فإننا لا نجد لزوما للتطويل في شأنها، ولا للإسهاب في تاريخ سلطنة عبد الحميد، لأن حوادث أيامه معروفة مشهورة وقد كتب عنها بكل اللغات. فالحرب الروسية التركية جاءت وبالا على الدولة إذ أن الروسية في القرن الأخير قد نمت نموا زائدا قصار عدد سكانها يفوق عدد سكان السلطنة العثمانية أربع مرات بالأقل، وكانت البلاد البلقانية من سرب وبلغار وفلاخيين وأروام يدا واحدة مع الروسيا، ولم تكن هذه الأسباب وحدها كافية للفشل الذي حل بالجيش العثماني، بل حصل خطأ كثير في التدبير العسكري، وكانت لوازم الجيش ناقصة كما هو شأن الدولة في حروبها في العهد الأخير، وتدخل السلطان كثيرا في أمور الحرب بدون معرفة. وخلاصة القول أن الروس عبروا نهر الطونة وتقدموا ظافرين وصار الجيش العثماني بقيادة السردار عبد الكريم باشا يرجع إلى الوراء وكادت الحرب تنتهي بفشل تام للعثمانيين، وإذا بعثمان باشا قاهر السرب جاء ودخل في قلعة بلافنة واعتصم بها، فجمع الروس جيوشهم وصمدوا إليه فكسرهم كسرة شنيعة فأعادوا الكرة عليه أولا وثانيا وفي كل مرة كان يهزمهم، وفي إحدى المرار فقدوا خمسة عشر ألف عسكري، ورجعت الحرب تبشر بحسن مآل العثمانيين، ولكن عثمان باشا لم يبق عنده وهو محصور من كل الجهات ذخائر تساعده على الثبات، وجاء قيصر الروسيا إسكندر الثاني بنفسه واستصرخ إمارة رومانيا - أي الفلاخ - ومولدافيا وذلك باسم النصرانية قائلا: إنها كلمة تحت الخطر، فأنجده الرومانيون بسبعين ألف عسكري انضافت هذه إلى الجيش الروسي المحاصر لعثمان باشا في بلافته. ومع هذا فلولا نفاد الذخيرة لم تكن تلك الجيوش كلها لتتغلب على عثمان باشا، وفي آخر وقعة أراد عثمان باشا أن يخرق جيوش الروس برغم كثافتها وينفذ إلى الخارج، فوقع جريحا فاضطر إلى النكوص نحو بلافنه. وعرض على إمبراطوا الروسيا الاستسلام، ولما دخل عليه وأراد أن يسلمه سيفه كما هي عادة كل المستسلمين قال له الإمبراطور: إن قائدا مثلك يحق له أن يبقى سيفه معه، وبالغ القيصر في إكرمه.
وبعد تسليم بلافنه زخفت جيوش الروس إلى الأستانة واحتلت أدرنة، ووصلت إلى سان استفانوا؛ وكان العثمانيون قد أعدوا جيشا للدفاع عن الأستانة إلا أنهم كانوا يخشون أن تدور عليهم الدائرة بكثرة جيوش الروس، فأما من جهة القوقاس فكان القائد الكبير أحمد مختار باشا الغازي قد انتصر على الروس في وقعة «كدكلر» وتقدم إلى الأمام، ولكن الروس عادوا فتغبلوا عليه بتفوقهم في العدد، وكان درويش باشا قائد الجيش العثماني المرابط في باطوم تحت الحصار، فهاجمه الروس مرارا فدحر جميع مهاجماتهم، وانتهت الحرب وباطوم في يده، هذا وعند ما وصل الغراندوق تقولا إلى سان استفا وطلب السلطان عبد الحميد الصلح، فاشترطت الروسيا شروطا ثقيلة جدا التزمت الدولة العثمانية أن تقبلها خوفا على الأستانة من السقوط، إلا أن الإنجليز وجدوا الصلح على هذه الشروط عبارة عن استيلاء الروسيا القريب على سلطنة آل عثمان ووصولهم إلى البحر المتوسط، فاعترضوا الروسيا ودخل أسطولهم إلى الأستانة وأجبروا الروس على تمزيق المعاهدة، وفاوضوا الدول السبع في عقد معاهدة ثانية بدلا عن معاهدة «سان استفانو». فتقرر عقد مؤتمر برلين المشهور، واتفقت الدول هناك على أن تكون إمارة رومانيا مملكة مستقلة تماما عن السلطنة العثمانية، وأن تستقل تماما أيضا إمارة السرب ويسمى أميرها «ميلان أونوفتش» ملكا عليها، وأن يستقل الجبل الأسود ويعطي قسما من بلاد الأرناؤوط، وأن تضاف تساليا وأبيروس إلى اليونان، وأن تكون بلاد البلغار إمارة تحت سيادة السلطان ويليها ولاية ممتازة.
