وفي زمن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان يوجد أتراك في مصر ومنها دخلوا إلى أفريقيا، وبعد ذلك إلى الأندلس كما ذكر عبد الواحد المراكشي، ولكن لم يكن أثر يذكر للترك في الأندلس. انتهى كلام الانسكلوبيدية الإسلامية ملخصا. وفيه بعض خطأ، وهو في ظنه أن الترك لم يعرفوا مصر إلا في زمن صلاح الدين بل عرفوا مصر قبل صلاح الدين بكثير وقبل الفاطميين.
وآل طولون هم من الترك وقيل: إنه كان في مجلس الخلفاء الفاطميين أناس من الترك، فبعد انصرافهم سئل عنهم فقال: «هؤلاء الذين سيكونون أمراءنا في الغد.»
قلنا: إنه في القرن الحادي عشر للمسيح كانت جميع بلاد الأناضول التي يقال لها «آسيا الصغرى» مع بلاد «قيلقية» أي ولاية «أطنة» الحاضرة، ومع شمالي سورية كأنطاكية، واللاذقية، ومع أرمينية كلها داخلة في ملك القسطنطينية وكان الإسلام يومئذ منقسما إلى دولتين: الخلافة العباسية في بغداد والفاطمية في مصر. وكانت فارس الغربية تخص بني بوية الذين استأثروا بالأمر في بغداد وحجروا على الخلفاء العباسيين، وأما في شرق إيران فكانت الدولة السامانية تارة في بخارى وتارة في سمرقند، وبقيت مستتبة إلى زمان محمود الغزنوي التركي الذي استولى على خراسان وعلى قسم من بلاد العجم، ولو لم يشغل بفتوحات الهند لربما كان تقدم إلى بغداد، فشغلت الهند الدولة الغزنوية، وبذلك اتسع المجال لدولة أخرى تركية من الغوز يقال لها «الدولة السلجوقية» وكان آل سلجوق أتباعا للغزنويين في بادئ الأمر، فظهر منهم رجل يقال له طغران بك، واستولى على نيسابور قاعدة خراسان، فأراد الغزنويون أن يقضوا عليهم، ولكن جاءوا متأخرين بما شغلهم من فتوحات الهند، وظهر طغرل بك على الغزنوية، فتمكن طغرل بك من خراسان وانتشر أبناء عمه في البلاد الغربية مثل إيران، وكرجستان، وأرمينية.
وكان طغرل بك أحسن السلاجقة سياسة، وأوفرهم عقلا، فاتخذ لنفسه خطة معينة وصار يفتح بلدا بلدا حتى وصل إلى بغداد، وكان بنو بويه غلبوا على بغداد وحجروا على الخلفاء، وكانوا شيعة متعصبين، فجاء طغرل بك إلى بغداد ورفع منار السنة وأيد الخلافة العباسية، وقلده الخليفة السلطنة وسماه بملك الشرق والغرب. وكان في ذلك الوقت أرسلان البساسيري قد دعا للخليفة الفاطمي في وسط بغداد وانهزم القائم العباسي من وجهه، فجاء طغرل بك وهزم البساسيري وقتله، وأعاد الخليفة إلى مكانه ثم تزوج طغرل بك بابنة الخيفة، وعاد أمر الخلافة العباسية كما بدأ من القوة، وانتصرت السنة أيضا على يد طغرل بك السلجوقي، ومنذ أن تمكن طغرل بك من بغداد نشر غاراته هو وأبناء عمه في بلاد الأناضول وأخذ ينتقص أطرافها، فبدأ السلاجقة بأرمينية وفارس وأغار عليها طغرل بك بذاته سنة 1054 مسيحية، وكان إمبراطور بيزنطية في ذلك الوقت قسطنطين التاسع المسمى مونوماك فعجز عن دفعهم، وجاء بعده قسطنطين العاشر الملقب دوكاس فوصل الترك في زمانه إلى سيواس في قلب الأناضول، ثم توفي طغرل بك وخلفة ألب أرسلان ابن أخيه، فزحف صوب مملكة الروم واستولى على «أرمينية» وهزم ملوك الأرمن، وهكذا انفتحت أمامه مسالك الأناضول، فبث فيها الغارات من كل جانب ووصل إلى قيصرية وتولى الأمر في القسطنطينية قيصر شديد الشكيمة اسمه «رومان ديوجينوس» فجهز الجيوش وزحف إلى الأتراك، وكانت الحرب بين الفريقين سجالا، وكان ألب أرسلان قد كر راجعا إلى إيران بسبب عصيان أولاد عمه عليه، فلما فرغ من قتالهم عاد إلى الأناضول فنهد إليه «رومان ديوجينوس» بمئة ألف مقاتل وذلك سنة 1071 مسيحية، فتلاقى الجمعان في 19 أغسطس/آب سنة 1071 عند بلدة «مالا زغرد» بقرب «خلاط» فدارت الدائرة على الروم، وجرح «رومان ديوجينوس» ووقع في الأسر، وكان ذلك أعظم خطب حل بالنصرانية في الشرق وانقصم بمعركة «مالازغرد» ظهر السلطنة الرومانية البيزنطية.
