174

Taariikhdii Ibn Khaldun

تاريخ ابن خلدون

Noocyada

وكان محمود مختار باشا قائدا لشطر الجيش الثالث وهو ثابت في مركزه، وإذا بالبلغار يهجمون على الجيش الذي على جناحه الأيسر هجوما فجائيا ضعضع الأتراك فانهزموا، فحاول محمود مختار أن يصد البلغار ويتوقف الهزيمة ولكن كان الجنرال البلغاري ديمتريف جاء بدون أن يشعر به الأتراك أصلا فهاجم الجيش الذي على يمين محمود مختار، فاضطر محمود مختار إلى التقهقر فانهزم العسكر العثماني إلى قرق كليسة وهو الجيش الرابع، ثم الجيش الثالث، ثم حاول الجيش الأول أن يهاجم البلغار ليوقف الهزيمة فلم يقدر على شيء بل تقهقر هو أيضا. وكل هذا من عدم وحدة القيادة، وعدم وجود خطة حربية مقررة. فكل فرقة وكل جيش من الأتراك كان يقاتل بدون أدنى صلة مع رفاقه، ولا علم له بما عليه سائر الجيوش العثمانية. لأن الأتراك فكروا أنه لا يلزم لهم إلا أن يقابلوا البلغار في أي مكان كان، وفي أي وقت كان، حتى يولى هؤلاء الأدبار، فمن شدة استخافهم بالعدو تغلب عليهم العدو. ولما تقهقر عبد الله باشا بجيوشه قسم منها إلى جهة «فيزة» والقسم الآخر إلى لولى بورغاز، لم يكن بين القسمين أدنى صلة، ولا كان الواحد يعرف ما عند الآخر ، ومحمود مختار باشا هو القائد الوحيد الذي كان مالكا حركة جيشه، بحيث عندما التزم إلى التقهقر تقهقر بانتظام حقيقي. وكان ناظم باشا ذهب بنفسه ليتولى القيادة العامة، وناجز البلغار القتال في «لولي بورغاز» «وقره أغاتش». وزحف محمود مختار باشا مهاجما للعدو على ظن أن عبد الله باشا يتمكن من نجدته بالجيش الأول والجيش الثاني، فتمكن محمود مختار من أن يشطر فرقة الجنرال خريستوف إلى شطرين، إلا أنه كانت ودرت نجدات عظيمة للبلغار، وفي الوقت نفسه انهزم الجيش الثاني العثماني، فلم يقدر محمود مختار أن يتمم خطته بسبب الفشل الذي حل بسائر القواد، لكنه بقي ثابتا في مركزه. فأمر ناظم باشا القائد العام بتراجع القوات كلها إلى «شركس كوى» فتراجعت كلها ومن الجملة جيش محمود مختار.

ومن أغرب الأمور أنه بقدر ما استخف الأتراك بالعدو في البداية، وقع فيهم الرعب بعد أن حلت بهم الهزيمة الأولى فنكصوا جميعهم إلى «شطلجة». ولما علمت الجيوش العثمانية التي في تراقية الغربية وفي مكدونية بالهزيمة التي وقعت في تراقية الشرقية، فانكسر أمام السربيين في «بورنيفو» وفي «قوصوه» وفي «كومانوفو» وهي هزيمة كان أكثر السبب فيها أن عصائب الأرناؤوط في أثناء المعركة انسلت من ميدان القتال مدبرة فوقع الفشل في الجيش كله. وصارت المعارك هناك عبارة عن سلسلة هزائم، تتلوا إحداها الأخرى بدون أن يوفق الترك في معركة واحدة إلا ما ندر فسقطت المراكز التركية المهمة مثل قوصوه، ومناستر، وأسكوب، وجميع البلاد التي تتبعها، وكل هذا بين 23 أكتوبر و18 نوفمبر. ولو قيل إنه لم تقع مع تركيا حرب أشأم من هذه الحرب من أول الدهر إلى ذلك الوقت لم تكن في هذا القول مبالغة. وكان القائد الوحيد الذي حفظ جيشه هو جاويد باشا، فإنه لولا انهزام عصائب الأرناؤوط في واقعة «كومانوفو» مع السربيين لكانت الغلبة في تلك الوقعة للترك، وكان الخبر وصل إلى الأستانة بأن السرب انهزموا فيها انهزاما نهائيا ، ولكن المعركة انتهت بعكس ما ابتدأت. وكان جاويد باشا هزم اليونان في إحدى الوقائع، وتمكن من اللحاق ببلاد الأرناؤوط مع جيشه، إلا أن الأرناؤوط كانوا عندما رأوا هزيمة العثمانيين قد فصلوا أنفسهم عن الدولة، وأسسوا في «فالونة» حكومة مؤقتة بمساعدة النمسا وإيطاليا.

