وعلم الأنساب مهم جدا للتاريخ، مشتبك به اشتباكا تاما، لأنه به يعرف تاريخ مشاهير الرجال الذين قاموا بأدوار عظيمة في العالم، فيتبين من هذا العلم أصلهم، كما يتبين من التاريخ فصلهم. وكذلك تعرف من الأنساب علاقات المصاهرة، وما يحصل بسببها من التوارث، وما ينشأ عن هذا التوارث من دعاوى وخصومات قد تجر إلى الحروب. ولم تنحصر الأنساب في الفترة الآدمية، بل للطبقة العالية من الحيوانات الداجنة أنساب معروفة، ولحفظ أنسابها فائدة عظيمة في تنشئة هذه الحيوانات وتنميتها، فإن تأثير العرق غير مشكوك فيه، وانتقال النجابة من بطن إلى بطن هذا معدود من القواعد العلمية، وإن كان قد تعرض أحيانا عوارض تمنع انتظام سير هذا التوارث.
ومن الغريب أن الإنسان قد يهمل نفسه أحيانا، ولا يحافظ على صحة بدنه ولا على متانة عقله، ولا يكترث لقضية تسلسل النجابة في عرقه، ولا لصيانة المزايا التي انتقلت إليه بالإرث الطبيعي من آبائه، وبينما هو يهمل نفسه هذا الإهمال، تجده يعتني بحفظ نسل حيواناته حتى لا يكون الفرع مقصرا عن الأصل. ولهذا كانت أنساب الحيوانات معتنى بها في كل مكان، وكان ذلك بها جديرا، وإن كثيرا من الكتب قد كتب لحفظ أنساب العجماوات. قال لاروس في معجمه الكبير: «إن العرب سبقوا جميع الأمم في حفظ أنساب حيواناتها، وإذا كان الجواد العربي قد بقي محفوظا بجميع مزاياه الباهرة، فما كان ذلك إلا بطهارة أصله وصفاء عرقه منذ قرون لا تحصى، وهذا بفضل العرب الذين وجهوا لصفاء عرق الجواد أشد الاهتمام، وإن جميع حيوانات العرب الفارهة لها أنساب يعتنى العرب بحفظها بمزيد الدقة.» قال: وليس عند العرب دفتر نفوس عمومي للخيول، ولكن كل فرس كريم معه حجة يتبين منها نسبه، فلا تختلط عندهم الخيل الأصيلة بغيرها. أما الإنجليز فقد نظموا ذلك وجعلوا للخيل دفاتر نفوس رسمية، منها ما يسمونه “Stud-Book”
يذكرون به أصل الحصان وسلسلة نسبه، ومنها المسمى “Cing Calender”
يذكرون فيها أوصاف الحصان وشياته. وما عملوه لأجل الخيل وحفظ أرسانها عملوه أيضا لأجل البقر، ولأجل الغنم. ولكن الفرق بين البقر والغنم أن النسب في البقر يكون للثور بمفرده، وأما في الغنم فلا يكون للشاه بل للقطيع كله. ويرى العلماء في تربية الحيوانات أنه لأجل إصلاح جنسها يكون ضروريا الوقوف على أنسابها.» انتهى.
والأنساب معروفة للهررة أيضا، فهي كالخيل الأصيلة، كلما كان الجواد عتيق الأصل كان أحسن جريا، وكذلك كلما كان الهر أصيلا كان أحسن صيدا للفئران. وبالإجمال إصلاح الأجناس بالتزاوج، وبالتربية، وبالتغذية، سواء كان في الآدميين أو كان في الحيوانات الداجنة، يتوقف على حفظ الأنساب، والعناية بعتقها. ولا يزال الحديث الشريف: «اطلبوا كرام المناكح فإنها مدارج الشرف.» من أصدق القواعد العلمية، والحقائق العالمية.
