167

Taariikhdii Ibn Khaldun

تاريخ ابن خلدون

Noocyada

ولم يكن هذا الادعاء صحيحا بل حقيقة الحال أنه سواء اصطلحت الإدارة العثمانية أم لم تصطلح فالبلغار إنما يجتهدون في ضم البلاد المأهولة بالبلغار إلى مملكتهم، واليونان إنما يسعون في ضم البلاد التي أكثرها منهم إلى مملكتهم، ولن يرضو بالبقاء تحت حكم الأتراك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولكن شبان الأتراك منهم من آمن بأقوال العصائب اليونانية والبلغارية.

ومنهم من لم يكن يؤمن بها لكنه كان يجد أن طريق النجاة لن تكون إلا بإعادة الدستور، وجعل الحكم في السلطنة للشورى كما هو في سائر البلاد.

وبلغ السلطان سريان هذه الحركة إلى الجيش المرابط في الرومللي، فراعه الأمر وأرسل لجنة تحت رئاسة القائد إسماعيل ماهر باشا لأجل الفحص عن هذه الحركة فرجعت هذه اللجنة وقررت للسلطان أن أكثر الضباط دخلوا في جمعية الاتحاد والترقي، وأن الخطب عظيم، وأن الخرق اتسع على الراقع، وكان حسين حلمي باشا مفتشا عاما لولايات الرومللي، فكتب هو أيضا إلى السلطان يعظم من شأن حركة الجيش، ويشير على السلطان بإعلان الدستور. وفي أثناء ذلك ذهب أنور بك وعصى بشرذمة من الجند في جوار سلانيك، كما أن نيازي بك استولى على مدينة منستر وكاد يعلن فيها الدستور، ولما بلغ جمعية الاتحاد والترقي ما قام به أنور ونيازي منا لعصيان اشتدت عزيمتهم، واجتمعوا حول منزل حسين حلمي باشا وطلبوا إعلان الدستور، وأصبحت سلانيك في أيديهم. ولما وصل الخبر إلى السلطان استشار الصدر الأعظم وكان الصدر يومئذ فريد باشا الأرناؤوطي، فأشار إليه بإعلان الدستور، وذلك تسكينا للفتنة، وكذلك جمال الدين أفندي شيخ الإسلام أبدى له ضرورة هذا الإعلان، وكان أحمد عزت باشا الدمشقي مستشارا للسلطان - كما لا يخفى - وهو المطلع على ماجريات هذا الخطب، قد عارض في إعلان الدستور بل قوته، ولكن الوزراء خالفوه، وهو نفسه الذي قال لكاتب هذه السطور عند ما اجتمعت به بعد الحرب العامة هنا في جنيف: بأن الذي أثر في السلطان بالدرجة الأولى حتى أعلن الدستور هو جمال الدين أفندي شيخ الإسلام. أما كوجك سعيد باشا. ففي أول الأمر نصح للسلطان بالثبات، وبقمع هذه الحركة بالقوة، إلا أنه بعد ذلك جاءت الأخبار بأن الفيلق الثاني الذي مركزه أدرنة انضم إلى جمعية الاتحاد والترقي، فوقع الرعب في قلوب الوزراء جميعا، وعادوا فأشاروا على السلطان بإعلان الدستور اتقاء لشر أعظم!! والحقيقة أن القوة التي في يد جمعية الاتحاد والترقي كانت ضئيلة، وكان الجيش أكثره طائعا للسلطان، ولكن قوة الجمعية كانت معنوية، والأمة - حتى في نفس قصر يلدز - أصبحت تعتقد أن لا نجاة للدولة إلا بإعلان الدستور، وعقد مجل الأمة.

والخلاصة أن السلطان عبد الحميد أعلن القانون الأساسي، وأمر بانتخاب المبعوثين، وتعيين كوجك سعيد باشا رئيسا للوزارة الجديدة. فأراد سعيد باشا إعطاء السلطان بعض حقوق في تعيين الوزراء خلافا للقانون الأساسي، فوقع بسبب ذلك خلف بين الوزراء أدى إلى استعفاء الوزارة، فانتدب السلطان للصدارة كامل باشا وتألفت وزارة جديدة فيها رجال أمائل مثل رجب باشا الأرناؤوطي ناظر الحربية وحسن فهمي باشا ناظر العدلية، وغيرهما. ولكن وزارة كامل باشا هذه شاهت حوادث ذات بال، مثل إعلان بلغاريا استقلالها التام، ومثل أن دولة النمسا أعلنت استلحاق ولايتي البوسنة والهرسك، ومثل أن الأروام أعلنوا إلحاق جزيرة كريت باليونان، وكان إعلان البلغار لاستقلالهم بموجب كتاب من أميرهم فرديناند إلى السلطان عبد الحميد في 15 أكتوبر سنة 1908 فأرسلت الدولة جوابا للحكومة البلغارية بأنها لا تستطيع الاعتراف بعمل مخالف لمعاهدة برلين، وكتبت إلى الدول تدعوهن إلى عقد مؤتمر لأجل النظر في ما أقدمت عليه بلغاريا من خرق هذه المعاهدة وكذلك احتجت الدولة على استلحاق النمسا والمجر لبوسنة والهرسك برغم كون النمسا والمجر اجتهدتا في استعطاف الدولة العثمانية، وعرضتا عليها تعويضات مالية وردت لها (سنجق نوفيبازار) من أصل بوسنة.

