوشن فخافوا خوفا عظيما ومزق مردخاي ثيابه حزنا، وكاد ينفطر غيظا من هامان كل ذلك جرى ولم يبلغ مسامع إستير شيء؛ لأنها كانت مع بقية نساء القصر في غرف متطرفة تحرس ليلا ونهارا، فلا يسمح لهن بالمداخلة في الشئون السياسية ولا لأحد بمقابلتهن، غير أنها علمت أن عمها منحرف الصحة متكدر حزين، فأرسلت تستعلم عنه فأخبرها بكل ما حدث وطلب منها أن تجتهد في مقابلة الملك، وتتضرع إليه أن يعفو عن شعبها وتبذل جهدها في إنقاذه.
ومن عادات ملوك الفرس المحفوظة أنهم كانوا يحكمون بالموت على أي شخص دخل عليهم دون استئذان ما لم يمدوا إليه قضيب الذهب علامة العفو والمغفرة، وقد ذكر المؤرخون أن السياف كان يبطش بمن يدخل بغير أن ينتظر أمر الملك، وكانت إستير تعرف جيدا مآل هذه الشريعة، غير أن حبها الشديد لعمها وتعلقها القوي بأمتها ودينها حملاها على مقابلة الملك والمخاطرة بحياتها لخلاص شعبها، وأكبر دليل على تقواها واتكالها على الله في جميع أعمالها أنها صامت هي وجواريها ثلاثة أيام، وطلبت من يهود المدينة أيضا أن يصوموا معها، وفي اليوم الثالث لبست ثيابا بديعة مطرزة من القصب ودخلت على الملك.
وكان يصحب إستير خادمتان، فكانت متكئة على إحداهما، أما الأخرى فكانت ترفع أذيال ثوبها، وهكذا حضرت أمام الملك واحمرار الخجل يعلو محياها والسرور والبهاء يكللان طلعتها الجميلة الزاهرة، إنما سمات الخوف أبت إلا أن تظهر عليها، وكان الملك جالسا في الدار الداخلية حيث مسكنه الخصوصي، ولا يقدر أحد على المكوث فيها إلا خصيانه، ومن كان عزيزا عنده، ولما وقع نظرها عليه ورأته جالسا على العرش تعلوه سمات الهيبة والوقار، وقد تقطب وجهه غيظا، لما دنت منه ارتمت بين ذراعي واحدة من وصيفاتها وقد أغمي عليها، فتأثر الملك من هذا المنظر ودبت فيه عواطف الحب والحنو، فوثب عن كرسيه وأخذها بين ذراعيه واضعا قضيب الذهب في يديها؛ ليؤكد لها أنه لا ينالها شر ولو كانت غير مراعية حرمة القانون.
وقد سلكت إستير في جميع أعمالها بذكاء غريب ونباهة قوية أوتيت بهما من العلاء، فإنها لما رجعت إلى نفسها من الإغماء لم تفاتح الملك بما كان يخالج فؤادها ولم تخبره بسبب مجيئها إليه؛ لأنها لو فعلت ذلك للحقها الفشل والخذل، ولكنها طلبت إليه أن يأتي هو وهامان إلى وليمة تعدها لهما، فرضي بذلك وأمر هامان أن يصحبه فسر هامان وعد دعوة إستير الملكة شرفا له ورفعة لمقامه، ولم تذكر إستير شيئا للملك في الوليمة الأولى، بل دعته إلى وليمة ثانية وفي أثنائها قصت عليه ما تعرفه عن هامان، وأخبرته بحقيقة الأمر وما أضمره من الشر لليهود، وأظهرت له بأجلى بيان رداءة وزيره وخبث طويته ونياته وفظاعة العمل الذي شرع في ارتكابه، فنجحت مساعيها وأثرت كلماتها في الملك تأثيرا شديدا، فانقلب على وزيره هامان، فأمر بصلب هذا الظالم الغشوم على ذات الخشبة التي كان أعدها لمردخاي ووهب جميع ما يملكه من مال وعقار إلى الملكة إستير، وقد رأى الملك مهارة مردخاي وجدارته وما طبع عليه من الصفات الحسنة، وتذكر خدماته السابقة ومن جملتها كشف الستار عن الدسيسة التي دبرها رجال القصر لاغتياله، فأعطاه وظيفة هامان بكل حقوقها وامتيازاتها.
ولما كان الأمر الذي أصدره الملك بقتل جميع اليهود لا يمكن إبطاله؛ لأن ذلك مغاير لسنة من سنن مادي وفارس، وهي أن أمر الملك لا يرد في أي حال من الأحوال، فكر أحشويروش في طريقة لتلافي هذا الخطب، وكانت إستير تلاحقه دائما وتريه فظاعة هذا العمل وما سيجلبه من العار والهوان على المملكة، وبعد التفكر طويلا أمر الملك فأرسلت كتابات لجميع يهود المملكة تؤذن لهم من قبله أن يجتمعوا في اليوم الثالث عشر من شهر آذار (وهو اليوم الذي عينه هامان لإيقاع الأذى بهم)، ويدافعوا عن أنفسهم ويقتلوا كل من يتعدى عليهم ويبادئهم بالعدوان، فعمل اليهود حسب إشارة الملك وقتلوا من أعدائهم في شوشن القصر وحدها ما ينيف عن خمسمائة رجل، ومن جملتهم أولاد هامان العشرة الذين صلبوا إرهابا للبقية، أما اليهود المتفرقون في المملكة فقد قتلوا في اليوم ذاته 75000 نفس مدافعة عن أنفسهم، غير أنهم لم يمدوا أيديهم إلى النهب والسلب، وقد وقع هذا الحادث العجيب العظيم في اليوم الثالث عشر من شهر آذار، فأنشأ مردخاي وإستير عيدا تذكارا لهذا الخلاص وعيدا أيضا اسمه عيد البوريم والاقتراع، ولا يزال اليهود إلى الآن يحتفلون بالعيد المذكور في 14 و15 آذار.
هذا بعض من سيرة إستير الشهيرة التي تكتب وإلى جانبها أسماء الذكاء والشجاعة وعلو الهمم وحب الأمة والوطن، وهي تعلمنا كيف يجب على الإنسان أن يحب شعبه ودينه، ويخاطر بحياته في المدافعة عنهما والذود عن حقوقهما المقدسة.
أما سفر إستير فهو من أصغر الأسفار التاريخية المذكورة في التوراة العبرانية وأحد الكتب المسماة «المجلة»، وتمتاز لغته العبرانية عن غيرها بما فيها من الكلام المحدث وعدم ذكر الله البتة، وهذا مما يدل على أن هذا السفر ترجم من تاريخ فارسي، وقد نسب تأليفه إلى عزرا ومردخاي وغيرهما من مشاهير اليهود، وكتب العلماء المعاصرون عدة مؤلفات في سيرة إستير منها كتاب بومفرتن بالألمانية، وكتاب رائدسون بالإنكليزية، وكتاب أوبرت بالفرنسوية، وقد نظم راسين الشاعر الفرنسوي الطائر الصيت سيرة إستير وجعلها رواية تمثيلية وحيدة في بابها، وكتب مثل ذلك بعض النبهاء في مصر وسورية بالعربية. (5) يوسيفوس
يوسيفوس المؤرخ الشهير.
إذا عدت رجال اليهود الذين نبغوا في العلوم والمعارف واشتهروا بعلو الهمم وسامي المدارك، فكانوا مثالا حميدا في حب الوطن والمدافعة عنه وتضحية حياتهم إعلاء لشأن أمتهم ورفع منارها عد يوسيفوس في طليعتهم جهادا، وكان من أشهرهم بلا منازعة، فمن لا يعرف هذا الاسم الشهير، وقد ملأ ذكره صفحات التاريخ، ومن لم يقرأ شيئا من كتاباته ومباحثه التاريخية المفيدة، ولا يخلو تاريخ مدقق منها، فيوسيفوس هو المؤرخ الذائع الصيت الذي قضى حياته باحثا ومنقبا، فاكتشف كثيرا من أسرار التاريخ الغامضة التي كان يعز الوقوف على مبادئها ونتائجها، وهو الذي أتى أعمالا مجيدة قرنت اسمه بالمجد وأذاعت في العالمين شهرته، فكم مرة خاطر بحياته ذائدا عن حقوق أمته ووطنه، ولا بد من إعلان ذلك تدوينا لذكره، بحيث يرى من ترجمته أنه كان جامعا بين بلاغة المؤرخ وتضلعه والحاكم العادل والقائد الخبير المحنك والقاضي المتشرع إلى غير ذلك من الخلال العزيزة المنال.
كتب يوسيفوس ترجمة حياته بنفسه ودون في كتابه حرب اليهود أخباره وأعماله مسهبا فيها، فلم يبق لأحد مجالا إلى البحث للوقوف على ما له علاقة بسيرته.
ولد هذا الرجل العظيم في السنة الأولى من ملك كاموس قيصر «كاليفولا»، أي: سنة 37 أو 38 للميلاد، ويؤخذ من كتابه أنه عريق في الحسب والنسب يمتد تاريخ عائلته إلى زمن بعيد، واسم أبيه متياس، وقد كان في أعلى درجات الكهنوت وأمه من آل حشمناي الذين تولوا الملك ورئاسة الكهنوت معا، فهو إذن يوسف بن متياس، وليس ابن كوريون كما قال ابن خلدون، فأضل كثيرين من الباحثين، ولم يذكر في كتب التاريخ إلا باسم يوسيفوس وعرف بهذا الاسم أيضا، ويقال: إنه كان في أيام يوسيفوس رجل آخر بهذا الاسم، وكان شاغلا مركزا مهما في الحكومة.
وكان في صغره قوي الذاكرة متوقد الذهن تلوح عليه مخايل النجابة والذكاء، ولم يبلغ الرابعة عشرة من عمره حتى برع في كثير من العلوم التي كانت معروفة في عصره، واشتهر بين قومه بالهمة وأصالة الفكر فصار الكهنة ووجوه أورشليم يستشيرونه في جلائل الأمور، ويرجعون إليه في تفسير المسائل الشرعية العويصة، ولا يخلو هذا القول من الإغراق والمبالغة، ولكن يوسيفوس يبالغ في الكلام عن نفسه مبالغة تثبت ما قيل عنه، ولما بلغ السادسة عشرة جعل يدرس مذاهب اليهود الشائعة في ذاك الأوان، واختار منها مذهب الفريسيين وتمذهب به.
وذاع بين قومه أنه مخلص لوطنه يريد الخير لبني جنسه، ولنا على ذلك أدلة ساطعة وشواهد قاطعة لا تفند ولا تنقض، فمن ذلك أنه قصد رومية متحملا مشاق السفر وغير مبال بأخطار الطريق سعيا في تخليص الكهنة الذين قبض عليهم والي اليهودية وكبلهم بالقيود، وقد غرقت السفينة به ونجا مع بعض الركاب فركب سفينة أخرى وبلغ رومية، وما زال يسعى ويجد حتى توصل إلى مقابلة بوبيا زوجة نيرون القيصر، فتوسطت له في إطلاق سراح الكهنة وأعطته هدايا وتحفا نفيسة.
ولما رجع إلى وطنه ورأى اليهود مستظهرين على الرومانيين يتشاورون في نبذ سلطتهم لما أنزلوه بهم من الظلم والجور نهاهم عن فعلهم، وأنذرهم بوبيل العقبى إذا ثابروا على خطتهم؛ لأن الرومانيين كانوا أناسا أقوياء متدربين على الفنون الحربية، وأجزل من اليهود عددا وعددا فلم يصغوا إلى كلامه والاهتداء بنصحه وإرشاده، وخشي أنهم يحسبونه للأعداء أو مشاركا إذا زاد في تحذيرهم، فهرب إلى دار الهيكل الداخلية، ثم استظهر العصاة على قائد الرومانيين وهزموه شر هزيمة فشقت البلاد كلها عصا الطاعة وأقام الشعب يوسيفوس واليا على الجليل، فكان أول ما فكر فيه جمع كلمة قومه؛ ليكونوا يدا واحدة في اتحادهم، وسعى جهده في توثيق عرى التواد والإخاء ليعود إلى البلاد استقلالها وتتحسن أحوالها، ورأى ورأيه الموفق إلى الصواب والخير أن البلاد لا تتقدم إلا برفع منار العدل ومعاملة أهلها بالسواء، فاختار سبعين رجلا من الوجهاء النافذي الكلمة الحسني السيرة، فأشركهم معه في السلطة وأقامهم حكاما على الجليل، وعين سبعة قضاة في كل مدينة للفصل في المشكلات، وأمر أن ترفع إليه الدعاوى الكبيرة لينظر فيها هو والسبعون شيخا.
ولما استوثق له الأمر وعين الحكام وسن القوانين أعمل فكره في صيانة البلاد وصد هجمات الأعداء عنها، ودفع تيار طمعهم فيها؛ لأنه كان معتقدا أن الرومانيين يتأهبون سرا لاسترجاعها على حين غرة، وكانت باكورة أعماله بناءه أسوارا عظيمة حول المدن الكبيرة وإنشاء الحصون والمعاقل المنيعة، وانتقى من أشداء الرجال مائة ألف ونظمهم جيشا وسلحهم ودربهم على الفنون الحربية، وعلمهم كيف يستعملون البوق ويزحفون ويهجمون ويتقهقرون، وأقام عليهم رؤساء وقوادا إلى غير ذلك من الفنون الحربية، وكان يشجعهم ويشدد عزائمهم، ويقول لهم: إن الرومانيين من أشد الناس بأسا وأصعبهم مراسا، وأنهم لا يصدون هجماتهم عن البلاد، ويأمنون عن العباد إلا إذا مهروا في فنون الحرب، وفرقهم بعد ذلك فرقا على المدن للدفاع عنها إذا استوجبت الحال، ومن كلامه المأثور أن الجندي لا يتغلب على غيره إلا إذا كان شجاعا باسلا كبير النفس، حسن الأخلاق، وأنه لا يرجى تقدم ولا فلاح لمن كان فاسد السيرة والسريرة؛ لأنه يفقد الشجاعة الأدبية، ومن كان جبانا في نفسه فلا تنفعه قوة بدنه وعضلاته؛ لأنه يحجم عن القتال مثل أضعف الناس.
وقام له أعداء أقوياء دبروا الحيل ودسوا الدسائس للتمثيل به، مدفوعين إلى ذلك بما طبعوا عليه من الحسد والخساسة، وقد كادوا له المكايد الكثيرة، ولكنه نجا منها بحزمه وثباته، ومن هؤلاء الأعداء يوحنا بن لاوي ويشوع بن صفياس حاكم طبرية، قال يوسيفوس: «وكان يشوع بن صفياس رجلا شريرا مفسدا، فأخذ شريعة موسى بيده، ونادى أهل طريخية قائلا: إن لم تكرهوا يوسيفوس من قبل أنفسكم فاكرهوه لأنه أساء إلى شريعتكم، وأوقعوا به العقاب الذي يستحقه. ثم أخذ بعض الرجال المسلحين وأسرع إلى البيت الذي كنت فيه ليقتلني وكنت مستغرقا في النوم من شدة التعب، لا أعي على شيء، ولكن سمعان الذي كان قائما على حراستي رآهم آتين فأيقظني وأخبرني بالخطر المحدق بي، وطلب مني أن أسمح له ليقتلني فأموت موت الأبطال قبل أن يقبض علي أعدائي ويقتلوني بأيديهم، أو يضطروني أن أقتل نفسي بيدي، أما أنا فسلمت أمري لله ولبست جبة سوداء، وخرجت في طريق آخر وأتيت ساحة المدينة، حيث كان الشعب مجتمعا وطرحت نفسي على الأرض وبللت التراب بدموعي، حتى إذا رأيت أمارات الشفقة والحنو على وجوههم عزمت أن أوقع فيهم الشقاق قبلما يرجع الرجال المسلحون الذين مضوا إلى بيتي ليوقعوا بي، فقلت لهم: هبوا أني مذنب كما تقولون، ولكن اسمعوا حتى أخبركم لماذا حفظت المال المنهوب، ثم اقتلوني إن أردتم (وكان بعض من اليهود قد هجموا على امرأة بطليموس وعلى اليهودية، وسلبوا ما كان معها من الجواهر والنقود وأتوا بها إلى يوسيفوس، فلم يسمح لهم بأخذها وحفظها عنده لردها لأصحابها قائلا: إن الشريعة لا تجيز لنا سلب الأعداء، وكانت غايته أن يصطلح مع الرومانيين إذا وجد سبيلا إلى ذلك، فأخذها يشوع خصمه حجة عليه)، ولم أتم كلامي حتى عاد الرجال الذين ذهبوا إلى بيتي، فهجموا علي يريدون قتلي إلا أن الشعب منعهم من ذلك، فامتنعوا حاسبين أنني إذا أخبرتهم بحفظي المال المنهوب لأرده إلى الوالي ثبتت لهم خيانتي فيسمحون بقتلي، فلما سكتوا كلهم وقفت وقلت: يا أبناء وطني لست ممن يكره الموت إذا أستحقه عدلا، ولكنني أريد أن أخبركم بحقيقة هذا الأمر قبل أن أموت، فإني أعلم أنكم ترحبون بالغرباء؛ ولذلك كثر النزلاء في مدينتكم وجاءوكم ليشاركوكم في السراء والضراء، فعزمت أن أبني بهذا المال سورا حول مدينتكم؛ ولذلك أراكم غضابا علي. ولما قلت ذلك جعلوا يشكرونني ويشجعونني إلا أن أولئك اللصوص الذين قصدوا الإيقاع بي خافوا أن أعود فأنتقم منهم، فاختاروا ستمائة رجل مدجج بالسلاح وتبعوني إلى بيتي عازمين أن يحرقوه بي، وبلغني ذلك فرأيت أنه لا يليق أن أهرب من وجههم، وقلت: إن الحزم أولى في هذه الحال، فأمرت أن تقفل أبواب البيت وصعدت إلى غرفة عالية، وخاطبت الجمع منها قائلا: أرسلوا إلي واحدا منكم لأدفع إليه المال الذي تطلبونه فلا يبقى داع لهذا السخط، فأرسلوا رجلا من أشدهم بأسا ، فلما مثل بين يدي أمرت به أن يجلد ثم قطعت يده وعلقتها في عنقه وأرجعته إليهم على هذه الصورة، فلما رأوه خافوا وحسبوا أني لم أفعل ذلك إلا وعندي جيش أقوى منهم، وأني أعاقبهم مثله إذا قبضت عليهم، فأركنوا إلى الفرار.»
ولم يكتف خصومه بما فعلوا، بل أعادوا الكرة عليه وأخذوا يغرون اليهود للانتقام منه، وادعوا أنه رجل ساحر استخدمه الرومانيون لقضاء مآربهم وتنفيذ غايتهم، فنصح لهم وأقنعهم بالبراهين القوية أنهم مغرورون، فالواجب أن لا يصغوا إلى كلام المفسدين، ولكن أعداءه لم ينفكوا عن إيغار الصدور وتلفيق الدسائس والوشايات ضده، وما زالوا يسعون ويهيجون حتى قام أهل طبرية عليه وكادوا يقتلونه لو لم ينج من بين أيديهم بحيلة عجيبة، وأخذ يبحث بعد ذلك عن مثير هذه الفتنة حتى عثر عليه وأمره بقطع يده فقطعها.
ولما بلغ القيصر نيرون أن اليهود هزموا عسكره، وألقوا بهم الويل والنكال وقتلوا منهم عددا كبيرا أرغى وأزبد، ولكنه أخفى غيظه وغضبه وأظهر الصبر والجلد، ونسب ما لحق بجيوشه من الفشل إلى إهمال القواد وعدم تبصرهم، وجعل يفكر في أخذ ثأره وكبح جماحهم وإخضاعهم لسلطته، ويسعى في تعبية الجيوش وإعداد المعدات اللازمة، وانتخب لذلك أشهر قواد عصره المدعو أسبسيانوس (أوفسبسيان)، وهو رجل قضى عمره في الحروب والغزوات حنكته أهوال المعارك حتى صار قائدا خبيرا بعيد النظر ملما بالفنون الحربية كلها، وقد حفظ القيصر أبناء هذا القائد رهائن عنده خوفا من أن يغدره.
وبعد أن جمع أسبسيانوس الجنود الرومانية سافر لساعته عن طريق الدردنيل ومر بأنطاكية، وكان الملك أغريباس الثاني في انتظاره هناك مع جنوده فرحلوا سوية إلى عكاء، ولما وصلوها وجدوا كثيرين من اليهود الذين لم يشتركوا في الثورة، بل بقوا خاضعين للرومانيين، ثم جاء ابنه تيطس، وجاءت جنود كثيرة من الشام وبلاد العرب حتى بلغ عدد جنوده ستين ألفا.
وجمع يوسيفوس جنوده في مدينة جثباتا، وهي أمنع معاقل الجليل وأخذ في التأهب والاستعداد لمقاتلة الأعداء، وأما أسبسيانوس فسر بتحصن اليهود فيها وزحف عليهم بخيله ورجله ظانا أنه متى تغلب على هذه المدينة، وقبض على يوسيفوس دانت له البلاد كلها، وقد أمر قواده فأحاطوا بالمدينة وبنوا حولها الحصون والمعاقل، واستولى الرعب على اليهود في بادئ الأمر، ولكن حرص أعدائهم واستعدادهم زاداهم شجاعة ونشاطا، وفي اليوم التالي هجم الرومانيون على المدينة فصدهم اليهود عنها وردوهم على أعقابهم، ولما رأى أسبسيانوس أن المدينة حصينة جدا شرع في إقامة أكمة عالية إلى جانب السور ليصل إلى أعدائه، فزاد يوسيفوس ارتفاع السور عشرين ذراعا وبنى عليه أبراجا كثيرة وقال لرجاله: الآن ابتدأنا الحرب الحقيقية والموت خير من حياة الذليل فافعلوا ما يذكركم به الخلف وموتوا موت الأبطال، وقد رأى الرومانيون ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة واغتاظ قائدهم، واقتصر على تشديد الحصار على المدينة حتى يموت أهلها عطشا وجوعا.
ومضت أيام كثيرة واليهود يخرجون كل يوم إلى المدينة ويقاتلون الأعداء، ويصدون هجماتهم حتى عيل صبر أسبسيانوس وسئمت نفسه، فعزم أن يتقرب من الأسوار ويرميها بالكبش (وهو خشبة كبيرة في إحدى طرفيها قطعة من الحديد)، فخاف يوسيفوس العاقبة وأمر أن تملأ أكياس كبيرة بالنخالة وتدلى على الأسوار حتى تمنع عنها فعل الكبش، ووثب رجلان شجاعان من الجليل إلى ما بين الرومانيين وأثخنا فيهم وتبعهما يوسيفوس مع بعض رجاله أوقدوا النار بين معداتهم وأحرقوا آلاتهم، وصوب رجل من اليهود سهمه إلى أسبسيانوس فأصابه وجرحه جرحا خفيفا، ولكنه تجلد وأخفى الألم وأخذ يستنهض همة رجاله حتى عزموا أن ينتقموا له أشد نقمة، وما زالوا يضربون الكبش على السور حتى تمكنوا من ثغره، ونصبوا عليه السلالم وأخذوا يتسلقون عليها ويرشقون النبال إلى المدينة.
ولما رأى يوسيفوس أن الرومانيين اقتربوا كثيرا وهم يفوقون رجاله عددا وعددا استولى عليه الخوف والجزع، ولكنه لم يقطع الأمل ولجأ إلى استنباط حيلة يخلص بها، فأمر بصب الزيت المغلي على الرومانيين وهم يتسلقون السلالم فنزل على أبدانهم فوقعوا يتمرغون في التراب من شدة الألم، وهلك منهم كثيرون.
وجاء في مجلة المقتطف الأغر مترجما عن النسخة الإنكليزية التي نقحها العالم شلتو ما نصه:
وفي اليوم السابع والأربعين من حصار المدينة كانت التلال التي نصبها الرومانيون أمامها قد صارت أعلى من أسوارها، وفي ذلك اليوم هرب واحد من المدينة ومضى إلى أسبسيانوس وأخبره بما حل بأهلها من الفناء والوهن، وأنه يسهل عليه دخولها في الهزيع الأخير من الليل حينما يرين الكرى على الحراس فلم يصدقه أسبسيانوس لما رآه من أمانة اليهود وبعدهم عن الخيانة، لكن كلامه كان معقولا ولا خوف من تصديقه فأمر أن يحتفظ به.
ولما جاءت الساعة زحفوا من غير صوت حتى بلغوا السور فصعد عليه تيطس أولا مع بعض رجاله وقتلوا الحراس، ودخلوا المدينة وتبعهم غيرهم ولم يدر بهم أحد؛ لأن الجميع كانوا نياما من شدة التعب فوضعوا السيف فيهم ولم يرحموا أحدا، وقتل كثيرون أنفسهم بأيديهم لكيلا يقتلهم الرومانيون، ولجأ بعضهم إلى برج في الجهة الشمالية من المدينة وتحصنوا فيه ففتحه الرومانيون عنوة وقتلوهم ولم يستحيوا ممن وجدوه في المدينة غير النساء والأطفال، وكانوا اثني عشر ألفا فسبوهم، وقتل من اليهود في فتح المدينة وحصارها أربعون ألفا، وأمر أسبسيانوس أن تهدم كل البيوت والأبراج والأسوار فهدموها، وكان ذلك في السنة الثالثة عشرة من ملك نيرون واليوم السابع من شهر تموز.