وأما من جهة الجيش اليوناني فإنه لم يكن أمامه إلا قوة تركية ضئيلة، فكان الجيش اليوناني يتقدم إلى الأمام قاصدا سلانيك، كان تحت قيادة ولي عهد اليونان ستون ألف جندي يقابلها 25 ألفا من الأتراك، ولكن الترك ثبتوا برغم قلة عددهم ثباتا عظيما ثم تقهقروا إلى الوراء لأن السربيين والبلغار كانوا اتصلوا باليونان، واضطر تحسين باشا إلى تسليم «سلانيك» لهؤلاء. وكان جاويد باشا تغلب على اليونان في وقعة «سيروفيتسش» التي استمرت يومين وانتهت بهزيمة اليونان في 5 نوفمبر، إلا أنه وردت إمدادات عظيمة لليونان فتمكن بها ولي العهد اليوناني من الإقبال بعد الإدبار. فتراجع جاويد باشا إلى «مناستر» وهناك هاجمه السربيون وجرت وقائع بين بقايا الجيوش العثمانية والسربيين واليونانيين والبلغار لم يقدر الترك أن ينالوا فيها كلها خيرا بعد أن انخذلت قواهم المعنوية، وتقطع ما بينهم، لأن البلغار كانوا استولوا على «ديموطقه» فقطعوا ما بين الأستانة وبين مكدونية، واستولى الذعر على الدولة نفسها في الأستانة فأصبح رجالها لا يعلمون ماذا يفعلون، وكان عندهم جيوش كثيرة في المملكة لا تزال في أراضيها، وإنما كانوا في جمود تام بسبب الفشل غير المنتظر، فلم يفكروا في استجماع قواهم. وكانت الإدارة أشه بالفوضى، وقد رأينا ذلك بأعيننا، وكان الهلال الأحمر المذكور بأن انضم إليهما مفتشا ثالثا، كما أن لجنة الإعانة المصرية التي يرأسها الأمير «عمر طوسون» كلفتنا بتوزيع الإعانات على مهاجري المسلمين الذين فروا من الرومللي إلى الأستانة بعد انهزام الجيوش العثمانية، فكنا نحن الثلاثة المفتشين مضطرين أن نتصل برجال الدولة كل يوم لأجل تسهيل مهمة الهلال الأحمر، ومهمة توزيع الإعانات على المهاجرين، فشاهدنا من آثار الفوضى في الإدارة ما لا يصدقه العقل، وذهبنا في نهار جمعة إلى نظارة الحربية للمراجعة بمصالح مستعجلة فلم نجد في نظارة الحربية أحدا وقيل لنا: أفلا تعلمون أن دوائر الحكومة لا تشتغل نهار الجمعة! فقلت : كلا! إن الدولة التي يحل بها من المصائب ما حل بها هذه المرة لا يحق لدوائرها أن تتمتع براحة يوم الجمعة! نعم عندما كنا نذهب إلى الباب العالي كنا نجد كامل باشا الصدر الأعظم دائما حاضرا، وكنا دائما نراجعه في أيام الجمعة أيضا، وكان يبيت في الباب العالي بقرب مكتبه برغم علو سنه. وجاءنا مرة الخبر بأن أربعة آلاف عسكري في سان استفانو قد أصيب أكثرهم بالكوليرة، لأن من جملة مصائب الدولة في هذه الحرب أن الكوليرة تفشت في عساكرها تفشيا فظيعا، وفتكت بهم فتكا ذريعا فقيل لنا إن هؤلاء العساكر الذين في سان استفانو على مقربة من الأستانة مطروحون بالعراء بدون خيام ولا بيوت يأوون إليها! وكان ذلك في وسط زمهرير الشتاء، فذهبنا أنا ورفاقي إلى كامل باشا وأخبرناه بالخبر، وروينا له ما سمعناه من أن نصف هؤلاء الجند قد ماتوا، وأن رفاقهم جالسون إلى جانبهم في انتظار الموت، فأعطى الأوامر اللازمة إلى الحربية حتى يرسلوا إلى سان استفانو الأطباء والممرضين وجميع اللوازم لأجل معالجة هذه الحالة، ولكننا ثاني يوم لحظنا أنه لم يحصل شيء، فقلت لزملائي: إن كنتم تنتظرون في أثناء هذه الفوضى إغاثة الدولة لهؤلاء العسكر فاعلموا أنه لا يذهب إلى هناك أحد من الأطباء والممرضين حتى يكون العسكر قد قضوا نحبهم جميعا، وعليه يجب أن نبادر نحن بالعمل، فأرسلنا في اليوم نفسه النجارين وحملوا الأخشاب اللازمة وبنوا للعساكر بيوت الخشب، وأرسلنا إليها الأسرة والأغطية اللازمة، والأطباء والمحللين والأدوية، وكل هذا تم في ثلاثة أيام، وبعد ذلك جاء المأمورون العثمانيون فوجدوا كل شيء خالصا، وعلى هذا يمكن أن يقاس غيره.

