وأما قضية كون الدروز هم الذين بدأوا بقتال النصاري وأنهم هم الذين اعتدوا عليهم فهي كذب محض قد تحققه لجنة التحقيق الدولية التي وقفت على جميع الحقائق ولذلك أبي الجانب الأعظم من الدول أن يعد الدروز معتدين، وإن كانوا حكموا على مئات منهم بالنفي، فلم يكن ذلك مبنيا على اعتدائهم، ولكن كان ذلك تسكينا لخواطر النصارى الذين قتل منهم عدة آلاف بعد تغلب الدروز عليهم. ولقد حكمت الدولة بالقتل على المشير أحمد باشا قائد الفيلق العثماني في دمشق وعلى مئات من المسلمين ممن كانوا المسئولين عن الحادثة التي وقعت على نصارى الحاضرة السورية ، ولكنها بالانفاق مع الدول عدا فرنسا لم تقتل أحدا من الدروز لما ظهر من أن الاعتداء لم يقع منهم، ولما ثبت بالوثائق والمناشير التي صدرت عن أساقفة النصارى من أن الرؤساء الروحيين كانوا هم المحرضين على الحرب، وغير معقول أن الدول المسيحية مع شدة تعصبها في النصرانية مثل إنجلترا، والنمسا، وبروسيا، والروسيا؛ تساعد الدروز بقدر الإمكان وتأتي مجاراة فرنسا على قتل جانب منهم لو تحقق عندها أن الدروز كانوا هم المعتدين! ولا تبال أصلا بأقوال المؤلفين الفرنسيين الذين ينكرون هذه الحقيقة ويروون روايات إذ قرأها الإنسان يضحك أو يحزن لشدة بعدها عن الواقع، ولغياب الوجدان فيها تماما، ودعوى الفرنسيس أن الإنجليز لأجل أن يتوكأوا على الدروز ويتخذوا لأنفسهم أنصارا في سورية قد اجتهدوا في إنقاذهم على آثر تلك الحوادث المسماة بحوادث «الستين» لوقوعها سنة 1860 - هي دعوى لا ترتكز على أدنى أساس، لأن الإنجليز هم أشد تحمسا للنصرانية من أن يرضوا بذبح الدروز للنصارى وبأن يتركوا بدون قصاص، ولما وصلت إلى لندرة أخبار هذه الحوادث مقلوبة عن وجهها اشتد غضب الإنجليز، وطلبوا في أول الأمر من حكومتهم الاقتصاص من الدروز بكل صراحة، إلا أنه كان بعض الإنجليز المنصفين المقيمين بورية لاسيما المستر «سكوت» صاحب معمل الحرير في قرية شملان من لبنان قد كتبوا إلى إنجلترا بحقيقة ما جرى، وقالوا إن الدروز إنما كانوا مدافعين لا مهاجمين، فهدأ عند ذلك الرأي العام الإنجليزي.
ولما تألفت اللجنة الدولية في بيروت ثبت أيضا أن الدروز لم يكونوا هم البادئين بالقتال. وثبت أن الأمير محمد أرسلان أمير لبنان الجنوبي راجع الوالي خورشيد باشا لأجل إرسال جيش نظامي يكفي لمنع الحوادث، واستمد أيضا قناصل الدول كلها حتى يسعوا في هذا الأمر لدى الوالي، وهذا كان سبب خلاص الأمير محمد من القتل والنفي ومن كل مسئولية، ولا ينكر أن الإنجليز كانوا قد بدأوا بتأسيس علاقة مع آل جنبلاط وحزبهم من الدروز، وربما كانوا لأجل حفظ التوازن. غير راغبين في استئصال هذه الطائفة القليلة العدد من جبل لبنان ، ولكنهم لو كانوا قد تحققوا كون الدروز هم المعتدين لكانوا وافقوا بالأقل على إجراء القصاص بحق عدة مئات منهم كما جرى في دمشق بحق المشير أحمد باشا ومئات من المسلمين، وأيضا فإن الروسيا والنمسا وبروسيا لم يكن عندهن أقل سبب سياسي يقتضي العفو عن الدروز، والاكتفاء بنفي مئتين أو ثلاث مئة رجل منهم إلى الخارج، مع أن النصارى قدموا جدولا إلى اللجنة الدولية يلتمسون فيها قتل سبعة آلاف من الدروز.