ولما دخل الرومانيون المدينة وامتلكوها هرب يوسيفوس، والتجأ إلى كهف منفرد مع أربعين رجلا ريثما يتسنى له الهرب من وجه الأعداء، وقد عرفت بمكانه امرأة فأخبرت أسبسيانوس فأرسل في الحال أحد قواده المدعو نيكانور لمقابلته وإعطائه الأمان من قبله، وكان نيكانور صديقا حميما ليوسيفوس من زمان قديم، فلما قابله طلب إليه أن يسلم نفسه إليهم ولا يخاف على حياته، وقال له: إن الرومانيين يحبون الرجال الشجعان ويحترمونهم، ويعترفون أنك رجل شجاع باسل دافع عن بلاده مدافعة الأبطال؛ ولذلك يجلون قدرك ولا يمدون إليك يد الأذى، بل تكون عندهم عزيزا مكرما، فتردد يوسيفوس بادئ بدء في قبول ذلك، ولكنه عزم أخيرا على التسليم، ولما عرف رفقاؤه تجمهروا عليه وتهددوه بالقتل، وقالوا له: «الآن تئن نواميس الآباء ويسخط الله الذي خلق نفوس اليهود من معدن يحتقر الموت، فهل أنت راغب في الحياة يا يوسيفوس؟ وهل تستطيع أن ترى النور وأنت عبد ذليل؟ ما أسرع ما نسيت نفسك وكم من رجل أقنعت لكي يضحي حياته على مذبح الحرية، لقد كذب من قال: إنك رجل وإنك حكيم إذا كنت ترجو أن يبقي عليك الذين عاملتهم هذه المعاملة، ولكن إن كانت مواعيد الرومانيين تنسيك نفسك فنحن لا ننسى مجد آبائنا، إذا كنت تموت باختيارك فتموت قائدا لليهود، وإلا فتموت ميتة خائن.» فأخذ يوسيفوس يخاطبهم وينصحهم أن يرجعوا عن غيهم بعد أن جرى ما جرى ويقلعوا عن المقاومة؛ لأنه لم يبق منهم رجال إلا القليل، وكانت غايته الصلح مع الرومانيين وإبقاء الحالة على ما هي عليه مع الاعتراف بسيادة الرومانيين، فلم ينتصحوا لكلامه، ولما أعيته الحيل عرض عليهم أن يعملوا قرعة فيقتلوا بها بعضهم البعض فرضوا، وصار الواحد يقتل الآخر حتى لم يبق إلا هو ورجل آخر، فنصح يوسيفوس أن يستأمن إلى الرومانيين ولا يسعى إلى حتفه بظلفه؛ لأن الله يريد حياته فقبل بذلك، وأتي به إلى أسبسيانوس فقال له: «لو كان يمكنني لقتلت نفسي بيدي ومت موت الأبطال، ولا أسلم لك، ولكني كاهن ونبي فلا يليق بي ذلك، وبأمر الله أقول لك: إنك أنت وابنك تيطس ستجلسان على سرير الملك في رومية فضع الحديد برجلي حتى إذا لم تتم نبوتي اقتلني.» فضحك من كلامه ولم يصدقه، ولكنه عامله بكل رفق ولين وقد تمت نبوته بعد ذلك.
وبعد أن انتهى أسبسيانوس من أخذ جثباتا وأسر يوسيفوس دوخ بلاد اليهود وفتح يافا وطبرية والكرك (طريخية)، وأم قيس (جدرا) وغيرها، ومشى من هناك على أورشليم يريد افتتاحها.
وفي هذه المدة توفي نيرون الظالم فخلفه على كرسي الملك بعض من القواد، ولكنهم لم يحسنوا التصرف ولم يكونوا أهلا للقيام بأعباء هذه الوظيفة السامية، وحينئذ اجتمع القواد الذين مع أسبسيانوس ونادوا به إمبراطورا على المملكة الرومانية، فرفض في بادئ الأمر وفضل أن يبقى في قيادة الجيش، فتجمهر عليه رجاله وهددوه بالقتل فقبل وبايعه أهل الشام ومصر وآسيا الصغرى وغيرها من البلدان التي كانت تحت سلطة الرومان.
وقد تذكر أسبسيانوس نبوءة يوسيفوس فاستدعى جميع قواده وأخبرهم بشجاعته وبسالته وما أنبأه به، وقال: عار علينا إذا أبقينا هذا الرجل في القيود بعد أن أنبأني بما وصلت إليه الآن، وكان واسطة لإبلاغ صوت الله إلي، ثم أمر أن يؤتى به وتفك قيوده، وكان ابنه تيطس حاضرا، فقال: يا أبتاه لا تكفي أن تفك القيود، بل يجب أن تكسر كسرا؛ لكي تزيل وصمة العار التي لحقتك منها، فأمر أسبسيانوس بكسرها وأحسن إليه كثيرا وأكرمه، وسافر راجعا إلى بلاده تاركا قيادة الجيش لابنه تيطس.
فسار تيطس وجميع رجاله إلى أورشليم وحاصرها وبنى حولها الآكام العالية، وأخذ يرميها بالحجارة الكبيرة، وكان اليهود والخوارج هناك منقسمين إلى أحزاب عديدة يقاتلون بعضهم بعضا، فلما رأوا الرومانيين اجتمعوا يدا واحدة على الدفاع حتى آخر نقطة من دمائهم.
وحصلت بين اليهود والرومانيين معارك عديدة أظهر فيها الفريقان من الشجاعة والإقدام ما يحفظ لهم الذكر الحسن والفخر الجزيل في صفحات التاريخ، ولكن الرومانيين كانوا أكثر رجالا وأقوى في الآلات ومعدات الدفاع، فتغلبوا أخيرا عليهم وهدموا الأسوار الثلاثة التي كانت تحيط بالمدينة ودخلوها بعد قتال تشيب له الأطفال، دافع فيه اليهود مستقتلين فراح كثيرون منهم شهداء وطنهم وبلادهم.
وارتفعت جلبة عظيمة عند فتح المدينة فلم يعد أحد يعي على أحد ، واغتنم واحد من جنود الرومانيين الفرصة فأسرع إلى الهيكل وأضرم النار فيه وتبعته بقية الجنود، ولما رأى اليهود أن النار تلتهم الهيكل حاولوا إطفاءها بما بقي فيهم من القوة، ولكنهم لم يفلحوا.
ونظر تيطس لهب النار يتصاعد من الهيكل، فأسرع ودخل قدس الأقداس فرآه بديعا عظيما يفوق وصف الواصفين، ولم تكن النار قد وصلت إليه فصار يحرض الجنود على إطفاء النار وبذل الجهد الجهيد لمنع امتدادها، لكنه لم يفلح ولم تعبأ الجنود بكلامه وأخذوا في سلب الآنية الثمينة والحجارة الكريمة، ولما أعيته الحيل وعجز قواده عن رد الجنود خرج آسفا ووقف ينظر إلى هذا البناء الفخيم وقلبه ينفطر حزنا وكآبة.
وجاء في المقتطف الأغر: قال يوسيفوس: إن المرء لا يستطيع إلا أن يأسف على خراب ذلك البناء الفخيم؛ لأنه أعظم بناء رأيناه أو سمعنا به في شكله وحجمه وفي النفقات الطائلة التي أنفقت عليه، وفي شهرة قدس الأقداس المجيدة، ولكنه يتأسى بأن الأقدار قضت بذلك ولا مرد لقضائها، ومن عجيب الاتفاق أن الهيكل خرب هذه النوبة في الشهر واليوم اللذين خربه فيهما البابليون، حيث الخراب الأول كان في اليوم التاسع من شهر آب، والخراب الثاني في اليوم التاسع من شهر آب، ومن بناء الهيكل أولا في عهد سليمان إلى خرابه في السنة الثانية من ملك أسبسيانوس ألف ومائة وثلاثون سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوما، ومن بنائه ثانية في زمن حجي في السنة الثانية من ملك قورش إلى خرابه في عهد أسبسيانوس ستمائة وتسع وثلاثون سنة وخمسة وأربعون يوما، ويقدر عدد الأسرى من أورشليم بسبعة وتسعين ألفا، وعدد الذين ماتوا قتلا ومرضا وجوعا بمليون ومائة ألف نفس أكثرهم يهود، واستأمن أحد الكهنة إلى تيطس وأعطاه منارتين من الذهب وموائد وآنية مختلفة، وسلم إليه أيضا الستائر والحلل الكهنوتية.
ولم يكتف الرومانيون بما أتوه من الفظائع، بل أحرقوا جميع مباني أورشليم وتركوها تندب عزها، أما يوسيفوس فبقي مع تيطس كل مدة الحصار، وكان اليهود يجتهدون لإلقاء القبض عليه وقتله والرومانيون يسعون في هلاكه كلما قهرهم اليهود؛ لأنهم كانوا ينسبون فشلهم إلى خيانته، ولكن تيطس كان يدافع عنه دائما ويحترمه كثيرا، وقد أذن له بعد خراب أورشليم أن يأخذ شيئا من مسلوباتها، وطلب يوسيفوس أن يطلقوا سبيل خمسين رجلا من رفقائه وأن يعطوه بعضا من الكتب المقدسة فأجيب طلبه.
ولما انتهى الرومانيون من الحرب وخضعت لهم البلاد سافر تيطس إلى رومية، وأخذ يوسيفوس معه فاستقبله أسبسيانوس استقبالا باهرا وأحسن وفادته، وأفسح له مكانا في منزله الخاص ومنحه الرعوية الرومية، وربط له معاشا سنويا، وبالغ في إكرامه كل مدة حياته، وهكذا بقي يوسيفوس عزيزا مكرما في مدة حكم ابنه تيطس وخلفه دوميتيان.
ولم يصل أحد من الباحثين إلى معرفة الوقت الذي توفي فيه يوسيفوس، ولكن يستنتج أنه كان حيا في عهد أغريبا الثاني الذي توفي سنة 97 للميلاد وله مؤلفات تاريخية عديدة منها حرب اليهود في سبعة كتب، وعاديات اليهود في عشرين كتابا، وكتاب ضد أبيون، وكتاب ترجمة حياته «ولا توجد كتبه بالعبرانية مع أنه كتبها بها وباليونانية، أما الكتاب العبراني المنسوب إليه فموضوع، وقد كتب في القرن العاشر للميلاد، ولعل النسخة العربية مأخوذة عنه»، ويقال: إن يوسيفوس كتب عدة تواريخ ومنها تاريخ باللغة اليونانية وآخر باللغة العبرانية.
هذا شيء من ترجمة يوسيفوس الشهير أوردناها هنا بالاختصار؛ لأننا لو أردنا الإطالة والإسهاب في وصف هذا الرجل وأطواره وأعماله لضاقت بنا المجلدات، وقد تعدينا في الكتابة عنه إلى ذكر حرب الرومانيين وانتصارهم عليه وفتحهم أورشليم وإحراق الهيكل؛ لأننا رأينا أن هذه الحوادث لها علاقة تامة بسيرته، فضلا عن أنها من أهم النقط والمباحث التاريخية المفيدة التي يجب معرفتها والوقوف على حقائقها فأوردناها فائدة للقراء. (6) السموأل
هو السموأل بن غريض بن عادياء اليهودي من يهود يثرب، وأكثر المؤرخين يسمونه السموأل بن عادياء، فيتركون اسم أبيه وينسبونه إلى جده، وهو أحد شعراء الجاهلية المشهورين وأكثرهم طلاوة ورونقا في كلامه، وصاحب الحصن العظيم المعروف بالأبلق الفرد الذي بناه جده عادياء، فكانت العرب تنزل فيه فيضيفها وتقيم هناك سوقا كبيرا ، وكما أن السموأل اشتهر بشعره، فإنه اشتهر أيضا بوفائه حتى صار يضرب به المثل في الوفاء والأمانة، وسبب ذلك أن امرؤ القيس بعد أن غزى بني كنانة وأوقع بهم الويل والنكال سار إلى الشام يريد قيصر وعرج في طريقه على السموأل ونزل ضيفا عليه في حصن الأبلق وأودعه دروعا كانت لأبيه ومضى في سبيله، وبعد ذلك بقليل أقبل الحارث بن ظالم، وقيل: الحرث بن أبي شمر الغساني، وطلب من السموأل أن يسلمه الدروع المودوعة عنده فرفض رفضا باتا وتحصن منه، وكان له ابن قد يفع، وكان مولعا بالصيد والقنص، فبينما هو راجع ذات يوم من صيده قبض عليه الحارث وسجنه وخير أبيه؛ إما أن يسلم الدروع أو يقتل ابنه، فأجابه السموأل شأنك به، فأنا لا أسلم الدروع ما دام في عرق ينبض؛ لأني إذا سلمت مال جاري الذي اؤتمنت عليه ثلم شرفي ولحق بي العار، فأنا لا أغير بذمتي، وأولى بالإنسان أن يموت شريفا عزيزا من أن يموت حقيرا مهانا، فاحتدم الحارث غيظا من هذا الجواب، وضرب وسط الغلام فقطعه قطعتين وانصرف، فقال السموأل:
أعاذلتي ألا لا تعذليني
فكم من أمر عاذلة عصيت
وفيت بأدرع الكندي إني
إذا ما ذم أقوام وفيت
وأوصى عاديا يوما بأن لا
تهدم يا سموأل ما بنيت
بنى لي عاديا حصنا منيعا
وماء كلما شئت استقيت
وفي رواية أخرى وهي أقرب إلى الصواب على ما قاله المؤرخون أن أحد الملوك غزى السموأل مدعيا أنه من ورثة امرئ القيس، وأن له حقا بالدروع فلم يصدق السموأل كلامه وأبى أن يسلمه الدروع، واتفق أن الملك ظفر بابن السموأل خارجا من الحصن، قيل: راجعا من الصيد وهو الراجح فقبض عليه، وقال لأبيه: إن لم تعطني الدروع قتلت ابنك لا محالة، فقال له: أجلني وأعطني فرصة للافتكار فأجله، فجمع السموأل أهل بيته وشاورهم في الأمر فأشاروا عليه جميعا بالتسليم لينقذ ابنه من وهدة الهلاك، فلما أصبح ذهب إلى الملك، وقال له: لا أسلم لك الدروع فاصنع ما أنت صانع فذبح الملك ابنه وهو ينظر إليه، وأتى السموأل بعد ذلك إلى المرسم ومعه الدروع فدفعها لورثة امرئ القيس، ومن ذاك الوقت ضرب به المثل في الوفاء والأمانة، ولا غرو فهذا دليل ساطع على أمانة شعب اليهود ووفائه واستقامته من قديم الزمن.
أما شعر السموأل فمشهور وهو مثال في الطلاوة ورشاقة المبنى، وأشهر شعره قصيدته اللامية نذكرها هنا لما فيها من الحكم والمعاني الشعرية البديعة:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها: إن الكرام قليل
وما قل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلى وكهول
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
لنا جبل يحتله من نجيره
منيع يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به
إلى النجم فرع لا ينال طويل
هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره
يعز على من رامه ويطول
وإنا لقوم لا نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا
وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه
ولا طل يوما حيث كان قتيل
تسيل على حد الظباة نفوسنا
وليست على غير الظباة تسيل
صفونا ولم نكدر وأخلص سرنا
أناث أطابت حملنا وفحول
علونا إلى خير الظهور وحطنا
لوقت إلى خير البطون نزول
فنحن كماء المزن ما في نصابنا
كهام ولا فينا يعد بخيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقول
إذا سيد منا خلا قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول
وما أخمدت نار لنا دون طارق
ولا ذمنا في النازلين نزيل
وأيامنا مشهورة في عدونا
لها غرر معلومة وحجول
وأسيافنا في كل شرق ومغرب
بها من قراع الدارعين فلول
معودة أن لا تسل نصالها
فتغمد حتى يستباح قتيل
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
فليس سواء عالم وجهول
فإن بني الريان قطب لقومهم
تدور رحاهم حولهم وتجول
وقد خمس هذه القصيدة صفي الدين الحلي تخميسا بديعا، واقتصرنا عن ترجمة السموأل بما تقدم حبا بالاختصار. (7) ابن سهل
هو إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الإشبيلي الشاعر الطائر الصيت الذي اشتهر بالذكاء، وتوقد الذهن وعرف بسعة الاطلاع ووافر الأدب، ولد سنة 609 هجرية، وهو شاعر مشهور وله ديوان معروف فيه من القصائد الغراء والمقاطيع البديعة شيء لا يحصى خصوصا في الغزل؛ لأنه كان - رحمه الله - ممن ملك الحب قلوبهم فأذلهم، وقد مات ابن سهل غريقا مع ابن خلاص والي سبتة سنة 649 هجرية، وعمره نحو الأربعين سنة.
ومما يروى عن مقدرته في الشعر أن الهيثمي نظم قصيدة غراء يمدح بها المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود ملك الأندلس، وكانت أعلامه سودا؛ لأنه كان بايع الخليفة ببغداد، فوقف ابن سهل على القصيدة وناظمها ينشدها لبعض أصحابه، وكان ابن سهل إذ ذاك صغير السن، فقال للهيثمي: زد بين البيت الفلاني والبيت الفلاني:
أعلامه السود أعلام لسؤدده
كأنهن بخد الملك خيلان
فقال له الهيثمي: هل تروي هذا البيت أم تنظمه؟ قال: بل نظمته الساعة، فاستعجب الهيثمي من ذكائه وتوقد ذهنه وسرعة خاطره، وقال لأصحابه: والله إن عاش هذا ليكونن أشعر شعراء الأندلس.
وأغلب شعر ابن سهل وأحسنه هو في الغزل، وله فيه من المعاني البديعة الدقيقة شيء وافر، ونحن ننقل عنه بعضا من محاسن شعره وهو قوله من قصيدة:
سل في الظلام أخاك البدر عن سهري
تدري النجوم كما يدري الورى خبري
أبيت أهتف بالشكوى وأشرب من
دمعي وأنشق ريا ذكرك العطر
حتى يخيل أني شارب ثمل
بين الرياض وبين الكأس والوتر
من لي به اختلفت فيه الملاحة إذ
أومت إلى غيره إيماء مختصر
معطل فالحلى منه محلأة
تفنى الدراري عن التقليد بالدرر
بخده لفؤادي نسبة عجب
كلاهما أبدا يدمى من النظر
وخاله نقطة من غنج مقلته
أتى بها الحسن من آياته الكبر
جاءت من العين نحو الخد زائرة
وراقها الورد فاستغنت عن الصدر
بعض المحاسن يهوى بعضها طربا
تأملوا كيف هام الغنج بالحور
ومن قوله :
وركب دعتهم نحو طيبة نية
فما وجدت إلا مطيعا وسامعا
يسابق وخد العيس ماء شئونهم
فيقفون بالسوق الملي المدامعا
إذا انعطفوا أو رجعوا الذكر خلتهم
غصونا لدانا أو حماما سواجعا
تضيء من التقوى خبايا صدورهم
وقد لبسوا الليل البهيم دوارعا
ولابن سهل شهرة في الشعر تراجع في غير هذا الكتاب. (8) أطباء اليهود
اشتهر كثيرون من الأطباء اليهود في علم الطب، وأخذ الخلفاء والأمراء عنهم هذا الفن وتبحروا فيه، وعددهم عظيم نكتفي بذكر بعض من مشاهيرهم، فمنهم أبو حفص يزيد مولى مروان بن الحكم طبيب يهودي في اليمامة كان في خلافة ابن عفان سنة 30 للهجرة/650م.
وماسرجويه الطبيب البصري سرياني اللغة يهودي المذهب، تولى ترجمة مؤلف القس أهرون من السرياني إلى العربي في خلافة مروان، وكان طبيبا ماهرا مشهورا بالبراعة والذكاء، روى أيوب بن الحكم قال: كنت جالسا عند ماسرجويه فأتاه رجل من الخوز، وقال له: إني بليت بداء عضال لم يبل أحد بمثله، فسأله عن دائه، فأجابه: أصبح فبصري مظلم علي وأصاب بألم في معدتي فلا تزال هذه حالي إلى أن آكل شيئا، فإذا أكلت سكن ما أشعر به إلى وقت انتصاف النهار، ثم يعاودني ما كنت فيه، فإذا عاودت الأكل سكن ما بي إلى وقت صلاة الليل، ثم يعاودني ثانية فلا أجد لهذا الداء دواء إلا الأكل، فقال له ماسرجويه: على دائك هذا غضب الله فإنه أساء لنفسه الاختيار عندما حل بك وإنني لأود أن هذا الداء يتحول إلي وإلى أولادي فكنت أعوضك عنه، فقال له الخوزي: لم أفهم ما تقول، فأجابه ماسرجويه: هذه صحة لا تستحقها، وإني أسأل الله نقلها عنك إلى من هو أحق بها منك.
ومنهم أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الصوفي الطرسوسي، ولد في الكوفة واشتهر في علم الكيمياء وجمع خمسمائة رسالة من رسائل جعفر في ألف صفحة طبعت في ستراسبور سنة 1530، وأيضا سنة 1625، وطبع أيضا كتاب أصول الكيمياء لجابر وابن سينا في باسل سنة 1572، وله كتاب في علم الهيئة طبع في نورسبرج سنة 1534.
ومن الذين اشتهروا في علم الأدوية والعقاقير أبو داود سليمان بن جلجل الطبيب الأندلسي القرطبي اليهودي، نبغ في أواسط القرن الرابع للهجرة، وقد ترجم عدة مصنفات طبية منها كتاب الأدوية البسيطة لديسقور يدس اليوناني بمساعدة بعض الأطباء، فجاءت ترجمة في غاية الدقة والضبط، ولا سيما في أسماء العقاقير فاكتسب بذلك شهرة كثيرة وصيتا بعيدا.
ومن الأطباء المشهورين جبرائيل بن بختيشوع الذي كان أيام الرشيد سنة 814 ميلادية، واشتهر في حذقه وبراعته في الطب وامتدحه أبو الفرج، وذكر عنه الأمير حيدر الشهابي في تاريخه المطبوع في مصر في الصفحة 136 وما بعدها نوادر غريبة تدل على فطنته وإخلاصه في مهنته.
ومنهم موسى بن ميمون الذي شهرته تغني عن ترجمته، وله عدا اشتغاله بالطب المؤلفات النفيسة في مواضيع مختلفة، وقد مر ذكره في غير هذا المكان.
ومن الأطباء المشهورين منقة وصالح بن بهلة وعبدوس بن يزيد وموسى بن إسرائيل الكوفي وزين الطبري اليهودي، وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق، وقد نبغ كثيرون من الأطباء اليهود الحاذقين يضيق المقام عن ذكر أسمائهم فاكتفينا بما تقدم، وأما أطباء اليهود الحديثون وكتابهم المشهورون، فكثيرون لا يسعهم هذا المختصر، وربما عدنا إلى ذكر كثير منهم في طبعة أخرى. (9) ابن تبون
هو يهوذا بن شاول بن تبون الكاتب العبراني والمعرب الشهير، ولد في بلدة لونل بفرنسا سنة 1120، ولم يقم طويلا فيها؛ لأن سكانها اضطهدوا اليهود وعاكسوهم كثيرا حتى اضطروا إلى مزايلتها، والسفر منها إلى مدن أخرى، وقد هاجر مع من هاجروها، وجاء بروفنسة فاستوطنها، واشتهر بعد ذلك بالتعريب والتصنيف، فقد عرب إلى العبرانية أعظم مؤلفات اليهود العبرية ولقب بأمير المعربين، وألف كتابا في أصول اللغة العبرانية، ولكنه فقد ولم يعثر عليه أحد، وتوفي ابن تبون سنة 1190 للميلاد.
وولد ابنه صموئيل بن تبوك بن يهوذا سنة 1160، وتوفي سنة 1230، وكان كاتبا معدودا ومعربا شهيرا مثل أبيه، فقد عرب إلى العبرانية عدة مؤلفات فلسفية لكثير من علماء اليهود وغيرهم وعلق شروحا كثيرة على سفر الجامعة وسفر التكوين من الإصحاح الأول إلى التاسع، وقد طبعت هذه الشروح في برسبرج سنة 1837. (10) ابن شعيب
هو يوئيل بن شعيب اليهودي التطيلي الأندلسي الكاتب المفسر، نبغ في تطيلة في القرن الخامس عشر للميلاد، ووضع شروحا مفيدة على بعض أسفار الكتاب طبعت في ونديق، ويظن أنه ولد سنة 1430، وتوفي سنة 1490. (11) ابن جبرول
ويعرف عند الإفرنج باسم أويسبرون، ولد في مالقه في أوائل سنة 1021، وتوفي سنة 1070، ونبغ بين معاصريه، واشتهر بسعة علمه وزادت شهرته عند أهل القرون المتوسطة بكتاب سماه «ينبوع الحياة»، وقد وثق به بعضهم وأعلوا مقامه وأحلوا كلامه محل القبول ونبذه آخرون وعدوه كافرا، وكانوا في الحقيقة يجهلون ما هو دينه ولا يعرفون إن كان يهوديا أو نصرانيا أو مسلما، وما زال مجهولا حتى عثر بعض الباحثين على نسخة عبرانية من كتابه ينبوع الحياة معربة عن الأصل العربي، فعرفوا منها أن أويسبرون هو سليمان بن يهوذا بن جبرول المعروف عند العرب بأبي أيوب سليمان بن يحيى، وكان متضلعا عالما وفيلسوفا شهيرا راسخا في علم اللغة العبرانية، وله منظومات دينية تدل دلالة واضحة على صحة عقيدته وتمسكه بدينه، وله منظومة بديعة في نحو العبرانية ألفها وهو ابن تسع وعشر، وهي مثال في الطلاوة وحسن الإنشاء، وله كتاب في إصلاح الأخلاق باللغة العربية نقله يهوذا بن تبون إلى العبرانية، وطبع سنة 1550، ولم يقم طويلا في سرقطسة؛ لأنه أورد في كتابه آراء جديدة في الطبيعة البشرية والشهوات وتعرض لأمور شخصية ألزمته الرحيل، وتنقل كثيرا في بلاد إسبانيا من مدينة إلى أخرى بغير أن يقر له قرار حتى استدعاه الوزير الأول صموئيل صاناكد الإسرائيلي وقربه إليه وأعلى مقامه، ولابن جبرول شروحات كثيرة على بعض أسفار التوراة ومنظومة سماها «التاج الملوكي»، وفيها كثير من جودة المعاني والشوق الروحاني حتى صار اليهود يرتلونها في صلاتهم ليلة عيد الحزن.
أما كتابه «ينبوع الحياة» المعروف بكتاب المادة العامة فقد عرب إلى اللاتينية، ويظهر منه ماهية فلسفته ومذهب بعض فلاسفة اليهود، وكتب في مؤلفه هذا في مباحث فلسفية عويصة وتعرض لشرح أرسطاطاليس عن وجود عنصرين متحدين هما المادة والصورة، وقد أسهب في هذا المعنى وشرحه شرحا وافيا حتى صارت كتاباته موضوع جدال وخلاف عظيمين بين أهل الحقائق وأهل الفلسفة الاسمية، وبحث أيضا في علم الإرادة بكتاب جاء ذكره، ولكنه فقد ولم يعثر عليه، ويتضح من كتاب ينبوع الحياة أن صاحبه يعتقد بصحة القليل من المذهب الأفلاطوني، ولكنه غير موافق له تماما فقد خالفه في كثير من المباحث والمواضيع الجوهرية التي أسندت إليها كل آرائه وأفكاره.