ونعود إلى تاريخ هذه الحرب المشئومة التي انتهت بها ولاية الدولة العثمانية في شبه جزيرة البلقان فنقول: إنه بعد أن انهزمت الجيوش العثمانية في تراقية الشرقية وتراجعت إلى «شطلجة» وتشتت العسكر العثماني في تراقية الغربية، ومكدونية بقيت بلاد الأرناؤوط لم يحتلها العدو، وبقيت القوة هناك أيضا ضعيفة، فتقدم اليونان من جهة الجنوب وما زالوا يهزمون أمامهم تلك الشراذم التفرقة حتى وصلوا إلى «يانيا» وأخيرا استولوا على يانيا. ثم إن السربيين وعساكر الجبل الأسود استولوا أيضا على عدة مواقع من شمالي البانيا، غير أن الأرناؤوط صدوهم عن «شقودرة».

أما من جهة البحر فقد كان الأسطول العثماني انحط انحطاطا عظيما، وكان السلطان عبد الحميد يخشى الأسطول كما يخشى الجيش البري، وكان يكره العساكر البحرية أكثر مما يكره العساكر البرية، لأنه يتذكر أنه لما خلعوا عمه السلطان عبد العزيز في سراي طولمه باغجة التي على ساحل البحر نظر السلطان إلى البحر فوجد الأسطول واقفا أمامه، مع أن عبد العزيز هو الذي أنشأ الأسطول، وكان عبد العزيز شديد العناية به، وكانت الدولة في زمانه دولة بحرية من الدرجة الثالثة.

ولما جرت الحرب العثمانية الروسية كان البحر الأسود كله في يد الدولة، ولكن السلطان عبد الحميد أهمل الأسطول إهمالا تاما، فما زالت قوة تركيا البحرية في أيامه تنحط حتى صارت دولة اليونان أقوى منها في البحر، وبعد خلع عبد الحميد اشتغلت الدولة بالفتن الداخلية، وقامت الأحزاب تتناحر فيما بينها، فلم يكن عند الدولة وقت لإصلاح الأسطول. فلما نشبت الحرب البلقانية أدركت الدولة عظم الضرر الذي جره عليها إهمال الأسطول، وذلك بأنها بسبب ضعف أسطولها لم تقدر أن تستحضر جيش سورية من طريق البحر خوفا من أن الأسطول اليوناني يتعرض للبواخر التي تنقل الجيش من سواحل سورية وكيليكية إلى الأستانة أو الرومللي، ولم تكن يومئذ بين الأناضول وسورية سكك حديدية متصلة حتى يمكن نقل العساكر برا. فجيوش البلاد العربية بقيت جميعا في أرضها. وعدا هذا فقد استولى اليونان على جزائر الأرخبيل. نعم أن الأسطول اليوناني لم يجرأ أن يناطح حصون الدردنيل التي عجزت عنها جيوش الحلفاء الجرارة في الحرب العامة، ولكنه استولى على جزيرة لمنس وانبروس، ومدلى، وساقس، وسائر الجزر. وخرج الأسطول العثماني من الدردنيل لمنازلة الأسطول اليوناني، وألحق الأول بالثاني خسائر مهمة، لكنه لم يتمكن من غلبة ظاهرة، فرجع إلى الدردنيل محتميا بالحصون.

وكان حسين رؤوف بك يومئذ قائدا لبارجة اسمها «حميدية » فأشار بالكرة على الأسطول اليوناني فلم يقبلوا كلامه، فخرج وحده ببارجته حميدية واخترق نطاق الحصر اليوناني، وجاء إلى بلاد اليونان ودمر مينا «سيرا» وأغرق عدة بوارج لليونان، وعجز الأسطول اليوناني عن مطاردته ولكنه كان يتجنب الانتظار في مكان واحد خوفا من أن تجتمع قوة اليونان البحرية عليه. فكان ينتقل من مكان إلى آخر، وكلما صادف لليونان سفينة أغرقها. وقد أخبرني هو أنه كان ذهب إلى مسرى مالطة ونزل إلى البر، ودعاه القائد الإنجليزي واحتفى به، وبينما هو على مائدته أخبروه بأن عدة سفن حربية لليونان وصلت على مقربة من مالطة تترصد خروجه لأجل الإيقاع بحميدية، وقال لي: إنه لم يعتقد تلك المرة إمكان النجاة لأنه بسفينة واحدة لا يقدر أن يتغلب على عدة سفن، وإن كان يمكنه أن يدمر بعضها فخرج من مالطة متوجسا الخوف وسار ببارجته أمام البوارج اليونانية ولم يجرأوا أن يتعرضوا له!.

