Taariikhda Falaasifada Islaamka
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Noocyada
وعلى كل حال فإن هذا البحث الأخير وجه الغزالي إلى ما كان مخلوقا له حقا، وهو طريق الصوفية، فأقبل عليه بهمته، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله، وكان العلم أيسر من العمل فقرأ كتبهم وطالع رسائلهم وأهمها: كتب أبي طالب المكي، والحارث المحاسبي والمأثور عن الجنيد والشبلي والبسطامي. وحصل الغزالي كل ما يمكن تحصيله من طريقتهم بالتعلم والسماع، إلى أن ظهر له أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، فكم من الفرق بين أن يعلم الإنسان حد الصحة وحد الشبع وحد السكر وأسبابها وشروطها، وبين أن يكون صحيحا وشبعان وسكران.
وكل باحث في حقيقة المتصوفين يعلم يقينا أنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال.
10
على أن الغزالي الذي رأيناه يعجب بمعجزة قلب العصا ثعبانا ولا يجعلها دليلا أو وسيلة لإنكار ما ثبت في نفسه من طريق العلم اليقيني، نراه عند ولوجه باب التصوف يقول إنه قد حصل له من العلوم التي مارسها والمسالك التي سلكها في التفتيش عن العلوم العقلية والشرعية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر، وإن هذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت رسخت في نفسه لا بدليل معين مجرد أي كما رسخ في نفسه أن العشرة أكثر من الثلاثة، بل بأسباب وقرائن وتجاريب لا تدخل تفاصيلها تحت الحصر، وكان بحكم السن وانقضاء العمر في مكارم الأخلاق وفضائل المجاهدات ظهر عنده أن لا مطمع له في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال والهرب عن الشواغل.
11
وقد عرضت تلك المشكلة للغزالي وهو في قمة مجده منغمس في العلائق، وقد أحدقت به من الجوانب، وأهم أعماله إذ ذاك التدريس والتعليم، والباعث عليهما طلب الجاه وانتشار الصيت، فلم يزل يفكر في العزم على الخروج من بغداد لمفارقة تلك الأحوال ستة أشهر؛ من رجب سنة 488 هجرية إلى آخر تلك السنة، حتى مرض ويئس الأطباء من شفائه، فخرج مرغما مضطرا وهو يظهر أنه مسافر إلى الشام حذرا من أن يطلع الخليفة وأصحابه على عزمه؛ وهو أن لا يعود إلى بغداد أبدا، ثم دخل الشام وأقام بها سنتين في العزلة والخلوة والرياضة، ثم دخل إلى بيت المقدس واختلى في الصخرة، ثم سار إلى الحجاز، ثم جذبته دعوات الأطفال إلى الوطن، ودام على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت له في أثنائها أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، وخلاصتها التي يجوز الانتفاع بها هي أنه علم يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق.
12
وظاهر من هذا أن الغزالي لم يكن فيلسوفا عقليا، إنما كان حكيما دينيا بالفطرة، وأنه اتخذ العلم والعقل والشرع ذاته وسيلة للوصول إلى الحال التي هيأته لها الطبيعة، على أن هذا لا يمنعنا من القول بأن عقله النادر المثال لدى مروره بالفلسفة اليونانية والعربية أفادها واستفاد منها، وهذا ظاهر من مؤلفاته التي ذكرناها، لا سيما «مقاصد الفلاسفة» و«إحياء علوم الدين» و«تهافت الفلاسفة» الذي سيرد الكلام عليه بالتفصيل في عرض الكلام على ابن رشد، وهو الفيلسوف الإسلامي الوحيد الذي رد عليه بكتاب مثله .
الفصل الخامس
ابن باجه
Bog aan la aqoon