وجاء في كتاب آثار الأدهار أن ابن جبرول كان من الحقائقيين لقوله: إن كل حقيقة كائنة في الجنس ومهما اختلفت الأجناس فمرجعها إلى الشيئين الكبيرين، وهما المادة والصورة اللتان عدتا أصل كل حقيقة إلا ما كان من الطبيعة الإلهية، وقد قال أيضا بوجود مادة عامة مشتركة بين الأرض والسماء والأرواح والجواهر المتوسطة بين الإنسان والخالق، وقال: إننا إذا نظرنا إلى الأجسام على اختلافها نرى لها أصلا عاما هو موضوع جميع الصفات الهيولية، وهو المسمى حصرا بالمادة، ولولا هذه المادة لما كان بين الأجسام غير فروق، ولكن الجسم اسم بل معنى، وبحث أيضا في الأرواح العمومية والخصوصية التي فوق الأجسام، وجاء بآرائه فيها وهي شاذة تخالف كل ما تقدمها من آراء العلماء والفلاسفة وأبحاثهم حتى استوجبت الرد والدحض، وقال: إن الأرواح مركبة كغيرها من المادة والصورة، ولو كانت غير مركبة لاستحال أن تؤلف جنسا، ولا يصح أن يقال لها على الإطلاق: روحانية، وذهب إلى أن الجنسين الروحاني والجسداني ليسا سوى نوعين من جنس أرفع منها، وهو المادة التي في كل منهما، وأن المادة الهيولية والمادة الروحانية ليستا سوى جزأين من المادة العامة، والمراد بالمادة هنا على مذهب الحكماء إحدى علل الوجود.
والخلاصة أن تعاليم ابن جبرول وآراءه على ما فيها من الخلل والشطط والابتذال تعد من المباحث الفلسفية والعلمية، وهي كثيرة الأهمية بقيت زمنا طويلا موضوع بحث وتنقيب عند الفلاسفة والحكماء، وقد كانت بادئ بدء مجهولة لو لم يطلع عليها بعض المؤرخين، وقد تكلم ابن رشد الفيلسوف الشهير على أحد مبادئ كتاب ينبوع الحياة، وهو مبدأ العقل العام، وذكر بعض المؤرخين مذهب ابن جبرول وعدوه مخالفا للمعتقد الإسرائيلي، وعرب العالم دومنيكو غنديسلفي كتاب ينبوع الحياة في منتصف القرن الثاني عشر، فأحدث اضطرابا شديدا وتمسك بعض به وناقضه آخرون، ومنهم إمبرت الكبير، فإنه دحض آراء ابن جبرول في المادة العامة والعقل العامل، وقد أجاد توما الإكويني في مناقضته له أيضا، أما روجر باكون المشهور، فقد عزز آراءه واعتقد بصحتها ونقحها على قدر الإمكان، وحذا كثيرون من العلماء حذوه.
فيظهر مما تقدم أن ابن جبرول مع تطرفه في آرائه ومباحثه يعد عالما كبيرا وكاتبا نحريرا ومن أشهر فلاسفة الزمن. (12) أغنياء اليهود (12-1) البارون موريس هرش وزوجته
البارون موريس ده هرش أكبر أولاد البارون يوسف هرش الذي رقاه الملك لويس الثاني ملك بافاريا إلى رتبة البارونية لأجل إخلاصه لعرشه وخدمه الكثيرة النافعة له، كان جده تاجرا بالبقر فأثرى وصار ملك بافاريا يستدين المال منه، قيل: سأله الملك مرة كيف أثريت وأنت تتاجر بالبقر، فقال: أثريت لأني أتاجر بالبقر ومع البقر.
ولد البارون موريس هرش في مونخ عاصمة بافاريا في 9 ديسمبر سنة 1831، ودرس في بركسل عاصمة البلجيك، ولما بلغ الثامنة عشرة من العمر دخل بنك بيشوفسهيم وغولد شمت، وهما من أكبر صيارفة بركسل فظهرت حالا نجابته ومقدرته المالية واقترن بابنة بيشوفسهيم، وهي أصغر منه بسنتين، فاقترن به السعد باقترانه بها؛ لأنها كانت كملاك يحرسه ويرشده، ويبث البهجة والحبور في حياته.
ولم يمض عليه زمن طويل حتى صار المدير لذلك البنك والموسع لأعماله، وكان متوقد الفؤاد قوي العزيمة مقتدرا على إدارة الأعمال وتنظيمها، فأنشأ سكة الحديد من بودابست إلى وارنه على البحر الأسود، وكان العمل ثلاثة أقسام أخذت بالقرعة وأصابت قرعته القسم الأصعب منها، لكنه ربح منه ربحا طائلا، والاثنان الآخران خسرا؛ لأنه كان أكثر منهما سهرا على إدارة الأعمال.
وأفلس المسيو ديمنسو المالي البلجي العظيم سنة 1869 فابتاع البارون هرش منه سندات سكة الحديد التركية، وكان المظنون أنها أبخس ممتلكاته قيمة وأقلها جدوى، لكنه أحسن إدارتها حتى صارت أساس ثروته، وظل ينشئ سكك الحديد متغلبا على المصاعب الطبيعية والعراقيل السياسية، حتى قدرت ثروته بعد خمس عشرة سنة بعشرة ملايين جنيه إلى ثلاثين مليونا.
وكانت هذه الثروة الطائلة في يده ويد زوجته وسيلة لإغاثة الفقراء والمظلومين من أبناء ملته، فلما طرد اليهود من روسيا عرض على حكومة الروس مليونين من الجنيهات لتنفقها على التعليم، حاسبا أن السبب الأكبر لطردهم من بلاد الروس هو الجهل الضارب أطنابه فيها، فإذا انتشر التعليم والتهذيب زال منها التعصب والتحمس، فرفضت حكومة الروس هذه الهبة السنية.
وكان يحسب اليهود من أقدر الناس على الفلاحة والزراعة بناء على ما رأى منهم في بلاد المجر، قال: «إن أكثر الفلاحين منهم هناك، حتى إن خدمة الدين الكاثوليكي يعتمدون عليهم فقط في زراعة أوقاف الكنائس وكل أصحاب الأملاك الكبيرة يفضلون اليهود لاجتهادهم واستقامتهم ومهارتهم، فهذه الأمور دعتني إلى الاهتمام بإصلاح شأنهم، وسيظهر أنهم لم يفقدوا الميل إلى الزراعة الذي امتاز به أسلافنا، وسأبذل جهدي لأهيئ لهم أوطانا أخرى في بلدان مختلفة حيث يستطيع الفلاح أن يكون مستقلا بحرث أرضه ويستفيد من جده واجتهاده.»
فابتاع الأراضي الفسيحة في جمهورية أرجنتين وولاية نيوجرزي بأميركا وأماكن أخرى وأعطاها لأبناء أمته، ووهب جمعية استعمار اليهود مليونين من الجنيهات، وأعطى اليهود الروسيين المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأميركية نصف مليون جنيه؛ لكي يتعلم أبناؤهم ويتهذبوا ويصيروا مثل الأميركيين، فمضى كثيرون منهم إلى الولايات المتحدة الأميركية واستوطنوها وزرعوا الأرض، وأنشئوا المعامل وربوا المواشي ولهم في ولاية نيوجرزي مدرسة صناعية ومدرسة زراعية.
وقد يظن لأول وهلة أن رجلا يبلغ اهتمامه بأمر أمته وملته هذا المبلغ لا يهتم بغيرها، لكن البارون هرش لم يكن كذلك، بل كان يعتمد على الأكفاء من كل الأمم ويهتم بالمساكين من كل الطوائف، وهو الذي بعث بالمؤلف هال كاين إلى روسيا ليبحث عن أحوال العامة من شعبها وما يحتاجون إليه، وبعث إليها أيضا بالكاتب الشهير أرنلد هويت - مكاتب جريدة التيمس - لهذه الغاية. كتب المستر هويت عن البارون هرش «أنه يشتغل بأمر روسيا وتوزيع الصدقات فيها من الساعة السادسة صباحا، وأنا أكتب هذه السطور الآن وإلى جانبي ثلاثة مجلدات كبيرة كلها مكاتيب منه تدل على اهتمامه الشديد ورثائه للمحتاجين والمظلومين، وقد تصدق بأكثر من المال، فإنه تصدق بوقته وقواه العقلية لنفع أبناء ملته.»
وكانت زوجته تشاركه في كل أعماله وصدقاته، قال المستر إسكار ستروس سفير الولايات المتحدة في تركيا: «إنها أكبر مساعد لزوجها، فقد كان يستشيرها في كل أمر ويخبرها بكل شيء وكانت تقرأ مكاتيبه وتساعده في كتابة أجوبتها وترافقه في أسفاره، وتشاركه في أمانيه ولم تكن تشاركه في يأس؛ لأنه لم يكن ييأس من أمر قط، وهي امرأة فاضلة أنيسة المحضر رقيقة القلب، كريمة جدا أنفقت جانبا كبيرا من ثروتها الخصوصية على المدارس والملاجئ والمستشفيات، وكانت تزورها بنفسها وتهتم بإدارتها، رأيتها في القسطنطينية تزور أحياء الفقراء يوما بعد يوم وتساعدهم بيدها مسلمين كانوا أو مسيحيين أو يهودا بلا تمييز بينهم.»
وقص المستر ستروس على السيدة سارة بولتن القصة التالية، قال: أخبرني رئيس مهندسي سكة الحديد التي أنشأها البارون هرش أن أول قسم من السكة وصل من أسوار القسطنطينية إلى قرية تبعد عنها عشرة أميال، وكانت الحكومة العثمانية قد عينت له مكان المحطة في وسط القرية، واشترطت على نفسها أن تشتري مكان المحطة وتهدم البيوت التي فيه وتسلمه إلى البارون هرش، فقام السكان ونادوا بالويل والحرب مخافة أن لا تدفع الحكومة إليهم شيئا من ثمن بيوتهم وأرضهم، وبلغ الخبر زوجة البارون هرش وهي في الأستانة، فسألت زوجها عن جليته، فقال: هو كما بلغك، ولكن الأمر ليس في يدي، بل في يد الحكومة العثمانية، والشروط التي بيني وبينها تقضي عليها أن تبتاع البيوت والأراضي من أصحابها وتسلمنيها، فقالت: إن لم يكن الأمر في يدك فهو في يدي، كم ثمن هذه البيوت والأراضي؟ فقال: نحو مليون فرنك، فكتبت تحويلا على البنك بمليون فرنك، وأرسلت وكيلها فدفع إلى الناس ثمن بيوتهم وما يملكون وطيب خواطرهم، وبعد أيام أحتفل بفتح القسم الأول من سكة الحديد، وكان أولئك المساكين أشد الناس جذلا وحبورا.
وأنشأت مدارس في القسطنطينية قبل مغادرتها أنفقت عليها 25 ألف جنيه ولها ولزوجها مدارس كثيرة، وملاجئ في أكثر بلدان المشرق.
ومن صدقات البارون هرش الكثيرة أربعون ألف جنيه بعث بها إلى إمبراطورة الروس على أثر الحرب الروسية التركية؛ لتنفق على المحتاجين، ومليون جنيه لتنفق على أربعين مدرسة في غاليسيا يتعلم فيها الأولاد من كل المذاهب؛ لأنه كان يقول: إني أسمع صوت المعوز فلا أسأل: أهو من ملتي أو من غير ملتي، ولكن لا عجب إذا سمعت أكثر هذه الأصوات من أبناء ملتي وبذلت جهدي في إغاثتهم.
وقد قدر المستر ستروس الهبات التي وهبها البارون هرش في حياته بأكثر من خمسة عشر مليون جنيه.
وكان له قصور كثيرة في لندن وباريس وبلاد المجر وبعضها من القصور الملكية القديمة، ومنها قصر في باريس بنته الإمبراطورة أوجيني لدوكة البا، ولم يكد البارون هرش ينزل فيه هو وزوجته سنة 1887 حتى مرض وحيدهما، وتوفي فيه وتركهما مصدوعي الفؤاد، لكن وفاته زادت رغبتهما في مؤاساة الحزانى والبائسين، وكان متجملا بكثير من مناقب أبيه وأمه، عاكفا على عمل الخير، مغرما بالخيل عنده كثير من الجياد الكريمة فباعها أبوه بعد موته وتصدق بثمنها كله، وبكل ما ربحته خيله في السباق وهو مائة ألف جنيه، ولما مات باعت زوجته جياده وتصدقت بثمنها كما فعل هو بجياد ابنه.
وكان البارون هرش يضع صدقاته في موضعها حتى تنتج عنها الفائدة المقصودة، قال البرنس بسمارك في هذا الصدد: «إن هرش هو الرجل الوحيد الذي لا يفتقر الذين يتصدق عليهم.» وكان يأتيه كل يوم أربعمائة مكتوب في طلب الصدقات وبعضها من أبناء الملوك، وهؤلاء كانوا يستدينون منه ولا يوفونه غالبا، فيعد ما يعطيهم إياه صدقة.
وليلة العشرين من أبريل سنة 1896 قضى نحبه بغتة بالسكتة الدماغية بعد أن عاش سنين كثيرة مثالا للهمة والاجتهاد والإحسان، وعلم الأغنياء بسيرته وقدوته كيف ينفعون الفقراء، ويكونون بركة لنوع الإنسان لا لعنة عليه.
وبقيت زوجته ثلاث سنوات بعده سائرة في خطته خطة التصدق ، قالت لامرأة زارتها في فرساليا: إن الغنى الوافر عبء ثقيل على صاحبه، وغاية ما أطلبه وما أرجوه أن أتمكن من إنفاق أموالي كلها حتى يحصل من إنفاقها أكبر نفع لأكبر عدد من الناس.
ولم تمض سنة على وفاة زوجها حتى أرسلت أكثر من مليون ريال إلى مدرسة الصنائع التي أنشأها في نيويورك، حيث يتعلم شبان اليهود الذين هاجروا من روسيا، ولم تمض ثلاث سنوات على وفاته حتى أنفقت على الصدقات ثلاثة ملايين من الجنيهات، وجملة ما تصدقت به هي وزوجها في حياتهما أكثر من خمسة وعشرين مليونا من الجنيهات.
كتب المستر ستروس :
إن حياة البارونة هرش مثال للإيثار وإنكار الذات، فإن شغلها الشاغل كان كيف تستطيع أن تتصدق على الناس من غير أن يشعروا بالذل في نفوسهم، وكثيرا ما كنت أساعدها على فتح المكاتيب التي ترد إليها، وكان متوسط ما يرد إليها في اليوم خمسمائة مكتوب من كل أقطار المسكونة، وكان لا بد من قراءة كل مكتوب منها واختيار ما تظن أصحابه أهلا للمساعدة، فتختار المكاتيب التي يجب أن يجاب أصحابها عليها وتملي على الكتبة، وتقضي بضع ساعات كل يوم في إجابة السائلين وإرسال التحاويل المالية، هذه هي صدقاتها الإفرادية غير صدقاتها العمومية الجمهورية كهباتها للمدارس والمستشفيات وما أشبه ذلك.
وكانت على غاية الوداعة والرصانة قلبها قلب ملاك، ورأسها رأس فيلسوف، قال زوجها لي مرة: إنها لو كانت زوجة رجل فقير لكانت مثالا لنساء الفقراء في الاجتهاد والتدبير.
لما كانت فتاة في بيت أبيها كانت سكرتيرا له فيما يتعلق بصدقاته الكثيرة التي كان يتصدق بها، ولما تزوجت صارت سكرتيرا لزوجها في صدقاته، وكانت تحسن الكتابة بالإنكليزية والألمانية والفرنسوية، ولم تقتصر على أن تكون سكرتيرا لزوجها في كل أعماله الخيرية، بل كانت تحضه دائما على عمل الخير وترشده إلى أساليبه، وقد كتبت إلي مرة تقول: إن الثروة الوافرة مزية كبيرة، ولكنها وديعة في يد صاحبها يطلب منه أن يستعملها حيث يكون منها النفع الأعظم.
ولم تكن تنفق على نفسها أكثر مما تنفقه امرأة من أواسط الناس ولا كانت تهمل ترتيب بيتها وخدمها، وكانت تعمل أعمالها على غاية الدقة والانتظام، كنت راكبا معها مرة في ضواحي باريس فأوقفت المركبة بغتة وطلبت من أحد خدمها أن ينزل ويفرق على بعض الفقراء مبلغا من المال، ثم التفتت إلي وقالت: إن الذين درسوا أحوال المساكين لا يستصوبون هذا النوع من الإحسان، وأنا أعلم أنهم مصيبون، ولكن ما حيلتي وأنا أسر بأن أعطي وأريد أن أسر نفسي مثل غيري، وكانت تقول هذا القول على غاية الدعة والبساطة.
توفيت في مدينة باريس في غرة أبريل سنة 1899، وكان الاحتفال بدفنها بسيطا جدا، واحتفل بجنازتها في أماكن كثيرة في أوروبا وأميركا ومن صدقاتها المعروفة:
400000 جنيه
لجمعية الاستعمار اليهودية في لندن
400000 جنيه
للجمعية الخيرية الإسرائيلية في باريس
400000 جنيه
معاشات لمستخدمي سكة الحديد الشرقية
200000 جنيه
ليهود بودابست.
120000 جنيه
لجمعية الأوصياء في لندن
120000 جنيه
لمدرسة هرش في جاليصيا
120000 جنيه
لجمعية الإحسان في فينا
80000 جنيه
لبناء مستشفى للأولاد المسلولين في الرفيرا
80000 جنيه
لبناء ملجأ للنساء الشريفات اللواتي افتقرن
70000 جنيه
لدار الناقهين في مستشفى همستد بلندن
40000 جنيه
لجمعية الإحسان
هذه الصدقات الكبيرة، أما الصدقات الصغيرة التي تقل الواحدة منها عن عشرين ألف جنيه فكثيرة جدا، ويبلغ مجموع ما تصدقت به هي وزوجها أكثر من خمسة وعشرين مليون جنيه، كما تقدم ولعلها كل ثروتها أو أكثرها.
هذا هو الكرم الحميد، وهذه هي المناقب التي يفتخر بها الرجال والنساء، والرجل وزوجته شرقيان من بني إسرائيل من أرض فلسطين، ولو كانت أوروبا دارهما ومسقط رأسهما.
المقتطف (12-2) بيت روتشلد
لا مشاحة في أن بيت روتشلد أكبر البيوتات المالية والتجارية في العالم كله، وله معاملات كثيرة مع حكومات أوروبا وآسيا وعلاقة كبرى مع الحكومة المصرية وهي مديونة له بملايين كثيرة من الجنيهات، فلا عجب إذا قلنا: إن جميع الممالك تحسب حسابه وتهتز لكلمة منه، وكلمة منه تكفي لخراب ألوف من البيوتات المالية وعمار ألوف، وهو عنوان الثروة الطائلة والاتحاد الأخوي وأصالة الرأي، ومن لم يسمع بشهرة أفراد هذا البيت وهم أعظم العائلات قدرا وأوسعها جاها وأسبقها في حلبة الاجتهاد، فالمطلع على تاريخهم وتراجم حياتهم يرى من مظاهر الحزم والإقدام وعلو الهمة، وعمل الخيرات والمبرات ما يتخذ قدوة لرجال المال وأصحاب الثروات في إدارة الأعمال، وعمل الخير والإحسان ومساعدة الجنس البشري.
أول من غرس دوحة مجد هذا البيت هو ماير أنسليم روتشلد، ولد في فرانكفورت سنة 1743، وتوفي فيها سنة 1812، وأصله من عائلة إسرائيلية فقيرة الحال أرسله أبوه من صغره إلى مدينة فرس ببفاريا فدخل إحدى مدارسها، حيث تلقى الدروس الابتدائية، ثم استعد لدرس العلوم الدينية؛ لأن أباه كان يريد أن يكون حاخاما ، ولكنه غير فكره عند رجوعه إلى فرانكفورت وعزم على الدخول في مضمار التجارة لشدة ميله إليها من صغر سنه، ودخل في بيت أوبنهيم الصيارفة في مدينة هانوفور فمكث فيه ثلاث سنوات تعلم في خلالها المساومة والصرافة والمضاربات المالية، وتدرب على إدارة الأعمال وبرع فيها حتى صار من مديري المحل، وبعد أن جمع مبلغا قليلا من المال رجع إلى مدينته الأصلية سنة 1780 وفتح فيها محلا صغيرا للصرافة، واقترن بعد ذلك بالآنسة شسنيبر، وكانت على جانب عظيم من الذكاء فساعدته كثيرا في توسيع محله وإدارة أشغاله، فكانت هي تدير أشغال المحل بكل اجتهاد وهو يتنقل في البلاد المجاورة، حيث يبيع بضائعه ويشتري غيرها، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى تقدمت تجارة روتشلد ونجح محله نجاحا باهرا، كل ذلك راجع إلى اجتهاده وأصالة رأيه وبعد نظره في عواقب الأمور، واشتهر بالاستقامة والأمانة ووثق به التجار الكبار في فرانكفورت ومانيس ودرمستاد؛ لأنه كان يدفع ما عليه في مواعيده فأجمعوا على احترامه واستشارته في كثير من المسائل، وصاروا يقضون جميع أشغالهم عن يده، فكان ينجزها في سرعة ودقة واستقامة حتى إنهم لقبوه «باليهودي الأمين»، وفي أيام الثورة الفرنساوية كان اسم روتشلد معروفا بين كثيرين، ولكنه كان صغيرا إذا قورن مع غيره من الماليين العظام والتجار الكبار، وقد ساعدته التقادير وأتته فرصة غير منتظرة فتحت له موارد الثروة ورفعته إلى أعلى مقام وصيرته أكبر رجل مالي في العالم.
ذلك أن حكومات أوروبا كانت قائمة في ذلك الأوان على نابوليون بونابرت خوفا من بطشه واتساع سلطته، وكانت جيوش نابوليون تخترق أوروبا شرقا وغربا شمالا وجنوبا، وقد زحف قسم كبير منها بقيادة الجنرال هوش فرانكفورت للانتقام من أمير هيس؛ لأنه كان يؤجر رجاله للإنكليز ليحاربوا بها بونابرت ويأخذ الأموال الكثيرة مقابل ذلك، ولما قرب الجنود من المدينة بلغ الأمير الخبر فعزم على الهرب من وجه الأعداء، ولكنه وقع في حيرة ولم يدر ماذا يعمل بأمواله الكثيرة، فبعث إلى روتشلد وأتمنه على جانب كبير منها بغير ربا، فابتدأت من ذلك الحين ثروة بيت روتشلد، وكان الأقرب إلى الظن أن روتشلد يرفض طلب أمير هيس؛ لأن المال شرك الردى، ولا سيما في مثل هذه الأحوال ولو رفض لتغير تاريخ أوروبا، فإنه يقال عن ثقة: إن بيت روتشلد حفظ السلم ثلاث مرات، ولكنه قبل أموال الأمير وخبأها في حفرة تحت الأرض؛ لأنه عرف أن الجنود ستدخل بيته لا محالة، ودخلت الجنود الفرنساوية بعد قليل إلى فرانكفورت، ودخلت البيوت تنهب ما فيها، وجاءت بيته فأخذ يتوسل إليهم أن يتركوا له شيئا من ماله فلم يصغوا إليه، بل نهبوا كل ما وجدوه في البيت، ولو أخفى أمواله الخاصة مع أموال الأمير لفتشت الجنود عنها ووجدتها ووجدت أموال الأمير معها، ولكنه افتدى أموال الغير بماله، وذلك مما يدل على أمانته ووفائه، والوفاء مشهور عن اليهود من أيام السموأل بن عادياء فإنه جاء بابنه دون دروع امرئ القيس.
ولما أجلت الجنود عن المدينة ورجع الأمن إليها أرسل روتشلد جانبا من المال إلى ابنه في لوندرا، وأخذ يستعمل الباقي ويدينه بربا فاحش إلى ملوك أوروبا الذين كانوا في حاجة كبيرة؛ لينفقوا على الحروب ويقوموا بتعبئة الجيوش، وهم يأخذون هذا الربا من شعبهم، وحتى يومنا هذا كل مكلف في أوروبا ومصر يدفع شيئا من ماله الخاص إلى بيت روتشلد عن يد حكومته، فاعجب ببيت يأخذ الجباية من نحو 400 مليون نفس.
هكذا استعمل روتشلد المال المودع بطرق شريفة وربح من ورائه أرباحا عظيمة وجمع ثروة طائلة لا تحصى ولا تقدر، ولما رجع أمير هيس إلى فرانكفورت عرض عليه روتشلد أن يرجع إليه ماله فرفض وأبقاه عنده لعشرين سنة بربا اثنين في المائة، وأهدى إلى ابنه هدايا سنية.
وزادت شهرة روتشلد بعد ذلك فصار يسلف الأمراء والأشراف في أوروبا، ويقدم لوازم جيش نابوليون، وعقد قرضا كبيرا لحكومة الدانيمرك بمبلغ عشرة ملايين سالير (السالير أربعة فرنكات)، وعقد سلف كثيرة أخرى لحكومة روسيا وهولاندا وإنكلترا، واستعانت به هذه الأخيرة على إرسال النقود إلى البلاد الأوروبية نفقة للجنود ودفع الرواتب التي كانت خصتها بملوك أوروبا ليقاوموا معها نابوليون، ولم يستطع أحد من الماليين مجاراته ولم يلب طلب إنكلترا غيره، ويقال: إنه ربح ما ينيف على مليون جنيه بإرسال المال إلى الجنود الإنكليزية وأنصارها في إسبانيا في أقل من ثماني سنوات، وكان روتشلد على جانب عظيم من الفطنة والنباهة لا يشترك في دين إلا إذا أنعم النظر فيه، وتأكد من عواقبه السليمة وأرباحه الكثيرة، وبهذه الطريقة جمع أمواله الطائلة وخلف لبنيه من بعده مركزا ماليا يحسدهم عليه سائر العالم، وقلما حصل عليه أحد من قبلهم أو بعدهم.
وكان ماير روتشلد حسن السيرة دمث الأخلاق فعالا للخيرات مساعدا لأبناء جنسه، ولم يمنعه مقامه وثروته من المداومة على المعيشة البسيطة المنفردة، ولم يغير منزله الأصلي الذي كان يسكن فيه وهو متوسط الحال، وقد توفي فيه وبقيت امرأته فيه حتى استأثرت بها رحمة ربها.