والخلاصة لما ثبت أن الدروز لم يكونوا إلا مدافعين عن حوزتهم ترفقت بهم الدولة العثمانية وجميع الدول عدا فرنسا، وإنما نفى من نفى منهم نكالا وعبرة من أجل المذابح التي لا تنكر مما قام به جهلاؤهم بعد الغلبة، ولقد قلب مؤرخوا هذه الوقائع من الفرنسيس حقائقها رأسا على عقب، وجعلوا الابتداء والاعتداء من الدروز وليس ذلك بصحيح. ثم إنه قد ثبت أيضا باعتراف عقلاء النصارى أنفسهم أنه لم يوجد واحد من الدروز سطا على عرض امرأة نصرانية، ولا يوجد منهم من قتل ولدا، أو امرأة، أو شيخا عاجزا. وقد اعترف بذلك صاحب كتاب «حسر اللثام عن نكبات الشام» المطبوع بمطبعة المقطم بمصر، وفيه سرد حوادث سنة 1860 وفيه من الطعن بالدولة العثمانية ومن الوقيعة بالمسلمين والدروز ما يزيد على كل وصف، إلا أنه صرح بكون الدروز في جميع هذه الوقائع لم يتلوثوا بالاعتداء على أعراض النساء، ولا قتلوا امرأة، ولا ولدا ولا عازا، وهو يذكر أيضا همم كثيرين من زعماء الدروز الذين انقذوا النصارى ألوفا، كما يذكر أن أعيان المسلمين في الشام مثل محمود افندى الحمزاوي وصالح آغا المهايني، وعمر آغا العابد، وعددا كبيرا من الوجهاء ليس الأمير عبد القادر الجزائري فقط؛ قد حافظوا على النصاري، وآمنوهم من خوف، وآووهم من فقر، مع أن مؤرخي الفرنسيس يحصرون هذه المحافظة في الأمير عبد القادر رحمه الله وحده وهو بدون شك قد حافظ على ألوف المسيحيين، وكان السبب في نجاتهم من الغوغاء الذين اعتدوا عليهم بدون علم الرؤساء، ولكن الأمير عبد القادر لم يكن هو الوحيد الذي قام بذلك الواجب.
ثم إن السلطان عبد المجيد أعلن التنظيمات المسماة «بخط كولخانة» وما له أن حياة الأشخاص وأموالهم وأعراضهم تكون مصونة، وتكون الأموال الأميرية عائدة إلى نظام واحد، وأن تلغي الاحتكارات، وأن تكون الضرائب بحسب الثروة وأن تكون مدة الخدمة العسكرية خمس سنوات، وأن كون المحاكمات علنية وأن تكون المساواة أمام القانون شاملة لكل أصناف الرعية، وأن يكون الناس أحرارا في البيع والشراء، وأن يكون ضبط أملاك المجرمين ممنوعا، بل تعود إلى ورثتهم.
وقد زعم بعض مؤرخي الفرنسيس أن الضرائب وإن أوجب خط كولخانه استيفاءها على نسبة الثروة، فقد كانت تجي بصورة جائزة على المسيحيين. وهذا الكلام أيضا غير صحيح؛ فالضرائب في السلطنة العثمانية كانت على حسب مقدار الأملاك وريعها ولم يكن فيها تمييز طبقة على طبقة مما هو شأن الدول الاستعمارية الأوروبية.