ووصلت الأخبار إلى الغرب فهاج هائج جميع العالم المسيحي ورأوا أن المملكة البيزنطية أصبحت لا تصلح خصما للإسلام ولا حاجزا دون تقدمه صوب أووريا. ومن ذلك اليوم تولدت فكرة الحرب الصليبية، ومعناها أن المسيحيين الشرقيين لا يقدرون أن يقفوا في وجه الإسلام، فيجب على المسيحيين الغربيين أن ينهضوا ويزحفوا إلى الإسلام في عقر داره، وبرغم الحروب الصليبية لم يزل الترك يتقدمون في آسيا الصغرى حتى بلغوا بحر مرمرة، وذلك في زمان ملك شاه بن ألب أرسلان وبمعاونة ابن عمهم «سليمان بن قطولش»، ووصل الأتراك إلى أزمير في سنة 1081 وأخذ ظل الروم يتقلص عن تلك البلاد الواسعة. نعم إن الصليبين أخروا تتريك الأناضول مدة من الزمن ولكن عاد الأتراك فأتموا فتح هذه البلاد، ووجدت دولة ثانية تركية غير السلاجقة وهي الدولة «الدانشمندية» التي تأسست في «كيادوكية» وكانت لها قيصرية، وسيواس، وأماسية، وأخيرا جاء بنو عثمان وخلفوا السلاجقة والدانشمندية وفتحوا بورسة وجعلوها دار مملكتهم، ثم أجازوا إلى الرومللي ونقلوا دار ملكهم إلى أدرنة قبل أن يفتحوا القسطنطينية.
ثم وفق الله محمد الثاني الملقب بالفاتح فاستولى على عاصمة النصرانية في الشرق واستصفى بلاد الأناضول كلها وعاد فأكمل فتح الرومللي واستولى على جميع ملحقات الملك القسطنطيني، وأوغل في بلاد البلقان حتى استولى على بلاد الصرب وبوسنة وأكمل خلفاء عمله فاستولوا على جميع الممالك التي في شبه جزيرة البلقان وأدخلوها في الحكم العثماني، واستلحقوا مملكة المجار، ووصلوا إلى بولونية، وحصروا فيينا، ولولا قليل لكانت سقطت في أيديهم. ولم يبدأ تقلص الأتراك عن شبه جزيرة البلقان إلا عند ظهور الروسية، فأصبح الترك بإزاء عدوين كبيرين معا، السلطنة الألمانية، والسلطنة الروسية، فما مضى بعد ذلك أربعة قرون حتى عاد الأتراك فخرجوا من جميع تلك الممالك التي كانوا افتتحوها في البلاد البلقانية ولم يبق لهم إلا القسطنطينية وربضها الذي ينتهي عند أدرنة، وسنذكر شيئا عن تتمة تاريخ الأتراك العثمانيين بعد الانتهاء من مبحث الترك الأصلي.
ونعود إلى تاريخ الترك في أيام زحف المغول من الشرق إلى الغرب فنقول: إن المغول شعب آخر غير الترك ولكنهم من أصل واحد، وقد دخل من المغول كثير في الترك فصاروا منهم، ولما زحف جنكيز خان وأعقابه كان يقال لهم «المغول» ويقول لهم أيضا «التتار» ولكن بعد أن أسلمت الدولة المغولية في القرن الرابع عشر للمسيح غلب على المغول اسم التتار، فتأسست سلطنة في قازان وسلطنة أخرى في استراخان وسلطنة أخرى في القريم، ولكها كانت دولا تترية إسلامية. ثم تأسست دولة تترية إسلامية في سيبريا بقرب طوبولسك الحاضرة، وغلب اسم التتار على جميع الأتراك غير العثمانيين، وهذا هو اصطلاح الروس واصطلاح كثير من الأوروبيين وذلك بأن يسموا بالترك أتراك السلطة العثمانية وبالتتر الأتراك الذين في الروسية الحاضرة. ومن هؤلاء شعب يقال لهم الأوزبك تغلبوا في القرن السادس عشر المسيحي على «بخارى» و«خيوه» وأزالوا مملكة «الجغطاي» ثم أسسوا دولة «خانات خوقند» وجاء شعب آخر اسمه «النوغاي» من الترك فكانت لهم دولة في بلاد «الفولغا» ثم غلب عليهم شعب تركي آخر اسمه «الكلموك». ومن الشعوب التركية المعروفة شعب يقال له القزق كانوا مستقلين وإن كانوا جيرانا للأوزبك.
