Taariikhda Falaasifada Islaamka
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Noocyada
ثم أثبت وجوب استعانة الحكيم بمن سبقه معتبرا ثمرات العقل البشري منذ بداية تيقظه إرثا حلالا لمن يخلفون الحكماء. وأن يستعين في ذلك، المتأخر بالمتقدم، فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك علم الهيئة، ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وإبعاد بعضها عن بعض، لما أمكنه ولو كان أذكى الناس طبعا.
ثم ضرب مثلا بديعا يصح أن يكون مستنبطا من صحف شوبنهور أو إرنست هيكل لولا صبغته الشرقية قال: «فهذه صناعة الفقه والفقه نفسه لم يكمل النظر فيها إلا في زمن طويل، ولو رام إنسان اليوم من تلقاء نفسه أن يقف على جميع الحجج التي استنبطها النظار من أهل المذاهب في مسائل الخلاف التي وضعت المناظرة فيها بينهم في معظم بلاد الإسلام ما عدا المغرب، لكان أهلا أن يضحك منه لكون ذلك ممتنعا مع وجود ذلك مفروغا منه.»
على أن هذا الحكيم الذي اشتهر بإعجابه بأرسطو إلى درجة التقديس، لم يغب عن ذهنه وجوب الاحتراس لدى الدرس ووجوب «الانتقاد» قبل قبول الرأي، حتى ولو كان رأي أرسطو نفسه قال: «ننظر في الذي قالوه وأثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم.» ثم اعترضته فكرة الخوف من قول الفقهاء بأن من ينظر في كتب القدماء يضل ويكفر، فرد على ذلك بأبلغ رد قال: «وليس يلزم من أنه غوى غاو بالنظر في تلك الكتب، وزل زال إما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلما يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه أو أكثر من واحد منها؛ أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها، فإن هذا النوع من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات، وليس يجب فيما كان نافعا بطباعه وذاته أن يترك لمكان مضرة موجودة فيه بالعرض، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له .»
وما زال كذلك إلى أن فضل العقل على الشرع الظاهر فقال: «فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني، ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي.» وزاد على ذلك أن استشهد ببعض خصومه في الحكمة قال: «قلنا أما لو ثبت الإجماع بطريق يقيني لم يصح، وإن كان الإجماع فيها ظنيا فقد يصح؛ ولذلك قال أبو حامد وأبو المعالي وغيرهما من أئمة النظر إنه لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل.»
وبعد أن استدل بقول الغزالي على عدم تكفير من يخرق الإجماع بالتأويل سأل القارئ سؤالا جامعا قال: «فما تقول في الفلاسفة من أهل الإسلام كأبي نصر (الفارابي) وابن سينا، فإن أبا حامد (الغزالي) قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف بالتهافت في ثلاث مسائل: (1) في القول بقدم العالم، و(2) بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات - تعالى عن ذلك! و(3) في تأويل ما جاء في حس الأجساد وأحوال المعاد.» قلنا الظاهر من قوله (الغزالي) في ذلك أنه ليس تكفيره إياهما في ذلك قطعا، إذ قد صرح في كتاب التفرقة أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال.
ثم أخذ ابن رشد يبين خطأ الغزالي من حيث الإدراك في النقطة الثانية قال: «فقد نرى أن أبا حامد قد غلط على الحكماء المشائين (أتباع أرسطو أمثال ابن رشد نفسه) فيما نسب إليهم من أنهم يقولون إنه - تقدس وتعالى - لا يعلم الجزئيات أصلا، بل يرون أنه تعالى يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا، وذلك أن علمنا معلوم للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره، وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا (أي ضده) فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود، فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة وذلك غاية الجهل.»
انظر إلى تلك الحملة المدبرة من أولها إلى نهايتها، فقد نظمها عقل جبار ونفذها منطق سليم وصاغها قلم بليغ، لا يقصد ابن رشد الدفاع عن الفارابي وابن سينا، إنما يقصد الدفاع عن نفسه؛ لأنه هو الذي تناول تلك النقط الثلاث بالبحث فأثبتها وقال بها واشتهرت برأيه، فدفاعه ضد الغزالي الذي انتهى برميه «بغاية الجهل» إنما هو دفاع عن مبادئه ألبسه لباس الذود عن حكيمين سالفين من أنصار أرسطو؛ وهما الفارابي وابن سينا.
وقد تناول المسألة الثانية أولا لأهميتها، ثم عطف على الأولى وهي القول بقدم العالم فأفقدها شأنها قال: «وأما مسألة قدم العالم أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء.» أفقدها شأنها لأنه ردها إلى خلاف لفظي وهو ما يسميه الفرنسيون (سوء تفاهم)؛ أي إن الطرفين متفقان في الجوهر ومختلفان في العرض، فما على راغب التوفيق إلا أن يرد العرض إلى الجوهر، وهي مسألة لفظية فيزول الخلاف، وقد أخذ فعلا يبين تقسيم الموجودات من حيث القدم والحدوث إلى ثلاثة أقسام، ثم طرق من حيث يدري باب البحث في الزمان على طريقة الأقدمين وأظهر الفرق بين أفلاطون القائل بأن الماضي متناه، وهذا الذي انتحله المتكلمون، أما أرسطو وشيعته فيرون أن الماضي غير متناه كالحال في المستقبل (غير المتناهي)، واستنتج من ذلك أنه لا يوجد محدث حقيقي ولا قديم حقيقي؛ لأن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة والقديم الحقيقي ليس له علة. ثم ضرب الضربة الأخيرة وهي ضربة معلم خبير بما يقول: «فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر، فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد، أعني أن تكون متقابلة (متناقضة) ويشبه أن يكون المختلفون في هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين ، ولذلك قال عليه السلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أحجر.» وأي حاكم أعظم من الذي يحكم على الوجود وهم العلماء.»
ثم انتقل إلى الكلام على الدلائل الثلاثة: (1) الخطابية. و(2) الجدلية. و(3) البرهانية. وقال إن الإيمان جائز بأي طريق يتفق للمؤمن من طرق الإيمان الثلاث. فمثلا يجوز تكفير «من يعتقد أنه لا سعادة أخروية ههنا ولا شقاء، وإنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وإنها حيلة، وإنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط».
ثم عاد إلى الغزالي فلامه على أنه استعمل في كتبه الطرق الشعرية والخطابية والجدلية وقال إنه أضر بالشرع والحكمة معا من حيث لا يدري؛ لأنه كان يقصد خيرا وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم، فكثر بذلك الفساد بدون كثرة أهل العلم، وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة وقوم إلى ثلب الشريعة وقوم إلى الجمع بينهما، ويشبه أن يكون هذا أحد مقاصده بكتبه، والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر أنه لم يلزم مذهبا من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشاعرة أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف، وحتى إنه كما قيل:
Bog aan la aqoon