وأسست الدولة جامعة باسم «دار الفنون» وجعلت التعليم ابتدائيا، وإعداديا وعاليا. وقامت بإصلاحات كثيرة؛ وفي سنة 1848 ثارت الفلاخ ومولدافيا، وكادت الفتنة تؤدي إلى الحرب بين الدولتين العثمانية والروسية، ولكن الحرب لم تقع بينهما هذه المرة، وتفادوها بتدابير سلمية.
وفي زمان السلطان عبد المجيد نشبت حرب القريم، وأساسها الخلاف بين الروم واللاتين على كنيسة بيت لحم التي فيها المغارة التي يقال إن المسيح ولد فيها، فاللانين كانوا يدعون حق الولاية على هذه الكنيسة بموجب فرامين بأيديهم، وزعموا أن الأروام بدسائسهم لدى الدولة قد استولوا على حقوق لم تكن لهم من قبل، وأخذوا مفاتيح كنيسة القيامة وبسطها وقناديلها بفرمان من السلطان محمود الأول. وزعم اللاتين أن السلطان سليمان الثاني كان خولهم هذه الحقوق سنة 1690 فرجع الأروام واستردوا ما فقدوه في سنة 1757، ثم إن الروسيا سنة 1808 ساعدت الأروام لدى الباب العالي فاستولوا على جميع الأماكن المقدسة تقريبا، فبقيت فرنسا تحتج على ذلك. وسنة 1851 طلبت فرنسا من الدولة تأليف لجنة مختلطة لأجل النظر في الفرامين التي بأيدي اللاتين والروم، وأدعت الاستيلاء على كنيسة القيامة، وعلى المكان الذي فيه مدافن ملوك الإفرنج، وعلى قبر العذراء، وعلى كنيسة بيت لحم، وغيرها.
فلما بلغ ذلك الروسيا اعترضت على هذا الأمر وقدمت إلى الدولة مذكرة لو قبلها الباب العالي لكان ذلك اعترافا منه بحماية الروسيا لجميع المسيحيين الأرثوذ كسببين فلذلك رفض الباب العالي إجابة طلب الروسيا، فقطعت الروسيا العلاقات مع الدولة وزحفت العساكر الروسية تحت قيادة البرنس «كورتشا كوف» فقطعت نهر الباروت بتسعين ألف ماش وعشرن ألف فارس، وستة آلاف مدفعي، فاحتل هذا الجيش الفلاخ، ومولدافيا، وكانت الحصون العثمانية عند الطونة خرابا تقريبا ولكن كان عند الدولة قائد اسمه «عمر باشا النمساوي» أصله خرواطي كان من عظماء القواد فرمم تلك القلاع وجمع جيشا جرارا ورصد الروس وردهم، أما في آسيا فتقهقر العثمانيون إلى الوراء، وجاء أسطول روسي فأحرق أسطولا عثمانيا في ميناء «سينوب».