ومن جهة آسيا تضاف قارص وأردهان وباطوم وتوابعها إلى الروسيا؛ وأن تدفع الدولة العثمانية غرامة حربية وتعويضات لتجار الروس الذين لحقتهم خسائر بسبب تدمير الأسطول العثماني لسواحل الروسيا، وهذا هو مجمل معاهدة برلين، وبعد ذلك اتفقت الدولة على إنجلترا على أن تتخلى لها عن التخلي تعهدت إنجلترا للدولة بأنه إن تجاوزت الروسيا على حدود تركيا من جهة آسيا تكون إنجلترا مساعدة لها ثم تقرر بموجب «معاهدة برلين» هذه أن تحتل النمسا ولايتي بوسنة والهرسك احتالا مؤقتا، ولما دخلت الجيوش النمساوية هاتين الولايتين ثار في وجهها مسلمو تلك البلاد وبقيت المعارك بين الفريقين مدة أربعة أشهر، ولم يساعدهم الأهالي السربيون في شيء بل انحصرت المقاومة في المسلمين. وكذلك ثار الأرناؤوط في وجه الجبل الأسود وأبوا أن يلتحق من بلادهم شيء بحكومة الجبل المذكور. وكان الشركس والطاغنسطانيون ثروا على الروس في أثناء الحرب بين الدولة والروسيا، فلما انكسرت الدولة هاجر منهم مئات آلوف إلى الأناضول. وبعد مضي عدة سنوات على معاهدة برلين شن إسكندر أمير البلغار الغارة على ولاية الرومللي الشرقية، وألحقها بامارة البلغار، فصارت الولايتان واحدا، وفكر السلطان عبد الحميد في سوق جيش لإرجاع الشيء إلى ما كان عليه، إلا أن كامل باشا أشار بعدم الحروب، وبإقرار هذه المسألة، فأعجب رأيه السلطان وجعله صدرا أعظم.
ولما رأت فرنسا ما حل بالدولة العثمانية من النصف أرادت أن تستغل ضعفها بالاستيلاء على تونس، فلم يصعب عليها أن توجد لذلك سببا، وشنت الغارة على توس، وأجبرت باي تونس محمد الصادق على إمضاء معاهدة تضمن لتونس استقلالا الداخلي تحت حماية فرنسا، وكان ذلك سنة 1879 واحتجت الدولة على ذلك ولكنها لم تقدر على محاربة فرنسا من أجل تونس، وزعمت فرنسا بأنه جاء وقت على تونس لم يكن فيه للباب العالي عليها إلا بسيادة إسمية، وثار بعض الأهالي والجند التونسي بقيادة بن علي خليفة ولكن لعدم تكافؤ القوتين انتهت الثورة بتغلب الفرنسيس كما حصل في الجزائر من قبل ولو لم تحتل فرنسا بلدة الجزائر لم تكن لتستولى على المغرب الأوسط كله العملات الثلاث؛ الجزائر، ووهران، وقسنطين، ثم إنه بقيت فرنسا خمسين سنة تقاتل أهل الجزائر حتى أدخلتهم في الطاعة. فلما انتهت منهم بدأت تفكر في الاستيلاء على تونس، ولما انهت من خطب تونس بدأت تفكر في الاستيلاء على المغرب الأقصى، ولما رأت إيطاليا أن فرنسا استأثرت بهذه الممالك الثلاث من دونها اعترضت على فرنسا من جهة، واعترضت على النكترا من جهة أخرى وقالت لهما: إنكما تقاسمتما قارة أفريقيا، فمصر والسودان لإنجلترا، وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وأواسط أفريقيا لفرنسا، ولم تدعا لإيطاليا شيئا. فانفقت هذه الدول الثالث على أن تكون لإيطاليا ولاية طرابلس مع برقة ، ومن هنا جاءت حرب طرابلس، وهكذا الاستعمار سلسلة أخذ بعضها برقاب بعض . ومن تساهل في أمر ملكه في البداية خوفا من شر أعظم فإنه لا يلبث أن يقع في أعظم من الشر الذي تفاداه. وكذلك احتلال الإنجليز لمصر كان نتيجة وقوع تركيا في الضعف الذي كانت الروسيا هي السبب فيه.
وإذا نظرنا إلى حروب الروسيا نجد أنها كانت تقدم رجالها وأموالها، وتنفق النفائس والأنفس في سبيل غيرها، فاستقلال اليونان، والجبل الأسود، والسرب والبلغار، والرومانيين واحتلال النمسا للبوسنة والهرسك، واستيلاء فرنسا على تونس واحتلال الإنجليز لوادي النيل والسودان، واحتلال بريطانيا للاريتري ثم لطرابلس وبسط إنجلترا حمايتها على لحج وحضرموت، وظفار، وسلطنة عمان، وجزيرة البحرين، ومدينة الكويت، ونزولها في جزيرة قبرص، كل ذلك كان من نتائج الضعف الذي أوقعته الروسيا بتركيا، فالروسيا كانت تطبخ والآخرين كانوا يأكلون.