وقبل وفاته جمع حوله أولاده الخمسة وهم أنسيلم وسلمون وناثان وشارل وجامس، فباركهم وأوصاهم أن يتمسكوا بدينهم وشريعتهم ويعيشوا بالوفاق والاتحاد والمحبة الأخوية ولا يعملوا عملا بغير أن يتشاوروا فيه كلهم، وقد تبع أولاده نصيحته فكانوا لا يبرمون أمرا عظيما ما لم يجتمعوا ويتشاوروا ويقلبوا الأمر ظهرا لبطن، وهذا سر نجاحهم، وقد اتفقوا وتشاركوا في تأسيس بيوتات مالية في أعظم مدن أوروبا واستلم كل واحد منهم إدارة بيت منها، فبقي أنسيلم أكبرهم في فرانكفورت، وذهب سلمون إلى فينا، وناثان إلى إنكلترا، وشارل إلى نابل، وجامس إلى باريس، فأدار كل منهم القسم الذي خص به واعتمد على إخوته في الأشغال العمومية الكبيرة؛ لتكون مشتركة بينهم وصار كل منهم بمقام الخمسة؛ لأن كل واحد كان يعلم إخوته بما يقف عليه من الأخبار ويعينه ويستعين به في الأعمال، وبذلك أثبتوا المثل القائل الاتحاد قوة، وقد خدمتهم حوادث سنة 1813 و1814، ومنها اتسعت ثروتهم وزاد نفوذهم، وكانوا يرضون بالربح القليل ويعاملون الجميع بالصدق والاستقامة، وامتدت أعمالهم حتى غمرت جميع ممالك أوروبا، وعمت التجارة والصناعة والزراعة وصار بيت روتشلد إخوان محور المشروعات الكبيرة وعليه مدار الأعمال المالية.
وقد شرف إمبراطور النمسا عائلة روتشلد ومنح أفرادها وسلالتهم لقب بارون، وعينهم قناصل ووكلاء لدولته في المدن التي كانوا يسكنونها، وأشاع بعضهم أن إخوان روتشلد عازمون على إعادة بناء هيكل سليمان على نفقتهم.
هذا وشهرة بيت روتشلد غنية عن البيان لا تحتاج إلى برهان، ولهم مآثر كثيرة شملت أبناء أمتهم والبلدان التي استوطنوها، ولنسائهم الأيادي البيضاء في المدارس والمستشفيات العديدة وعمل المبرات، وسيبقى اسم هذا البيت عظيما ما دامت الحضارة ناشرة لواءها على العالم.
البارون أنسيلم مايردي روتشلد
هو أكبر أولاد ماير روتشلد، ولد في فرانكفورت سنة 1773 وتولى إدارة المحل فيها بعد وفاة أبيه، وعين رئيسا لبيوت روتشلد إخوان فبذل جهده في نجاحها وتقدمها وإحرازها ثقة المتعاملين معها، وقد انتخب سنة 1813 لرئاسة غرفة التجارة البروسية، وعين سنة 1820 قنصلا لبفاريا، وتوفي سنة 1855 ولم يترك أولادا، فخلفه في إدارة المحل أولاد أخته كارل وولهلم كارل، ولد الأول في 5 أغسطس سنة 1820، وتوفي سنة 1886 في 16 أغسطس، وعين عضوا في غرفة الأمراء في بروسيا وتزوج لويزا ابنة البارون ناثان مؤسس محل لوندرا، وقد خلف ست بنات: أديل وأما ولويزا تريز وآن لويز وكليمنتين وبرتا برنيس دي وجرام.
البارون سلمون دي روتشلد
هو ثاني أولاد ماير روتشلد، ولد في فرانكفورت سنة 1774، 1855، وهو الذي أسس محل روتشلد إخوان في فينا، وشارك أخاه أنسيلم في الأعمال المالية الكبيرة في ألمانيا، واشتهر بالجود والإحسان والتبرعات الخيرية، ولما كبر ابنه أنسيلم سلم إدارة المحل إليه وذهب إلى باريس واشتغل مع أخيه جامس في إدارة المحل هناك، وكان أنسيلم من أمهر أهل زمانه في الأعمال المالية، وقد عين عضوا في مجلس نواب النمسا، وتوفي سنة 1874 تاركا ثلاثة أولاد: ناثانيل وفردينان وألبير، وهذا الأخير خلف أباه في إدارة محل فينا.
البارون ناثان دي روتشلد
هو ثالث أولاد ماير روتشلد، ولد في فرانكفورت في 16 سبتمبر سنة 1777، وتوفي فيها في 18 يوليو سنة 1836، وهو الذي اختار بلاد الإنكليز مركزا لأعماله، وكان قبل مجيئه إليها يشتغل في فرانكفورت ويبتاع المنسوجات من تاجر كبير هناك، وكان هذا التاجر يظهر الأنفة والكبرياء ويمنن الذين يشترون منه، ولكن ناثان كان أبي النفس فلم يعترف له بجميل فاغتاظ منه التاجر ومنع عنه البضائع، فأخذ ناثان من أبيه عشرين ألف جنيه، وذهب إلى مانشستر فأسس فيها محلا سنة 1798، ولم يمض زمن قليل حتى راجت تجارته وربح كثيرا، ولما اتسعت دائرة أعماله نقل محله إلى لندن سنة 1813، وأقام فيها وكان داهية يتاجر ويضارب ويحتكر ويرابي وخدمه السعد؛ لأنه اشتغل في زمن الحروب وهو زمن الربح للماليين، وقد رأى بعين بصيرته الوقادة أن إنكلترا لا بد وأن تتغلب على نابوليون وتقهره فترتفع الأوراق المالية بعد هبوط قيمتها فأخذ يشتري منها كل ما تصل إليه يده، وكان يربي الحمام الزاجل ويستعين به على نقل الأخبار فعجز الماليون عن مناظرته.
وروى بعضهم أنه لما حدثت واقعة واترلو الشهيرة بين نابوليون وولنتون مضى ناثان إلى ساحة القتال، وأقام على رابية ينظر إلى الجنود المتحاربة إلى أن تأكد أن الإنكليز انتصروا على نابوليون فقفل راجعا في الحال إلى لندن، وابتاع أوراق الحكومة بثمن بخس قبل أن انتشر خبر النصر وارتفع ثمنها، وهذه الرواية مطعون فيها، إذ يقال: إن ناثان لم يذهب إلى موضع القتال، بل إن شخصا اسمه فولر جاءه بخبر النصر قبل أن يعلم به أحد.
وهنا ابتدأت ثروة ناثان الحقيقية وربح أرباحا كثيرة، وذاع صيته وعلا مقامه وصار صاحب الكلمة النافذة في الأسواق المالية والتجارية ومسلف الحكومة الإنكليزية وغيرها من الحكومات الأوروبية.
ومع دهائه هذا غلبه رجل آخر في الدهاء - ونذكره هنا على سبيل الفكاهة - فقد رآه هذا الرجل ذاهبا في المساء إلى مكتبه مع اثنين آخرين فتبعهم ودخل وراءهم ووقع على الأرض مغشيا عليه فحاولوا إيقاظه مرارا وهو لا يتحرك من مكانه، ولما أعيتهم الحيل تركوه، وجعلوا يتذاكرون في أمر مهم، وبعد أن اتفقوا عليه وخرجوا أوصوا الخادم أن يعتني بالرجل، فعند خروجهم أسرع إلى المدينة واشترى جميع الأسهم والأوراق التي اعتمد روتشلد على ابتياعها مع ذينك الرجلين.
وفي سنة 1822 منحه إمبراطور النمسا لقب بارون وعينه قنصلا ووكيلا لدولته في لندن، وكان ناثان صبورا لا يكل من العمل ويلاحظ أشغاله بنفسه ويسعى دائما في توسيعها وإنجاحها، قال له بعضهم لما شاخ: «عسى أن لا يشب أولادك محبين للمال مثلك، ولا أظن أنك تود ذلك.» فأجابه: «بل أنا أوده وأود أن لا يكون لهم هم غير توسيع أعمالهم وتثمير مالهم ولا لذة للمرء بغير التعب، وجمع المال الكثير يقتضي كثيرا من الجهد والحذر، ولكن حفظه بعد جمعه يقتضي عشرة أضعاف ما اقتضاه جمعه من المهارة.»
وترك ناثان ثلاثة أبناء أكبرهم ليونل، ولد ليونل في 22 نوفمبر سنة 1808، وتوفي في 3 يونيو سنة 1879، وقد تعلم في مدرسة كوتنجن الجامعة بجرمانيا، وخلف أباه في إدارة بيت روتشلد في لندن، واشتهر أكثر منه وفاقه في الأعمال المالية العظيمة وإصدار القروض، فصار الماليون يشتركون حالا في كل قرض يتولى إصداره، فإذا طلبت الحكومة مليون جنيه قرضا وكفل روتشلد بإصدار سنداته أقبل الماليون على ابتياعها ودفع ثمنها.
وانتخب ليونيل عضوا في مجلس البرلمنت الإنكليزي سنة 1847 وطلب منه أن يتلو القسم الذي يتلوه كل عضو فأبى أن يقول العبارة الأخيرة منه وهي «بذمتي المسيحية» فرفض، ثم انتخب سنة 1849 و1852 و1857، وكان يرفض دائما أن يتلو العبارة الأخيرة، وأخيرا أقر المجلس أن الإسرائيليين غير ملزمين بتلاوتها، وأجلسوه في البرلمنت.
وزادت شهرة ليونيل وعلا صيته؛ لأنه حفظ السلم في أوروبا وساعد بنك إنكلترا وهو على وشك الإفلاس، وكان أكبر سند وعضد للحكومة الإنكليزية، وهو الذي أقرضها المال اللازم لشراء أسهم ترعة السويس من الحكومة المصرية، وأقرض الخديوي إسماعيل باشا الأموال التي بذرها.
وبعد وفاة ليونيل خلفه ابنه لورد روتشلد وأعطي لقب اللوردية سنة 1885.
ولليونيل أخان: أنتوني وقد ولد سنة 1810، وماير وقد ولد سنة 1818 وتوفي سنة 1874، وعين عضوا في مجلس النواب سنة 1859، وكان دائما مع حزب الأحرار.
البارون شارل دي روتشلد
هو رابع أولاد ماير روتشلد ولد في فرانكفورت سنة 1788، وقد خص بإدارة محل نايل، فقام بأعباء أعماله بهمة واجتهاد، وكان حاد النظر قوي العزيمة، وهو الذي ساعد كثيرا في تحسين مالية مقاطعتي توسكانا والبيمون، وتعهد مع بقية إخوته في لندن وباريس بسلفيات إيطاليا من سنة 1831 إلى 1856، وهي تنيف على 200 مليون فرنك، توفي في نايل سنة 1855.
البارون جامس دي روتشلد
هو خامس أولاد ماير روتشلد، ولد في فرانكفورت سنة 1792 وأتى باريس سنة 1812 لإدارة بيت روتشلد هناك، وعين فيها سنة 1822 قنصلا جنرالا للنمسا، وكان يدير أعماله بفكر ثاقب ونشاط متواصل، فلم يمض وقت قصير حتى نجح المحل نجاحا باهرا وذاع صيته في كل أنحاء فرنسا.
وسنة 1823 أبرم قرضا للحكومة الفرنسوية بمبلغ 500 مليون فرنك، وقام مع بقية إخوته بكل «السلفيات» لحكومة البرتغال وبروسيا والنمسا وإيطاليا وبلجيكا، وكان له اليد الأولى في جميع الأعمال المالية مدة حكم لويس فيليب ملك فرنسا، وله العلاقات الكثيرة مع ملوك أوروبا حتى سمي «مسلف الملوك»، ومن جملة أعماله أنه أخذ على عهدته بناء سكك حديد فرنسا، وقدم لإخوان بارير المال اللازم؛ ليحصلوا على امتياز السكة الحديدية من باريس إلى سنت جرمين، فربح من وراء ذلك ثروة طائلة وكسب أيضا مبالغ عظيمة من الأشغال التجارية والصناعية التي أسسها أو اشترك فيها، وكان يمتلك قصورا كثيرة وله في باريس وحدها 51 بيتا، وله أملاك أخرى في جميع مدن أوروبا الكبيرة، وقد مكث جامس إلى آخر حياته نشيطا مجتهدا لا يكل من العمل، وكان متكبرا جافي الطباع يحب العزلة والانفراد، ولكنه كان جوادا كريما يعمل الخيرات الكثيرة، وله مآثر عديدة، فمن ذلك أنه أعطى 50000 فرنك مساعدة للجرحى، وأقام المستشفيات الكبيرة وبنى مدارس للإسرائيليين، وكان يرسل المبالغ الباهظة سنويا لتوزع على فقراء اليهود في بلاد سوريا.
وفي ثورة سنة 1848 حرق قصره، وكاد يترك أرض فرنسا لولا معارضة الحكومة التي كانت تنتفع من أعماله، فقد ألزمته البقاء ووضعت لحراسته عددا كبيرا من الجنود، ومن عادات البارون جامس أنه كان لا يحمل معه أكثر من 40 أو 50 فرنكا، وكان يضعها في كيس مقفل، ويعلق مفتاحه في سلسلة يربطها في عنقه، وقد سئل مرة عن ذلك فأجاب: إنني اقتصدت مبلغ 300 أو 400 ألف فرنك من هذه العادة فلا أغيرها أبدا. وكان مولعا بفن التصوير والنقش، وكان قصره في فريار معرضا حاويا لكثير من الصور الثمينة والنقوشات البديعة.
وترك جامس أربعة بنين وهم: إدمون وجستاف وألفونس وناثانيل، وقد ولد أكبرهم إدمون في باريس سنة 1826، وتجنس بالجنسية الفرنسوية سنة 1848، واقترن سنة 1856 بابنة البارون ليونيل دي روتشلد، وبعد وفاة أبيه سنة 1868 استلم أشغال محل باريس وأدارها بكل اجتهاد ونشاط، وكان كريما يعمل مبرات كثيرة، فقد وهب 300000 فرنك للمحتاجين في باريس لما حاصرها الألمان سنة 1871، وكان أول سند للحكومة الفرنساوية في دفع الغرامة التي افترضتها ألمانيا، فإنه اكتتب في الحال هو وبقية أعضاء بيت روتشلد بمبلغ 2750000000 فرنك.
وقد عين أخوه البارون جوستاف خلفا لأبيه جامس قنصلا ووكيلا للنمسا في باريس، وعين أخوه البارون ألفونس في نوفمبر سنة 1868 مديرا للسكك الحديدية في فرنسا، وعين عضوا في جمعية الفنون الجميلة سنة 1885.
أفراد بيت دي روتشلد
نذكر هنا أسماء البعض من أعضاء عائلة دي روتشلد الذين هم في وقتنا الحاضر في بعض أنحاء أوروبا وهم:
في لوندرا:
اللورد ناثانيل رئيس محل لوندرا وولده الوحيد ليونل ولتر، البارون ألفرد «غير متزوج»، البارون ليوبلد الذي اقترن بالآنسة ماري بيروجيا من تريستا، والبارونة آنة ابنة البارون أنتوني «غير متزوجة»، ولادي سيمور من فينا تزوج بالمرحومة إيفيلينا ابنة البارون ليونيل، ولد سنة 1839 وأتى إلى إنكلترا حيث تجنس بالجنسية الإنكليزية، وتعين الشريف الأكبر لكونتية بكنجام، وسنة 1885 عين عضوا في مجلس العموم، وكان من حزب الاتحاديين الأحرار، وأعيد انتخابه أيضا سنة 1886 و1892، وليس له أولاد.
في فينا:
البارون سلمون ألبير «ابن أنسيلم سلمون» الرئيس الحالي لمحل فينا، والبارونة فرانشيتي أخته. البارون ناثان أخوه «غير متزوج» والبارونة أليس أخته «غير متزوجة».
في فرانكفورت:
البارونة كارل ابنة ناثان «الرئيس السابق لمحل لوندرا» وأرملة البارون كارل رئيس محل نابل.
في باريس:
البارون إدورد «ابن ألفونس جامس» رئيس محل باريس الحالي، وله أختان: الأولى بتينا التي اقترنت بابن عمها ألبير سلمون رئيس محل فينا ولها خمسة بنين وابنة، والثانية بياتركس اقترنت بموريس أفريسي، البارونة لوسي «ابنة جستاف جامس» اقترنت بالمسيو لمبير مدير محل روتشلد ببروكسل، والبارونة إلين اقترنت بالمسيو ساسون، وهي أخت لويسي، والبارونة جوليت اقترنت بالكونت أمانيل لونينو «وهي أخت الاثنتين المتقدم ذكرهما»، والبارونة ناثانيل «اسمها شارلوت» ابنة جامس دي روتشلد وأرملة ناثانيل بن ناثان مؤسس محل لوندرا، ولها ابنان: أرثير ولد في باريس في 28 مارس سنة 1851 وهو من الكتاب المعدودين ألف كتبا كثيرة، وجامس إدورد الذي اقترن بلويز تريز ابنة البارون كارل الرئيس الثاني لمحل نايل، البارونة ماتيلد ولهلم ابنة البارون سلمون، ولها ثلاث بنات: أويلايدي قرينة البارون إدمون، وبتينا، وجيورجينا سارة، البارون أدولف رئيس محل نابل سابقا الذي ترك نابل وليس له بنون.
الفصل العاشر
الجمعيات عند اليهود
(1) جمعية الاتحاد الإسرائيلي العمومي
وهي الجمعية العظيمة التي تغني شهرتها عن ذكرها وترديد اسمها، فمنافعها وفوائدها لا تحصى ولا تعد، ونتائجها الحسنة يعرفها كل إنسان ولا يختلف فيها اثنان، بل هي الوحيدة في بابها التي قاومت ما كان ينازعها من الحوادث وفازت على ما لاقته في طريقها من الاضطهاد بعزم شديد وجنان ثابت، وتدرجت منذ الصغر متقدمة تقدما سريعا يشهد به العالم كله، وقلما بارتها جمعية أخرى مهما كان مشربها ومقصدها، بل هي التي ثبتت في معمعان المشاكل السياسية والدينية ثبوتا عظيما دل على أنها أسست على دعائم قوية، ومشت بقدم راسخ لا يشوبه الفتور والكلال، وجرت شوطا بعيدا في مضمار الفلاح، فهي التي ساعدت على تقدم الأمة الإسرائيلية مساعدة عظيمة يردد ذكرها بالثناء الجميل والشكر الجزيل، وأقامت المئات من المدارس العلمية والمعاهد الأدبية والصناعية في أنحاء شتى من أقطار المسكونة تغدي العقول بلبان المعارف، وتنيرها بشعاع العلم والآداب، وكانت سببا قويا في إنجاح الإسرائيليين وتقدمهم وتحسين حالتهم وزيادة ثروتهم.
كل ذلك مبني على انتشار التعليم بإقامة مدارسها، إذ لا مندوحة في أن العلم هو أساس الفلاح والعمران، فلا عجب والحالة هذه إذا بعد صيتها، وأجمع الكل على عد فوائدها الجزيلة ومدح القائمين بأعباء أعمالها الذين خصوا وقتهم بالعمل في تقدمها وتوسيع نطاقها، والذين ساعدوها ماديا وأدبيا، فالأمة الإسرائيلية أجمع تعترف بفضلها وتقدر مساعيها قدرها ناظرة إلى منافعها الجمة التي لا تنكر وفوائدها التي لا تعد ولا تحصر، وهذه نتائجها ظاهرة كالصبح للعيان لا تحتاج إلى دليل أو برهان.
ولم تنحصر مساعي جمعية الاتحاد في إقامة المدارس الصناعية والمعاهد العلمية فقط، بل تجاوزتها إلى غرض أسمى وأشرف وهو الغرض الجوهري من تأسيسها ألا وهو مساعدة جميع الإسرائيليين المحتاجين في كل الأقطار، والسعي في تحسين حالتهم وعضدهم ماديا وأدبيا، والعمل في صد تيار الاضطهادات عنهم، ولها من هذا القبيل مآثر جمة تشهد لها بذلك نذكر منها ما أنفقته الجمعية من المبالغ الباهظة في مساعدة الإسرائيليين الرومانيين وما بذلته في سبيل خلاصهم وتحسين حالتهم، فإن الحكومة الرومانية طالما اضطهدت الإسرائيليين في بلادها وعملت على معاكستهم واجتهدت في إسقاطهم وإذلالهم وقفلت في وجههم أبواب الرزق والاكتساب، بل طالما عاقبتهم ظلما وعدوانا وخرجت في معاملتهم عن جادة العدل والصواب، كل ذلك ناتج ولا غرو عن التعصبات الدينية والتشيعات القومية حتى وصلت حالتهم إلى أقصى درجات الذل والهوان، وأضحوا في حالة من الفقر والعازة يرق لها الحجر الصلد، وقد رأى الإسرائيليون حرج الموقف والمصائب، فنفذ صبرهم وأخذوا في المهاجرة آلافا وهم لا يملكون ما يسدون به رمقهم وما يسترون به عورتهم، ورأت جمعية الاتحاد حالتهم التعيسة فهبت لمساعدتهم وبذلت الجهد في تخفيف مصابهم وآلامهم، فساعدت ما ينيف على 100000 نفس وبلغ ما أنفقته على ذلك من مايو سنة 1900 إلى يناير سنة 1901 500000 فرنك، وأنفقت أيضا 450000 فرنك لمساعدة المهاجرين وتسفيرهم إلى حيث يتمتعون بالحرية التامة، فرحل أكثرهم إلى أميركا، ويسافر البعض إلى إنكلترا وفرنسا، ولم تكتف بعملها هذا ولم تقف عند هذا الحد، بل رأت أن الإسرائيليين الذين بقوا في رومانيا باتوا في حالة الفقر المدقع، ومات أكثرهم جوعا فأرسلت في الحال مندوبين من قبلها للنظر في أمرهم، وكانت باكورة أعمالها إقامتها مطابخ عمومية في مدن رومانيا كلها، وكانت تنفق عليها ما ينيف على 40000 فرنك شهريا، فخفت بذلك بعض الويلات ونجا كثيرون من الإسرائيليين الرومانيين بهمة رجالها وأعضائها وتحسنت أحوالهم وأشغالهم.
ولم تقتصر الجمعية على مساعدة الرومانيين، بل مدت يد المساعدة إلى الإسرائيليين في سائر أنحاء المسكونة وعملت أعمالا حسنة تشهد لها بالأيادي البيضاء والمآثر الغراء، فبذلت قصارى جهدها في تحسين حالة الإسرائيليين في روسيا وبلاد العجم ومراكش، حيث كانوا مضطهدين اضطهادا يقرب من التوحش فيسامون كل أنواع المذلة والهوان، فدل ذلك على أن التعصب المذهبي كان مستحكما منهم، وقد اكتفينا هنا بذكر مساعدة جمعية الاتحاد للرومانيين ليقاس عليها في البلاد الأخرى؛ لأننا لو أردنا سرد أعمالها والإسهاب في شرح المساعدات التي أدتها للأمة الإسرائيلية في جهات مختلفة لضاقت عنها المجلدات، ولذلك المعنى إلى ذكرها مكتفين بالتنويه عنها لضيق المقام. (1-1) مدارس جمعية الاتحاد الإسرائيلي
يزداد عدد مدارس الاتحاد الإسرائيلي سنة فسنة بفضل اهتمام أعضائه، فقد أنشأت الجمعية في المدة الأخيرة ستة مدارس كبيرة: اثنتين منها في بلاد العجم، وواحدة في فلسطين، وثلاثة في مراكش.
ففي سنة 1900 أحصت الجمعية عدد مدارسها، فكان لها عدا المدارس العالية في باريس مدارس عديدة لتعليم الصنائع والزراعة، ومعاهد لتعليم أصول الديانة ومائة مدرسة ابتدائية منها 61 للأولاد و39 للبنات، وعدد تلامذة هذه المدارس يزيد على 26000.
وبلغ ما أنفقته الجمعية على التعليم سنة 1900 أكثر من 720000 منها 155000 فرنك للمدارس العالية، و565000 للمدارس الابتدائية، يضاف إلى هذا المبلغ 500000 فرنك، وهو ما تبرعت به الجمعيات الأخرى الخيرية لتتميم النفقات المدرسية، فجاء هذا دليلا على الاعتقاد الحسن بالاتحاد الذي ساعد كثيرا على تنوير العقول ونشر العلوم والمعارف في الشرق وإفريقية.
والذي ينعم النظر في تاريخ جمعية الاتحاد يدهشه ما يراه من دلائل تقدمها السريع ونجاحها المتواصل، فإن الجمعية أنشأت أول مدرسة لها في تطون سنة 1862، أي: منذ 41 سنة، ولم يكن للجمعية حينئذ دخل كاف يقوم بنفقاتها الكثيرة فلقيت بادئ بدء صعابا جمة، ولكنها لم تنثن عن عزمها فثابرت على خطتها الحميدة بنشاط واجتهاد عارفة أن عملها سيلاقي قبولا حسنا في النهاية ومساعدات كبيرة في المستقبل، وتعرف الأمة الإسرائيلية عامة فائدتها فيجود أغنياؤها بأكف سخية لمساعدتها وعضدها.
قلنا: إن الجمعية أنشأت أول مدرسة لها في تطون وهي ميناء في مراكش، ثم أنشأت مدرسة في طنجة، وأخرى في بغداد، فكانت تؤسس مدارس جديدة كلما زاد دخلها، وقد أنشأت سنة 1867 مدرسة في أندرينويل، وأخرى في تونس، أما في تركيا فلم تنشئ المدارس إلا بعد سنة 1874، وذلك لمعاكسات جمة قاومت مشروعها فيها في بادئ أمره، وسنة 1878 أنشأت مدارس عديدة في بلغاريا، وتبرع بالمال لإنشائها فيها البارون هرش الذي مر بنا ترجمة حياته، وهو المثري الشهير صاحب المآثر البيضاء والهمة الشماء الذي بعد صيته إلى الآفاق.
وسنة 1882 أسست في أورشليم مدرسة كبيرة بمساعدة جمعية المنتاجو في لندن بعد أن قاومت كثيرا من الصعاب، وهي تعد الآن في مقدمة مدارس الاتحاد الإسرائيلي، وسنة 1883 أنشأت مدرسة فاس في مراكش فنجحت نجاحا سريعا.
وتدرجت هذه الجمعية في إنشاء المدارس في جميع الأنحاء حتى عرف الناس أجمع أن غرضها الوحيد هو تعليم الشبيبة الإسرائيلية، وتهذيب عقولها بالدرس والعمل، وقد أجمعت الجمعيات الأخرى على مدح خطتها وإظهار شرف غايتها ونبالة مقصدها.
أما في مصر فلم تشرع الجمعية في إنشاء مدارسها إلا سنة 1896؛ لأن حالة الإسرائيليين في مصر حسنة للغاية على ما يظهر والمدارس وافرة العدد وافية بالمقصود، ولكن جمعيات أخرى أسست مدارس صغيرة لتعليم الأولاد الفقراء مجانا؛ ولذلك كانت الطبقة الوسطى من الإسرائيليين ترسل أولادها إلى مدارس الأجانب فلا يلبثون أن يقتبسوا فيها العوائد الغربية حتى ينسوا واجبات ديانتهم ويهملوا أمرها، وهذا أمر ذو بال أوجب جمعية الاتحاد إلى إنشاء مدرسة لها في القاهرة لتعليم الأولاد على اختلاف طبقاتهم وتغذية عقولهم بأصول ديانتهم، وقد نجحت نجاحا باهرا، وتقدمت تقدما سريعا محسوسا دل على مهارة مديريها وسهرهم على تثقيف عقول التلامذة، وتعليمهم العلم الصحيح وهي الآن تعد 500 تلميذ بين أولاد وبنات.