وفي أثناء ذلك وقع الخلاف بين جمعية الاتحاد والترقي وبين وزارة كامل باشا على مسائل داخلية لأن الجمعية كانت هي سبب إعلان الحرية، فكانت تريد بطبيعة الحال أن تسيطر على الحكومة، ولم يكن هذا الأمر ليحصل بدون اصطدام آراء مفض إلى النزاع، وكانت الأمة مشغولة بانتخاب المبعوثين، ولم تكن الآراء متفقة في قضايا الانتخابات مما يحصل في كل مملكة، فانتهى الأمر بسقوط كامل باشا وكان مجلس الأمة قد انعقد وحضر السلطان عبد الحميد افتتاحه، وأقسم يمين الأمانة للدستور، ولكن لم يكد المجلس ينعقد حتى وقع الشقاق بين المبعوثين، فمنهم مبعوثوا جمعية الاتحاد الترقي ومبدؤهم كان المركزية التامة، أي حصر كل الإدارة في مركز الدولة، وبناء الإصلاحات كلها على هذا الأساس، ومن البديهي أن مبدأ كهذا سيعطي السيادة للعنصر التركي الذي له المقام الأول في السلطنة، فلهذا كان العرب والأرناؤوط والأروام والأرمن ضد هذا المبدأ، لأنه يجحف بحقوقهم، فتألف من هؤلاء حزب تسمى بحزب «الأحرار» انضم إليهم أيضا كثير من الأتراك المناوئين لجمعية الاتحاد والترقي، ففي مسالة كامل باشا وقع الخلاف بين الحزبين، وتغلب الاتحاديون على خصومهم، وهكذا سقط كامل باشا وجاء مكانه حسين حلمي باشا ففي مدة هذا الصدر تسوت بين تركيا والنمسا قضية بوسنة والهرسك، وذلك بدون عقد مؤتمر دولي. لأن الأتراك كانوا يخشون من عقد المؤتمر الدولي فتح أبواب جديدة عليهم فاسترجعت الدولة سنجق نوفييازار، واستأدت مليونين ونصف مليون جنيه بدلا عن الأراضي العائدة في بوسنة للدولة خاصة، وتقرر بقاء التشكيلات الدينية الإسلامية في البوسنة والهرسك مربوطة بالدولة العثمانية، كما كانت في السابق وعقدت الدولة مع النمسا معاهدة تجارية، ثم رجعت إلى مسألة البلغار فبعد أخذ ورد طويلين وحل مشكلات مالية يطول شرحها انتهى الخلاف وانعقدت المعاهدة في 19 إبريل سنة 1909 وفي هذه المعاهدة كل ما يضمن حقوق المسلمين وأوقافهم ومؤسساتهم الدينية في مملكة البلغار، فاستراح بال الدولة من جهة هاتين المشكلتين قضية استقلال البلغار التام، وقضية استلحقاق بوسنة والهرسك بالنمسا.

ولكن ثار تنور الخصام في وسط السلطنة، وتعددت الأحزاب، وبسبب إعلان الحرية أظهر كل ما في نفسه، وبدلا من أن يكون هذا القانون الأساسي سببا للانضمام وللسير على قاعدة (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) وليس امتياز فيها لفريق على فريق، كانت عاقبة هذا النظام الجديد أن كل أمة من الأمم الكثيرة التي تتألف منها السلطنة العثمانية أخذت تحاول الانفصال عن السلطنة نفسها بالطرق الممكنة وغير الممكنة، وجاءت هذه الحالة عذرا للسلطان عبد الحميد الذي كان يدعى أنه إنما أخر إعلان الدستور وجمع الأمة خوفا من تفكك أجزاء السلطنة وفرارا من صدع الوحدة العثمانية لأنه في ظل الحرية لا يمكن منع النزعات القومية التي هي كامنة في صدور هذه الأمم المختلفة التي لا يجمع بينها سوى رهبة الدولة.

