Taariikhda Falaasifada Islaamka
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Noocyada
وبعد قتل أخيه وعمه في السنة السادسة بعد الثلاثين من عمره أظهر زهدا وتقشفا وخشونة ملبس ومأكل، وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين صيت ، وقامت لهم سوق وعظمت مكانتهم، ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد يكتب إليهم يسألهم الدعاء، ويصل من يقبل صلته بالصلات الجزيلة. ولما خرج إلى الغزوة الثانية (592) كتب قبل خروجه إلى جميع البلاد للبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملهم إليه، فاجتمعت له منهم جماعة كبيرة، كان يجعلهم كلما سار بين يديه، فإذا نظر إليهم قال لمن عنده «هؤلاء الجند لا هؤلاء!» ويشير إلى العسكر، ولما رجع أمر لهؤلاء القوم بأموال عظيمة. (19-14) محاربته مذهب مالك
أمر بإحراق كتب مذهب مالك، وشهد بعض المؤرخين بمدينة فاس أنه كان يؤتى من كتب المذهب بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار. وكان قصد الأمير في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه وأظهره يعقوب، وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه، وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة. (20) مدينة قرطبة التي نشأ فيها ابن رشد
قرطبة عاصمة مقاطعة تعرف باسمها بمملكة الأندلس بإسبانيا، واقعة في جنوب سطح جبل سيارامورينا وعلى الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير، وتبعد 75 ميلا عن أشبيلية، أسسها الرومان وجملها العرب بأسوار وقلاع وقصور، وشادوا بها المساجد والمعاقل والجسور، وأكبرها من الجنوب جسر عظيم جمع بين جلال البناء الروماني وإتقان الهندسة العربية وجمال الدقة الأندلسية، جعلوه على ستة عشر عقدا، وهو الذي يطلق عليه اسم «قنطرة الوادي»، وكان بها لأمراء الأندلس قصر فخم يقصر البيان عن وصفه، لا يقل في الحسن عن الحمراء، وأسس عبد الرحمن الأول جامعها الأعظم في مكان هيكل روماني. والمسجد لا يدل ظاهره على جماله الداخلي الذي ينطق بالمثل الأعلى لفن العمارة العربي في أوروبا.
كانت قرطبة منذ نشأتها عزيزة الجانب، فقد استوطنها أشراف الرومان وأطلقوا عليها اسم «قرطبة الشريفة» لكثرة من أظلت من العظماء. ويظن المؤرخون أنها قرطاجنية الاسم والتكوين، وجاء عليها حين كانت أعظم مدن إسبانيا شأنا وأوفرها سكانا وأوسعها رزقا وأقواها حصونا وأعرضها جاها. وروي أن قيصر حاصرها وقاسى في سبيل إخضاعها أهوالا، فلما وقعت له بعد موقعة «أوندا» أعمل السيف في رقاب 20000 من رجالها.
ولما دخل العرب أرض أندلس ألحقوها بخلافة دمشق، ثم لم تلبث أن صارت عاصمة ملكهم. ويقول المؤرخون إنها في أيام مجدها كان بها 200000 منزل، و600 مسجد، و900 حمام، ومكاتب عامة كثيرة، ويتبعها ثماني مدن و300 بلد و12000 ضاحية.
وقد أنجبت قرطبة في كل أجيالها رجالا عظماء، ففي عهد الرومان ولد فيها لوكان وسنيكا، وفي عهد العرب ابن رشد وأساتذته وتلاميذه وابن حزم عدا عددا من القواد والمصورين والكتاب والصالحين. ومما يدعو إلى أسف أهل الفنون والمؤرخين أن الإسبان بعد زوال دولة العرب جعلوا قصر الخليفة سجنا وقلبوا المسجد كنيسة.
وقد عاب شارل الخامس رجال الدين وأنبهم في رسالة مشهورة منها: «لقد بنيتم في مكان المسجد ما كنتم تستطيعون تعميره في أية بقعة أخرى، ولكنكم أتلفتم شيئا فذا لم يكن له في العالم مثيل.» إن الكاتدرائية جميلة حقا، ولكن أين المسجد يسند ساحاته العظمى 12000 عمود، بل أين التسعة عشر بابا المصنوعة من البرنز، بأيدي صناع حذقوا تشكيل المعادن والتصوير فيها، وهم من أهل دمشق نزحوا إلى الأندلس فيمن نزح إليها من مهرة المشارقة!
وأين الخمسة آلاف مصباح تضاء بزيوت عطرية فتملأ الفضاء نورا وعبقا، أما المحراب المسبع فقد كان مسقفا بدائرة من المرمر الأبيض، مزينة بالذهب والزجاج الملون ومرصعة بالحجارة الكريمة، ومنمقة بقيشاني بيزنطة، فكانت تلك الدائرة المرمرية لصفائها وحسن زينتها أشبه بقبة من اللؤلؤ.
ويظهر أن قرطبة لم تشهد عهدا أسعد من عهد عبد الرحمن الثالث (الناصر لدين الله)، فقد كانت عاصمة ملكه في أعلى درجات النجاح المادي والتقدم المعنوي، وكان للمال والزراعة والتجارة من الشأن ما كان للفنون والعلوم والفلسفة، وعدد سكان قرطبة لعهده كعدد سكان القاهرة لعهدنا هذا، وبها إذ ذاك 3000 مسجد و113000 بيت، و300 حمام و28 ضاحية. فلم يكن في العالم الإسلامي مدينة تضارعها أو تفوق عليها غير عاصمة الرشيد والمأمون، فكانت بغداد في الشرق وقرطبة في الغرب مثل باريس ولندن في عصرنا هذا.
أما قوة الخليفة فكانت تعادل قوة الملوك العظام لعهدنا، فكان له أسطول عظيم ضمن له السيادة في بحر الروم، فجعله بحيرة أندلسية وسهل له الاستيلاء على سبوتا، وهي إذ ذاك تعادل جبل طارق أو بورت سعيد. وكان له جيش عرمرم منظم عده المؤرخون أفخر جيوش العالم وأجملها ، وهو الذي سوده على أهل الشمال من الإسبان. وكان أعظم ملوك الأرض يخطبون مودته ويرجون معاهدته، فورد على بلاطه سفراء الدول من إمبراطور القسطنطينية وملوك ألمانيا وإيطاليا وفرنسا.
Bog aan la aqoon