وسنة 1898 وجهت الجمعية أنظارها إلى الإسكندرية وشرعت في إقامة مدرسة فيها، لكن مصاعب شتى حالت دون إتمام المشروع الذي أرجئ إلى فرصة أخرى، على أن الأمل وطيد بزوال المصاعب قريبا بإذنه تعالى، فتصير مدرسة الإسكندرية تضارع أختها التي في مصر تقدما ونجاحا.
ولما انتهت الجمعية من إنشاء بعض المدارس في مصر حولت أنظارها إلى بلاد العجم، فأنشأت عدة مدارس سنة 1898 في جهات متعددة، وتقدمت تقدما سريعا وأدت خدما جزيلة للإسرائيليين وعادت عليهم بفوائد جمة.
فبعد مدرسة طهران أنشئت مدرستان في حمدان، وذلك سنة 1900، فأمهما عدد عظيم من التلامذة حتى ضاق نطاقهما عنهم، وقد أقيمت في هاتين المدرستين محلات خصوصية لتعليم الأشغال اليدوية والخياطة وغيرها.
وسنة 1899 كان لجمعية الاتحاد ثمانية مدارس كبيرة في مراكش: اثنتان منها في تطون، واثنتان في طنجة، واثنتان في فاس، وواحدة في موجادور، وواحدة في كاسا بلنكا، وسنة 1900 أسست مدارس جديدة في مراكش وناف عدد تلامذتها في شهرين على خمسمائة تلميذ، وسنة 1900 أقامت الجمعية مدرستين أخريين للأولاد والبنات، ولا تسأل عن الفوائد التي اكتسبها الإسرائيليون في مراكش من مدارس الاتحاد.
أما في فلسطين فامتدت مدارس الاتحاد إلى جهات عديدة، فبعد مدرسة أورشليم التي أنشئت سنة 1882 أسست مدرسة في يافا سنة 1894، ومدرسة في صفد وغيرها سنة 1900.
وقد امتد عمل الاتحاد إلى بلاد المغرب، ولكن لم تتبع الجمعية طريقتها التي تمشت عليها في غيرها من البلاد، فإن في تلك البلاد مدارس كثيرة يتعلم فيها الإسرائيليون ويتقدمون في العلوم والمعارف، ولكنهم لا يخطون خطوة واحدة في سبيل تعليم أصول ديانتهم، فإنهم لا يدرون منها شيئا ويجهلون تاريخ أمتهم ويهملون أمرها على تكرار الزمن، وهذا هو السبب الجوهري الذي دعا الجمعية إلى تلافي الداء وإيجاد الدواء، فكانت فاتحة أعمالها هناك إنشاءها أندية عديدة في جهات متعددة لتعليم أصول الديانة الإسرائيلية والتاريخ وغير ذلك مما تهم معرفته، وأسست مدارس خصوصية للبنات لتعليمهن التطريز والأشغال اليدوية؛ حتى يصرن قادرات على اكتساب المعيشة بشغل أيديهن.
وقد نجحت مدارس الاتحاد في بلاد المغرب نجاحا باهرا في زمن يسير، وأدت خدما جزيلة للإسرائيليين، وعزمت الجمعية أن تنشئ غيرها من المدارس في سائر بلاد المغرب.
ولا يتوهم القارئ أن جمعية الاتحاد الإسرائيلي أنشأت كل هذه المدارس في الجهات والبلاد لتعليم الإسرائيليين فقط قافلة أبوابها في وجه غيرهم، فإن مدارسها تقبل في صدرها الرحب الأولاد والبنات على اختلاف مذاهبهم ونزعاتهم، وتعتني بتربية الجميع على السواء بقطع النظر عن مسائل الاعتقادات الدينية، ومما يدلنا على ذلك الإحصاء الأخير الذي وضعته الجمعية عن عدد التلامذة في كل مدارسها، ويظهر منه أنه يوجد فيها 300 تلميذ بين مسلم ومسيحي، ففي مدرسة حمدان خمسة وعشرون تلميذا من العائلات الإسلامية الشريفة العريقة في الحسب والنسب التي يمتد أصلها إلى الإمام علي، وهو برهان كاف ودليل واضح على أن الطوائف الأخرى عرفت غاية الجمعية النبيلة، وأخذت تعتقد فيها اعتقادا حسنا لا يشوه وجهه تعصب أعمى، أما الجمعية فقد اجتهدت وتجتهد دائما؛ لكيلا تمس اعتقادات تلامذتها بشيء، وتبذل جهدها في العناية بهم وتنوير أذهانهم والسهر على راحتهم، وهذا من الأسباب التي ساعدت على تقدم مدارسها ونجاحها نجاحا عجيبا لم تلقه جمعية قبلها.
وقد زار بعض من الرجال العظام مدارس الاتحاد في مراكش وبلاد العجم وفلسطين وغيرها، فسروا كثيرا بما رأوه من منافعها وفوائدها ودلائل تقدمها ونجابة تلامذتها، وأجمعوا على أن عمل الاتحاد نافع جدا لا يمحو ذكره كرور الأعوام وتوالي الأيام، وأنه يخلد لجمعية الاتحاد أطيب ذكر في صفحات التاريخ يعود على رجالها بالفخر والصيت الحسن.
بيد أننا نقر أنه وإن كان عمل جمعية الاتحاد الإسرائيلي بلغ مبلغا حسنا في إنشاء المدارس ومعاهد العلم والصناعة، فإنه لم يصل بعد إلى درجة الكمال ولم يف بالغاية المطلوبة، ولم ينتج النتائج المنتظرة، واللبيب يدرك لأول وهلة أن السبب فيه قلة الدراهم فإنها غير كافية لإيصال العمل إلى منتهاه، ولكن الأمل وطيد أنه لا يمضي وقت قليل إلا وتكون مدارس الاتحاد مدارس عظيمة بالغة أوج الكمال يلهج بذكرها الخاص والعام.
المعنى فيما مضى إلى أن جمعية الاتحاد أنشأت مدرسة كبيرة في أورشليم، وهي مدرسة صناعية تعد في مقدمة المدارس بنجاحها ونتائجها الحسنة، وقد زاد عدد تلامذتها في يناير سنة 1901 على 115 تلميذا منهم من يتعلم صناعة الحدادة والنجارة، ومنهم أشغال الحفر والنقش وصنع الأحذية وغير ذلك، وفيها من مهرة المعلمين والصناع عدد كاف، وكانت مصنوعات المدرسة تباع بأسعار حسنة في أورشليم مع ضيق ذات اليد فيها.
وقد خرج من هذه المدرسة سنة 1900 ثمانية وأربعون تلميذا بعد أن أتموا علومهم فيها ونبغوا في الصنائع، وأرسل بعضهم إلى المدرسة الصناعية في فريبور لتمرينهم واقتباس ما فاتهم معرفته، وقد رأت الجمعية تقدم المدرسة ونجابة تلامذتها، فأرسلت إليها عددا وافرا من التلامذة من جهات مختلفة؛ ليتعلموا فيها ويستطيعوا في المستقبل اكتساب معاشهم بسهولة.
أما دخل وخرج هذه المدرسة فكما يأتي:
س
فرنك
30
134277
مصاريف عمومية
10
55909
مدخول
20
78368
فيكون العجز مبلغا عظيما كانت الجمعية ترزح تحت ثقله لولا المساعدات العظيمة التي أدتها جمعية الجويتس أسوسيشن، وجمعية المنتاجو في لندن في هذا السبيل، وجود بعض من أولي البر والإحسان بأكف سخية لسد شيء من ذلك العجز.
وأما مدارس الاتحاد الإسرائيلي بالقاهرة فرئيسها جناب الفاضل المسيو شاول سوميخ، وقد أنشئت سنة 1896، كما تقدم [في الفصل العاشر: الجمعيات عند اليهود - جمعية الاتحاد الإسرائيلي العمومي]، واشترت ملكا بجانب محافظة مصر فجعلته مدرسة للصبيان وأخرى للبنات، وفي مدرسة الصبيان أستاذان للغة العبرية ومعلمان للإنكليزية وثلاثة للعربية وثلاثة للفرنسوية ومساعد وخدم، وعدد تلامذتها 350 منهم 70 تلميذا يتعلمون مجانا.
وفي مدرسة البنات معلمتان للفرنسوية ومعلم للعربي ومعلم للإنكليزي، ومعلمة للأشغال اليدوية كالخياطة والتطريز، وما أشبه ومساعد وخدم، وتلميذاتها 150 تلميذة 20 منهن مجانا، ولهذه المدرسة فرع بالظاهر في جهة العباسية تعلم فيها ثلاث معلمات إسرائيليات بارعات وفيها 150 تلميذة.
ولها فرع في الإسكندرية فتح سنة 1897 ورئيسه حضرة الفاضل المسيو دانون، وفيه 150 تلميذا و70 تلميذة وعدد معلميه 12 معلما، والأمل أنها تنجح نجاح أخواتها في مصر، وقد زرنا مدارس مصر فأعجبنا نظامها وسرنا تقدمها ونجاحها، واهتمام جناب رئيسها وامتدحنا آداب الذين عرفناهم من المتخرجين منها وأمانتهم وبراعتهم في أعمالهم. (2) الجمعية الصهيونية
من الجمعيات الكبيرة عند الإسرائيليين في هذه الأيام الجمعية الصهيونية، وغايتها استعمار أرض فلسطين وعمرانها.
أنشئت هذه الجمعية سنة 1896 وعقدت مؤتمرها الأول في مدينة بال بسويسرا سنة 1897، وممن اشتهر في الغيرة عليها وعد من أكبر دعاتها الدكتور هبرسل، فإنه بذل جهده ليجعل اليهود ينضوون تحت لوائها ويساعدون إخوانهم لنقلهم من روسيا ورومانيا، والأماكن التي اضطهدوا فيها إلى أرض آبائهم وأجدادهم في فلسطين.
وقد تفرع من هذه الجمعية عدة جمعيات انتشر أعضاؤها بين اليهود في سائر أقطار العالم، وهم يعقدون مؤتمرا عاما كل سنة في مدينة بال يحضره كثيرون منتدبين من الجمعيات الفرعية.
أما عدد المنضمين إليها فينيف على مليون نفس، وعلى كل عضو أن يدفع شلنا في السنة، ولهذه الجمعية جرائد كثيرة في إنكلترا وأميركا وألمانيا وروسيا ومدارس شتى وشركات مختلفة، وهي غنية بما لها من المساعدات ومن أموالها التي يشتغل بها عمالها.
وأشهر رؤساء الجمعية الصهيونية في فينا الدكتور هرزل، وفي فرنسا الدكتور مارموريك رئيس مستوصف باستور الذي وهبته أرملة المرحوم البارون هرش مليوني جنيه تذكارا لزوجها المحسن الشهير، وقد نشرنا ملخص ترجمتهما في [الفصل التاسع: تراجم مشاهير اليهود - أغنياء اليهود] من هذا الكتاب.
ولهذه الجمعية العظيمة رئيس في أميركا وآخر في روسيا وأربعة عظماء من أشهر مشاهير الإسرائيليين في لندن، أما غاية هذه الجمعيات فواحدة.
وأهم فروع هذه الجمعية «الشركة الإنكليزية الفلسطينية»، وأموالها تدعى الأموال الإسرائيلية الوطنية، وقد جمعت أموالا لشراء الأرض في فلسطين لليهود واستيطانهم إياها واستغلال خيراتها والتمتع بها، وأخص أشغالها التجارة في الشرق والاكتساب لتلك الغاية الشريفة.
وشركة الاستعمار الإسرائيلية التي تأسست سنة 1902، ووهبها المرحوم البارون هرش مليوني جنيه، كما ذكر ذلك الشريف أوسكار ستروس في جريدة الفورم.
ولما كان قصدنا الاقتصار على الإلماع إلى هذه الجمعية العظيمة، وليس التطويل في تاريخها اكتفينا بما تقدم آملين أننا في الطبعة الثانية لهذا المختصر نطيل الشرح في ذلك إن شاء الله، ونستوفي الكلام على بقية الجمعيات عند الإسرائيليين.
هذا ولا ينبغي أن نغفل أن من آثار هذه الجمعيات وخيراتها شراء قرية المطلة في قضاء مرج عيون بولاية بيروت، واستيطان الإسرائيليين لها، وشراء أراض في جهات الحولة وطبرية ويافا وحيفا وغيرها، حيث استوطنها اليهود وأبدلوا حالتها من عسر إلى يسر ومن جدب إلى خصب. (3) جمعية بني بريت أو عشيرة أولاد العهد المستقلة
أنشئت هذه الجمعية في مدينة نيويورك بأميركا، وهي على نظام الجمعية الماسونية ودعت اسم الجمعية الكبرى المركزية «المحفل الأكبر الأعظم في نيويورك»، وكل ما يتبعه باسم «محفل» والغاية من هذه المحافل ضم الشبان الإسرائيليين بعضهم إلى بعض للنظر في مصالحهم العمومية، والمحافظة عليها، وسبر غور حقوقهم والسعي في الحصول عليها، وتلبيس الأذهان حلة الإنسانية والشرف، وحب الوطن، وإشراب القلوب محبة العلوم والفنون وتقويتها، وإعانة الأرامل والأيتام والفقراء والمحتاجين وعضد عائلات الذين يذهبون ضحية الاضطهاد، وأوجبت على كل عضو من أعضائها أن تكون الخلال الشريفة متأصلة فيه، وعواطفه كلها مائلة إلى فعل الخير وإقامة العدل وبذل الجهد في تمهيد الطرق التي توصل إلى غرض الجمعية الصالح، وأن لا يضن بشيء مما لدى الأعضاء ماديا كان أو أدبيا توصلا إلى النتيجة التي ترمي إليها تلك الجمعية الشريفة، وقد زاد عدد محافلها عن ستمائة محفل ولا تزال آخذة في التقدم، ولها أعمال خيرية يضيق هذا المختصر عن سردها فنكتفي بالإلماع إليها.
وقد أنشئ لها في مصر فرعان سمي أحدهما «محفل ماغين دافيد نمرة 436» طبع قانونه النظامي في اللغة العربية، ولا يكاد يختلف عن قوانين المحافل الماسونية، ولكن هذا لطائفة الإسرائيليين فقط وذاك لجميع الطوائف بلا استثناء، ورئيسه جناب الفاضل موسى بك قطاوي، والثاني محفل ميمونيت نمرة 365 يشتغل باللغة الألمانية ورئيسه المسيو كزمير أحد موظفي نظارة المالية المصرية، ويوجد محافل أخرى في الإسكندرية وطنطا، وقد أنشئ لها أجزاخانة في العباسية بمصر واسمها أجزاخانة نيويورك.
وقد اطلعنا على كثير من أعمال هذه المحافل المبرورة وقرأنا قانونها ونظاماتها فسررنا بها وتمنينا لها الخير والتوفيق؛ ولذلك نحث في كتابنا هذا جميع الشبان الإسرائيليين المهذبين على الانضواء تحت لوائها ومساعدة القائمين بشئونها.
وهناك جمعيات أخرى كثيرة للإسرائيليين في كل مدينة ومملكة ليس من غرضنا التطويل عنها على أن في النفس ميلا يدعونا إلى العود إليها ثانية، فنسأل لها التوفيق في كل أعمالها الصالحة.
الفصل الحادي عشر
رجال الدين
كنا نود أن ننشر في هذا الكتاب فصلا مطولا عن رجال الدين الإسرائيلي في هذا العصر، ولكن رأينا الآن أن نكتفي بمختصر تراجم ثلاثة من أعاظم أحبار الطائفة مؤجلين نشر ذلك الفصل إلى الطبعة الثانية إن شاء الله، أما الأحبار الثلاثة المذكورة تراجمهم هنا فقد عرفناهم وحادثناهم، فرأينا فيهم أمثلة التقوى والصلاح والغيرة على مصالح أبناء طائفتهم، ولهم شهرة ذائعة في العلم والفضل وعلو الهمة. (1) الحبر الجليل روفائيل هارون بن شمعون (حاخام باشي مصر وتوابعها)
صاحب هذه الترجمة العالم العلامة الحبر الجليل روفائيل هارون بن شمعون حاخام باشي الطائفة الإسرائيلية في مصر وتوابعها، ولد في مدينة أرباط من ثغور المغرب الأقصى في شهر آب سنة 5607 الموافق لشهر أغسطس سنة 1847، ولما بلغ الخامسة من عمره رحل به والده الأستاذ الكامل المرحوم داود بن شمعون إلى القدس الشريف قصد الإقامة فيها وهناك اعتنى بتربيته وتثقيفه اعتناء عظيما، وكان والده من خيرة الرجال الأفاضل اشتهر بسمو مداركه، وعلو همته، ونال مكانة رفيعة في عيون أبناء طائفته فرفعوا قدره وعظموا مقامه، وفي سنة 5615 الموافقة لسنة 1852 انتخب حاخام باشي لطائفة المغاربة القاطنين بالقدس الشريف، فقام بمهام هذا المنصب الجليل قيام الرجل العاقل الحازم فرفع شأن الطائفة، ومهد لها سبل النجاح ونظم عقد جامعتها فبنى لها المدارس والكنائس والملاجئ ووقف عليها الأوقاف، وكان برا تقيا كثير الرحمة والشفقة على الفقراء والأيتام والأرامل، فلم يكن يطيب له عيش إلا باتخاذ كل وسيلة لراحتهم وتخفيف أحزانهم وجبر قلوبهم، ولا تزال آثار فضله بادية باهرة في مدينة أورشليم، ولا يزال ذكر أعماله الصالحة يدور على ألسنة الناس بالحمد والشكر.
أما سيادة صاحب هذه الترجمة، فقد أخذ عن والده كل الفضائل الباهرة والمبادئ الشريفة، وتلقى العلوم الدينية في المدارس الكبرى الربانية في أورشليم ونبغ في فن الكتابة والحساب، وكان سكرتيرا للمرحوم والده في تولي مهام أعمال الطائفة فأظهر في منصبه هذا مقدرة الرجال العظام، وكان في أكثر أوقاته يعكف على المطالعة والدرس والتبحر في العلوم والمعارف؛ حتى أصبح عالما معدودا بين علماء عصره وكاتبا نحريرا وشاعرا مجيدا يشار إليه بالبنان، وهو الآن مشهور بقوة مداركه وتصوراته ومعدود من أكابر أحبار الطائفة الإسرائيلية العظام.
ففي سنة 5637 الموافقة لسنة 1878 عين ناظرا على المدرسة الربانية الكبرى في القدس الشريف، وهي مدرسة خيرية قائمة بإحسان وأوقاف أبناء الطائفة الإسرائيلية في فرنسا وأوستريا وجرمانيا، ولما توفي المرحوم والده خلفه على منصب الرئاسة فتولى شئون الطائفة بهمة فائقة، وفي سنة 5651 الموافقة لسنة 1891 انتخب حاخام باشي للطائفة الإسرائيلية في مصر وتوابعها، ووردت له البراءة الشاهانية الرسمية في سنة 5653 الموافقة لسنة 1893.
وفي سنة 5656 الموافقة 1896 أنعم عليه جلالة السلطان بالوسام المجيدي الثاني وسنة 5662، الموافقة سنة 1902 منحه الوسام العثماني الثاني.
وقد زار سيادته أكثر العواصم الأوروبية مرارا كثيرة، وجال أيضا في أمهات مدن المغرب الأقصى، وهو يحسن اللغات العربية والفرنسوية والإيطالية والإسبانيولية، وله عدة مؤلفات جليلة في الديانة اليهودية، وهي الآن تحت الطبع في مطبعة الإسكندرية، وهو دمث الأخلاق أنيس المحضر واسع الرواية متواضع في أقواله وأعماله، ومن صفاته محبة القريب والإصلاح بين الناس إلى غير ذلك من الصفات الممدوحة، أدامه الله ذخرا للفضائل والكمالات. (2) سيادة الحبر المفضال إيليا حزان (حاخام باشي الطائفة الإسرائيلية في الإسكندرية)
صاحب هذه الترجمة هو السيد الجليل والحبر الفاضل النبيل إيليا حزان ابن الحبر الفاضل حاييم دافيد حزان وحفيد المطوب الذكر الحبر الأعظم دافيد حزان، ولد في مدينة أزمير في 27 ديسمبر سنة 1845 ميلادية، الموافقة سنة 5605 عبرية، ولما كبر وترعرع أحضره جده إلى أورشليم لأجل تربيته وتعليمه في المدينة المقدسة، وترك والديه الفاضلين في أزمير يتحملان لوعة فراقه لفائدته وهما يسكبان دموع المحبة بسخاء، ويسألان له التوفيق، فنشأ على محاسن الأخلاق والتربية الصالحة وتعلم العلوم في مدرسة أورشليم الكبرى، ولما كان جده في منزلة عالية بالنسبة لعلمه وتقواه وفضله انتخب حاخام باشي لطائفته في أورشليم، فكان صاحب الترجمة سميره في غربته وتعزيته على فراق ابنه وذويه، وخصوصا لما أنهى دروسه فسلمه جميع أشغاله وأعماله، ولما توفاه الله كان صاحب الترجمة عارفا بكل ما يلزم لوظيفته، واقترن صاحب الترجمة سنة 1861 بالسيدة دينا كريمة حاخام باشي الألمان في أورشليم، وعين كاتما لأسرار الطائفة الإسرائيلية في أورشليم سنة 1864، وسنة 1867 انتخب عضوا للمجلس الرباني الأكبر، وفي سنة 1874، الموافقة سنة 5634 عبرية عين حاخاما على طائفته في طرابلس الغرب ووردت له البراءة السلطانية بذلك، فقام بمهام منصبه الجليل قيام الرجال العظام، وفي سنة 1876 أنعم عليه جلالة السلطان بالنشان المجيدي الثاني، وفي سنة 1878 منحه النشان العثماني الثاني.
وقد جال سيادته في البلدان الأوروبية فزار فرنسا وإنكلترا وإيطاليا والنمسا، وحظي بمقابلة جلالة الإمبراطور فرنسوا جوزيف مقابلة خصوصية، وفي سنة 1888 انتخب حاخاما على الطائفة الإسرائيلية في الإسكندرية فقام بأعباء وظيفته المقدسة خير قيام، وقد أنعم الله عليه بخمسة صبيان وأربع بنات فرباهم التربية الصالحة على قويم المبادئ.
وسيادته من الكتاب المعدودين، له مؤلفات عظيمة الفائدة منها كتاب ديني اسمه «تالموت لب»، وكتاب اسمه «نيفه شالوم» في عوائد المصريين، وكتاب اسمه «أيسماح موشه» في موضوع مبرات القائد نسيم شماما جنرال تونس، وهذا الكتاب ترجم إلى الإيطالية لشهرته وأهمية موضوعه وحداثته، وهو يتكلم اللغات الفرنسوية والإيطالية والإسبانيولية والعربية والتركية.
وفي يوليو سنة 1903 حضر سيادته اجتماع الرؤساء الروحيين الإسرائيليين، وانتخب رئيس شرف للمؤتمر المذكور في مدينة غاليسيا. (3) الحاخام مسعود حاي بن شمعون
هو الشهم الفاضل والهمام الكامل شقيق سيادة حاخام باشي الطائفة الإسرائيلية بمصر، وسكرتير ووكيل حاخامخانة مصر وتوابعها، ولد في القدس الشريف في 21 أيلول سنة 5629 / 27 أغسطس 1869، واعتنى والداه بتربيته اعتناء زائدا، ولما بلغ العاشرة من عمره توفي والده إلى رحمة ربه تاركا أولاده فقراء مثقلة كواهلهم بالديون الكثيرة، وقد كان - رحمه الله - سخيا جوادا خدم طائفته خدمات جليلة، وكان يأبى أن يأخذ منها أجرا أو ينتفع بدرهم واحد، وهو من عائلة عريقة في الحسب والنسب، أما أولاده وآله فإنهم جاهدوا بعد وفاته جهاد الأبطال، وتمكنوا بجدهم وثباتهم من إيفاء ديون المرحوم والدهم كلها حرصا على شرف العائلة ومقامها الرفيع.
وتلقى صاحب الترجمة العلوم الدينية في المدرسة الكبرى الربانية بالقدس الشريف، وخرج منها بعد أن أتم دروسه كلها وظهرت عليه علائم الفضل والكفاءة والذكاء.
وفي سنة 5653 الموافقة سنة 1893 عين سكرتيرا ووكيلا لحاخامخانة مصر وتوابعها، ولا يزال إلى اليوم قائما بمهام وظيفته بهمة ونشاط وأمانة، وفي سنة 5657 الموافقة سنة 1897 أنعم عليه جلالة السلطان بالوسام المجيدي الرابع، وفي سنة 5663 الموافقة سنة 1903 انتدب عضوا من قبل الطائفة الإسرائيلية في مصر لحضور مؤتمر رؤساء الدين الإسرائيلي الذي عقد في مدينة غاليسيا، وفي أثناء سياحته مع سيادة الحبر الفاضل الحاخام باشي الإسكندري زار العواصم الأوروبية، وهو محبوب مكرم من أبناء طائفته التي يقوم بخدمتها بأمانة وإخلاص، لا يألو جهدا في كل ما يئول إلى إنجاحها وعلو شأنها، وحضرته يجيد القراءة والكتابة باللغات العبرانية والعربية والإسبانيولية، ويحسن التكلم باللغات الفرنسوية والإيطالية.
الفصل الثاني عشر
أعيان اليهود في القطر المصري
(1) عائلة منشه (1-1) المرحوم البارون يعقوب ده منشه
كبير عائلة منشه وعميدها هو الطيب الذكر المرحوم البارون يعقوب ده منشه، ولد في مصر سنة 1810، وتوفي في الإسكندرية في شهر نوفمبر سنة 1883.
كان من أذكى الناس فؤادا وأسمحهم وجها وأكرمهم يدا وأكثرهم خيرا وإحسانا، وكان في عصره نابغة في حدة الذهن وسرعة الخاطر، واسع الاطلاع في فن الحسابات وضبطها مشهورا بالدقة والمهارة في إدارة الأعمال والنظر البعيد في معضلات الأمور، وقد درس في أيامه العلوم التي مكنته الظروف من الوصول إليها، ولما شب اقترن بالطيبة الذكر المرحومة إستير كريمة المرحوم موسى نجار، وكانت نابغة في الكمال والفضل بين نساء عصرها، وقد توفيت بعد وفاة زوجها بنحو عشر سنوات.