وقد كانت تأسست في كاشغر من التركستان الصيني دولة تركية على إثر سقوط دولة الجغطاي واتخذت الإسلام دينا في أواسط القرن الرابع عشر، أي منذ نحو أربع مئة وخمسين سنة، واشتهر منها أمير يقال له محمود خان اعتنى جدا بنشر الإسلام، وكان المغولي أو التركي الذي لا يلبس عمامة يدق له مسمار في رأسه! وأخذت الديانة البوذية تتقهقر من تلك الديار وكان الأويغور من أشهر شعوب الترك لا يزالون بوذيين، فانتشر الإسلام فيهم أيضا ولم يبق على البوذية إلى يومنا هذا إلا قسم منهم يقال لهم «الأويغور الصفر».
ومما يجب أن يعرف أن الأتراك العثمانيين هم من جنس الترك الذي يقال له «التركمان»، وهؤلاء التركمان منهم قسم يقال له «الخروف الأسود» وقسم آخر يقال «الخروف الأبيض» وقد انتشروا في غربي آسيا ودخلت منهم أقوام في البلاد العربية. وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر للمسيح تغلب الكلموك على هؤلاء التركمان كما تغلب الكلموك على الغرغز والقزق. ثم سقطت دولة الكلموك، ومن الغزغز فرقة تسكن في بلاد بني «زاي»، ويقال لهم اليوم «خاكاس» ليسوا كسائر أصناف الترك تابعين للمدنية الإسلامية، كما أنه يوجد في جبال «الألطاي» ترك غير مسلمين، والروس يقولون لهم «كلموك الجبال» وليس هؤلاء مسلمين، وكذلك الأمة المسماة بالياقوت هم أتراك غير مسلمين، ولغتهم لغت تركية قديمة، وقد كانت جميع البلاد إلى النصف الأول من القرن السادس عشر للمسيح من شبه جزيرة البلقا،ن وشطوط البحر الأسود إلى الصين ممالك إسلامية متصلة، كما ورد في الانسيكلوبيدية الإسلامية، ولكن كان قد بدأ دخول هذه الممالك في دور الانحطاط، فتقلص ظل المدنية وعادت البداوة القديمة، وكان قد بدأ الروس من ذلك العهد يتغلبون على من جاورهم من الترك فاستولوا على مملكة قازان سنة 1552 وعلى مملكة استراخان سنة 1554، فقطعوا ما بين الترك المشارقة والترك المغاربة أي العثمانيين.
ومذ ذلك الوقت أخذ الروس يزحفون صوب الشرق فيستولون على مملكة مملكة من هذه الممالك التركية الإسلامية، واتفقوا مع الصين على أنه لا يجوز أن يبقى للإسلام ملك من بحر الخرز إلى حدود الصين، فالذي لم يدخل تحت حكم الروسية يجب أن يدخل تحت حكم الصين، وقد انعقد هذا الاتفاق بين الروسية والصين بمعاهدة تاريخها (24 فبراير/شباط 1881) وبرغم هذا فيقول «بارتولد» محرر هذا الفصل من الانسيكلوبيدية الإسلامية: إن الإسلام والتركية لم يرجعا إلى الوراء في الروسية وأنه بعد الانقلاب الروسي والحكومة البلشفية تأسست للأتراك في الروسية جمهوريات تابعة لموسكو مثل جمهوريتي «الأوزبك» و«التركمان» وجمهورية «أذربيجان» في القوقاز، وبالإجمال فللأتراك تحت حكومة السوفييت الحاضرة سبع جمهوريات لها شبه استقلال، وهي جمهورية القريم وجمهورية قوفاس وجمهورية الباشكيرد وجمهورية التتار وجمهورية القزق وجمهورية الغرغز وجمهورية ياقوت. ويوجد نواح لها أيضا إدارة مستقلة، وأكثر أهلها من الترك وهي بلاد قره كاي وبالكار وقره كالبكيك وأويرات، ويقول: إن هذا الدور قد أحيا أسماء القبائل التركية القديمة. ويذكر أن أكثر هؤلاء الأتراك قد عولوا في الكتابة على الحروف اللاتينية أما «الكوفاش» و«الكاكاس » و«الأوبرات» فقد بقوا متمسكين بأحرف الهجاء الروسية.
Bog aan la aqoon