وفي ذلك الوقت كانت إنجلترا ترى من مصلحتها توقيف الروسيا على حدها خوفا من استيلاء الروس على الأستانة، وكان نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا منقادا إلى السياسة الإنجليزية، وكانت الأمة الفرنسية الكاثوليكية ترى أن الدولة العثمانية قبلت هذه الحرب مع الروسيا من أجل عدم تسليمها حقوق اللاتين في القدس فلما أحرق الأسطول الروسي السفن العثمانية التي كانت في سينوب دخل الأسطول الإنجليزي والأسطول الفرنسي من الدردنيل إلى الأستانة محافظة عليها من الروسيا فأرسل نيقولا الأول قيصر الروس يحتج على هذه الحركة، ونشر على شعبه منشورا أشبه بإعلان حرب على فرنسا وإنجلترا، فعقدت هاتان الدولتان محالفة هجومية دفاعية مع السلطان عبد المجيد في 12 مارس سنة 1854 وكان تحت قيادة «عمر باشا» - وكان يقال له السردار - مئة وثلاثين ألف نظامي، وخمسون ألف متطوع. وكان الجيش الروسي تحت قيادة البرنس «باسكيفتش» يبلغ مئة وتسعين ألفا، فهاجم الروس سياسترية فدحرهم العثمانيون عنها، فتقهقروا على طول الخط، وأراد عمر باشا أن يجتاز نهر البروت إلا أنه كان الفرنسيس والإنجليز قد عمدوا إلى نقل ميدان الحرب إلى القريم، وقرروا حصار سيباستوبول فانتقل السردار عمر باشا إلى القريم، وهناك جرت الوقائع الكبرى. وثارت بلاد اليونان انتصارا للروسيا وتجاوز الأروام على الحدود العثمانية فانهزموا. واحتل جيش إفرنسي آثينا، وأما في القريم فانتصر الإنجليز والفرنسيس والعثمانيون في وقائع «آلمة» و «بالا كلافة» و«انكرمان» و«ترا كثير» وافتتح عمر باشا «أوباتورية» عنوة. وفتح الحلفاء «برج مالا كوف» بعد معارك شديدة، قيل إن الفرنسيس هناك فقدوا عشرة آلاف مقاتل. ودمرت أساطيل الحلفاء مرافئ الروسيا في البحر الأسود ودخلت أساطيلهم من البلطيك، واستولوا على بومارسوند، وأنضم إلى فرنسا وإنجلترا وتركيا في هذه الحرب مملكة الساردوا، والبيمونت، فأرسلت 15 ألف مقاتل، فلما توالت هذه المصائب على الروسيا طلب القيصر نقولا الصلح، فانعقد مؤتمر في فينا في أول فبراير سنة 1856 وتقررت فيه شروط الهدنة، ثم انعقد مؤتمرالصلح في باريز وكان الجانب الواحد هو فرنسا وإنجلترا وتركيا ومملكة الساردوا، والجانب الآخر الروسيا. وكانت بروسيا والنمسا كفيلتين، وبهذه المعاهدة تقرر استقلال السلطنة العثمانية التام، وعدم تدخل أية دولة في شئونها الداخلية، وذلك بموجب المادة التاسعة كما أنه بموجب المادة العاشرة تقرر عدم مرور السفن الحربية من الدردنيل، وبحسب المادة الحادية عشرة تقررت حرية التجارة والملاحة في البحر الأسود، وكذلك بحسب المادة العشرين تقرر أن الروسيا تتخلى لمولدافيا عن قسم من بسارابيا. ثم جعلت مصاب الطونة تحت إشراف لجنة أوروبية، وبهذه المعاهدة جرى إلغاء حماية الروس على بلاد السرب، والفلاخ، ومولدافيا، ورجعت هذه الإمارات تحت سيادة الباب العالي وحماية أوروبا. وبمقابلة معاهدة باريز هذه جددت الدولة العثمانية مآل خط كولخانة من جهة إعلان المساواة بين أصناف رعاياها، ومن جهة حرية المذاهب وغير ذلك من الإصلاحات.
وفي 13 يوليو سنة 1858 هجم بعض أهالي جدة بالحجاز على قنصل فرنسا ومعاون قنصل إنجلترا فقتلوهما، فجاء أسطول إنجليزي فرنسي فضرب البلدة بالقنابر وفي سنة 1860 جرت الوقائع التي سبقت الإشارة إليها بين الدروز والنصارى في جبل لبنان، وكانت الدولة سكنت الأمور، واستدعت زعماء الفريقين إلى بيروت ووقع الصلح بينهما، إلا أن بعض الجهلاء في دمشق طمعا بالنهب والسلب استفادوا من غفلة الحكومة فانقضوا على حارة النصارى وفجروا الدماء الغزيرة، وارتكبوا الموبقات الكبيرة ظلما وعدوانا، فكانت هذه الحادثة المشئومة سببا في احتلال جيش افرنسي لبيروت ولبنان تحت قيادة الجنرال «بوفور دوبول
Bog aan la aqoon