143

Taariikhdii Ibn Khaldun

تاريخ ابن خلدون

Noocyada

فلما علم العسكر أن السلطان عزل خسرو باشا ثاروا على السلطان وتقاضوه رأس حافظ باشا، وكان المحرك للعسكر على هذا العمل هو خسرو باشا نفسه، ف-أذن السلطان للعساكر في الانصراف من العراق أملا بتسكينهم، فلما وصلوا إلى الأستانة ازدادوا تمردا وهجموا على القصر، ففتح السلطان لهم الأبواب واستدعى اثنتين من الانكشارية واثنين من السباهية، وقال لهم قولا لينا لعلهم يتناهون عن غيهم، فلبثوا مصرين على أخذ رأس حافظ باشا، فبذل حافظ باشا نفسه لأجل راحة مولاه، وخرج إليهم حتى قتلوه طعنا بالخناجر، ولكن لم يسقط رخيصا برغم شيخوخته، ولم يقتل إلا بعد أن قتل منهم عدة، وسكنت ثورة العسكر مؤقتا، ولكن السلطان لم ينس عصيانهم لأمره وكونهم إنما عملوا بدسائس خسرو باشا فأمر بخنقه، فثار العسكر مرة ثانية ونادوا بخلع السلطان مراد، وكان متولي كبر هذه الثورة رجب باشا، فظهر في هذه الحادثة أن السلطان الشاب كان بطلا عشمشما، فإنه أمر حالا بقتل رجب باشا والرمي بجثته إلى العسكر ولم يبال بهم، وطلب السلطان من أحمد آغا قائد السباهية أن يقبض على رءوس الثورة، فماطل في إنقاذ الأمر السلطاني، فأمر السلطان بقتله مع أربعة من رفاقه، وجاء المفتي الأعظم يخوف السلطان من عاقبة استخفافه بغضب العلماء فقتله، فعلمت السلطنة أن على رأسها رجلا غير الرجال الذين عرفتهم إلى ذلك الوقت منذ مدة طويلة ودخلت الناس في الطاعة.

وكان الأمير فخر الدين المعني أمير لبنان ثار بالدروز على الدولة، وعقد معاهدات مع بعض الدول الأوروبية، ولما لم يقدر على مقامه الدولة جاء إلى فلورانسه من إيطاليا، ثم بعد أن أم عدة سنوات في فلورانسة في خبر يطول شرحه، ولا يسعه هذا المختصر زحف إليه الكوجك أحمد باشا بجيش جرار، وبعد وقائع شديدة دارت الدائرة على الأمير فخر الدين، وقتل ابنه الأمير علي - وكانت أم الأمير علي أرسلانية - في واقعة حاصبيا فالتجأ الأمير فخر الدين إلى مغارة في جبل الشوف اسمها شقيف تيرون، ويقال لها اليوم قلعة نيحا، وهي كهف عظيم في بطن جبل أشبه بالحائط لا يمكن الرقي إليه من الأسفل ولا النزول إليه من سطح الجبل ولا العبور إليه من الجانبين! وإنما يدخلون إليه من أحد الجانبين زحفا على البطن واحدا وراء واحد، على صخرة ضيقة مشرفة على الوادي لا يمكن الإنسان أن يمر بها واقفا، وقد دخلت أنا نفسي زحفا على الصورة إلى هذا الكهف الذي كان يلجأ إليه العصاة في كل حين، وكان ممن لجأ إليه الضحاك بن جندل الخارجي في أيام الحروب الصليبية، وهذا الكهف يسع نحوا من خمس مئة مقاتل، وليس فيه ماء نبع ولكن آبار تجري إليها مياه تحت الأرض بأنابيب من عين يقال لها عين الحلقوم، كانت في ذلك الوقت مطمورة، فلما جاء الكوجك أحمد باشا ورأى استحالة الوصول إلى الكهف لأنه لا يؤتى لا من فوق ولا من أسفل ولا من عن أيمانه ولا من عن شمائله سأل عن مشرب أهل الكهف، فقيل له إن الماء يجري تحت الأرض، ولكنه غير معلوم أصله ولا مكان جريه، فأتى القائد المذكور بخيل تركها عدة أيام عطاشا، فلما أفلتها على سطح الجبل وهي عطاش شمت رائحة الماء فصارت تضرب بأرجلها على الأماكن التي كان الماء يجري تحتها، فعلم الكوجك أن الماء هو هناك فأمر بحفر الأرض حيث كانت الخيل تضرب بأرجلها، فوجد أنابيب الماء فلم يقطع الماء لأنه لو قطع الماء والآبار التي في الكهف ملأى لبقي الأمير فخر الدين قادرا على الامتناع مدة طويلة، فذبح الكوجك بقرا في بحري الماء فجرى دما إلى الآبار، وفي أحد تلك الأيام قام الأمير فخر الدين صباحا فقال له جماعته: تعال فانظر الآبار، فنظر فإذا هي دم، فأمر الجند الذين معه بأن يخرجوا ويستسلموا للقائد وفي جوف الليل دلى نفسه هو ومدبر أموره أبو نادر الخازن ومعهما خادم، وذلك من الكهف إلى أسفل، وهو علو خمسين مترا، ومن هناك ذهب إلى كهف آخر يشابه شقيف تيرون، واسمه مغارة جزين، فأرسل الكوجك أحمد باشا جماعة نقبوا الصخور من تحت الكهف الثاني، وما زالوا يحشونها بالبارود ويقطعون منها جانبا بعد جانب حتى أوشكوا أن يصلوا إلى المغارة، فاضطر الأمير فخر الدين أن يستسلم إلى الكوجك أحمد الذي أرسله إلى الأستانة مع أولاده الثلاثة منصور وحيدر وبلك.

