Taariikhda Fikirka Carabta
تاريخ الفكر العربي
Noocyada
وما دمنا قد سلمنا بأن للعقل ألفة ونظاما، وما دامت الإرادة خاصية من خصائص العقل، فيترتب على هذا أن حكمة القصد في الأعمال الإرادية لا تصدر إلا عن عقل اكتملت ألفته، ولا ترجع في مصدرها إلا إلى ألفة العقل، أما العقل الذي اكتملت ألفته فتصدر عنه إرادات تسير الأشياء على مقتضى الحكمة.
وبحسب ما يكون في العقل من ألفة ونظام تكون نسبة الأفعال قربا أو بعدا عن مقتضى الحكمة المدركة بقدر الطاقة البشرية، وعلى هذا النهج تقاس دائما إرادة القوة المدبرة للكون، كما أن تسلسل الفكرة على هذه السبيل يقتضي أن نعتقد بأن القصد والغاية أمران لن ينفك عنهما عقل اكتملت ألفته.
غير أن هذه الفكرات في مجموعها لا تسلم، كما يقول أبو العلاء المعري من خطرات تدس على حسن الضمير وعلى ألفة العقل نفسه، تحيط بك هذه الفكرات وتتساورك منتزعة منك قوة اليقين لتلقيك في غمرات الشك والحيرة إذا ما أزمعت أن تفكر في القصد والغاية التي من أجلها خلق الإنسان؟ وغالبا ما يفكر الإنسان في هذا مقسورا عليه بمقتضى طبعه مدفوعا إليه بحكم غرائزه، وإنا لا ننكر أن وقوف الفكر إزاء هذه الأشياء وأمثالها موقف اللاأدرية الصرفة أسلم سبيلا، وآمن عاقبة من أن يمضي في التأمل منها فتكتسحه إلى حيث المهواة السحيقة يتردى فيها إلى أعماق الجحود والإلحاد، غير أنك إن أمكنك أن تنصرف عن التفكير في القصد والغاية التي من أجلها خلق كل شيء فكيف تستطيع أن تخلص من التفكير في القصد والغاية التي من أجلها خلقت أنت الكائن المفكر المعتقد في صحة عدد من الحقائق التي تحوطك بنتائجها، وعلى الأخص إذا اعتقدت وكنت في ذلك محقا، أن فكرك الخفي وخطرات نفسك القصية هي أعظم دليل يقوم عندك على وجودك في وسط عالم لن تبلغ فيه إلى نهاية تفكيرا أو عملا!
يخرج الإنسان إلى هذا العالم جرثومة حية ينبذها القدر نبذا فلا تلبث أن تكتمل بشرا سويا، ثم لا يلبث أن يذهب به الفناء منحدرا به من جوف الأزل البعيد إلى جوف الأبد اللامتناهي، تفكر فلا تعرف من أين أتى ولا إلى أين ذهب، وأنت كما تأملت من هذه الحالات لا تجد في العالم كله من سلوى تسليك عن التفكير في نشأتك ومنقلبك بعد الموت، إلا متاعب في الحياة لن تستطيع أن تقطع من عمرك مرحلة، طالت أم قصرت، من غير أن تعتقد أنه كان من الحكمة أن تظل حيث كنت قبل أن تولد، مكفيا هموم الحياة الدنيا بعيدا عن أحزانها.
علام كل ما في هذه الحياة؟ علام الحب والبغض؟ علام الألم واللذة؟ علام العسر واليسر؟ ولأي شيء وضع لكل شيء نقيضه ونصب لكل أمر ضده؟ ولأي شيء خلق كل شيء؟ ولأية حكمة سبقت مشيئة الغيب أن يكون الأمل في نفسك أعرق أصلا من اليأس في الحياة؟ تقول الفلسفة الحقة: لا أدري، وكفى بلا أدري للفكر عاقلا عن الانبعاث مع التأمل في فلوات مجدبة لا تبلغ منها إلى نهاية.
غير أنك إذا تركت الفلسفة ورجعت بعدها إلى مباحث العلوم الحديثة وقعت فيها على شعاع يضيء سناه بعض ما يكتنف هذه الحياة من ظلام تشتد حلكته من حولك، كلما تأملت في حالات حياتك والقصد منها.