وفي زمن السلطان عبد الحميد وقعت الحادثة الجلى وهي احتلال الإنجليز لمصر وبسببها نفر السلطان من إنجلترا نفورا شديدا، وصار الإنجليز يعملون بكل الوسائل لهدم بنيان السلطان العثمانية. وقد تقدم لنا في هذا التاريخ أن عيون الإنجليز كانت طامحة إلى مصر منذ قرون، وأنها على آثر خروج الفرنسيس من مصر أرادوا أن يستأثروا هم بها، ولكن محمد علي لم يكن كالمماليك، فأجبر الإنجليز على الخروج من مصر وبقيت إنجلترا تترصد الفرصة لاحتلال وادي النيل في أول فرصة، لاسيما بعد فتح برزخ السويس الذي جعل طريق الهند على مصر.
وكأن إنجلترا استأجرت قبرص من الدول العثمانية لتكون لها قاعدة بحرية في وجه مصر، وقد حدث أن الجيش المصري كان فيه عنصران؛ أحدهما عربي مصري والآخر تركي وشركسي، فحصل خلاف بين العنصرين لم يعرف العقلاء أن يتداركوه ولا حسبوا حسابا للعواقب، فنشأ عن هذا الخلاف حزب وطني مصري ترأسه الميرالاي «أحمد عرابي» وصار هذا الحزب يطالب بحقوق المصريين الاقحاح ووقف موقفا مناوثا للخديوي توفيق باشا. فشعر الإنجليز بأن هناك حركة يمكنهم أن يستفيدوا منها، فأخذوا يتدخلون فيها بحجة أن لهم مصالح مالية في مصر يخشون عليها، وكانت أمنيتهم القديمة وهي الاستيلاء على الديار المصرية. فأعملوا في هذا الموضوع جميع الدسائس التي اشتهروا بها، ولم تكن شهرتهم فيها بدون أساس. فأخذ الحزب الوطني ينمو تحت رعاية عرابي ومحمود سامي وغيرهما من الزعماء، وانقلب عن أصله فبدلا من أن يكون منحصرا في دائرة ضيقة مناوئا للآتراك والشركسي، أصبح حزبا هدفه الأسمى كسر نفوذ الأوروبيين في مصر، لأن نفوذهم كان بلغ في زمن إسماعيل باشا مبلغا لا يكاد يتصوره العقل، فإن إسماعيل وضع نصب عينه إدخال مصر في المدنية العصرية الأوروبية، وظن أن من لوازم هذا المبدأ ترغيب الأوروبيين في السكنى بمصر وتمييزهم على الأهالي في كل شيء، فانتهى الأمر بأن أصبح الأهالي في حكم العبيد للأجانب.
فلما تألف هذا الحزب الوطني نظر إلى حالة البلاد فوجدها أصبحت لا تطلق من جهة النفوذ الأوروبي، فترك مناوأة الترك والشركس واتحد معهم على مناوأة الإفرنج، وأخذ الإنجليز يشعلون النار حتى يحدثوا ثورة من المصريين على الأوروبيين وكان السلطان عبد الحميد قد ارتكب هو وأعوانه خطأ كبيرا ساعد الإنجليز في الوصول إلى مرامهم، وذلك أنه أخذ يقوي الحركة العرابية بطريق غير مباشر على أمل إسقاط الخديوي توفيق وعائلة محمد علي كلها، وإعادة مصر ولاية عثمانية كسائر الولايات، وكان هذا رأيا سقيما جدا. إذ لا يعقل أن الدولة بمكانها من الضعف وكثرة المشكلات والخطوب تفتح على نفسها أبوابا كهذه يتعذر عليها سدها فيما بعد وتجعل العائلة الخديوية ضد الدولة أحوج ما كان الفريقين إلى الوئام لما هناك من الخطر الأجنبي على الاثنين، ثم إنه لما شعر الأجانب بأن الحركة العرابية منظور إليها بعين الرضا في الأستانة، طلبوا من السلطان أن يصدر فرمانا بعصيان عرابي باشا ولم يسعه إلا إجابة طلبهم فبعد أن كانت سياسة الأستانة مشجعة للعرابيين على العصيان رجعت تحت الضغط الأجنبي إلى تقوية الخديوي وكسر نفوذ العرابيين بحيث انفض عنهم كثيرون بحجة أن السلطان الخليفة أعلن عصيانه.
ومع هذا فبقيت الثورة تمتد وتشتد حتى جرت مذبحة الإسكندرية، وذهب فيها كثير من الأجانب ، وانتشرت الفوضى في البلاد، وهذا الذي كانت إنجلترا تتمناه حتى تدخل من هذا الباب وهو حماية أرواح الأجانب، وبالفعل دخلت منه وجاء الأسطول الإنجليزي فضرب الإسكندرية ودمر قلاعها بالقنابر، ثم بعد تدميرها نزلت العساكر الإنجليزية إلى البلدة، ثم وقعت الحرب بين الإنجليز والعرابيين وكان الإنجليز في ظاهر الحال يحاربون باسم الخديوي والسلطة الشرعية.
وانقسم الناس في مصر إلى قسمين، منهم من استمسك بالخديوي وقاوم العرابيين بحجة أنهم خارجون عن السلطة الشرعية.
Bog aan la aqoon