ولكن جمعية الاتحاد والترقي مع حسن نية رجالها كان ينقصها كثير من الخبرة وكان أكثر زعمائها شبانا لم يتمرسوا بالأمور، ولم تنجزهم الحادثات، وقد جاء فوزهم بالقبض على ناصية السلطنة غير منتظر - حتى من أنفسهم - فسكروا بخمرة العز واستخفوا بمن سواهم، وظنوا أنهم هم قادرون على كل شيء، والحال أنهم كانوا يواجهون صعابا، ويقابلون عقابا، لا قبل لهم بها، فكانت أمامهم - وهي للطامة الكبرى - دسائس الدول الأوروبية التي كال واحدة منهن كانت تحرك أهالي البلاد التي تطمح إليها من أجزاء السلطنة، وكان هذا مرضا مزمنا، فلا الأجانب كانوا راجعين عن أطماعهم هذه، ولا الأهالي الذين تعودوا رؤية نفوذ هذه الدول في بلادهم كانوا عادلين عن الانقياد إلى وساوسهم، ولأجل وضع سد فيوجه الأجانب كان ينبغي أن تكون الدولة أقوى وأرقى وأسعد حالا، وأغزر مالا من جميع الدول العظام. ولم تكن هذه الشروط حاصلة في الدولة العثمانية كما لا يخفى. ثم إن جميع الأمم التي كانت تتألف منها هذه السلطنة كانت أهدافها مختلفة، فالأروام وهم جانب كبير في المملكة لا ينسون ملكهم القديم، وفي كل حركاتهم وسكناتهم كان هدفهم الوحيد استئناف الاستيلاء على القسطنطينية وطرد الترك منها إلى آسيا، والأرمن كان هدفهم الوحيد استئناف ملكهم القديم في نفس الأناضول، والبلغار يريدون ضم مكدونية إلى المملكة البلغارية الجديدة، وهذا من جهة المسيحيين.

فأما من جهة المسلمين فإن الجامعة الوحيدة التي كانت تجمع بين الترك والعرب والكرد والأرناؤوط والجركس هي الجامعة الدينية، ولولاها لكانت هذه السلطنة تفككت منذ قرون، ولكن سوء الإدارة في الداخل من جهة، ودسائس الأجانب من الخارج من جهة أخرى، حملا الكثيرين من العرب والأرناؤوط بنوع خاص على النزوع إلى الانفصال عن الدولة برغم الجامعة الدينية، وقد بدأ ذلك عند الأرناؤوط قبل العرب، فحاولت الدولة تأديب الثائرين منهم فاستلزم ذلك تجريد جحافل ووقعت معارك دموية، فازداد الأرناؤوط من الدولة نفورا. وأما العرب فكانت عندهم غيرة من الترك لأنهم كانوا أكثر من هؤلاء عددا، ولم تكن لهم الامتيازات التي للترك، وكان الترك يزعمون أن العرب غير قائمين بما يجب عليهم تجاه السلطنة حتى يتمتعوا بالمساواة التامة مع الأتراك، فمن البلاد العربية جانب كبير لا يقوم بالخدمة العسكرية الإجبارية، بل يكلف الدولة سوق عساكر لإدخال أهله في الطاعة، وهذا النزاع بين العرب والترك لم يكن ينتهي بل كان يزداد بضعف الدولة وقد كان يظهر في مواقع كثيرة. ولكن كان المانع الوحيد من انفجار بركان الشر بين الفريقين هو الخوف على بيضة الإسلام لا غير، إلا أن الإنجليز تمكنوا قبل الحرب العامة من استجلاب كثير من ناشئة العرب، منهم من استجلبوهم بالمنافع الخاصة.

ومنهم من استجلبوه بطريقة الإقناع، وأوهموا العرب أنهم إنما يريدون ليجددوا دولة عربية كدولة بني العباس، أو دولة بني أمية مثلا، ويساعدوا العرب على تجديد مجدهم القديم، وعلى عمارة بلادهم التي لم يحسن الترك إدارتها، ولا عمارتها. فصار بين العرب حزب غير قليل ينزعون إلى الانفصال عن الدولة قلبا وقالبا متوقعين لذلك أول فرصة. ولا يمكن أن يقال إن هذا كان رأي الجمهرة من الأمة العربية ، بل في الحقيقة كان عقلاء العرب يفقهون أنه إذا وقع الانفصال بين العرب والترك تسقط بلاد العرب تحت حكم الإفرنج، فلذلك كانوا يختارون البقاء تحت حكم الدولة العثمانية خوفا من حكم الأجانب، واختيارا لأهون الشرين.

نعم لو كانوا على يقين بأن الدول الأوروبية تحترم استقلال البلاد العربية ولا تبسط أيديها إليها بالغصب والتقسيم، لكانوا يرجحون بدون شك انفصال عن الترك، والاستقلال بدولة لأنفسهم. ولكن عقلاء العرب كانوا لا يجهلون مطامع الدول الأجنبية، في بلادهم ولم يكن يخفى عنهم تصميم أوروبا على تقسيمها، وأنه لا عهد للدول المسيحية بإزاء المسلمين مهما عاهدت ولم يكن يشذ من العرب عن هذه العقيدة سوى بعض من لا تجربة لهم، أو من لا تهمه الجامعة الإسلامية في كثير ولا قليل.

Bog aan la aqoon