فلما وصل الأمير فخر الدين إلى الأستانة قال للسلطان: إنني مظلوم ولم أبن القلاع إلا حماية من الأعداء ولم أحارب إلا من كان عاصيا للدولة، وقد أمنت طريق الحج ومنعت الأعراب عن التعدي، وأديت الأموال الأميرية وأيدت الأحكام الشرعية. فعفا عنه السلطان. إلا أن الأمير ملحم المعني جمع رجالا من حزبه القيسية ونهض لقتال الأمير علي علم الدين، الذي كانت الدولة ولته جبل الشوف، فنهض الأمير علي لقتاله ومعه اليمنية فجرى بينهم قتال دارت فيه الدائرة على اليمنية، فكتب الكوجك أحمد باشا للسلطان بأن هذه المشاغبات كلها هي من دسائس الأمير فخر الدين ، فصدر أمر السلطان بقتله مع أولاده، وذلك 3 مايو 1635 واستحيا السلطان من أولاده الأمير حسينا واستخدم بالحضرة وترقى وعاش زمنا طويلا، وكان عمر الأمير فخر الدين يوم قتل اثنتين وخمسين سنة وكان قصير القامة طويل الباع عالي الهمة، استولى على معظم سورية ما عدا دمشق وحمص وحماة وحلب، وقيل له سلطان البر، وكان عنده جيش دائم 12 ألفا.

هذا ولقد تمكن السلطان مراد الرابع بحزمه وشدة بأسه من قمع الفتن الكثيرة، وهدأت الأحوال في زمانه وزحف لقتال العجم على رأس جيش جرار، وبينما كان زاحفا كان يأتي من الصرامة أعمالا توقع الرعب في قلوب الذين تحدثهم أنفسهم بالانتفاض، وفي طريقه استولى على قلعة أريوان ثم على قلعة تبريز وأحرقها ثم عاد إلى القسطنطينية يستريح من وعثاء السفر، فما كاد يستقر به المقام حتى رجع الإيرانيون فحشدوا واسترجعوا أريوان وكسروا العثمانيين في صحراء ميربان.