ورزق المرحوم البارون يعقوب منشه من البنين أربعة صبيان وثلاث بنات وهم: البارونات بخور وموسى وإيلي يوسف وقرينة نيحا بك وقرينة الخواجه نجار وقرينة فرنسيس بك، وقد توفي الذكور كلهم إلا أن اسمهم لا يزال حيا مخلدا في خلفهم الذين تفتخر الإنسانية بأعمالهم الصالحة ومبراتهم الكثيرة.
عين المرحوم البارون يعقوب منشه في أوائل شبيبته صرافا في مديرية الجيزة، ثم عين وكيلا لأشغال المرحوم حسن باشا المنسترلي والد راشد باشا الذي كان واليا على سوريا في ذلك العهد، أما سبب تعيينه وكيلا لأشغال حسن باشا المذكور فله حديث طويل نلخصه في هذا المقام، ومنه يستدل على ما كان عليه صاحب الترجمة من سمو المكانة في النباهة والذكاء والرأي الثاقب.
كان لحسن باشا عهدة في القطر المصري على أيام المرحوم عباس باشا والي مصر (والعهدة هي الأموال الأميرية التي كانت تؤخذ من الفلاح بطريق الالتزام، فأصحاب العهد كانوا يشترون قيم العهدة من الحكومة ويتكلفون عنها تحصيلها من الفلاح)، ففي ذلك الزمان حدث خلاف بين عباس باشا والي مصر وبين حسن باشا المنسترلي حتى آل الأمر إلى غضب عباس باشا عليه وانتقامه منه، فخاف المنسترلي باشا العاقبة وأيقن باستفحال خطبه وحرج موقفه، وكان ابنه راشد «باشا» لا يزال صغيرا، فأوجس خيفة عليه وحار في أمره وضاقت مذاهبه حتى لجأ أخيرا إلى البارون يعقوب منشه، وكان يعرفه جيدا وأخبره بالأمر وسلمه ابنه راشدا، فرحل البارون بالولد إلى بلاد النمسا، ومنها إلى باريس، وهناك أدخله إحدى مدارسها المشهورة التي تعلم فيها المرحومان إسماعيل باشا ومصطفى باشا، وقفل راجعا إلى النمسا واجتهد بمهارته وذكائه حتى تحصل على حماية دولتها، ومن ثم أخذ يسعى في خلاص صديقه المنسترلي باشا من نقمة عباس باشا، فأول شيء عمله أنه رفع قضية على المنسترلي باشا إلى ساحة القضاء في الأستانة، وطلب أن تكون المحاكمة في الأستانة نفسها؛ لأنه أجنبي؛ ولأن من كان في رتبة المنسترلي باشا في تلك الأيام لا تجوز محاكمته إلا في العاصمة العثمانية، فأرسلت الحكومة مركبا حربيا مخصوصا مع قومسير عثماني إلى مصر، فسافر عليه المنسترلي باشا لحضور المرافعة هناك، وبهذه الوسيلة الغريبة تمكن البارون من خلاص المنسترلي ونجاته من نقمة عباس باشا، وظل المنسترلي في الأستانة ولم يعد إلى القطر المصري بعد ذلك، وأقام البارون منشه وكيلا عنه في إدارة أملاكه وأمواله.
وكان البارون منشه يميل ميلا خصوصيا إلى راشد باشا في صغره ويحنو عليه حنو الأب على ابنه؛ ولذلك كان الولد يحبه ويدعوه أبا له فكان يناديه «بابا»، ولما كبر وظهرت عليه علائم الفضل والكفاءة لتولي الأعمال الكبيرة عين واليا على سورية، وفي ذلك الوقت زار البارون القدس الشريف فاستقبله في يافا وفد من قبل الباشا استقبالا باهرا بموكب حافل دلالة على رفعة قدره وعظيم فضله، ولما قتل راشد باشا في غضون حادثة السلطان عبد العزيز بكاه البارون بكاء الأب على ولده، ولبست عائلة منشه الحداد حزنا عليه.
وفي سنة 1869 جاء إلى القطر المصري جلالة فرنسوا جوزيف إمبراطور النمسا لحضور الاحتفال بافتتاح قنال السويس، فتقدم البارون لاستقباله بصفته رئيسا للنزالة النمسوية والطائفة الإسرائيلية في القطر المصري، فأكرمه الإمبراطور لما وجد فيه من محاسن الخلال وسمو المدارك وقلده وساما جليلا، ولما زار راشد باشا مدينة فينا عاصمة النمسا حظي بمقابلة الإمبراطور، فأطنب أمامه بصفات البارون الشريفة، وأطرأ أعماله الخيرية ومبراته الكثيرة، فمنحه الإمبراطور وساما آخر مع لقب شرف، وفي سنة 1875 منحه لقب بارون لقبا متوارثا له ولذريته من بعده، وهو أول من حاز هذا اللقب من الإسرائيليين في القطر المصري.
ولما بلغ هذا المقام الجليل من الجاه وعلو القدر نظر إلى الدنيا نظر الحكيم العاقل، فرأى أن النجاح الحقيقي فيها لا يتم إلا بالإقدام على الأعمال التجارية العظيمة الفائدة، لا سيما وأنه شاهد في الأقطار الأوروبية دولاب التجارة العظيم يدور بأصحابه على محور العظمة وجلالة الشأن، وينهض بالأفراد إلى سماء المجد والفخر، فحدثته نفسه الكبيرة أن ينشئ محلات تجارية بالاشتراك مع أوروبا، فكان أول مصري اهتم لهذه الأمور المفيدة، فأنشأ محلا تجاريا في مرسيليا، ومحلا آخر في ليفربول، وجرى في كل أعماله على خطة الأمانة والاستقامة مع الجد والثبات فنجح نجاحا عظيما.
وكان صاحب الترجمة محسنا جوادا لا يطيب له عيش إلا بالإكثار من الأعمال الخيرية، فبنى في الإسكندرية كنيسا لطائفته ووقف لها أملاكا في مصر وبنى فيها أيضا المدرسة المعروفة اليوم باسم مدرسة منشه، ووهبها أربعة آلاف جنيه لتنفق على تحسينها ونجاحها.
ووهب أرضا في يافا لبناء مدرسة فبنيت وجاد بهبات كثيرة للمستشفيات الخيرية، ووقف قبل وفاته أملاكا ينفق ريعها على فقراء ذريته.
وقد توفاه الله في مدينة الإسكندرية في شهر نوفمبر سنة 1883، ودفن بما يليق بمقامه من التجلة والاحترام مخلفا آثارا حميدة لا يمحوها كرور الأيام.
أنجاله وأحفاده
قلنا: إن البارون يعقوب منشه خلف أربعة صبيان وثلاث بنات، فتوفي الذكور كلهم.
وكان بينهم المرحوم البارون بخور، اشتهر في حياته بأعماله الخيرية ومبراته الصالحة مقتفيا في ذلك خطوات والده الكريم، فرأس المستشفى الإسرائيلي في محرم بك، وأتى من الأعمال المجيدة ما ترك له الذكر المجيد والصيت الحميد، وقد رزقه الله خمسة أولاد وابنة واحدة، وهم البارون جاك البكر، والبارون فيلكس، والبارون ألفرد، ومدام جناب المسيو روبينو، والبارون إيلي، والبارون يوسف، وهذان الأخيران توفيا إلى رحمة ربهما. (1-2) البارون جاك بخور ده منشه
البارون جاك ده منشه.
البارون جاك ده منشه ابن المرحوم البارون بخور ابن المرحوم البارون يعقوب ده منشه، ولد في مصر في شهر يناير سنة 1850.
ولما كبر وترعرع دخل المدارس، فأتقن اللغات العربية والفرنسوية والإيطالية والنمسوية والإنكليزية، ولما كان بكر إخوته كان له المنزلة الأولى بينهم، فاقتفى خطوات أبيه وجده في الأشغال الخصوصية والأعمال المبرورة.
وفي سنة 1874 اقترن بصاحبة العفة والكمال البارونة أدريانة كريمة المرحوم الخواجه نحمان، فرزقه الله ستة بنين نجباء وهم: المسيو هنري وإدمون وإميل وجستون وديني وأوجين، وابنة، وهي السيدة مرغريت قرينة جناب المسيو جاك أجيون.
أما ابناه هنري وجستون ففي جيش النمسا والمجر، الأول برتبة ملازم أول، والثاني برتبة ملازم ثان، والباقون يساعدون جناب والدهم في أشغاله.
والبارون جاك ده منشه بنكيير شهير، وقد انتظم في سلك الجمعية الماسونية سنة 1871، وله فيها مآثر غراء، وقد نال سنة 1886 النشان المجيدي الثاني والعثماني الثالث من المرحوم توفيق باشا خديوي مصر، ومنحه جلالة إمبراطور النمسا وسام التاج الحديد الذي كان عند جده، وكان عضوا في مجلس الإسكندرية البلدي فاستعفى منه منذ أربع سنين لوفرة أشغاله، وهو اليوم رئيس الطائفة الإسرائيلية في الإسكندرية، ورئيس الجمعيات الخيرية النمسوية، وله أياد بيضاء في كل مشروع خيري، واشتهر بسخائه بين قومه خصوصا، وبين كل الطوائف عموما، أطال الله عمره ليعم إحسانه ومبراته. (1-3) البارون فيلكس بخور ده منشه
البارون فيلكس ابن المرحوم البارون بخور ابن المرحوم البارون يعقوب ده منشه، ولد في الإسكندرية في أغسطس سنة 1865، ولما بلغ أشده دخل المدارس فأتقن اللغات الفرنسوية والإنكليزية والنمسوية والإيطالية والعربية، وفي ديسمبر سنة 1890 اقترن بالمرحومة سيلين كريمة المرحوم البارون يوسف ده منشه، ورزق منها ولدا وهو المسيو جورج منشه، وتوفيت، ثم اقترن بالسيدة روزت دي بستوس ورزق منها ولدين وهما المسيو موريس والمسيو أندريا وهو بنكيير كإخوته.
وقد نال منذ ثلاث سنين وسام فرنسوا جوزيف النمسوي وهو يدير شئون الاسبتالية الخيرية، وركن مهم من أركان طائفته، وله مساع حميدة، ومآثر في الأعمال الخيرية العمومية عديدة. (1-4) البارون ألفرد بخور ده منشه
البارون ألفرد ابن المرحوم البارون بخور ابن المرحوم البارون يعقوب ده منشه ولد في باريس في سنة 1867، ولما كبر دخل المدارس فأتقن من اللغات الفرنسوية والنمسوية والإيطالية والإنكليزية والعربية، وفي سنة 1894 اقترن بذات الصون والفضيلة السيدة هيلانة كريمة جناب المسيو فيلكس سوارس ورزق منها ولدا وهو المسيو شلر، والبارون ألفرد ده منشه بنكيير بشراكة حضرات الخواجات رولو وشركاهم.
وهو اليوم عضو كبير عامل في المجلس البلدي الإسكندري مشهور فيه بجليل الخدمات العائدة بالنفع والإصلاح على البلد، ومشهود له بحرية الضمير والغيرة على مصلحة البلدية، وله مآثر غراء في عمل الخير وخدمة الإنسانية، وهو يدير شئون المدارس الإسرائيلية الصناعية، وحائز لوسام فرنسوا جوزيف النمسوي. (1-5) البارون جاك إيليا ده منشه
البارون جاك إيليا ده منشه ابن المرحوم البارون إيليا ابن المرحوم البارون يعقوب ده منشه، ولد في الإسكندرية في 26 أغسطس سنة 1868، ولما ترعرع دخل المدارس فأتقن من اللغات الفرنسوية والإنكليزية والإيطالية والنمسوية ويتكلم العربية.
وفي سنة 1892 اقترن بالسيدة جبريال كريمة المرحوم موسى أجيون، والبارون جاك إيليا ده منشه بنكيير مشهود له بحسن الجد والاستقامة.
ومن أعماله الخيرية أنه شارع في تشييد دار العجزة التي كان المرحوم والده البارون إيليا ده منشه قد أوصى قبل وفاته ببنائها في الإسكندرية. (2) عائلة القطاوي (2-1) المرحوم يعقوب بك قطاوي
أب هذه العائلة الشهيرة وكبيرها هو المرحوم يعقوب بك قطاوي المنتقل إلى رحمة الله في 3 أبريل سنة 1883، كان في عصره مشهورا بعلو همته، وسمو مداركه معروفا باقتداره على إتيان الأعمال الكبيرة النافعة، نابغة بذكائه وحدة ذهنه ومكارم أخلاقه، نال بلطفه ودعته مقاما رفيعا بين أقرانه ومعارفه، وكان على جانب عظيم من المهابة والكمال تقرب بهما من الحكام فاحترموه وأنزلوه بينهم منزلة سامية، وقد تنقل في وظائف الحكومة المصرية على عهد المرحوم عباس باشا عزيز مصر، وتولى إدارة أشغال الضربخانة المصرية بكل فروعها، ثم التزم المخابز وتعهد بتقديم لوازم الحكومة منها، والتزم حلقات الأسماك والكمارك المصرية بالاشتراك مع غيره، وظل ملتزما لها مدة حكم المغفور له المرحوم سعيد باشا، ثم عين شيخا للصيارفة (الصرافين) رسميا، فكانت تعهد إليه ضمان كل صيارفة الحكومة بالمال وغيره.
وقد رزقه الله أربعة أولاد ذكور وهم: أصلان ويوسف وإيلي وموسى، فرباهم وغرس فيهم المبادئ القويمة، وهذبهم في أحسن المدارس فنشئوا على أكمل مثال من الآداب والفضائل والمحامد.
وكأن أفكاره السامية وآماله البعيدة وهمته العالية كانت توحي إليه أن يجول في ميدان الحياة جولة المقتدر الحازم، لا سيما وأن أبواب النجاح كانت مفتوحة أمامه فانخرط في سلك التجار العظام، واشترك مع البارون منشه وغيره وأسسوا محلاتهم الشهيرة في مصر والإسكندرية ولندن باسم «منشه وشركائه».
ولما كبر أنجاله وظهرت عليهم ملامح النجابة والذكاء والاقتدار على العمل انفصل عن محل منشه، وباشر الأعمال مع أولاده بهمة ونشاط لا مزيد عليهما، ففتح ثلاثة محلات في باريس ومصر والإسكندرية، وأناط إدارة محل باريس بابنه المسيو إيلي، وإدارة محلي مصر والإسكندرية بابنه أصلان وإخوته بالاشتراك مع عائلة أجيون وبيحا بك.
وقد تولى رئاسة الطائفة الإسرائيلية في القطر المصري مدة حياته، فأظهر من المقدرة والغيرة على مصالح أبنائها ما لا يزال مسطرا له بمداد الثناء والحمد، وقد توفي ابنه الأكبر الخواجه أصلان في 2 فبراير سنة 1883، ثم توفي هو في 3 أبريل من السنة نفسها، فكان لوفاتهما رنة حزن وأسف في كل أنحاء البلاد الشرقية عموما والمصرية خصوصا، وفقدت مصر بفقدهما ذخيرتين من أعظم ذخائرها، ولكن حضرات أولاده الأفاضل أبوا إلا أن يبقى ذكر أبيهم المحبوب مخلدا فأبقوا محلاتهم، كما كانت باسم «يعقوب منشه قطاوي وأولاده»، وهي الآن لا تزال آخذة في النجاح عاما بعد عام يضرب المثل بأمانتها ووفائها وحسن معاملاتها.
ولما زار المرحوم البرنس رودولف ولي عهد ملك النمسا القطر المصري احتفل يعقوب بك قطاوي بقدومه احتفالا يليق بمقامه السامي، وأحب أن يجعل لزيارته هذه تذكارا جليلا وأثرا حميدا، فشرع في بناء مستشفى في العباسية لأبناء الطائفة النمسوية في مصر فسر البرنس بذلك، وطلب أن يضع بيده الكريمة الحجر الأول من أساسه، وقد جرى لذلك احتفال باهر حضره نخبة من عيون أعيان مصر وعظمائها وجمهور عظيم من الناس على اختلاف مللهم ونحلهم، ولكن أبت التقادير أن يتم بناء هذا الأثر الحميد في حياة صاحب الترجمة، فتوفي إلى رحمة ربه وقام أنجاله الكرام بعده، فأتموا بناءه وسلموه إلى نائب الحكومة النمسوية. (2-2) المرحوم أصلان بك يعقوب قطاوي
أصلان بك يعقوب قطاوي، ولد في مصر سنة 1824 واقترن بالسيدة جراسيا، فرزق منها خمسة أولاد ذكور وخمس بنات، والأحياء من أولاده الذكور الآن هم: حضرات الخواجه جاك ويوسف بك والخواجات أدولف وإميل، وأخواتهم، وكلهم على جانب عظيم من الفضل والنبل ومكارم الأخلاق، ولا غرو فإنهم من سلالة ذلك الرجل العظيم صاحب الصيت الحسن والمآثر الحميدة، وهم يديرون أشغال البنوك، كما هو مشهور ومعلوم.
وكان المرحوم أصلان بك قد اشترك في أعمال وتنفيذ مشروع معمل تكرير السكر مع الخواجات إخوان سوارس، وكان رئيسا في محل إدارة ذلك المعمل مدة حياته، وقد توفاه الله في اليوم الثاني من فبراير سنة 1883، فحفظ أولاده الكرام كرامة أبيهم وحافظوا على مبادئ جدهم الشريفة، ولا تزال أعمالهم سائرة من حسن إلى أحسن. (2-3) يوسف بك يعقوب قطاوي
يوسف بك قطاوي.
ولد يوسف بك في مصر في 15 مايو سنة 1845 وتخرج في مدارسها، ولما بلغ السن الذي يخوله الظهور في ميدان الأعمال أخذ يتمرن على أشغال البنوك، ثم اقترن بكريمة حاخام باشي الطائفة الإسرائيلية في ذلك الوقت في سنة 1865، فرزقه الله منها بنين وبنات، منهم الخواجات إيلي وموريس وألبير، فالخواجه موريس كان ميالا إلى الهندسة فتعلمها واتخذها حرفة له، والباقون اشتغلوا في البنوك كما يشتغل حضرة والدهم.
وكانت جمعية الطائفة الإسرائيلية قد اجتمعت اجتماعا كبيرا عند وفاة المرحوم يعقوب بك قطاوي رئيسها إذ ذاك، وقر قرارها على أن تطلب من جناب يوسف بك وشقيقه موسى بك أن يترأساها مكان المرحوم والدهما، فلبيا طلبها عن طيب نفس حبا بعمل الخير ومساعدة البائسين، ورغبة في رفع منار هذه الطائفة والذود عن مصالحها، فقاما في أعباء هذه الخدمة الشريفة بما اشتهر عنهما من الغيرة والهمة يبذلان جهدهما في خيرها، ويسهران على أوقافها ومبراتها وسائر شئونها.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر أقول: إنني حضرت مرة الصلاة في كنيس الإسرائيليين بمصر يوم عيد الصوم الكبير، ولما طافوا بالتوراة أمام الشعب تقدم المحسنون الذين يرغبون حمل أجزاء التوراة، وقد هزتهم الأريحية فتبرع كل منهم بما سمحت به نفسه، فكان السابق في جوده وإحسانه يوسف بك قطاوي، فلما شاهدت ذلك لم أتمالك أن جاهرت بمدح السخاء والكرم والقدوة الصالحة، وأثنيت الثناء الجميل على سماحة وغيرة هذه الأمة عموما ويوسف بك خصوصا.
ولم يقتصر حضرته على القيام بمهام الأعمال الكثيرة التي يديرها مع شقيقه الهمام في محلهم المشهور، ولم تقعد به همته العالية عن الاشتغال بأعمال أخرى عظيمة، فقد عين مديرا لعدة شركات أهمها الشركة العقارية المصرية، وشركة مياه طنطا، وهو من مديري سكة حديد حلوان، وله علاقة بكثير من الشئون العائدة بالنفع على مصر والمصريين.
أما صفاته وأخلاقه فتحليها الوداعة والاتضاع مع الأنفة وعزة النفس ويزينها الأدب والكمال والتقوى، وله المقام الأول بين أقرانه يحترمونه ويحلون آراءه المحل الأسمى وهو محبوب كثيرا من أواسط الناس وفقرائهم للطفه ووداعته، فإنه يقابلهم كأنه واحد منهم ويجتمع معهم، ويتفقد أحوالهم ويشرح صدورهم برقة أحاديثه، أدامه الله وجزاه قدر حسناته ومبراته. (2-4) المسيو إيلي قطاوي
المسيو إيلي قطاوي.
ولد المسيو إيلي يعقوب قطاوي في مصر في 3 مارس سنة 1849، وتخرج في المدارس، ولما دخل في ميدان العمل اقترن بكريمة المرحوم ليون فلنسين فرزق منها ابنتين، وقد كان نصيبه الإقامة في مدينة باريس، حيث يدير محلات الخواجات قطاوي بهمته وذكائه.
ولما توفيت زوجته اقترن بسيدة من بنات عائلة ريدلخ الشهيرة في بلاد النمسا والمجر ورزق منها ابنة.
وهو الآن أحد مديري شركة أعمال السكر المسماة «راتين ريسيه»، وأحد أعضاء البنك العقاري المصري وغيره من البنوك.
ويدير في باريس أيضا أشغال أخرى لها علاقة بمصر وغيرها من البلدان. (2-5) موسى بك يعقوب قطاوي
موسى بك قطاوي نجل المرحوم يعقوب بك قطاوي، وهو رابع إخوته الذكور، ولد في مصر في اليوم الثاني من شهر فبراير سنة 1850، ونشأ على المبادئ الصحيحة، ولما بلغ السابعة من عمره ظهرت عليه مخائل النجابة والذكاء، وتوقع الناس له مستقبلا باهرا ومقاما رفيعا، وكان نحيف الجسم ضعيف البنية، إلا أنه كان عالي الهمة متقد العزيمة، قضى أيام شبيبته في جد ونشاط مكبا على الدروس وتلقي العلوم تارة في مصر وتارة في أوروبا حتى نال نصيبا وافرا من المعارف والفنون ومحاسن التربية الحديثة، ولما ترعرع أخذ في السياحة والأسفار ليقرن العلم بالاختبار والتحنك من أحوال الدنيا وشئونها، وكانت همته العالية تدفعه إلى هذه السياحة معتمدا على نفسه وأفكاره شأن الحكيم العاقل حتى رسخت فيه قوة الاعتماد على النفس المقرونة بحسن التدبير، ومحاسن الأخلاق، واستمر في سياحاته هذه حتى بلغ العشرين من عمره، فظهرت عليه إذ ذاك علائم الاقتدار على الأعمال وإدارتها، فطلبه والده وأدخله في دائرة أشغاله، فأظهر مقدرة سامية في كل الأعمال التي عهدت إليه ونجح فيها نجاحا باهرا، ولما رأى كفاءته ونشاطه في الأعمال جعله شريكا له في بنكه، فقام بهذه المهمة على أحسن ما يكون من حسن التدبير والإدارة، وبعد ذلك بأعوام قليلة عزم والده على زواجه وكاشفه في ذلك، فلم يتمنع طوعا لإرادته فاقترن بالسيدة إيدا كريمة العالم الشهير الدكتور روسي بك طبيب العائلة الخديوية ، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وكان ذلك في 21 أبريل سنة 1874، وقد احتفل بزفافه احتفالا بلغ الغاية القصوى من العظمة ورفعة الشأن، وكان له رنة بلغت حد الانتشار حتى لهج بها الناس في كل مكان، وذلك دليل واضح على ما لهذه العائلة الكريمة من سمو المكانة في أعين الناس.
موسى بك قطاوي.
وفي 15 يناير سنة 1875 رزقه الله مولودا ذكرا سماه جستاف، واحتفل بختانه بعد ثمانية أيام من ميلاده على حسب عقائد الديانة الإسرائيلية، فأقيمت شعائر الأفراح وبشائر السرور والابتهاج، وعزم جد المولود الكريم المرحوم يعقوب بك قطاوي على إحياء ليلة راقصة دعا إليها جمهورا عظيما من أعاظم الكبراء والأعيان، ولما كان المرحوم يعقوب بك قطاوي مقربا من عزيز مصر المغفور له إسماعيل باشا طلب إليه أن تكون تلك الحفلة الحافلة تحت رعايته؛ تيمنا باسمه وتشريفا بطلعته، فأجابه عزيز مصر إلى ذلك، ولما انتظم عقد الحفلة وظهر بدر كمالها وجلالها قدم سمو الخديوي المعظم في الساعة التاسعة مساء من تلك الليلة بموكبه الباهر، يتبعه حضرات رجال المعية السنية وضباط الحرس الشريف، ودخل المنزل بين أنغام الموسيقى وذبح الذبائح حتى جلس سموه في المكان المعد له، فمر المدعوون والمدعوات أمام سموه فحياهم وكرمهم، ومن ثم ابتدأت الحفلة ودارت المخاصرة على نغم الألحان المطربة، ودام الفرح والسرور حتى مطلع الفجر، وخرج المدعوون وهم يثنون على آل المنزل الكرام لما لقوه منهم من حسن الاستقبال والإكرام، وحمد أفراد هذه العائلة الكريمة سمو الخديوي المعظم على ما تكرم به من تشريفه تلك الليلة البديعة الانتظام والترتيب.
وفي 31 يناير سنة 1876 رزق صاحب الترجمة مولودا آخر سماه إيكتور، وفي 20 يناير سنة 1878 مولودا ثالثا دعاه إدجار، وفي 29 أغسطس سنة 1887 رزق مولودة سماها إيديت، ولم يولد له غيرها من البنات فربى أولاده تربية صالحة وهذب أخلاقهم في المدارس وعلمهم اللغات المشهورة، فنشئوا على إكرام الخصال وأشرف الصفات.