ورؤوف بك هذا هو الذي صار فيما بعد ناظرا للبحرية في أيام الحرب العامة، ثم بعد الحرب العامة كان من أكبر رجال تركيا الذين نهضوا بها، وقاوموا معاهدة «سيفر» ونظموا المقاومة العسكرية في الأناضول، وبعد استقلال تركيا تولى رئاسة الوزارة في أنقرة، ولكنه لم يوافق مصطفى كمال على سياسته الداخلية وخروجه على قواعد الإسلام، فاختلفا وأدى الأمر إلى مغادرته تركيا، فأقام في فرنسا عدة سنوات ذهب في خلالها إلى الهند، ثم في هذه السنة 1935 دعته الحكومة التركية إلى العودة وألحوا عليه فأجاب الدعوة، ولكن على شرط أن يبقى بعيدا عن السياسة.

ثم نعود إلى الحرب البلقانية فنقول: إن سبب الفشل الفظيع الذي حل بتركيا في تلك الحرب كان إقدام الأتراك على القتال بدون استعداد كاف، وعلى ظن أنهم بمجرد اللقاء يهزمون البلقانيين كما هزموا اليونان سنة 1894، فهاجموا البلغار في تراقية بدون منهاج حربي معين، معتقدين أنهم سائرون إلى تأديب رعية ثائرة، والحال أن الجيش البلغاري كان على تمام الاستعداد من كل جهة. فلما انكسر الترك في هذه الجهة في الصدمة الأولى انكسرت جميع قواهم المعنوية دفعة واحدة، وصارت هذه الحرب عبارة عن سلسلة مصائب. على أن البلغار كانت لحقت بهم خسائر عظيمة ولما وصلوا أمام «شطلجة» كان القتال قد برح بهم، فلما هاجموا الأتراك في شطلجة لم يقدروا عليهم. وكان هؤلاء قد تنبهوا للخطر المحدق بهم وتأملوا في فظاعة دخول البلغار إلى الأستانة، وأفاقوا بعض الشيء من عماياتهم الحزبية التي كانت إلى ذلك الوقت هي شغلهم الشاغل، وأرسلت الحكومة عددا من الوعاظ إلى شطلجة يثيرون الحمية الدينية في رؤوس العساكر، وهذا خلاف ما كانوا عولوا عليه من قبل. فإنه لما بدأت الدول البلقانية الأربع بالقتال أعلنت في مناشيرها الرسمية أنها في حربها هذه إنما تباشر حبا صليبية ضد الهلال، وصارت من أول الحرب على هذه الخطة، ولكن الدولة العثمانية تجنبت في مناشيرها مقابلة البلقانيين بالمثل، وتحاشت في هذه الحرب كل صبغة دينية. وبقيت كذلك إلى أن دارت عليها الدائرة فأرسلت إلى الجيش المرابط في شطلجة الوعاظ وخطباء الجوامع يستفزون حمية الجنود باسم الإسلام الذي أصبح على شفا جرف هاو، وكان الجنود من أنفسهم أدركوا أنه لم يبق أمام البلقانيين ليقضوا على الدولة سوى عقبة شطلجة، فاستجدوا عزائمهم ونظرا لضيق خط الدفاع - لأن شطلجة أشبه ببرزخ واقع بين البحر الأسود من الشرق، وبحر مرمرة من الغرب - تمكن الجيش العثماني من الثبات فيه برغم هجوم البلغار الشديد، بل عندما هجم هؤلاء دحرهم الأتراك وألحقوا بهم خسائر فادحة. وحاول البلغار مهاجمات أخرى فانكسروا فيها.

وكان قد وصل من اليمن الجنرال أحمد عزت باشا وهو من أمهر القواد العثمانيين وأوقرهم علما، وأوسعهم بصيرة، فذهب وشاهد حالة الجيش المعنوية والمادية في شطلجة، وحادثته بعد رجوعه منها هل هناك أمل في إمكان المقاومة بعد هذا الذعر الذي حل بالجيش؟ - وكان عنده عبد الهادي باشا الفاروقي وهو من القواد المعروفين - فقال لي: إن الجيش يقدر على المقاومة، نعم لا يعرف كل شيء يمكن أن يجد في أثناء القتال. ولكن الحالة الحاضرة التي رأيتها في شطلجة تؤذن بالتأكيد أن البلغار لا يقدرون أن يخرقوا هذا الخط، وأن يدخلوا إلى الأستانة، وكان كامل باشا قد باشر المساعي في طلب الصلح، ولا شك أنه طلب الصلح راضيا بشروط البلقانيين الثقيلة، فجاء الجنرال محمود مختار باشا إلى الأستانة ونهى الدولة عن هذا التهور في طلب الصلح، وأكد لها بأن الأعداء لم يقدروا أن يخرقوا خطوط شطلجة.

Bog aan la aqoon