شمال إيطاليا يعطي دروسًا في الفلك لبعض الشبان الموسرين. ثم قصد إلى جنيف " ١٥٧٩ " وانتسب إلى جامعتها، ولم يكن الانتساب إليها مباحًا لغير البروتستانت إذ كانت المدينة بروتستانتية، فظن أنه من أتباع الكنيسة الجديدة. وما لبث أن أعلن رأيًا عدته السلطة الدينية منافيًا للمسيحية وأوقعت عليه جرمًا، فعمل على رفع الجرم عنه وأظهر الندم على ما فرط منه. ثم رحل إلى جنوب فرنسا، فعلم سنتين بجامعة تولوز ولقي إقبالًا شديدًا؛ علم الفلك وفلسفة أرسطو، وكانت له مشادات مع العلماء. وفي ذلك الوقت أراد أن يعود إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية فاشترط عليه قبل كل شيء العودة إلى ديره، فأبى. وشبت في المدينة حرب أهلية، فرحل إلى باريس " ١٥٨١ " وعلم بها، فصادف من الإقبال مثل ما صادف في تولوز. وبعد سنتين ذهب إلى إنجلترا، فكتب إلى جامعة أوكسفورد يخبرها بمقدمه، ويعلمها بأنه أستاذ الحكمة الخالصة، وفيلسوف مشهور في جامعات أوروبا، لا يجهله إلا البرابرة والأجلاف، إلى غير ذلك من الدعاوى.
ففتحت له الجامعة بابها، فعرض فيها آراءه الفلسفية والفلكية، فأثار مناقشات عنيفة، واضطر إلى وقف دروسه، ورجع إلى باريس بعد غيبة سنتين، وهناك أعاد الكرة على الكنيسة الكاثوليكية، فكان ما كان في المرة الأولى من اشتراط فإباء. وفي مناقشة علنية بالجامعة هاجم مذهب أرسطو ودافع عن الفلك الجديد وعن حرية الفكر، وكان دائم الحملة على أرسطو "الشتام الطماع، الذي أراد أن ينتقص آراء جميع الفلاسفة". وبعد فترة قصيرة غادر باريس إلى ألمانيا، فأبت عليه جامعة ماربورج التعليم بها، وأجازته له جامعة فتنبرج، فمكث بها سنتين هادئتين. وفي خطاب الوداع أشاد بالعلم الألماني يمثله نقولا دي كوسا وبراسلس وكوبرنك، وأكبر لوثير لمناهضته الكنيسة الكاثوليكية. فذهب إلى براج، فإلى فرانكفورت حيث قضى سنة، وقد يكون طرد منها، فقصد إلى زوريخ، ثم إلى البندقية " ١٥٩١ ".
ب- وفيما هو بهذه المدينة شكاه أحد تلاميذه إلى مجلس التفتيش، فأمر باعتقاله " ١٥٩٢ " فأنكر برونو بعض ما نسب إليه من أقوال، وصرح بأنه كان دائمًا حريصًا على العقيدة الكاثوليكية في أعماق نفسه، وركع وطلب العفو عما بدر منه من أضاليل. ونمى خبر هذه المحاكمة إلى ديوان التفتيش بروما، فطلبه
1 / 33