ولم تكن كثرة أشغاله التجارية والخصوصية لتثنيه عن الاشتغال بالأعمال الخيرية، فقد كان مغرما بتهذيب أخلاق الشبان سواء كانوا فقراء أو أغنياء ، ولا سيما أقرانه ورفاقه الذين نشأ معهم وشب بينهم، وكان من رأيه الصحيح أنه لا سبيل للإنسان إلى التمدن والحرية إلا من طريق العلوم على أنواعها، ولا يبلغ درجة الكمال، ولا يعرف الحقوق والواجبات الإنسانية إلا إذا تلقى العلوم والفنون والمعارف في المدارس، وهذا الميل إلى ترقية أخلاق الشبان كان غريزيا فيه؛ ولذلك شرع في إنشاء مدرسة خصوصية على نفقة عائلته الكريمة وأتمها وفتح أبوابها لطالبي العلم على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم، وجلب إليها الأساتذة الماهرين، وألف لها لجنة إدارية برئاسته تنظر في أمورها وشئونها وسماها المدرسة التجارية، ثم دعيت دار العلوم العالية فنجحت نجاحا عظيما، وظهرت ثمار فوائدها في التلامذة الذين تخرجوا فيها وتهذبت أخلاقهم، فخرج منها شبان كثيرون متممين فيها الدروس الابتدائية والثانوية، وبعض هؤلاء الشبان لم يخرج منها إلا لكي يتمم علوم الطب والهندسة والقانون في مدارس أوروبا، فذاعت شهرة هذه المدرسة، وفاقت بإدارتها وحسن تعليمها واجتهاد أساتذتها وتلامذتها سائر المدارس في القطر المصري، وكأن القدر المتاح كان كاتبا لها أن لا يطول عمرها كثيرا، وذلك أن صاحب الترجمة عرض له في ذاك الأوان ما دعاه إلى الإقامة في أوروبا سنة كاملة، فأخذت المدرسة في غيابه تتقهقر وتتأخر شيئا فشيئا إلى أن أقبلت على شفا الخراب، ولما عاد من سفره وشاهد ما صارت إليه من الانحطاط تأسف كثيرا، ولا سيما أن أمراضها كانت قد تأصلت فيها، فرأى أن إرجاعها إلى حالتها الأولى من أصعب الأمور وأشدها، فتركها ووجه عنايته إلى تحسين حالة المدارس الخيرية المجانية الإسرائيلية التي كان يديرها ويلاحظ شئونها، فنجحت هذه المدارس في مدة قصيرة وحازت قصب السبق على غيرها، وهي لا تزال إلى اليوم راقية في معارج النجاح والفلاح، وتلامذتها ينيفون على الخمسمائة بين ذكور وإناث.
ولم تقعده كل هذه المشاغل عن الاشتغال بأمور خيرية أخرى يعود نفعها على بني الإنسان، فقد كانت غيرته ومروءته تدفعانه إلى الإكثار من أعمال البر والإحسان حبا بصالح الفقراء والمعوزين وغيرهم الذين كانوا يلتجئون إليه، فيفرج كربهم ويزيل عثراتهم غير فارق بين مذاهبهم وأديانهم، شأن الحكماء العقلاء الذين لا يثنيهم شيء عن أداء الفروض والواجبات الإنسانية المفروضة على كل غني مقتدر أمام الفقير البائس، ولا سيما من كان مثل صاحب الترجمة رئيسا على الطائفة الإسرائيلية عارفا بأحوال الفقراء ميالا إلى إصلاح أحوالهم وتبديد همومهم.
أما رئاسة الطائفة الإسرائيلية فقد نالها بالاشتراك مع حضرة شقيقه الفاضل يوسف بك قطاوي بعد وفاة والدهما المرحوم يعقوب بك قطاوي في سنة 1883، وهما لا يزالان إلى الآن قائمين بمهام هذه الرئاسة بهمة وإخلاص لا مزيد عليهما، كما يشهد بذلك كل فرد من أفراد هذه الطائفة الكريمة في القطر المصري.
وقد نال الرتبة الثانية مع لقب بك من المرحوم الخديوي السابق توفيق باشا.
ولما برح القطر المصري سعادة بلوم باشا وكيل نظارة المالية المصرية سابقا انتخبته الطائفة النمسوية المجرية بمصر رئيسا على شركاتها الخيرية بدلا عن الباشا المذكور، ورئيسا أيضا على إدارة المستشفى النمسوي الخيري الذي في العباسية، وهو الذي أنشأه والده المرحوم يعقوب بك قطاوي بماله الخاص.
أما أعمال صاحب الترجمة المالية والتجارية فهي كثيرة جدا، ولو شئنا الإلمام بها كلها لضاق بنا المجال في هذا المقام، وإنما نقول: إن كل مشروع أخذ فيه أو سعى في تنشيطه وتعضيده كان يبلغ حد النجاح ويثمر ثمار الفوائد العائدة بالنفع العمومي، فإنه اشترك بماله وإدارته في إنشائه السكك الحديد الحلوانية المستجدة، والسكك الحديد الممتدة بين قنا وأسوان، والسكك الحديد الزراعية الشرقية التي ابتاعتها بعد ذلك شركة الدلتا، وكان من العاملين في إنشاء شركة مياه طنطا، وشركة مركبات الأمنيبوس بمصر، وهو الآن أحد مديري كل هذه الشركات، فضلا عن انضمامه إلى مديري البنك العقاري المصري والبنك الأهلي والشركة الزراعية، وغيرها من الشركات التجارية والمالية المشهورة.
وهو رئيس محفل بني بريت، ورئيس شرف في المحافل الماسونية المصرية، وكان من أهم أعضاء محفل كوكب الشرق الإنكليزي.
ومع كل هذه الأعمال العظيمة التي كان يقوم بأعبائها بهمته وسمو مداركه، فإن الأعمال الخيرية كانت دائما تجول في خاطره وتشغل قسما كبيرا من أوقاته، فقد بلغه ذات يوم أن تكية رودلف في الإسكندرية سائرة في طرق الخير والإحسان، يلجأ إليها عدد عظيم من المحتاجين والمعوزين، فكتب إلى حضرة مديرها الفاضل الأب رودلف يلتمس منه أن يحضر إلى مصر، ويساعده على إنشاء تكية فيها على نسق تكية الإسكندرية، فأجابه إلى طلبه وجاء إلى مصر، وخطب في محفل حافل حضره جميع رؤساء الشركات الخيرية على اختلاف مذاهبهم وأميالهم، وأبان المزايا الحميدة التي تعود على الإنسانية من عمل الخير والإحسان، وارفض ذلك المحفل بعد أن أقر على إنشاء هذه التكية وابتياع منزل يكون لائقا بها، ومن ثم أخذ صاحب الترجمة يسعى في إيجاد المنزل المطلوب حتى وجده وابتاعه على ذمة التكية وعمره، وأصلح منه ما كان في حاجة إلى الإصلاح على نفقة مشتركي هذه الشركة، وفتح أبوابه للفقراء والبائسين من جميع الملل والمذاهب، وقد جعلت هذه التكية تحت رعاية جناب اللورد كرومر وزير الدولة البريطانية بمصر.
وفي سنة 1881 جاء اللورد دوفرين إلى القاهرة مندوبا من دولة بريطانيا العظمى لتعديل وإنشاء نظامات وقوانين لبلاد مصر بعد حدوث الثورة العرابية، فلم تجد الحكومة إذ ذاك منزلا يليق بذلك الرجل العظيم غير بيت القطاوي، فطلبت من هذه العائلة الكريمة أن تعد منزلها له، فأقام فيه اللورد مدة مكوثه في مصر، وبعد إتمام مهمته التي جاء لأجلها رحل إلى بلاده بعد أن أهدى صاحب الترجمة رسم الملكة فيكتوريا مكبرا ومكتوبا عليه هذه الكلمات:
هدية تذكار لضيافة اللورد دوفرين.
وفي سنة 1890 أنعمت عليه حكومة النمسا بنيشان فرنسوا جوزيف من الدرجة الثالثة مكافأة له على خدماته الجليلة نحو الطائفة النمسوية بمصر، وعند الاحتفال بحلول العام الخمسين من جلوس الإمبراطور على عرش النمسا أنعم عليه بالنشان نفسه من الدرجة الثانية.
وهو على جانب عظيم من الوداعة واللطف والشهامة ومكارم الأخلاق، ومشهور بين أصدقائه ومعارفه العديدين بسمو الأفكار والآراء وعلو الهمة والعزيمة. (3) عائلة رولو
بين التجار الذين استوطنوا القطر المصري من عهد بعيد المرحوم الخواجه روبين رولو، وقل من لا يعرفه من معاصريه ويشهد بمهارته وطهارة ذمته، وقد رزقه الله أولادا شبوا وشابوا على الاجتهاد ومزاولة الأعمال بالنشاط، فالخواجه سيمون ولد في مصر سنة 1844، والخواجه جاكومو، ولد في مصر أيضا سنة 1847، وقد تعلما في المدارس العلوم اللازمة للأعمال التجارية.
وفي سنة 1861 اقترن الخواجه سيمون بالسيدة روزا كريمة المرحوم بخور نجار فرزق منها ولدا وابنتين، وسمي ولده روبير، وكانت ولادته في 15 أكتوبر سنة 1869، وهو الآن في عنفوان الشباب، وقد تعلم العلوم واللغات العصرية، وهو يشتغل مع والده في أشغالهم المتنوعة.
واقترن الخواجه جاكومو سنة 1869 بالسيدة جراسيا كريمة المرحوم بخور روصانو ورزق منها أربعة صبيان وأربع بنات، فرباهم التربية الجيدة، والذكور منهم يشتغل بعضهم الآن مع جناب والدهم.
وفي سنة 1870 فتحوا محلهم المشهور في الإسكندرية برئاسة جناب الخواجه جاكومو بعنوان «روبين رولو وأولاده»، ولا يزال الخواجه جاكومو يدير أعماله بهمة لا تعرف الكلل منذ إنشائه إلى الآن.
وظل المرحوم روبين رولو ونجله الأكبر الخواجه سيمون يشتغلان في مصر، وعنوان محلهم «روبين رولو وأولاده».
وفي سنة 1876 اشترك محلهم في مصر والإسكندرية مع الخواجات إخوان سوارس، ولا يزالون إلى الآن مشتركين في الأشغال والمشروعات المتنوعة العائدة بالنفع على سكان القطر المصري عموما.
والخواجات سيمون وجاكومو يتوليان إدارة أشغال خصوصية عدا عن أعمالهم الكثيرة، وهما من أعضاء عدة شركات كالدائرة السنية وشركة سكة حديد حلوان والبنك العقاري والشركة العقارية المصرية والبنك الأهلي وغير ذلك، ولهما مقام رفيع عند جميع معارفهما لما اتصفا به من المزايا الحميدة والإخلاص في معاملاتهما حتى ذاعت شهرتهما في الصدق والأمانة مع كل الذين يعاملونهما، وقد جمعا ثروتهما بكدهما واجتهادهما، ولم نسمع بمشروع دخلا فيه إلا كان لهما الأيادي البيضاء في إنجاحه وفقهما الله. (4) عائلة موصيري
هذه العائلة الكريمة إسبانية الأصل، كما يستدل من وجود اسمها بين أسماء العائلات التي هاجرت إسبانيا إلى بلاد الشرق، وأول من قصد القطر المصري منها أحد أفرادها المرحوم نسيم موصيري في سنة 1750 إفرنجية، فمكث فيه واستوطنه، ثم أخذت هذه العائلة تنمو وتتفرع حتى أصبح عدد أفرادها ينيف على الخمسين في مدة قرن ونصف قرن، فكانوا كلهم مثالا للمهارة والنشاط والأمانة في أعمالهم حتى أحرزوا مقاما جميلا بين سكان مصر مستظلين بظل حكامها ومشمولين برعاية دولة إيطاليا المعظمة، ومن رسم الشجرة المطبوعة في آخر تراجم هذه العائلة يعرف تاريخ أفرادهم وأسماء الذكور منهم، أما أشغالهم التي يتعاطونها فمتفرقة، فاشتغل بعضهم في الأمور المالية، وانخرط البعض الآخر في الصنائع والفنون المختلفة وبرع فيها وفاز على أقرانه وحاز شهرة بعيدة، ونحن نرى من أفراد هذه العائلة الكريمة الآن من يشتغل بفن المحاماة والطب والهندسة والزراعة والتجارة على اختلاف أنواعها وفروعها، وكلهم جارون في أعمالهم على خطة الاستقامة والإخلاص والأمانة في المعاملات، مشهورون بطهارة السيرة والسريرة؛ حتى أصبحوا في مقام رفيع من الجاه ورفعة القدر.
وكان المرحوم موسى موصيري الكبير جد الخواجه موسى موصيري رجلا تقيا غيورا على طائفته، وله ولع في أمر الكنائس وعمل البر، وأحد أنجاله الخواجه داود جاء على مثال أبيه في التقوى والفضل وتربية بنيه على قويم المبادئ والعلم، وقد اشتهر بهذه الخصال الحميدة أيضا المرحوم يوسف نسيم موصيري والد المرحومين نسيم بك موصيري وجاك موصيري، والخواجات فيتا وإيزاك موصيري، وخدم الكنائس والمدارس والجمعيات الخيرية، وربى أولاده التربية الصالحة، فنبغوا بين أقرانهم، ومن سيرة أبنائه تعرف أخلاقه الكريمة. (4-1) المرحوم نسيم بك يوسف موصيري
المرحوم نسيم بك يوسف موصيري، ولد في مصر سنة 1848، وتلقى العلوم في مدارسها ففاز على أقرانه بفرط ذكائه، وشب على حب الفضيلة من صغره، فكان نابغة باجتهاده ومثالا في آدابه، ولما بلغ أشده وخرج من المدارس اقترن سنة 1868 بذات الكمال السيدة إلينا كريمة المرحوم يعقوب بك قطاوي الشهير الذي مر بنا ترجمة حياته [في الفصل الثاني عشر: أعيان اليهود في القطر المصري - عائلة القطاوي]، فرزق منها ثمانية أولاد وثلاث بنات، وهم: يوسف ولد سنة 1869، وإيلي سنة 1879، وإستير سنة 1881، وروجينا سنة 1883، وجاك سنة 1884، وموريس سنة 1886، وفيكتوريا سنة 1887، ودافيد سنة 1889، وليون سنة 1891، وفيلكس (سعد) سنة 1893، وإميل سنة 1896.
ولما توفي المرحوم أبوه كان عمر نسيم بك 28 سنة، فاستلم إدارة أعماله التجارية وأفلح في ترقية أمورها ونجاحها فلاحا عظيما، واعتنى بتربية إخوته الصغار وبسائر عائلة المرحوم والده اعتناء الرجل العاقل الحازم، وما زال يرقى في معارج التقدم والمجد حتى أنعم عليه المغفور له الخديوي الأسبق إسماعيل باشا بالوسام المجيدي الثالث دلالة على أمانته وإخلاصه للعائلة الخديوية المعظمة، ثم أنعم عليه بالرتبة الثانية مع لقب بك.
وفي سنة 1888 منحه جلالة ملك إيطاليا نيشانا من درجة أوفيسيه، ثم انتخب عضوا في الجمعية الخيرية الإيطالية، فأبدى من الشهامة والمروءة والغيرة على الفقراء ما لا يزال مسطرا له بمداد الشكر والأجر، وكان نائبا لرئيس الطائفة الإسرائيلية ومندوبا في محكمة مصر التجارية المختلطة، لبث في هذه المهمة عدة سنوات أبدى فيها همة عالية ومدارك سامية، وحاز على رضى الشعب وثقة الحكومة، فكان مقربا محبوبا منهما، وانتخب عضوا للجنة عوائد الأملاك بالقاهرة، وانتهج مسالك كثيرة نافعة عادت بالخير الكثير على البلاد.
وكان على الجملة حكيما عاقلا مجتهدا حازما جمع ثروة طائلة بثباته وعلو همته وحسن تدبيره، وتوفي إلى رحمة ربه في 4 يناير سنة 1897، وهاك ما ذكرته جريدة المقطم ثاني يوم وفاته:
استأثرت رحمة الله بالمأسوف عليه نسيم بك موصيري أحد وجهاء الطائفة الإسرائيلية، فشق نعيه على جميع معارفه لما كان عليه من الوجاهة وكرم الأخلاق، وشيعت جنازته في الساعة العاشرة صباحا من منزله بالإسماعيلية، ومشى فيه كبراء القوم ووجهاؤهم، ووضع الفقيد في مركبة فاخرة، ومشى أمامها البوليس ويسقجية قناصل الدول، وأولاد المدارس ينشدون الأناشيد، وكان سعادتلو أباتا باشا وحضرات الخواجه سوارس والأفوكاتو فيجري وقطاوي بك يحملون بساطي الرحمة ومركبة الفقيد مغطاة بأكاليل الأزهار، ووراءها كثير من المركبات تحمل أكاليل الأزهار، وخيلها موشحة بأثواب الحداد، ولما بلغ المشيعون المحكمة المختلطة ركبوا المركبات وساروا وراء الجنازة إلى المدفن، حيث واروا الفقيد التراب ورجعوا يعزون آله الكرام عن هذا المصاب، تغمده الله برحمته وإحسانه.
والمرحوم جاك يوسف موصيري هو شقيق المرحوم نسيم بك موصيري، توفي منذ عهد قريب في مصر، وكان - رحمه الله - طيب السيرة والسريرة ونظير أخيه في أكثر وظائفه.
والخواجه فيتا موصيري هو ابن المرحوم يوسف موصيري وشقيق المرحوم نسيم بك موصيري، ولد في مصر في 15 فبراير سنة 1856، فرباه والداه على محبة الفضيلة والاتضاع، فنشأ شهما وديعا أنيس المحضر رقيق الطباع، وقد اشترك مع أخيه في الأعمال التجارية، فكانا فيها مثالا للصدق والأمانة وعنوانا للنشاط والاجتهاد.
وفي 27 يناير سنة 1880 اقترن بحضرة السيدة المصونة أليجره كريمة المرحوم حاييم راصون، فرزقه الله منها أربعة أولاد ذكور وخمس بنات، نأتي على أسمائهم حفظا لتاريخ ميلادهم، وبيانا لحسن تربيتهم وآدابهم، وهم: متيلده، ولدت في مصر سنة 1880، وراشيل سنة 1882، ويوسف وهو أكبر أولاده الذكور، ولد في 10 أغسطس سنة 1884، وهو الآن شاب في مقتبل العمر ونضارة الحياة، وإيدا ولدت سنة 1886، وأنيس سنة 1888، وألبير سنة 1891، وروجينا سنة 1892، وجان سنة 1895، وموريس سنة 1900، نقول: والشيء بالشيء يذكر، إننا عرفنا من أنسبائه جناب الخواجه نسيم إيلي جرين زوج إحدى كريماته المصونات السيدة راشيل، وهو شاب من نوابغ الإسرائيليين وألطفهم خلقا وأوفرهم ذمة وأدبا، يشتغل بالتجارة في مصر.
والخواجه فيتا صاحب هذه الترجمة بنكيير شهير في مصر مشهود له بالأمانة، وهو عضو في الجمعية الخيرية الإسرائيلية ورئيس لجمعية زواج بنات فقراء الإسرائيليين، ورئيس لكنيسة الإسماعيلية بمصر، وحذا على مثال إخوته شقيقهم الخواجه زاكي موصيري وهو أصغرهم وشريكهم في الأعمال أيضا. (4-2) يوسف بك نسيم موصيري
ولد يوسف بك موصيري نجل المرحوم نسيم بك موصيري في مصر في 23 يونيو سنة 1869، فوضعه والداه في المدارس وتربى أحسن تربية، فتعلم الفرنسوية والعربية والإيطالية وبرع في الأمور التجارية، ولما بلغ عمره 25 سنة اقترن بصاحبة العفة السيدة جان كريمة المرحوم موسى أجيون، فرزق كريمتين، وفي سنة 1901 رزق ولدا سماه نسيم باسم جده، ولما توفي المرحوم والده في 4 يناير سنة 1897 خلفه في أعماله التجارية، وحذا حذوه بالصدق والأمانة فنجح وأضاف إلى مآثر عائلته الجليلة مزايا حميدة تذكر له بالثناء، فاهتم كل الاهتمام بتشييد كنيسة الإسماعيلية الشهيرة، وشارك أبناء ملته في الأعمال المبرورة، وقد انتخب عضوا للجمعية الخيرية الإيطالية سنة 1900، ونائب رئيس للطائفة الإسرائيلية ومندوبا بين قضاة المحكمة المختلطة التجارية بمصر، وفي بداية سنة 1904 أنعم عليه سمو الخديوي عباس حلمي باشا الثاني بالرتبة الثانية مع لقب بك، فسر ذلك عائلة موصيري الكريمة خصوصا، وجميع الإسرائيليين والأصدقاء عموما، وأقبل المهنئون يهنئونه من سائر أنحاء مصر بما نال عن أهلية واستحقاق.
وبالإجمال فهو كأبيه كريم الأخلاق لطيف المعاشرة سليم القلب بشوش الوجه محب لعمل الخير والإحسان، وله الرأي الأول والكلمة النافذة بين معارفه وأصدقائه الذين يحترمونه، ويجلون قدره لما عرف به من سامي المدارك وعلو الهمة. (4-3) الخواجه فيكتور موسى موصيري
ولد الخواجه فيكتور من أبوين كريمين اشتهرا بالفضل وحب الله والإنسان، وحصل أبوه الخواجه موسى موصيري حفيد المرحوم موسى موصيري الكبير باجتهاده ما لم يحصله غيره، واقترن بالسيدة الفاضلة نظلة موصيري شقيقة المرحوم نسيم بك موصيري، فولد له منها أولاد رباهم على أحسن المبادئ فشبوا على حب الفضيلة والاجتهاد، ونحن نقتصر على ملخص ترجمة أكبرهم الخواجه فيكتور للدلالة على بقيتهم، ومن ترجمته تعرف أخلاق والده الكريم.
ولد الخواجه فيكتور في 14 نوفمبر سنة 1873، ولما بلغ السابعة من العمر وضعه والداه في المدارس، وما زال يتنقل من مدرسة إلى أخرى حتى نال شهادة البكلوريا، ثم درس في فرنسا العلوم الهندسية والزراعية، فنال من كليتي باريس ومونبليه شهادة مهندس ومزارع، ولما عاد إلى مصر أظهر كفاءة بعلمه وعمله، فعين مديرا للأعمال الهندسية والكيماوية والزراعية لفابريقة سكر من سنة 1895 إلى سنة 1897.
ثم تفرغ إلى الدرس في الأمور التي تهم زراعة القطر المصري كزراعة القطن، وقصب السكر وأمراض النباتات ونحوها، واهتم بأراضيه الخاصة، فأصلح فيها حتى صيرها مخصبة بعد الجدب، ونضرة بعد القحط.
وفي 28 يناير سنة 1901 اقترن بالسيدة إستير كريمة خاله المرحوم نسيم بك موصيري، ورزق منها بولد في سنة 1903 سماه باسم جده الخواجه موسى موصيري، وصاحب الترجمة عضو في عدة جمعيات شهيرة في مصر وأوروبا، ولا يزال في مقتبل العمر ونضارة الحياة، يعمل أعماله بهمة ونجاح، وفقه الله وأكثر أمثاله. (4-4) الخواجه هارون دي لاذرميرس
هو السري الوجيه الكامل ابن المرحوم لاذرميرس بن فيكتور ميرس، ولد في الإسكندرية في 3 أغسطس سنة 1849، ونشأ على مكارم الأخلاق ومحاسن الخلال، وكان المرحوم والده بنكييرا شهيرا في الإسكندرية وشريكا للبارون منشه والخواجات تلكه وغيرهم، اشتهر بفضله وصدق معاملاته وشدة إخلاصه، وتوفي إلى رحمة ربه في أغسطس سنة 1887 في المدينة نفسها، أما الخواجه هارون دي لاذرميرس صاحب هذه الترجمة، فلما بلغ العاشرة من عمره دخل في المدارس الابتدائية الإيطالية فتعلم فيها اللغتين الإيطالية والعربية، وتلقى المبادئ القويمة والمزايا الحميدة التي أهلته للانخراط في سلك التجارة وهو في الثامنة عشرة من عمره، فنال مقاما رفيعا بين أربابها لما أبداه من الهمة والنشاط والذكاء، وفي سنة 1865 اقترن بالمرحومة إستير كريمة المرحوم سلمون حيفص، ورزقه الله منها أربعة ذكور وأربع بنات، ثم توفيت إلى رحمة ربها فاقترن بعدها بالسيدة هنريت كريمة المرحوم سلمون موصيري، ورزق منها ولدين وخمس بنات، وقد قام بتربية أولاده قيام الأب الحكيم العاقل، فنشئوا كلهم على أكرم المبادئ وأشرف الخصال، وفي سنة 1869 استوطن مصر وأنشأ بنكا فيها وأداره بذكائه ومقدرته فنجح نجاحا بينا.
هذه الشجرة تحتوي أسماء الذكور من عائلة موصيري وتاريخهم.
وفي 4 أغسطس سنة 1898 دخل محفل بدر حلوان فنال الدرجات العالية فيه، ومد إليه يد المساعدة، وأهدى إليه عدة أدوات على سبيل التذكار، وهو كريم جواد كثير الشغف بالأعمال الخيرية شديد الغيرة على أبناء ملته، ولا سيما الفقراء منهم، فقد بنى لطائفته كنيسة في حلوان من ماله الخاص، ولا يزال الناس يقبلون عليها، ويصلون فيها وله مآثر جليلة في عمل البر والخير تذكر له بالحمد والثناء. (5) استدراك
اكتفينا في هذه الطبعة بنشر هذه التراجم الوجيزة التي وصل إلينا ملخص تواريخ أصحابها مؤملين من حضرات قراء هذا الكتاب المعذرة على هذا الاكتفاء الذي دعانا إليه تعذر الوصول إلى بقية تراجم مشاهير الأمة الإسرائيلية في الشرق، فضلا عن أننا لو أردنا تدوين تراجم سائر الأفراد المشهورين في أوروبا وأميركا لالتزمنا طبع مجلدات كبيرة بهذا الموضوع، على أننا نرجو ممن يعثر على تراجم عائلات أو أفراد من هذه الأمة الكريمة امتازوا بفضلهم، وجليل أعمالهم في مصر والشام، أن يوافينا بها لننشرها في الطبعة الثانية من هذا الكتاب، وله منا مزيد الشكر.
الفصل الثالث عشر
في نوابغ الإسرائيليين
نشرنا في هذا الفصل ترجمة البعض من الذين عرفناهم وخبرناهم زمنا طويلا، ورأينا من براعتهم في أعمالهم وتفننهم في مصالحهم وإخلاصهم في معاملتهم وشهامتهم وكرم أخلاقهم ما أوجب علينا تدوين ملخص تراجمهم؛ لتكون مثالا جليلا لطلاب العلى والفخر من الشبان الأذكياء وقدوة صالحة لغيرهم من المجتهدين النجباء؛ ولكي يتحفنا قراء هذا الكتاب بتراجم غيرهم من النوابغ الكرام الذين لم تتيسر لنا معرفتهم لنضيفها إلى الطبعة الثانية إن شاء الله. (1) فيكتور هراري باشا
هو صاحب السعادة والوجاهة ابن المرحوم روفائيل هراري، ولد في مصر سنة 1857، ونما على فضائل التربية الجيدة، ولما بلغ العاشرة من عمره أرسل إلى أوروبا لتلقي العلوم في مدارسها، فلبث في مدارس فرنسا وإنكلترا ثماني سنوات نال في أثنائها نصيبا وافرا من الآداب والمعارف المهيئة للنجاح، وحظا عظيما من المبادئ المقوية للهمم والعزائم، ثم رجع إلى مصر ولبث فيها عدة سنوات يزاول شئون الحياة، ويمارس فنون الحنكة والاختبار، حتى إذا تجلت عليه أمارات الفضل والكفاءة دخل في خدمة الحكومة المصرية في أول شهر سبتمبر سنة 1876، فأظهر نشاطا فائقا واجتهادا نادرا، وفي 25 يناير سنة 1880 عين رئيسا لقلم الموازين في نظارة المالية ، وفي 18 فبراير سنة 1882 عين ناظرا لقلم الحسابات بالنظارة نفسها، وفي سنة 1883 أنعم عليه المغفور له توفيق باشا بالرتبة الثانية جزاء إخلاصه وعلو همته في خدمة الحكومة، وفي 18 مايو سنة 1884 عين ناظرا لإدارة الخزينة بالمالية، وفي السنة نفسها انتدب للذهاب مع بلوم باشا بصفة سكرتير لحضور المؤتمر المالي في لندن، فمكث هناك إلى شهر أغسطس من تلك السنة، ثم عاد إلى مصر، وفي 23 أغسطس سنة 1890 عين مديرا لعموم الحسابات بالمالية بالتوكيل عن مديرها.