وضع الفلاسفة في كل الأجيال أمثالا من فضائل الأخلاق تحتذيها النفس المهذبة لتكمل بها ناسوتيتها العليا، من هذه الأمثال إنكار الذات والغيرية، وهي فضائل تظهر واضحة في سلوك الأفراد إزاء بعضهم البعض وإزاء المجموع الذي هم تابعون له وللهيئة الراعية التي تقوم عليها صوالحهم في الحياة، غير أن اتباع ما تقتضي به هذه الفضائل في الاجتماع الإنساني أمر اختياري قد تفعله أو لا تفعله مختارا غير مجبر، هذا على الرغم من أن للعقل والآداب في كلتا الحالتين حكما يختلف باختلاف الظروف، ولكن العلم الحديث قد أثبت في أواسط القرن التاسع عشر أن الإنسان وكل الحيوانات العليا مقسورون على ضرب من الغيرية أثر الجبر فيه ثابت لا يتبدل، وأثر الاختيار فيه معدوم البتة.
إذا تصفحت الأساطير التي تضمنتها مجلدات التاريخ الطبيعي في القرون الوسطى حتى أوائل القرن التاسع عشر، لما وقعت على شيء يمكن أن يدل من طريق علمي على أن هنالك من قصد في خلق الحياة فوق هذه الأرض، بل إنك لم تكن لتستطيع أن تفقه لأي الأسباب وضع نظام الأحياء في سلم من الارتقاء كان يظهر لأعين الباحثين جليا واضحا، وإن عجزوا عن تعليل السبب فيه قرونا، حتى قام العلامة شارلز داروين ووضع نظريته في الانتخاب الطبيعي في أواسط القرن الفارط.
لقد كان لهذه النظرية، نظرية النشوء والارتقاء بالانتخاب الطبيعي وحفظ الصفوف الغالبة في التناحر على البقاء، من الأثر في كل فروع العلوم الحديثة ما لا يمكن أن تبلغ منه بفكرة صحيحة حتى تقف على تاريخ تقدم العلوم وتطور الفكرة فيها منذ ظهر العلامة كاسبار فردريك وولف الجرماني 1759 حتى ظهور كتاب أصل الأنواع 1859، وما ترتب على ذيوع نظرية العلامة داروين من الآثار الجلى على أنه مهما كان لهذه النظرية الفذة من أثر في العلوم الحديثة، فإني أعتقد، وأعتقد بحق، أن آثارها في المباحث الفلسفية لا تقل عن أثرها في العلوم، واعتقد فوق هذا أنه ما من شيء في هذه النظرية أبعد مدى في التأثير على العقل الإنساني من ناحية فلسفية صرفة في إثبات القصد في علاقة بعض الأحياء ببعض، ذلك القصد الذي يبدو واضحا دالا على أن نظام الكون الطبيعي الثابت الراجع في أصل منشئه إلى فعل إرادة مدبرة يكمن قصدها وتختفي غايتها وراء الظواهر إنما هو نظام شامل لا ينفلت عن قطره شيء حتى الأحياء العليا والدنيا بما فيها الإنسان ذاته.
لقد كان لمباحث داروين في علم الحياة أثر قلب الفكرة القديمة في نظام الأحياء المرفولوجي «أي الخاص بالصورة والتركيب»، فإن علماء الحيوان والباحثين في التاريخ الطبيعي كانوا يعتقدون أن اللون وحسن الصورة وجمال التركيب وما إلى هذه الأشياء التي كانوا يقفون عليها لدى بحثهم صور الحيوانات التي يتناولونها بالوصف، ولا يعلقون عليها بشيء مما يمكن استقراؤه فيها من عظات الطبيعة البالغة، ليست سوى أشياء لم تتصف بها الصور الحية إلا إرضاء لحس الجمال، أو إقناع شهوة الالتذاذ والمتعة بها في الإنسان، وكان اعتقادهم أن الخالق لم يحدث في الأحياء كل صور الجمال، إلا ليرضي الحيوان الناطق المدرك لحقيقة شيء لا يدركه الحيوان الصامت، وعلى هذا الاعتقاد ظلوا عاكفين طوال قرون عديدة. على أن فكرة القصد الفلسفية مصبوبة في هذا القالب لم تستمكن من عقول الباحثين في علم وظائف الأعضاء والتشريح استمكانا ينزل منزلة العقائد العلمية الأخرى.
Bog aan la aqoon