الخلافة واشتراط القرشية فيها
تعليق على ما جاء بسطر 10 صفحة 3 جزء أول من ابن خلدون
لست هنا في صدد وجود الخلافة في الإسلام، وهو البحث الذي وفاه علماء هذه الملة حقه، ولم يتركوا في قوسه منزعا، وقد قال في هذا المقام ابن خلدون والماوردي وغيرهما كل ما يجب أن يقال، وإنما أقول: إنه اتفق المسلمون - إلا الخوارج والمعتزلة - على وجوب نصب الإمام لحراسة الدين والدنيا، فكان هذا المنصب جامعا بين السلطة الروحية - لكن بدون العصمة التي يقول بها الكاثوليكيون في البابا - وبين السلطة الدنيوية وهي ما يسميه النصارى بالسلطة الزمنية - لكن بدون الامتيازات التي تسجلها القوانين الأوروبية للملوك - ولا تبال بما يتشدق به بعض الطاعنين في الإسلام من أنه جمع بين السلطتين، فكان في ذلك عائق للمجتمع عن الترقي، فهو قول عريق في التحامل، مخالف لسنة الله في خلقة، إذ إن الدين متصل بالدنيا في كل مجتمع بشري، والدنيا ممتزجة بالدين بدون انفكاك، ولا يتصور وجود أحدهما بدون الآخر.
وقد وفينا هذا الموضوع حقه في «حاضر العالم الإسلامى» بما لا حاجة إلى إعادته هنا، وأثبتنا ما في جملة «فصل الدين عن السياسة» من السفسطة التي لا تستند على شيء من الواقع، لأن جميع الحكومات الأوروبية التي جعلها الشرقيون هي المثل العليا في العالم، ولم يبق لهم عمل إلا أن يحطبوا في حبالها، وينسجوا على منوالها، لم تقدر أن تفصل الدين عن السياسة فصلا حقيقيا، وغاية ما هناك أنها فصلتهما فصلا إداريا لا غير، بحيث إن للأمور الدينية مراجع مخصوصة، وللأمور الدنيوية مراجع مخصوصة. وهذا ما هو أيضا في الحكومات الإسلامية. وقد كان في الدولة العثمانية كما يعلم كل احد، فالصدر الأعظم كان ينظر في الأمور السياسية والإدارية خاصة، وشيخ الإسلام كان ينظر في الأمور الشرعية والدينية خاصة، وكل من المرجعين كان يعود إلى السلطان.
وإذا نظرنا إلى أوضاع الدول الأوروبية نجد أن ملك إنجلترا مثلا هو في المركز نفسه، فكما أنه ملك الأمة الإنجليزية ومرجعها في الحكومة، فهو رئيس الكنيسة الإنكليكانية، وبالتالي فمرجع الإنجليز في العقيدة. ومثل ذلك قيصر ألمانيا الذي كان رئيسا للكنيسة اللوثيرية، فكانت له السلطة الروحية العليا لا تفترق في شيء عن سلطة الخليفة في الإسلام، وهي مجموعة فيه إلى السلطة الدنيوية التي تجعل في يده زمام الأمة الألمانية في الأمور الدنيوية. ولما آل أمر الألمان إلى الجمهورية - وهى مؤقتة - قام مقام القيصر في الأمرين رئيس الجمهورية الألمانية، وقد زعم بعضهم أن من الدول من فصل الدين عن السياسة بالمرة كفرنسا مثلا، والحقيقة أن فرنسا اتفقت مع الطبقة الإكليريكية على وضع نظام خاص يكفل راحة الفريقين، ولكن الحكومة لا تزال هي مرجع رجال الدين عند حدوث المشكلات لما تقدم من أن الدين والدنيا في المجتمع لا يستغني كل منهما عن الآخر. وليس في عصرنا هذا حكومات لادينية بالمعنى المفهوم من هذه اللفظة سوى ثلاث حكومات؛ إحداهما الروسية البلشفية والثانية الجمهورية المكسيكية، والثالثة الجمهورية التركية الكمالية. وما دامت الأمة الفرنسية تعلن عن نفسها أنها أمة مسيحية - يتجلى ذلك في جميع حركاتها وسكناتها - فيكون مخالفا للمحسوس الزعم بأن حكومتها في واد والكنيسة في واد! إذن فالإسلام لم يأت في هذا المعنى بوضع مبتدع، بل هي سنة الله في أرضه. وما دامت الأمم لا تستغني عن الأديان فملوكها وحكوماتها لا تستغني عن الجمع بين الدين والسياسة.
Bog aan la aqoon