وقد انتدبته الحكومة المصرية لإصلاح ميزانية الأوقاف، فأظهر لدى هذه المهمة مقدرة الرجال الأكفاء وحاز شهرة بعيدة بين أقرانه ومعارفه، ومقاما رفيعا في عيون عظماء الموظفين وأكابرهم فأجلوه قدره ورفعوا مكانته، وخدم الأوقاف أجل خدمة كما يعلم الواقفون على سر أعماله.
وفي 10 نوفمبر سنة 1890 عين مراقبا للحسابات العمومية في الحكومة، وفي 11 مايو سنة 1892 نال الوسام المجيدي الثاني، وفي أول يناير سنة 1899 عين مديرا لعموم الحسابات المصرية، فقام بهذه الوظيفة المهمة قيام الرجل الخبير المحنك، وفي يناير سنة 1901 نال رتبة الميرميران الرفيعة، وفي 30 يناير سنة 1904 نال العثماني الثاني، وفي صدره الرحب من سامي الرتب والنياشين مثل ما في نفسه الكبيرة من سامي الهمم والمدارك.
وهو الآن مندوب الحكومة في البنك الأهلي، ومندوبها أيضا في البنك الزراعي، وعضو في المجلس الأعلى للمجالس البلدية، وعضو في المجلس الأعلى المختص بالسكك الحديدية الضيقة، ومندوب الحكومة لإصلاح مالية ديوان الأوقاف من سنة 1897، ويدير غير ذلك من الأعمال المفيدة العائدة بالخير والنفع على البلاد، وهو يحسن اللغات العربية والفرنسوية والإنكليزية والإيطالية. (2) الخواجه أفرايم عداه
الخواجه أفرايم عداه ابن المرحوم إسحاق عداه، ولد في مصر في سنة 1858، ولما ترعرع أدخل في مدرسة ألفرير فتعلم فيها اللغات العربية والفرنسوية والإيطالية، وكانت مخائل النجابة والذكاء ظاهرة عليه من صغره، حتى كان الذين يترددون على منزلهم من الأقارب والأصدقاء يتوسمون له مستقبلا حميدا وطالعا سعيدا لما كان يزدان به من رقة الأخلاق واللطف والأدب.
ولبث في المدارس يتلقى العلوم والمعارف لغاية سنة 1874، ثم خرج منها لمزاولة الأعمال والتمرن على أشغال الحياة وشئونها المختلفة، حتى إذا كانت سنة 1877 دخل في وظائف الحكومة المصرية، ففي سنة 1878 عين كاتبا في قلم مراقبة الإيرادات بنظارة المالية، فأظهر من البراعة والنشاط ما دعا إلى ترقيته، فرقي في أواخر سنة 1879 إلى وظيفة سكرتيرية قلم الموازين، فضبط أشغالها وحساباتها وأحكم العمل فيها، وفي أوائل سنة 1882 عين رئيسا لقلم الموازين وأضيف إليه أيضا إدارة قلم المستخدمين، ثم أحيلت عليه أيضا في السنة نفسها سكرتيرية اللجنة المالية، فأظهر في إدارة هذه الأعمال مقدرة فائقة وجدارة عظيمة، واستعدادا كافيا، فرقي في سنة 1883 إلى وظيفة وكيل إدارة الموازين والمستخدمين، وكان رؤساؤه يعجبون بنباهته وبراعته ويثنون على ذكائه ونشاطه ويتوسمون له مستقبلا باهرا، وقد ظل في خدمة الحكومة إلى سنة 1886، ولما رأى حاسدوه والذين يزاحمونه على الوظائف أنه إذا بقي في خدمة الحكومة يكون سببا لحرمانهم من الترقي والنجاح، لا سيما وأنه نال الرتبة الثالثة من الحضرة الخديوية، وأحرز مقاما رفيعا في عيون أولي الشأن، عندما رأوا ذلك أخذوا يختلقون أسبابا للشر أدت إلى انفصاله عن خدمة الحكومة، إلا أن عمل أولئك الحاسدين كان سببا في خيره وسبيلا لتقدمه ماليا واستقلاله في أعماله، وغير ذلك مما يغنيه عن مزاحمة الوظائف الأميرية، وقد أنف من العودة إلى خدمة الحكومة بعد أن رأى ما رأى من التعصب عليه، ولم يستخدم أقل واسطة للعودة إليها مع شدة إلحاح الناس وطلبهم منه التوسط لأولياء الأمر بشأنه.
وظل بعد ذلك سنتين كاملتين يتعاطى أشغالا خصوصية بمعزل عن علاقات الناس المتعبة.
وفي 10 ديسمبر سنة 1888 عين رئيسا لحسابات سكة حديد حلوان فبرع في تنظيمها وضبطها، وفي سنة 1890 أحيلت عليه إدارة أعمال السكك الحديدية في دمنهور وقنا وأسوان، كما ترى ذلك في ترجمة جناب الخواجه فيلكس سوارس.
وفي 9 أبريل سنة 1891 اقترن بالسيدة إستير كريمة جناب الوجيه الخواجه زكيتو جاليكو البنكيير المشهور، فرزق منها ولدين ذكرين، ولد الأول في 26 فبراير سنة 1892 وسماه إدمون، والثاني في 3 ديسمبر سنة 1898، ودعاه فرنان.
وفي سنة 1893 عين رئيسا لمكتب عموم شركة السكر، وفي شهر مايو من السنة نفسها عين مديرا لمصلحة سكة حديد حلوان، وفي سنة 1896 عهدت إليه إدارة أعمال الشركة العقارية المصرية وغيرها من الأعمال، فأظهر في كل ذلك براعة نادرة المثال، وهو لا يزال إلى الآن قائما بشئون أشغاله بأمانة واجتهاد لا مزيد عليهما، حتى ليعجب الذين يعرفونه كيف يستطيع ضبط الحسابات وتنظيمها مع وفرة الأشغال التي يديرها.
وعلى الجملة فهو نابغة بين أقرانه محبوب من قومه ومن رجال الطبقة الأولى في فن الحساب وإدارة الأعمال، وعلى جانب عظيم من الحكمة والتدبير وكرم الأخلاق، فلا تعرض عليه مشكلة إلا ويصرفها بالمعروف والحسنى، ولا يألو جهدا في إنجاح الأعمال المنوطة به. (3) مرك حييم بيالوبس بك
هو السري الوجيه والشهم الفاضل ابن المرحوم حييم بيالوبس، ولد في مصر في 5 مارس سنة 1862، وكان والده - رحمه الله - وجيها في قومه، حكيما في عمله وعلمه، وكان من رأيه أن التربية الصحيحة هي الأساس الوحيد لسعادة الإنسان في هذه الدنيا؛ ولذلك اعتنى بتربية ولده وتهذيب أخلاقه اعتناء فائقا، ولما بلغ السابعة من عمره أدخله في إحدى مدارس مصر المشهورة ليتغذى بلبان المعارف والتهذيب، فمكث فيها خمس سنوات أظهر في خلالها من الذكاء والنجابة وتوقد الذهن ما جعله قدوة لأقرانه التلامذة، وموضوع إعجاب المعلمين والأساتذة، وفي سنة 1875 أرسله والده إلى باريس لإتمام علومه في أشهر مدارسها، فلبث هناك خمس سنوات حاز فيها قصب السبق على أقرانه بالذكاء والنباهة والاجتهاد، ونال شهادة البكالورية في العلوم والفنون من مدرسة باريس الجامعة في سنة 1879، وعاد في السنة نفسها إلى القطر المصري مزودا بالعلم والمعرفة ومملوءا همة ونشاطا، وحائزا على جانب عظيم من دماثة الأخلاق ورفيع المبادئ والخصال، ومن ثم أخذ في طريق المجد والفخار، وجعل يجني ثمار اجتهاده ونشاطه، فانخرط في خدمة الحكومة المصرية، وعين كاتبا إفرنجيا في مصلحة قومسيون الأراضي الأميرية في 29 يوليو سنة 1880، فقام بهذه الوظيفة قيام الشاب المجتهد الذي ينظر إلى المستقبل نظر الحكيم الخبير المحنك، وكانت أفكاره السامية وآماله البعيدة تنهض به إلى السعي في مقام أرفع من هذه الوظيفة، وكانت نفسه الكبيرة تحدثه دائما بأنها لم تخلق لمثله ولم يخلق هو لمثلها، فاستقال في أوائل سنة 1884 من منصبه، وعين في نظارة المالية بوظيفة أرقى من الأولى وأرفع منزلة، فأظهر فيها مقدرة على الأعمال الكبيرة ونشاطا نادر المثال، مما دعا أولي الشأن إلى ترقيته وتنشيطه، وفي سنة 1887 عين وكيلا لرئيس قلم المحاسبة في نظارة الحربية، فكانت له الأيادي البيضاء في ترتيب حسابات تلك النظارة وتنسيقها على أحسن نمط وأرقى نظام، وفي شهر يناير سنة 1887 أنعم عليه المغفور له توفيق باشا خديوي مصر بالنشان العثماني الرابع، وفي 18 يوليو سنة 1890 أنعم عليه أيضا بالرتبة الثالثة مكافأة له على همته ونشاطه وحسن مباديه، وفي سنة 1895 عين رئيسا لقلم السكرتارية المالية بنظارة الحربية، وفي 22 أبريل من السنة نفسها أنعم عليه بالرتبة الثانية الرفيعة الشأن، وفي سنة 1897 عين وكيلا لإدارة السكرتارية المذكورة، وفي سنة 1901 انتخب ناظرا لها؛ نظرا لما أتاه من الاقتدار على جليل الأعمال المالية فيما يختص بحسابات الجيش ومصالح السودان المختلفة قبل أن تستقل بذاتها، وفي شهر يناير من هذه السنة نفسها أنعم عليه الجناب العالي الخديوي بالنشان المجيدي من الدرجة الثالثة.
وقد اشتهر صاحب الترجمة بكرم أخلاقه ولين عريكته وعلو همته وحسن معاملته لمرءوسيه الذين يحبونه ويحترمونه؛ نظرا لشفقته وإخلاصه كأنه أب شفوق عليهم غيور على نجاحهم وترقيتهم.
وهو يحسن القراءة والكتابة جيدا في اللغات العربية والفرنسوية والإنكليزية والإيطالية.
وقد كان زواجه في 8 ديسمبر سنة 1891 ورزقه الله ولدا في 21 مايو سنة 1893 سماه فيكتور، وولدا آخر في 12 مايو سنة 1894 دعاه أندريا، وثالثا في 20 يوليو سنة 1898 سماه جرمن، وولد له ابنة في 2 مايو سنة 1902 دعاها لوسين، وقد اتبع خطوات المرحوم والده في تربية أولاده التربية الصالحة، وتهذيب طباعهم على المبادئ القويمة. (4) التفات
وقد اشتهر ما بين نوابغ الإسرائيليين كثيرون لم تساعدنا الأحوال على نشر شيء من تراجمهم؛ ولذلك نشير إلى بعضهم مثل حضرة الخواجه إيلي كورييل في بنك الأنجلو، والخواجه بخور نجار في البنك الأهلي، والمسيو شبتاي، والمسيو لوساتو في البنك المصري ، والمسيو كاتسينيو في البنك العثماني، وأصحاب المحلات الشهيرة والأعيان كالخواجات إفرايم ليفي وبلاتشي ومراتشي وروصانو وفيكتور عمار وإلكسندر داليكو وإخوان زجدون ونجار وعفيف وموسى ونسيم جرين وإخوان سبيعو، وإخوان أشير، وحضرة الدكتور شمعون مويال، وقرينته الفاضلة السيدة إستير وغيرهم، وعسى أن نتوفق في المستقبل إلى الكتابة عنهم بما يخلد لهم الذكر الجميل، ويجعل للآخرين غيرة للاقتداء بأعمالهم.
الفصل الرابع عشر
في الأمة الإسرائيلية
مر على الأمة الإسرائيلية أدهار طويلة، وهي تضرب في أنحاء الأرض هائمة على وجهها لا يستقر لها قرار، ولا يهدأ لها بال من شدة ما انتابها من نوازل الأقدار التي هدمت أركان عزها، وقوضت دعائم مجدها ، وذهبت بدولتها الرفيعة الشأن حتى تفرق شمل اليهود في جميع الأمصار، ولكنها كانت مع كل ذلك على رغم الدهر دائبة في لم شعثها وجمع كلمتها وضم جامعتها، تدافع عن كيانها بالصبر وثبات الجأش، والرضوخ لأحكام الأقدار، فلا تقعد عن عمل يلوح لها فيه بارقة أمل للوصول إلى غايتها الشريفة، ولا تألو جهدا في كل ما يئول إلى خيرها ونفعها، شأن الأمم الحية النامية التي لا تمل من مقاومة العقبات وإزالة العثرات، ولا تكل من مقارعة الحوادث والنكبات، فهي نابغة سائر الأمم على الإطلاق بما خصها الله من الذكاء وصدق العزيمة الذي حفظت به حياتها كل هذه الأدهار الطويلة، وهي لا جامعة لها تجمعها، ولا وطن لها يضمها، ولا راية تظللها، ولا ملك يدير شئونها، ولا دولة تدافع عن حقوقها، ولا حكومة تعطف عليها، ولا شعب يميل إلى مؤاساتها، بل كانت منفردة في جهادها، وحيدة في سعيها واجتهادها، وكانت الأمم تمقتها وتخفض من شأنها، وتغض من كرامتها، وتنظر إليها بعين الازدراء، وتعامل أفرادها معاملة الأذلاء، وهي لا ذنب لها سوى ما اشتهر عنها من الذكاء النادر المثال والدهاء البعيد المنال، وهما الخلتان العظيمتان اللتان عرفت بهما هذه الأمة الكريمة، واستطاعت أن تحافظ بهما على وجودها كل هذه المدة الطويلة.
وكأن الأمم في العصور الماضية أكبرت ذكاء هذه الأمة وهالها شدة محبة أفرادها بعضهم لبعض، واقتدارها على انتهاز الفرص المقوية لحياتها على ما هي عليه من الضعف وتشتيت الشمل، فانقلبت عليها بالحسد والغيرة، وجعلت ترميها بالتهم الشنيعة وتعاملها بالاضطهاد والعنف، وتشيع عنها الأخبار المهيجة للخواطر والأفكار، وتلفق الإشاعات والأكاذيب والمفتريات، وكان الجهل ضاربا أطنابه في تلك العصور المظلمة، فكان الناس يتلقون تلك الإشاعات وينزلونها منازل الحقائق الراهنة، ويتحدثون بها في الأندية والمجتمعات، ويبالغون في تنميق أحاديثهم عنها ويضيفون إليها ما شاءوا من الأكاذيب والمفتريات، ومن ثم أخذت تلك الأوهام ترسخ في العقول وتوغر الصدور حتى قامت قيامة الدنيا على هذه الأمة، وأخذ الجهلاء الأغبياء يصبون عليها من صواعق غضبهم وحقدهم وانتقامهم ما لو صب على جبال راسخة لدكها وغادرها هباء منثورا، ولكنها كانت تتلقى كل ذلك بالصبر وتتقيه بالمهاجرة والرحيل من أرض إلى أخرى، متخذة من ذكائها نبراسا ينير ظلمات حياتها المدلهمة.
ترحل عن بلاد فيها ضيم
وخل الدار تنعى من بناها
فإنك واجد أرضا بأرض
ونفسك لم تجد نفسا سواها
فمن تلك الإشاعات والمفتريات تهمة وقعت على هذه الأمة ظلما وعدوانا وأوغرت صدور جهلاء الأمم عليها، وزادت بغضهم لها وكراهتهم بها، وهي أن اليهود يذبحون أطفال النصارى ويستنزفون دماءهم ويمزجونه بالخمير، ولعل هذه التهمة الفظيعة كانت السبب الأقوى فيما انتابهم من أنواع المظالم والمغارم، وقد يكفي لنفي هذه التهمة أن الأمة الإسرائيلية اشتهرت شهرة عظيمة بالمحافظة على معتقداتها الدينية، واتباع ما جاء في كتبها الإلهية من تحريم الدم وغيره من المحرمات، كما علمت من الفصول المتقدمة في هذا الكتاب، وليس تحت السماء شعب حافظ على قوانين دينه مثل هذا الشعب، فكيف يعقل أنه يقدم على إهراق الدماء البريئة وله من زواجر كتبه المنزلة ما يمنعه عن ذلك وينذره بسوء المصير، ولكن أبى الدهر إلا أن تتسلط الأوهام على العقول الضعيفة حتى في إبان تلقيها للحقائق، فإنك لا تجد عاقلا يتجاسر على إثبات هذه التهمة الفظيعة التي طواها التمدن في سجل الخرافات القديمة، ونادى العلم ببطلانها مرارا عديدة.
هذا ولم يمر بالأمة الإسرائيلية زمن كثر فيه أنصارها وظهر مجدها وفخارها مثل هذا الزمن المستنير بأنوار العلم والمعرفة، والمستضيء بأنوار التمدن والحضارة، فإن العالم المتمدن بأسره يميل إليها ويرفع قدرها ويخطب ودها ويدافع عنها، وذلك أعظم فوز أحرزته هذه الأمة بعد جهادها الطويل وأفضل نعمة نالتها بعد الصبر الجميل، بل هو أعظم برهان وأقوى حجة على براءتها من التهم التي نسبت إليها قديما وحديثا، كما في حوادث الجزائر وكتشنيف وغيرهما.
ولعل الشرقيين يجهلون أن للإسرائيليين في أوروبا وأميركا حظا وافرا من العلم والمعرفة، وأنهم منذ ارتفع الظلم عنهم واعترفت الأمم بحقوقهم في المساواة أخذوا يسابقون مواطنيهم في حلبة الحضارة، فلهم في ألمانيا وهولندا وإنكلترا الساسة والعلماء والموسيقيون والفلاسفة والمحامون والكتاب والخطباء والممثلون والمعلمون والأساتذة، هذا فضلا عن مقامهم المالي المشهور الذي وضعهم في منزلة رفيعة، وكيف لا يكون ذلك ولهم بيت روتشيلد وكاسل وغيرهما رجال يعدون في مقدمة ماليي العالم، فضلا عن أنهم في مقدمة مثريه.
ولو نال الإسرائيليون حقهم من المساواة منذ زمان طويل لسبقوا سائر الملل في فروع العلم والتجارة والصناعة، وهذا هو الذي حرك عليهم جيرانهم منذ عهد طويل، فأخذوا ينتحلون الأسباب الوهمية لقطع دابرهم، والتخلص من مناظرتهم للاستئثار بموارد الغنى التي كانوا يردونها.
ولا نرى مسوغا للناس اضطهاد اليهود لذكائهم ومقدرتهم في الأعمال، كما أننا لا نرى وجها لقبول هذه الخرافات التي يشيعها الجهلاء وذوو المآرب عنهم، ولا نعلم أن تهمة واحدة مما اتهموا به كانت صحيحة، أو أن التحقيق كشف عن جريمة لهم، ولا عبرة بما يقال عنهم إنهم يخرسون الألسنة بنضارهم، إذ لا يصدق أن ليس بين جميع قضاة الأرض رجل عادل يترفع عن الرشوة، ويأبى أن يبيع ذمته بمال كثير أو قليل.
والخلاصة أن اليهود كغيرهم من البشر في عواطفهم وأميالهم وأخلاقهم، فيهم الصالح والطالح والطيب والخبيث، فمن الظلم أن يسري حكم واحد على الأمة بأسرها اعتمادا على ما يرى من بعض أفرادها، ولا يستطيع العاقل المنصف إلا الإعجاب باجتهاد هذه الأمة وحكمتها وصبرها، وما في قلوب كبارها من عواطف الحنان والشفقة والرحمة، فيبذلون أموالهم في إسعاف البائسين والمساكين من أبناء ملتهم وغيرها، كما يرى في مصر وفي سائر أنحاء العالم.
وعندنا أن اليهود لا ينالون حقهم بين الأمم إلا متى استنارت البصائر بنور العلم الحقيقي، وعلم الناس أن الرجل يقاس بأخلاقه وأفعاله لا بمذهبه ومعتقده، وأن الأمة تتألف من الأفراد، وأن لكل أمة دليلا يرشدنا إلى طبائعها وأخلاقها وأحوالها، ومن العبث اتهام أمة بأسرها تهما فظيعة لا أصل لها، أو نسبة أمور إليها تكذبها عادات تلك الأمة وأخلاقها وتاريخها.
تقاريظ الكتاب
لم يدر في خلدنا عندما انتهينا من طبع هذا الكتاب أنه يلقى من سراة الأمة الإسرائيلية ووجهائها استحسانا عظيما وإقبالا لا مثيل له يدفعاننا إلى المجاهرة بالثناء على فضلهم ومكارم أخلاقهم، ولم نكن نتوقع أن سيادة الحبر الجليل حاخام باشي الطائفة الإسرائيلية في مصر سيكون في طليعة المؤيدين لمشروعنا بما أظهره لنا من دلائل الترغيب والاستحسان، فإنه - أطال الله بقاءه - تكرم علينا بالكتاب الآتي باللغة العبرية، فرأينا أن نترجمه ونزين به صفحات الكتاب إقرارا بفضله وإجلالا لعظيم قدره، قال:
طالعت بكل سرور التأليف الحديث «تاريخ الأمة الإسرائيلية» لسعادة مؤلفه الفاضل شاهين بك مكاريوس، تأملت حسن ترتيبه وتنسيقه وإحكام ضبطه في إيراد التواريخ والأخبار، فأعجبت بدقة روايته وموافقته لأصح المؤلفات التي وضعها أشهر مؤرخي الأمة الإسرائيلية، فبالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن أبناء طائفتي أقدم إلى مؤلفه الفاضل عظيم شكري وامتناني على مشروعه العظيم الذي عانى الصعاب الكثيرة في سبيل إتمامه وإبرازه إلى الأمة تحفة نفيسة وذخرا جميلا، أسأل الله أن يمده ببركاته السموية لتنوير الأذهان بالعلم والمعرفة، ولي الثقة التامة أن الجميع يقبلون على مطالعة هذا السفر المفيد، ويكونون عضدا لمؤلفه الفاضل لإبراز غيره من جواهر مؤلفاته النفيسة العائدة بالنفع العظيم على أبناء الطائفة عموما ومحبي الفضيلة خصوصا.
وأسأل الله في الختام أن يكلل عمله المبرور بالنجاح الذي يستحقه كما يشتهي قلبه وقلب كل محب للعلم والأدب.
حاخام باشي مصر
روفائيل هارون بن شمعون
وهذا ما ورد إلينا من حضرة صديقنا الأستاذ الفاضل الحاخام مسعود حاي بن شمعون وكيل حاخامخانة مصر:
جناب الصديق الحميم سعادتلو أفندم شاهين بك مكاريوس الأفخم
بعد التحية والاحترام ... إن كتابي هذا ينوب عني بالاعتراف بفضلكم العظيم لاعتنائكم بتأليف كتاب «تاريخ الأمة الإسرائيلية»، فقد تصفحت بإمعان زائد كل مشتملاته، وقرأت صفحاته حرفا حرفا فوجدته كتابا جامعا لأعظم الفرائد والفوائد، وسفرا شاملا لأشتات الأخبار والتواريخ التي تقلبت عليها الأمة الإسرائيلية من أقدم عصورها إلى هذا اليوم، فهو حري بأن يطالعه كل فرد من أفراد الأمة لما فيه من الحقائق الراهنة المدونة على نسق بديع يروق الخاصة والعامة على السواء، ويسهل على الأحداث مطالعته وإدراك معانيه.
ولقد قارنته بأعظم كتب المؤرخين من أبناء الأمة الإسرائيلية الذين سأوضح أسماءهم، فظهر لي بأجلى بيان أن كتابكم أعظم فائدة وأعذب موردا وأقرب منالا لإحرازه على مزية الضبط والتدقيق في تنسيق الأخبار الصحيحة وتنظيم الحقائق التاريخية، فضلا عن أنه جامع لفرائد أولئك المؤرخين وشامل لفوائد عظيمة وشوارد متفرقة لم تدون في صحائف من تقدمكم من المؤرخين الصادقين.
أما الكتب التي راجعت كتابكم عليها فهي: أولا «اليوسيفون»، وثانيا «هادوروت»، وثالثا «صيماح دافيد»، ورابعا «تواريخ المؤرخ الشهير كلمن شولمن»، وهم دبري يمي عولام وملحاموت هايهوديم وقدمونيوت هايهوديم ودبري يمي يسرائيل، وغيرها من أشهر كتب مؤرخي الأمة، وعندي أن كتابكم هذا سيأتي بفوائد عظيمة للأمة عموما وللأحداث منها خصوصا، إذ يمكنهم من مطالعة تاريخ أمتهم باللغة العربية على أقرب منال وأهون سبيل، ولا عجب بعد ذلك إذا رأيتم الإقبال عليه عظيما.
هذا وأرجو في الختام قبول تشكراتي القلبية، وإني أسأل الله أن يبارك أعمالكم ويعضد مساعيكم الحميدة، ويرينا من ثمار أياديكم البيضاء في تنوير الأذهان والانتصار للحقيقة في كتبكم التي عزمتم على تأليفها وطبعها ما يؤكد للأمة حسن خدماتكم المشهورة، وأطال الله بقاءكم.
صديقكم
مسعود حاي بن شمعون
وقد اكتفينا بهذين التقريظين مع الشكر للذين أتحفونا بغيرهما، وربما نعود فننشر بقية التقاريظ في وقت آخر.
Bog aan la aqoon