فنهض السلطان مراد ثانية وزحف إلى بغداد ولبس ثياب جندي من عامة الجند، ونزل بنفسه يقاتل في الخنادق، وكان معه الصدر الأعظم، فلما حمل العسكر العثماني كان السلطان والصدر الأعظم والوزراء يقاتلون بأنفسهم كسائر العسكر، وأصابت الصدر الأعظم طيار محمد باشا رصاصة برأسه فسقط قتيلا، وأخذ السلطان مراد بغداد عنوة على أثر حمله استمرت ثمانيا وأربعين ساعة، ثم انعقد الصلح بين الدولة والعجم على أن بغداد تعود لآل عثمان وأن أريوان تعود للعجم.

وكان مراد الرابع في شدة بأسه، ومضاء عزمه وعظمة مهابته، أشبه بآل عثمان الأولين ولو طالت حياته لجدد عهد سليمان القانوني، ولكنه بعد أن استولى على بغداد استرسل إلى الشهوات البدنية وأدمن شرب الخمر، فاعتلت صحته وبلغت منه العلة أن صارت الروح فيه دماء، وبقي يأمر بسفك الدماء، ويقال إنه بينما كان وصل إلى دور النزاع أمر بقتل أخيه إبراهيم، ولكن السلطانة الوالدة أمرت بعدم إنفاذ هذا الحكم، وقالت له إنه نفذ، وفي 9 فبراير سنة 1640 أسلم الروح، وكان عمره تسعا وعشرين سنة، وهو الذي أنقذ السلطنة بعد أن كادت تتمزق أيدي سبأ بالفتن والثورات وانتفاض الأمراء كل واحد من جهة، فأعاد مراد وحدة السلطنة بشدة حزامته وصرامته، وأزال كثيرا من المظالم، وأعاد النظام إلى الجيش، وفي أيامه ازدادت وارادات السلطنة وحسنت جباياتها، ولم يكن يعاب إلا في ظمئه إلى سفك الدماء، فإنه كان يتلذذ بالقتل، وكان له عيب آخر وهو شدة غرامه بالمال، فكان يحب الأحمرين «الدم والذهب» ولم يكن لمراد الرابع أولاد، فتولى السلطنة بعدة أخوه السلطان إبراهيم، ولولا وجود السلطان إبراهيم هذا لانقرضت عائلة آل عثمان لأنه لم يكن بقي منها غيره.

السلطان إبراهيم

وبدأ السلطان إبراهيم ملكه بمصالحة النمسا، ولكن حصلت حادثة أدت إلى الحرب بينه وبين جمهورية البنادقة، وهذه الحادثة من أغرب حوادث التاريخ، وهي أن رئيس الخصيان في القصر الذي يسمونه قيزلر آغاسي، كان عنده في الحرم جارية حسناء بارعة الجمال، اختيرت لتكون ظئرا للأمير محمد بن السلطان إبراهيم، وكانت هذه الجارية قد حملت ثم وضعت ولا يعلم من أين وقع حملها، فشغف حبها السلطان حتى صار يفضل طفلها على طفله، فوقعت الغيرة في السراي وكاد السلطان يقتل طفله من شدة شغفه بالجارية وحبه لطفلها، فلم يجد القيزار أغاسي حيلة أحسن من أن يقصد الحج ويأخذ معه الجارية والطفل.

ومن المعلوم أن فرسان مالطة لم يكن لهم مهمة سوى قطع طرق البحر على المسلمين، فهاجموا الأسطول الذي كان فيه القيزلر أغاسي فاشتبكت بين الفريقين معركة.

ووقع القيزلر أغاسي قتيلا بعد أن دافع أشد الدفاع عن نفسه، ووقعت الجارية وطفلها في أيدي فرسان مالطة، فظن الفرسان أن الطفل هو ابن السلطان وبالغوا في الاعتناء به وبأمه، إلا أنهم عرفوا فيما بعد بعد أن الطفل لم يكن ابن السلطان فربوه في الديانة المسيحية ونشأ قسيسا، وكان يطلق عليه اسم «الأب العثماني

Bog aan la aqoon